المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

قصيدة النثر المحلية

شاكر لعيبي

1-2
اقترحنا في مداخلة سابقة بعنوان (المكتمل واللا مكتمل في قصيدة النثر): "وصف قصيدة النثر المكتوبة الآن في العالم العربي (بالمحلية) لأسباب لعل أهمها تقليدها وتطبيقها لقصيدة النثر العالمية في شروط ثقافية ومعرفية وسيوسيولوجية ونفسية خاصة، الأمر الذي يمنحها نكهة فوّاحة بجميع مشكلات الثقافة في بلداننا ومذاقاً نابعاً من وعي كُتّابها وشروطهم الثقافية ومن طبيعة الترجمات التي تأثروا بها". واستذكرنا كتاب سوزان برنار لجهة حاجته إلى "إعادة تقديم اليوم، خاصة وأنه ليس كتاباً مقدساً، ويطلع من الشعريات الفرنسية على وجه الخصوص. لم تكن المشكلة الإيقاعية هماً بارزاً لها وتحدثت عنها قليلا، وفي سياق شعر أوروبي للغاته ضوابط نغمية مختلفة عن إيقاعات اللغة العربية" من بين أشياء أخرى. وقد أجلنا تطوير المشكلة لأن موضوع المداخلة السابقة لم يكن يسمح بذلك. ها نحن الآن أمام المشكل.
وإذن فالصفة (محلية) ليست استنكارية لكن توصيفية مكانية. ونطلقها وفي ذهننا الصفة
Local الفرنسية التي تـُعَرَّف بأنها كل ما يتعلق بمنطقة أو بمكان مخصوص: جريدة محلية، مشكلة ذات أهمية محلية، تخدير محلي (موضعي)..الخ وكلها لا تعلن موقفا مناهضاً للمحلي ولكنها تصّفه في نطاق عمله في مكان محدّد. وهنا نفترض أن قصيدة النثر العربية تشتغل ضمن نطاق اهتمامات المكان العربي وفضاءاته المعرفية المحلية رغم توقها الجامح للانفلات منه نحو آفاق أخرى. فبماذا يمكن أن تتصف التجربة المحلية لقصيدة النثر العربية؟
لا يختلف منصفان أن العالم العربي يشهد اليوم كتابة شعرية متشابهة الأسلوب ومتماثلة الاستعارات، منفلتة باسم حرية الكتابة، قصيرة النفس إلى درجة مقلقة تقرِّبها في أفصل الحالات من شكل الهايكو وضرباته لكن من دون حكمة الهايكو الطالع من تأملات الزن. قصيدة تنتوي المروق على إرث الشعر حتى على مستوى قواعد النحو باسم الحداثة في طبعةٍ انتقائيةٍ عربية. قصيدة نثر لا تستلهم إلا نسخاً منقولة عن نسخ أخرى، بعضها رديء، لقصيدة النثر الفرنسية خاصة، ومن ترجمات شعرية يُشَكُّ برصانتها. قصيدة نثر عربية ينغمر بعض كتابها، في الحقيقة، بكتابة قصص قصيرة جدا موضوعة على أسطر مختلفة الطول أضفي النقد على نثرها بركة (الإيقاع السردي)، أو تنهمك بعض كاتباتها بهواجس جنسية محمومة، شتان بينها وبين الهموم الإيروتيكية الصافية. قصيدة نثر لا يُعرف للكثير من كتابها للأسف اهتمامات معمّقة بالفكر والتراث الشعري العربي والعالمي.
لهذه الصورة الشعرية الدرامية يمكن إيجاد أمثلة نصية لن يختلف على طبيعتها عقلان منصفان. إن صورة قصيدة النثر العربية هذه معممة اللحظة، ومنذ البدء ساهم الجميع بنوايا نبيلة في تقعيدها لتجاوز التقليدية في الكتابة والترويج للحرية الكاملة في التعبير الشعري. يساهم البعض الآن أكثر من غيره في الترويج لها. لقد جرى تعميمها في العالم العربي باسم ضرورة الدخول في عالم الحداثة الغامض، حتى أن أعتى المنابر السلفية والتقليدية لا تجد بُدّا، من أجل منح صورة طليعية زائفة عن نفسها، من متابعة موجتها الطاغية ونشر نصوصها. إن التعميم الحاصل لهذه القصيدة في مشرق العالم العربي ومغربة لم يكن يعني حفاوة أدبية حقيقية بالضرورة ولا تعاطيا جدياً لها من طرف القراء القلائل للشعر أو النقاد الرصينين النادرين على حد سواء.
تطلع قصيدة النثر العالمية من مصادر ثقافية مهمومة بمشكلات أخرى غير مشكلات قصيدة النثر العربية. فالأولى تتابع سياقاً تاريخيا جارياً من التغيرات المصحوبة بالتساؤلات، المترافقة مع الانجازات الإبداعية والفلسفية والشعرية، والثانية لا تفعل سوى أن تستهلك وتقلد. الأولى تتساءل، وتبحث، وتجرب، وتشك، وتبدع، وفي عملية إبداعها الشعري تتوصل إلى نتائج تؤدي إلى نتائج شعرية أخرى، والثانية تتلقف فحسب النتائج من دون مساءلة نقدية ولا بحث جمالي أو شك قيمي، قائمة على يقين ثابت من دون رجوحية. الأولى تجهد باختراع التقنيات وفق حاجاتها التعبيرية، بما في ذلك التقنيات الشعرية، هاجرة بعضها، متمسكة بالآخر، خالطة هذا بذاك ضمن منطق حداثة اخترعتها بعد لأيٍّ لكي تعلن، هذه الحداثة، حداثتها، قطيعة مع الماضي، ماضيها الأنتيكي اليوناني الروماني، والثانية لا تفعل سوى استجلاب التقنيات وحدها، بما فيها تقنيات الشعر، من دون أصولها وجذورها الفكرية والسجالية، كما تستجلب السيارات الفارهة رمزاً للدخول في حداثة متخيَّلة، لكن لكي تغطي زجاجها باللون الأسود من أجل أن لا يرى أحدٌ النساء داخلها. الحداثة نفسها تستخدم هنا بطريقة مناهضة للحداثة. وبصدد التقنية، يمكن ملاحظة أن موقف جل شعراء قصيدة النثر العربية الراهنين لا يختلف عن موقف أوائل الرحالة العرب من الغرب المتفجر صناعياً وفكريا وتقنيا. فقد لاحظ هؤلاء منذ عام 1600م وانبهروا بالمظاهر التقنية التي رأوها بأم العين، مثلما تكشف كتبهم، واعتبروها (الحداثة) من دون أن يربطوا بينها وبين (فكر الحداثة) الذي لم يستطيعوا اكتشافه. البعض لم يكتشفه حتى اللحظة. وفي قصيدة النثر العربية ثمة ما يشابه ذلك. ثمة استجلاب لحداثة عارية عن أصولها ومغتربة عن فكرها. ففي تقعيد قصيدة النثر بصفتها قانونا وعمودا شعريا نهائياً نفي للحداثة نفسها التي ليست قانونا ولكن منطق.
هكذا تُحَوِّلُ قصيدةُ النثر العربية المحلية قضيةَ (النسوية) العادلة إلى طرفة، لا صلة لها بالواقع والى دُرْجَةٍ
mode من بين أخريات، وكانت تلك القضية النبيلة تتصاعد في العشر سنوات الماضية إلى حمى من التداعيات والهواجس الجنسية التي تسعى بها الشاعرات إلى هدفٍ غير واضح تماماً. لا تاريخ لدينا للنسوية مثل ذاك التاريخ المرير والنضالي لها في الغرب، لذا لدينا، باسمها، نصوص شبقية، بدلاً من النصوص النسوية الأوربية المتوازنة حتى في أيروتيكيتها. كم من قصائد النسوية العربية يمكن مقاربتها ولو من بعيد بنصوص سيلفيا بلاث الصوفية أو غابريلا ميسترال الحسية قبلها؟ يمكن الاستنتاج بيسر أن الحرية في الكتابة الشعرية لا يمكن فصم عراها عن الحريات العامة، وهو الأمر غير المسموح به لشاعرات قصيدة النثر العربية الراهنة للأسف. ومن هنا يمكن الافتراض أن تجزئة الحرية غير ممكنة البتة، فلا يمكن أن أكون تقليدياً على كل مستوى في الحياة العربية وحداثوياً إلى درجة الانفلات من كل قيد في الشعر.
ثمة استهانة في قصيدة النثر العربية المقلِّدة (بكسر اللام)، الرجالية والنسائية، بجميع ما لا تستهين به عادةً الثقافات الشعرية الأوربية المقلَّدة (بفتح اللام). فلا القطيعة مع إرثها اليوناني والروماني يعني هجراناً له وعدم انحناء عليه، حتى أن اليونان ما زالت إلى الآن مصدرا للوعي الغربي يعود إليه دون كلل، ولا هي تعني جهلا باللغة المستخدمة في كتابة الحداثة أو تسامحاً مع الهفوات للناطقين بها، حتى أن اللغة الفرنسية تظل من أكثر اللغات مُحَافَظَةً وأن قاموس جريدة (اللوموند) اللغوي من الفصاحة بمكان وقد يخفى على محدودي المفردات من بين الفرنسيين أنفسهم. وبطبيعة الحال فمن غير المقبول أن نطالب الشعراء المعاصرين بتقليد الجاحظ ولكن قراءته في الأقل، مثلما يقرأ الفرنسيون شيباً وشباناً (راسين) في المدارس، ولا الهدي على منوال الأوزان الشعرية التقليدية أو مطالبة الرسامين النسج على طريقة اللوحات الكلاسيكية ولكن امتلاك القليل من البصيرة الموسيقية والتشكيلية كما يمتلك مثقف متوسّط أساسياتها. وفي غالب الظن وأعمه فإن كتابة الشعر هي معرفة كذلك (يسميها العرب القدامى صنعة)، وليست فحسب حدوسات إشراقية كما يزعم الإرث العربي المعمّم في الذاكرة. إن طبائع القصائد المنشورة والاهتمامات المعروفة لشعرائها وما يرشح من نصوصهم النقدية الفضّاحة المكتوبة هنا وهناك، تدل على أن فكرة الحدوسات القديمة هي المنطلق الأصلي لقصيدة النثر العربية قبل أي منطلق آخر. طالما لا توجد قواعد أو أوزان فإن بإمكاني أن أجترح معجزة شعرية. هذا الحدس غير محسوب العواقب وقد يطلع من شجرته الزقوم لأنه لا يستند إلى أصل.
القصيدة النثرية المحلية كما تمارس الآن تبدو وكأنها من دون مرجعيات شعرية متماسكة، أو أنها، حرّةً، ترفض المرجعيات جملة وتفصيلاً. وإذا ما سعى نقاد وشعراء جادون في الماضي القريب لإيجاد مراجع تاريخية عربية لقصيدة النثر في التراث الصوفي وغيره- فيها الكثير من التلفيق على كل حال- على أساس أن تراثنا ينطوي منذ البدء على كل معرفة وخبرة جمالية، فإن قصيدة النثر المحلية الراهنة لا تراهن حتى على مثل هذا التأصيل المشروع ذي الطابع التطميني النفساني، وهي لذلك تستفز، كظاهرة أدبية شائعة، سؤال غياب التأصيل لمرجعياتها الشعرية.
القليل مما يتناهى إلى القارئ عن مرجعياتها يدل، من دون يقين، على أنها من طراز مثير للجدل والقلق ومن بينها، أي المرجعيات، ناشرو كتب وسورياليون واصلون بقطار متأخر ومترجمون من الفرنسية (وهو أمر يطرح سبب غياب التأصيلات االانكلوسكسونية لقصيدة نثرنا المحلية) ومتزاحمون على العالم الشعري والأدبي وصحفيون وغيرهم. إن تفحص الحالة قد يؤدي إلى سوء ظنٍّ ورجم بغيبٍ لا يليق بالفحص المنهجي يزعم أن شعراء قصيدة النثر المحلية هم أنفسهم المراجع الأكيدة لبعضهم. الكثير من النصوص المنشورة تبرهن لنا على حقيقة الأمر. أضف إلى ذلك أن غياب القراءة في العالم العربي وغيبوبة القارئ الذي قد يكون حارسا للفنار وبالتالي حصانة معرفية هما غياب مرجعي موجع عن قصيدة النثر المحلية التي لا يكتبها ولا يستهلكها إلا شعراؤها (انظر التغطيات الصحفية عن حجم الحضور المأساوي في أمسيات جرش الشعرية لسنة 2005). هذه القصيدة لا تعود إلا إلى نفسها ولا تستهدي إلا بالمعارف الموجودة في متناول حلقات الثقافات المحلية، لذلك فبقدر ما تراهن على كمية الحرية في القول الشعري الغربي فإنها لا تقدِّر الحرية حق قدرها المعرفي العميق. أنها لا ترى إلا الجهة المتوّجة بالتمرد لدى رامبو مثلاً وتشيح بوجهها عن عمق قراءاته في مدينته شارفيل، ولا يشحذ ذهنها إلا ما يوحي به عنوان ديوان بودلير (أزهار الشر) من برامج سائبة وليس انحنائه على ثقافة عالية المستوى مؤلفاً لـ (الفن الرومانتيكي) وناقداً تشكيلياً مازالت كتاباته النقدية تطبع حتى اللحظة في فرنسا، ولا يوقفها لدى رينيه شار إلا القليل السريع، ولا لدى بيريه أو السورياليين إلا الفوضى والغرابة والغواية وليس السجال العارف. ولا يهمُّها من شأن روّاد قصيدة النثر إلا حريتهم في الانفلات من القواعد نحو الحرية بينما لا تعرف قاعدة لكي تحطمها ولا تمارس حريةً أدبيةً أو غير أدبية لكي تغامر بها وتتجاوزها. هذه ليست سوى أمثلة معروفة فحسب. وفي حالة كبار الشعراء الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين الأحياء، ثمة ما يؤكد أن المعرفة والتأمل وليس نقيضهما هما الأصل في الكتابة الشعرية.


إنعكاسات التاريخ والرغبة في الشعر التركي الحديث
 

ترجمة وإعداد - عادل العامل
بَدأتُ في التسعينيات، يقول كاتب هذا المقال مراد نعمت- نجاة، اشتغل بمقتطفات من الشعر التركي الحديث وكانت "ايدا: مقتطفات من الشعر التركي المعاصر" قد نشرتها دار تاليسمان في الولايات المتحدة عام 2004، وهي تغطي قصائد من عام 1921 الى عام 1997، بما في ذلك مقالات لشعراء اتراك واخرى عنهم، و"ايدا" التي هي المفهوم الاساسي في عالم الشعر التركي، تستند الى نوعية اللغة التركية كلغة التصاقية، ولكون هذه اللغة تمتلك مرونة اعرابية كلية، فانها تستطيع ان تشي بفروق دقيقة من الفكر والشعور عن طريق الصرف في نظام الكلمة، وهذه الحركة ذات الانحدار الايقاعي- وهي جزئيا موسيقى عقل- تحيط الكلمات بهالة، وهذه الهالة، هذه الحركة هي "ايدا".
و"إيدا" مرتبطة جوهريا بمدينة استنبول، منظر طبيعي متخيل تنعكس فيه وتتركب قوتا التاريخ والرغبة المتنازعتان الابديتان. غير ان لغة "إيدا" تستجيب ايضا للتغييرات الحاصلة في استنبول كمدينة تاريخية، محتفظة في ذلك بدورها كعاكسة لواقع تاريخي.
ومن العشرينيات الى عام 1997، تغيرت استنبول من مدينة يسكنها اقل من مليون الى عاصمة يبلغ عدد سكانها 12 مليون نسمة، وقد بدأ الانفجار، من الناحية العددية، في اواخر الخمسينيات مع بداية تدفق السكان الاناضوليين للعمل في المدينة، لكن في اوائل التسعينيات خضعت استنبول لتحول مفاهيمي حاد، اضافة الى التحول العددي، فبسقوط الاتحاد السوفييتي، اصبحت نقطة بؤرية اقتصادية وروحية حين تقاربت الناس من البلدان التابعة السابقة في الغرب والجمهوريات التركية في الشرق، بحثا عن السلع وعن الآراء التي لم تكن في السابق متيسرة او كانت مكبوتة في بلدانها، وفي هذه المرحلة اصبحت استنبول متحولة من مدينة قومية ذات 12 مليون نسمة الى عاصمة عالمية، نقطة تقاطع لاحلام متصارعة.
وتعكس "إيدا" هذا التغير البنائي الستراتيجي، وقد مر الشعر التركي، في التسعينيات، بفترة ابداعية كثيفة في سلسلة متعاقبة من القصائد المثيرة للدهشة، وكانت فترة الذروة السابقة، التي امتدت تقريبا من اوائل الخمسينيات الى السبعينيات، قد ابدعت شعرا يتسم بالعمق، شاقة استنبول واللغة التركية الى مكانين، احدهما مرئي والاخر سري.
فاللغة، في الشعر الجديد، تتسطح، والجوهر الاسلوبي لافضل قصائد التسعينيات هو الحافز
motion.
وهي، في الغالب، مكتوبة في سطور طويلة متعرجة، ومن هنا فان الفكرة، والعين والصورة لا تظل ابدا في مكان واحد، مغيرة باستمرار الابيات المفاهيمية، الايديولوجية، او ابيات الهوية.
وموسيقى هذا الحافز عبر الحدود -"الايدا"- تجعل صدى استنبول يتردد باعتبارها المدينة العالمية.
وفي كل قصيدة هناك مفهومان متضادان فيما يبدو (أو رغبتان) متراكبان احدهما على الاخر، خالقين بذلك مجالا موحدا منبسطا، وتعكس الصورة الدافع تحو التركيب في قلب الشعر التركي المعاصر.
وسأناقش هنا قصائد من مقتطفات "إيدا" المختارة، مشيرا الى المدى الشعري لهذه الحركة.
فقصيدة "سهر لاستنبول" للشاعرة ليلي ملدر، التي تعتبر البيان الرسمي لشعر الحركة الاكشن
action) وضع متقن، مثال اعلى للمعنى الاسلامي/ العثماني للتصميم والنظام، المعبر عنه من خلال صورة "الاخضر" والحركات المتعرجة، ايقاعات لغته، وغرض القصيدة هو فتح استنبول الاسلامية، استنبول القرون الخمسة الاخيرة، على ماضيها التاريخي، القسطنطينة، في محاولة لتكوين تركيب ديالكتيكي بين عالم الحلم البيزنطي (الـ"أزرق") والمعقولية الاسلامية.
وتنتهي القصيدة بالمتكلم يطالب باسم جديد لاستنبول يمثل وعيها الروحي و(التاريخي) الجديد:
(انك نائمة الان في
غرفة بيزنطة المغسولة البيضاء،
وانت وحيدة تماما،
واحد القدماء يقول لك: "لا تبكي".
"غدا يوم ميلادك،
غدا سيعطى لك اسم جديد".
وقد تعرضت ليلى ملدر للازدراء والمنع عندما ارادت قراءة القصيدة على الناس في استنبول، وتعكس حقيقة ازدراء احدى اعظم قصائد القرن العشرين بعيدا عن المسرح القوى المتصارعة في تركيا والوضع النقدي الذي تتمتع به في عصرنا هذا. فمن جهة، تمتلك احداهما اغلبية السكان المتحولة غريزيا بعيدا عن الغرب، مصرة على التفرد الاسلامي والايديولوجي، ونقاوة استنبول ومن جهة، تمتلك القوة الاخرى رؤية شعرية وسياسية مطورة في الكمالية لكنها مختلفة عنها، تحلم بتركيب يسوي بين التنافرات في نظام جديد. انها رؤية مضادة لمأزق ما بين الحرب الاهلية والتسوية التي شهدتها مدن كثيرة اخر في الشرق الاوسط من بيروت الى بغداد الى تل ابيب.
والقصيدة الاخرى هي "سحنات قهوة" للشاعر سيهان ايروزغيليك وهذه القصيدة مؤلفة من سبع وعشرين قراءة فنجان للحظ.. فتنتقل عين المتكلم بثبات بين ترتيبات من مئة سحنة قهوة-اشكال تجريدية- تغزل حكاية شامانية عن الامل، والرغبة، والمستقبل وهذا السرد وملء الفراغ الخصب بالكلمات- المفعم بصورة المستقبل الارواحية- هو "ايدا" القصيدة. وفي هذه الايماءة الشعرية يختبئ تحرير ما سلف. فالجمهوريات التركية: سكان اسلاميون لكن ما زالوا بجذور قبل اسلامية تمتد الى آسيا الوسطى، التي تبدو لتركيا كمنارة روحية:
كتلة من سحنات القهوة
تطير الى السماء، وحزن عميق
يصحو، يوشك ان يصحو ويغادر
مخلفاً وراءه فضاءه فارغا، فلا شيء
يفسر لفائدته، خيرا او شرا.

ان جزءاً من الكون ينتظر ان يملأ،
هو ذلك الذي يُترك.

وقد انقضى شيء ما، فأنتَ
في راحة الان، بعد ان تخلصت من عبء.
(أما ما هو هذا الحمل، فلا يمكنني القول.)

وتُعتبر قصيدة "انضباط النفس" للشاعر كوسوك اسكندر، اكثر القصائد التركية فوضوية وباطنية، في وقت واحد. وتتعايش دوافع تركيا المتناقضة في هذه القصيدة في اكثر اشكالها عنفا وتطرفا وفي توازن متقن، مع هذا.. ويمكن القول ان القصيدة هي التعبير العدمي عن حساسية دينية بطريقة عميقة.
فبينما تتسم العاطفة الاساسية هنا بالاستهتار وتمتلئ بالتجديفات تمثل حبا مفعما بالحنين وتستمد، من الناحية الاسلوبية ايضا، من الشرق والغرب تجسيدات صارخة، فنجد صياغات شعرية عثمانية للعبارات واشارات شعبية وبراهين علمية "تنضغط" (بالمعنى الموسيقي وبمعنى العنف على حد سواء) في انتقائية ثرة، في مرجل للافكار والمشاعر.
{آه، متروك جسدك المقدس
مثل تمثال محطم
في يدي!
فالعنف اللغة الاجنبية للجسد
ارتجالات التوق الشظوية.
***
هل يمكنك ان تفهم
ان لعنة الطريق،
تقرأ بالبوصلة فقط؟
***
ان فتنتك
هي حيث تكون مفقودة
وحيث تكون مفقودة
يكون الفراغ!}


رسالة عمان الثقافية: حمدي النجار يعتبر جواد سليم استاذه والبرونز خامته التي يتحدث بها

محيي المسعودي
حمدي النجار واحد من النحاتين المصريين المعاصرين الذين اكتشفوا اسرار البرونز فعشقوه واستطاعوا من خلاله تدوين الذاكرة المصرية الراهنة فجاءت اعمال النجار تحمل دلالات عديدة ومترابطة من حيث الوظائف والصلات فالبرونز هذا المعدن الذي ظل يحمل معاني وصفات حضارات قديمة هو نفسه اليوم يدون للحضارة المعاصرة ويربط بين حضارة مصر الفراعنة ومصر العرب هذه الايام، والاعمال بالقدر الذي قدمت فيه صورة للحياة المصرية المعاصرة بنفس هذا القدر حملت ثيما ودلالات مصرية وظفها النجار كابجدية لقراءة اعماله التي تأتي استكمالا لحضارة وادي النيل التي استأنف العمل عليها من قبله النحات المصري الراحل محمود مختار.
البرونز هو الخامة الوحيدة التي كوّن منها الفنان منحوتاته فكان للونها طابع التوحيد لجميع الاعمال التي عرضها في جاليري دار الاندي مؤخرا وقد اعتمد النجار كثيرا على وزن خامة هذا المعدن فنيا وتقنيا اذ وظف وزنها الثقيل من اجل تثبيت الاشكال في امكنتها بقوة واضافة الى هذه الوظيفة التقنية ترك الفنان اعماله تؤدي وظيفة دلالية اخرى تتحدث عن رسوخ الاعمال وصلتها بواقعها من خلال ثقلها على القاعدة اضافة لما يعكسه هذا الشكل الصغير نسبيا مع الوزن الثقيل بها وظل يعمل على هذه الثيمة مستخدما التناسب بين النظر- الشكل والوزن.. فالعين عندما ترى المنحوتة لا بد للعقل من ان يقدر وزنها بشكل يتناسب طرديا مع حجمها.. ولكن النجار اعتمد عكس هذا اذ عمل على التناسب العكسي، فنجد المنحوتة الصغيرة اثقل وزنا مما اعتقدنا مقارنة مع حجمها وشكلها بل نجدها احيانا اثقل وزنا من اعمال اخرى هي اكبر حجما.. ففي الاحجام الكبيرة ترك فراغا- اشكالاً مجوفة- اما الصغيرة فكانت مليئة.
وفي حسابات دقيقة لمساقط الاشكال الهندسية عمل النجار على قاعدة الارتكاز في اعماله التي جاء مركز ثقلها شاقوليا على نقطة الارتكاز -القاعدة- وتأتي اعمال النجار ثقيلة الوزن بشكل عام.. جسد خلالها رؤيته الفنية وافكاره وتصوراته ووجدانه.. كل هذه الاشياء عكستها المواضيع التي طرحها من خلال الشكل او دلالاته.. وكان للمرأة الحضور الاقوى بين الاعمال فهي الام والحبيبة والزوجة وربة المتعة والمضطهدة والمنطلقة والراقصة.. والى جانبها الرجل كظل لها مما يذهب بنا نحو الحياة المصرية القديمة والمعاصرة وملاحظ ان الوجوه التي حملتها تكوينات النجار تتوحد في ملامحها كالانف والوجه الطويلين الناعمين اضافة الى الاطراف التي استطالت بشكل كبير.. ويكمن في الاشكال قدر كبير من الالم وتتسم بضغط داخلي عال ينعكس على المظهر الخارجي برغم محاولات الفنان بسط روحية الانسان المصري الميالة للفرح والاحتفال.. وفي لقائنا مع الفنان حمدي النجار قال انه وعلى الرغم من كون اعماله امتداداً للفن المصري الا انه متأثر بفنون حضارة وادي الرافدين القديمة كما انه يعتبر النحات محمود مختار استاذه فانه بنفس القدر ينظر للفنان العراقي الراحل جواد سليم ويعتبره استاذا حقيقيا له في فن النحت قائلا أن فناني البلاد العربية بعضهم يكمل البعض وجيل يكمل جيلا منذ فجر التاريخ معتبرا العصر الجاهلي من العصور التي شهدت رقي فن النحت من خلال - الاصنام - التي كانوا يتخذون منها آلهة لهم معتبرا العبادة ثيمة القدسية التي نزعت على فن النحت آنذاك مما رفعت من سويته فنيا.. وعن زيارته الى الاردن واقامة معرضه في عمان قال.. انه ينظر الى المدن العربية جميعا كما ينظر الى القاهرة.. ولكن لكل مدينة خصوصيتها المحلية في النظر للفن او التعامل معه.. وفي عمان وجد الحميمية العالمية مع الذين التقاهم من فنانين وناس عاديين.. ولكنه شكا من الاعلام الذي رأى انه لم يعن كثيرا بمعرضه قائلا أن بعضهم دخل المعرض ولم يكتب شيئا وقبل هذا لم يكلف نفسه الحديث مع الفنان وسؤاله عن الاعمال.. والحقيقة ان وراء هذا الحال ظاهرة تنظيمية اكثر منها اهمالا لمتابعة الفن ومعارضه لان يوم افتتاح معرض النجار كانت هناك نشاطات فنية وثقافية كثيرة منها افتتاح معرضين فنيين واحد في المركز الثقافي الفرنسي للفنان السوري خالد بركة والثاني في جاليري الاورفلي للفنانة ديانا شمعونكي اضافة الى نشاطات اخرى في مركز الحسين الثقافي.. وقبل كل هذا جاء معرض النجار خارج برنامج الجاليري وبشكل طارئ.. كما استغرب الفنان حمدي النجار من غياب النقد الفني عن الساحة متسائلا: اين النقاد الفنيون في مدينة كثيرة الجاريهات غنية بالمعارض المتنوعة في الفنون ومشاربها المختلفة؟.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة