المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

(تهافت الستينيين) للشاعر العراقي فوزي كريم .. أحلام المثقفين وخيباتهم، وقضايا الشعر والفن، وهموم الحياة

بنشر هذا العرض لكتاب الشاعر فوزي كريم "تهافت الستينيين" الصادر عن دار المدى هذا العام، تتوقف ثقافة المدى عن نشر فصول هذا الكتاب وتكتفي بالقدر الذي نشر منه.
المدى الثقافي
 

ابراهيم حاج عبدي - دمشق

"تهافت الستينيين" هو كتاب جديد صدر، مؤخرا، عن دار المدى (دمشق ـ 2006) للشاعر والناقد العراقي فوزي كريم، وبالرغم من أن العنوان يشير إلى أن الحديث سيتناول مثقفي الستينيات في العراق، والآمال اليوتوبية التي كانت تكبر في دواخلهم، والسمات الرئيسة لتلك المرحلة المهمة في تاريخ العراق، غير أن الباحث لا يتقيد بهذا العنوان، ففي الوقت الذي يناقش فيه موضوعه الرئيس ببعض الإسهاب والتحليل، فانه يذهب إلى ابعد من ذلك إذ يناقش قضايا ثقافية وفكرية أثيرت في العراق والعالم العربي، فيتوقف مطولا عند مفهوم قصيدة النثر، والعوامل التي أدت إلى انتشارها، ويناقش تاريخية مصطلح "قصيدة النثر"، وأهم روادها في العالم العربي، ويتحدث عن المفكر الفرنسي جوليان بيندا، وعن الناقد الأدبي الأمريكي المعروف هارولد بلوم، وينتقد، في رد متأخر، دعوة الناقد السعودي عبد الله الغذامي إلى "النقد الثقافي" بدلا من "النقد الأدبي"، وتتمثل وجهة نظر الغذامي في أن النقد الأدبي (العربي) أدى دوره في الكشف عن جمالية النص كفاية، حتى "أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عيوب الجمالي..."، وإذ يرد كريم بان هذه الصيغة اليقينية مملاة على الغذامي من الكتب النقدية الغربية، فانه يضيف بان هذا "النقد لم يؤد دوره كفاية، فكيف يدعو الغذامي إلى موت النقد الأدبي أمام عشرات الشعراء العرب المحرومين أصلا من إضاءات ناقد واحد، تسلط على حياتهم المنسية أو على شعرهم المهجور، وأمام مئات القصائد الظامئة إلى قراءة صائتة واحدة من حنجرة غير حنجرتهم".
في هذا الكتاب، يستعيد فوزي كريم، وبحساسية شعرية هادئة، صورة الستينيات العربية والعراقية، ويعود بالذاكرة إلى سنوات "النضال الحالم" حيث كان المثقف يبحث عن التغيير، وهو يعقد مقارنة بين ستينيات العراق وستينيات روسيا القيصرية، قبل ذلك، بقرن كامل، ويستهل موضوعه بالحديث عن رواية "الشياطين" لديستوفكسي، التي علمت المراقب بان "مثقف الفكرة المقدسة المتعالية أو "الحلم الفردوسي"، منشطر على نفسه، أناني بطبعه، وكاذب".
وإذا كانت روسيا قد حظيت بديستوفسكي، فان العراق ـ كما يرى كريم ـ قد ابتلي "بالكاتب الثوري الذي يرقب الظاهرة ليمنحها، بمزيد من العواطف والخيال، شرعية وطأتها كالصخرة". وهو يستعين، في هذا المقام، بما يكتبه سامي مهدي عن تاريخ هذه المرحلة ليؤكد أن الأكثرية من كتاب الستينيات كانت تنتمي لتنظيمات حزبية، وأنها منيت بانتكاسات سياسية ونفسية لم تؤد بهم إلى مراجعة النفس والحكمة، بل إلى ميول وأهواء فكرية أكثر تطرفا. ويقتبس من كتاب مهدي (الموجة الصاخبة) الفقرة التالية: " فكان أن تسللت إليهم، بدرجات متفاوتة، الأفكار الوجودية والعدمية والتروتسكية والفوضوية، حتى أن نفرا منهم أعاد الاعتبار لتروتسكي وأفكار الأممية الثانية. وحين تألق نجم الغيفارية صار أرنستو غيفارا نجما محببا لدى أغلبهم، وراحت صور مقاتلي الجبال والأدغال تداعب مخيلاتهم، بل كان بعضهم يحسد الكاتب ريجيس دوبريه على ما وصل إليه من شرف...، وحين انفجرت أحداث أيار 1968 م في فرنسا كان هناك من عثر على بغية أخرى، فصار أبطال هذه الأحداث من النجوم التي يتطلع إليها...كان أكثرهم يبحث في هذا الخليط المتنافر من الأفكار عن خلاص ما غير الخلاص الذي وعدتهم به الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها.
ويسخر كريم من كيفية تعاطي هؤلاء المثقفين مع التيارات الفكرية، والفلسفية التي ظهرت في الغرب، فيقول "أسرنا الكتاب الغربي وبواسطة الترجمة, تعلقنا بثقافة غربية على ورق سيئ الطباعة، وكان أشبه بتعلق مراهق من "باب الشيخ" بحسناء في فيلم أمريكي. في اتحاد أدباء مرحلة أول ثورة تموز تعلق أدباء اليسار الشبان بإضاءات همنغواي، وفي "مقهى السمر" بالمسافة بين تروتسكي ولينين، وفي "مقهى المعقدين" بدخان الوجودية، وفي "مقهى البلدية" بفضلات الشوفينية القومية الألمانية....كنا في الهفوة التي يغفلها التاريخ. هفوة لغوية، بيانية، وليدة وهن استثنائي في القوة الإنسانية الحية"، معتبرا أن فاضل العزاوي في حماسه الستيني، ابرع ممثلي هذه الهفوة.
ورغم أن حديثه يشمل الثقافة بمختلف تجلياتها، إلا أن الشعر يكون دائما ميدانه المحبب، بوصفه شاعرا، إذ يشير إلى أن الشعر العراقي كان قد "قطع، في مرحلة ما قبل الستينيات، شوطا مثيرا في إنضاج صفتين متناقضتين، الأولى صفة الشاعر المتسائل، الحائر: السياب، الملائكة، البريكان، الحيدري، مردان... والثانية صفة الشاعر اليقيني: كالبياتي، مثلا. ويرى كريم انه و"بعد انقلاب 1958 اضطربت القاعدة بعنف، بحيث اندفع شعراء من موقع الحيرة إلى موقع اليقين، وبالعكس. صارت نازك الملائكة ذات حمية قومية، ثم دينية على اثر فزعها من المد الشيوعي. حسين مردان اطمأن لكذبه، وكذبه ابيض ككذب الأطفال. بدر شاكر السياب تعرض لضغوط قاهرة هرست قدرته على البقاء شاعرا رائيا. بلند الحيدري فضّل الانتساب إلى الحياة العابرة، وجعل الشعر ملحقا بها. في حين انتسب محمود البريكان للشعر وبقي داخله حتى مقتله. بينما غامر البياتي مرات في التخلي عن حقل يقينه، ودخل خبرة شاعر الحيرات بنجاح تجاوز فيه صوته الآخر".
وفي هوامش أحد الفصول يشن كريم هجوما قاسيا على من يسميه بـ"مثقف الإعلام العربي" مختارا الروائي اللبناني الياس خوري في رؤيته لاعتقال صدام، ففي حين يصرخ العراقي بعد الاعتقال مبتهجا "لا جريمة قتل بعد اليوم من صدام حسين وزبانيته"، فان الياس خوري يكتب "كان أشعث الشعر، طويل اللحية، يلبس عباءة أو دشداشة، ويجلس تحت ضوء بطارية الطبيب. هذه هي الصورة الايقونية الأمريكية التي يراد تسجيلها في الذاكرة..."، ويعلق كريم بان رؤية خوري هذه "ليست وليدة كراهية للقاتل. ولا وليدة تعاطف قلبي مع مئات الآلاف من قتلى حربيه الداميتين، والآلاف من جثث المقابر الجماعية، والآلاف من القتلى الأكراد، والملايين من الهاربين في المنافي الغامضة. بل هي وليدة رأس المثقف العربي الذي يتعامل طيلة حياته النضالية مع الأفكار المستعبَدَة من قبل كراهية الغرب البالغة السطوة، ومع الرموز التي أخلت الحياة من الإنسان تماما". لقد جرد خوري بضربة ساحر المشهد من الحدث، والحدث من أي ارتباط بالضحايا، حتى مشهد الضحايا الذين خرجوا مترددين، خائفين بفعل الخوف الذي سكنهم ثلاثين عاما، لإسقاط نصب صدام حسين في اليوم الأول من تحرير بغداد لم يستطع الياس خوري أن يراهم إلا "...مجموعة قليلة العدد من العراقيين تم تجميعهم على عجل". وهنا، ومع الإقرار بصحة ما يقوله كريم، غير أن اختياره لإلياس خوري لم يكن صائبا، ذلك أن ثمة العشرات، بل المئات، من الشوفينيين العرب الذين باركوا الديكتاتورية البعثية بوضوح، على مدى عقود وحتى اللحظة، دون أي شعور بالخجل أو الندم، لكن خوري لم يفعل ذلك، ولئن أخطأ في تحليل حادثة اعتقال صدام فان له مواقف معروفة تناصر الضحية دائما وتقف ضد الجلاد، وكان الأجدر بكريم أن يختار مثالا آخر غير هذا الروائي اللبناني المتميز.
ويقدم الباحث في فصل تحت عنوان "قصيدة النثر ودربة الأذن" مجموعة انطباعات بشأن قصيدة النثر في الشعر العربي، وهو يقر بان هذه الانطباعات لا تزيل إرباكا، ولكنه يسعى إلى تحاشي مضاعفة الإرباك، والتعتيم. هو يسعى إلى تأمل الظاهرة التي يقول بأنها "اجتاحت كحريق حقل شعرنا الظامئ، الشاكي من اليباس، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات"، ويسعى إلى تأمل تفرد هذه القصيدة في الساحة الشعرية التي يزعم أنها ساحة "ثقافة إعلام" لم تسهم المواهب الشعرية إلا في تعزيزها، ولذلك لم تكتسب هذه المواهب صفة الفرادة والشخصية، بل صارت، تحت ظلها وفي غمرة مناخها المفروض بخفاء، مواهب ذات صيغة جماعية، تنعكس جماعيتها على تقارب النصوص، وعلى الخصائص المشاعة الموزعة فيما بينها.
ومثل هذا التأمل يستدعي من الباحث محاولة متابعة ما جرى لقصيدة النثر في الغرب الإنكليزي إذ يستفيض في الحديث عن تاريخ ظهور هذه القصيدة، وكيفية ظهور المصطلح، وأبرز روادها ليقف عند تجربة الشاعر الأمريكي جون آشبري، وقصيدة النثر لدى الشاعر الأمريكي مايكل بندكت،. وإذ يؤكد، كريم، بأنه لم يكتب قصيدة نثر إلا بفعل حاجة ليست بالضرورة واعية، ويعتبرها ضربا من الكتابة الشعرية يلبي حاجة جانبية طارئة، فانه يبدي استغرابه من أن يواصل شاعر مثل محمد الماغوط، وانسي الحاج، وتوفيق صايغ وآخرين كتابة قصيدة النثر طوال حياتهم مع انعدام كلي للمحفز الأساسي لقوى الغرائز الدفينة، مكمن المشاعر والرؤى، وهو محفز الإيقاع والموسيقى. متسائلا باستغراب: كيف يمكن لشاعر أن ينهي عمره الشعري في مسار لا أثر فيه للإيقاع والأوزان، وللموسيقى؟
ويضيف كريم، في هذا السياق، منتقدا الشاعر الثوري الذي تماهى، من حيث يعلم أو لا يعلم مع خطاب السلطة، فيقول بان "إعلام السلطة العربية منذ الستينيات كان وليد أفكار المثقف الثوري وطموحاته وشعاراته. الركائز التي تعتمدها توجهات الإعلام تكاد تنعكس، بصور فنية في قصائد ومقالات الكتاب الثوريين الانقلابيين، دون أي فارق يذكر. وينتقد آلية تفكير الكتاب والشعراء الذين غرقوا في أحلامهم المؤجلة، غافلين عن حقائق الواقع التي تدحض تلك الأحلام. "الشاعر الثوري، شأن الإعلام الثوري، لم يغن الإنسان الأرضي، ولم ينطلق من آلامه، وآماله(كما يدعيان). بل غنى وانطلق من نمط أنشأه خياله وفق معايير أفكاره، وأيديولوجيته. هذا "النمط" هو "بطل" قصيدة الشاعر الثوري، ولا يمت لإنسان الحياة اليومية بصلة. إنه بطل ينتسب لشريحة أو نخبة لا وجود لها في الحقيقة الأرضية...هي وحدها التي تستحق المديح والتمجيد، أو المرثية والندب.
وبعد أن يسهب في شرح طبيعة الموسيقى علميا، وتأثيراتها في النفس، والفرق بين الكلام المنثور والموزون، يستنتج كريم بان "ضعف الأذن موسيقيا يشكل أحد العوامل التي دفعت عددا من الشعراء إلى خوض تجربة قصيدة النثر". وثمة من رأى في قصيدة النثر البديل الحقيقي والضروري الذي يفرضه الانتساب للحداثة، وسبب ذلك أن الشعر الغربي الحداثي إنكليزيا أو فرنسيا أو ألمانيا إنما يكتب نثرا.
ويسترجع بنبرة وجدانية مؤثرة قصة صداقته مع هادي العلوي، منذ سنوات "محلة العباسية" ببغداد وما تلتها من محطات لم تستطع أن تفرق بين الرجلين رغم الخلاف الفكري، واحتدام الأفكار بينهما حول العديد من المسائل. غير أن الخبر الذي وصله في خريف العام 1998 م، والذي يقول بموت هادي العلوي، كان مفجعا، وهذا الرحيل كان السبب الوحيد الذي فرق بينهما، وبقي كريم مخلصا لصديقه فيدون هذه الانطباعات، ويتحدث عن رجل زاهد عن الحياة ومباهجها، مؤمن بقوة الفكر، ويتمتع بنزعة انسانية رفيعة. يكتب كريم عن لقاءاتهما في لندن، وكيف استأجرا معا شقة أوائل الثمانينيات في هذه العاصمة، ويقول بان هادي العلوي "كان يتعامل مع قوة الحياة عبر الشاعر والمتصوف فيه، وينعكس ذلك في فيوضات نثره وشعره، ولكنه، مع واقع الحياة المحيطة، كان يتعامل عبر العقائدي. وينعكس ذلك في نتاجه السياسي والصحفي حتى أنه، هو الذي أشبعه الحرمان والعزلة بالتساميات، ولّد من هذه الصوفية "عقيدة صوفية".ونحن نعرف أن الصوفية كالشعر عصية على يقين العقيدة. ولقد أطلق على صوفيته تلك اسم "الصوفية الاجتماعية". والتفت إلى التاريخ ليمد لها جذورا فانتخب لاوتسه، تشوانغ تسه، أبا ذر، الحلاج، النفّري، أبا العلاء، عبد القادر الجيلي، وانتهى بالمحدثين: غوتيه، ماركس، تولستوي. ولو أن العلوي أخصب تربته بهذه النزعة وهذه الجذور كشاعر راء، إذن لحقق صوتا فريدا، ولكنه وظفها في غير حقلها فأعطت ثمارا دامية، لا تختلف في شيء عن الثمار التي طلعت علينا من معترك العقائد المشهود.
وبما أن الحديث يتناول المشهد الثقافي العراقي فان كريم لا يمكن أن يغفل عن اسم ترك أثرا عميقا على هذا المشهد على مدى قرن كامل، انه الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي يفرد له الباحث مساحة يتحدث فيها عن الجواهري، وأهم المحطات في تاريخ هذا الشاعر، والمناسبات التي ألقى فيها قصائده المشهورة مع شواهد كثيرة يقتبسها من تلك القصائد ويدرجها في الكتاب، فالجواهري يعد واحدا من الشعراء القلائل الذين احتلوا مكانة بارزة في عالم الشعر ودنيا الأدب، باعتراف خصومه قبل أصدقائه. عاش قرنا كاملا ليكون شاهدا بالكلمة والموقف على مرحلة مليئة بالاضطرابات، والخيبات والثورات فلم يكتف بالتفرج على ما يحدث، بل لعب دورا فعالا في مختلف المسائل والقضايا والمناسبات، وجلبت له قصيدته الكثير من الخصومات والعداوات، ورغم كل ما كتب عنه فان ثمة سؤالا مشروعا يعاد طرحه في كل حين يتمثل في: من هو هذا الجواهري الذي استطاع بصوته الجهوري الهادر، وقصيدته الرصينة المتوغلة في بحار الفصاحة أن يصنع صوتا شعريا متفردا انتزع إعجاب القارئ والناقد معا، ليكون آخر الشعراء الكلاسيكيين؟. هذه التجربة الطويلة والغنية يحاول فوزي كريم أن يسلط بعض الضوء عليها، محاولا تبيان السمات الرئيسة في شعر الجواهري عبر رصد للمحطات الأساسية في هذه التجربة. وينهي كتابه بتقديم إضاءات حول تجربة الشاعر محمود البريكان، ويقف كذلك عند تجربة الشاعر صلاح عبد الصبور، والشاعر محمد بن طلحة، وزاهر الجيزاني.
"تهافت الستينيين" الموقع باسم فوزي كريم يكشف عن ثقافة واسعة يتمتع بها هذا الشاعر العراقي المقيم في لندن منذ سنوات، والذي يعمل بصمت، بعيدا عن الأضواء، ففضلا عن لغته الأدبية الرشيقة ثمة إحالات إلى مراجع ومصادر مهمة عربية وعالمية، ناهيك عن اقتباسات كثيرة يستقيها الكاتب من النصوص التي قرأها، وهو يدمج كل هذا الرصيد الثقافي بتجربته الحية وانطباعاته المباشرة، وتأملاته، ومشاهداته ليقدم نصا غنيا يكشف عن كاتب لا يسحره شيء في هذا العالم سوى الكلمة، قراءة وكتابة.


جــاذبـيــة ســــــــــــري.. معرض فانتازيا التحور: صرخة هائلة بالالوان
 

علي الشجيري - القاهرة خاص بالمدى
تمتلك براعة على فض الاشتباكات باللون الابيض وهي فاصلة بين اللون الاحمر والازرق والاسود.. وبهذه الاشتباكات يهدأ اللون الاحمر.
تلاحق الفنانة البنايات والبشر وتحاورهم منذ بعد زمني ولكنها تجدد الحوار باللوحات والالوان والخطوط والتلاعب بالابعاد. وتقوم بضربات موجعة وعندها اللون الاحمر اداة للتوهج.بمثل هذه القاعدة تتناول الفنانة التشكيلية (جاذبية سري) الامواج المتعبة والشطآن المتآكلة وتبحث عن الاعماق في الاشكال وتغازل الاضواء وتربط ارجاء الحياة بالازرق.انها خطوط للحياة والغموض واشباح مهلهلة للناس والبيوت. بمثل هذه الصور اقامت الفنانة التشكيلية جاذبية سري معرضها الجديد في قاعة الزمالك بعنوان (فانتازيا التحور).
مساحات العمل الجديد للفنانة تختلف مواضيعها واحداً عن الاخر في الملامح لانها توحي لك بانها تصرخ وتشتكي من خلال لوحاتها والوانها من زحام الحياة وتكدس البشر في رقعة محدودة وتعطي لك الانطباع في نفس المعنى حين تقدم المباني المتداخلة في بعضها البعض ويغلب على سمتها التكدس بتاكيد هذه الحقيقة وتبرير تلك الصرخة الهائلة الموجودة بالالوان.الجديد في معرض الفنانة التجديد بالاسلوب الفني للتعبير عن الافكار التي تدور حول الإنسان، فهي تصور رجلا وامراة من خلال نموذجين مشتقين من الحس التكعيبي وكانهما منبثقان من خلفية اللوحة تجاه المشاهد مما يعطي لهما بعدا اضافيا.وعلى الرغم من محاولاتها اختصار درجات الالوان المستخدمة الا ان اللوحات بدت ذات ثراء لوني اظهرت مقدرة الفنانة على توظيف الادوات الفنية.
كما تراها من خلال العينات انها منشغلة بالانماط التقليدية التي تتناولها فيشغلها بائع في السوق او فلاح في الحقل او موظف جالس في المقهى.وهي تتابع وتتعايش مع نشاط الانسان البسيط بخطوط بسيطة تبتعد بها عن المقاييس التي تضعها ضوابط العمل الاكاديمي.وما يميز اداء الفنانة انها لا تعتمد على التفاصيل الكثيرة لاجل ان لا تضيع منها الفكرة الاساسية.لذلك فان الالوان عندها لغة تؤدي أداءها حسب قدرتها بالتلاعب بالالوان مع الظل والنور والمساحة والشروق والغيوم لتؤكد لنا ان اللون هو صاحب الصوت الاعلى ولتظهر لنا الاحساس بالحياة العادية ببصمات فنية واضحة وخاصة بها .وقد قيل ان كل معرض تقيمه الفنانة يمتلك البراهين على التجديد والاستخدامات المتغيرة. فاذا كانت الوانها الزيتية هي السمة الغالبة على مسرح اعمالها الا ان ذلك لم يمنعها من تقديم اعمال فنية متميزة بالوان مائية. كذلك فان التصوير هو محور ابداعها الاساسي الا ان ذلك لم يحل دون تقديم مجموعة من الاسكتشات السريعة بالالوان المائية ليصدق عليها القول انها فنانة متجددة لاتقف عند حدود اداة معينة او خام او لون او خط بل هي تعبر كل يوم عن مدى عمق المشوار الفني ومدى مكانتها على ساحة الفن التشكيلي.يشهد الجميع للفنانة (جاذبية سري) بانها متطورة وغزيرة الانتاج وفي كل معرض تزداد في تلخيصها الاشكال والخطوط من خلال اجادة استاذية عالية واحتراف مع بقاء إمضائها على لوحاتها ثابتاً لا يتغير فيه شيء اللهم الا سنة الانتاج والتنفيذ فقط. وكيف لا تمتلك مثل هذه الاستاذية العالية وقد عملت كأستاذة للتصوير بكلية التربية الفنية في جامعة حلوان حتى عام 1981 بعد ان تخرجت من جامعة القاهرة وعملت فيها استاذة وبعد ذلك استاذة في الجامعة الامريكية عام 1980 الى 1981.كما حصلت على جوائز من العديد من المهرجانات العالمية في روما وفينيسيا و الاسكندرية والقاهرة وموناكو وجائزة الدولة التشجيعية والتقديرية ولها مقتنيات في العديد من المتاحف المصرية والعربية والعالمية.


من المكتبة العراقية

تيسير الإعراب

تأليف طاهر شوكت البياتي
محاولة في تيسير علم الإعراب وتبسيط شروحاته حيث قام المؤلف باستخدام أمثلة كثيرة من القرآن الكريم والحديث النبوي لزيادة الثروة اللغوية للقارئ العام وعدم إيراد الشواهد الشاذة والمبلغة في التقديرات.

مملكة الذهب

تأليف: جاسم محمد صالح
أصدر الكاتب المسرحي جاسم محمد صالح مسرحيته الجديدة (مملكة الذهب) بعد سلسلة من الدراسات والمجاميع القصصية والمسرحية بدأها عام 1975 بمجموعته القصصية (طقوس في مدن النساء) والمسرحية الجديدة تستعير من التراث إطاره العام لتقدم عرضاً درامياً في الصراع بين التعاسة والألم والخير والشر.

العاشقة

شعر: أحمد عبد السلام محسن
أصدر الشاعر أحمد عبد السلام محسن ديوانه الأول بعنوان (العاشقة) عن مطبعة الأنوار في البصرة وقد جمع فيه عدداً من قصائده الوجدانية والوطنية والاجتماعية يقول في قصيدته (الملقى على أرض القرنة):
تتساقط الأوراق واحدة
فواحدة
إلى الأرض
وتصبح ساحة البستان صفراء
وفي وجهي أرى لوناً يميزه
ويرعبني
أغير مرة أخرى مكاني

الشعر الحر كتاب للشاعر علي الحلي

عن دار الشؤون الثقافية سلسلة الموسوعة الثقافية صدر للشاعر علي الحلي كتاب نقدي يحمل اسم (الشعر الحر بين النظرية والتطبيق) والكتاب هو باقة مقالات وبحوث ومتابعات مختارة موضوعة كلها سوى مادة واحدة مترجمة للناقد الروسي الكسندر اليوشن نشرت في مجلة الأدب السوفياتي بطبعتها الإنكليزية عام 1977 .


فلسفة الإشـــــراق

حسين ضيائي
ترجمة: عمار كاظم محمد

كانت طبيعة فلسفة الاشراق مثار جدل لفترة طويلة في بدايات القرن الثالث عشر أي بعد عام (1288) كتب شمس الدين الشهرزوري: ان فلسفة الاشراق هي فلسفة الفيض وهي تستند الى الكشف أو هي فلسفة المشرقيين الفرس كما تسمى، ويضيف موضحاً انها تعادل الشيء نفسه منذ ان كانت فلسفتهم تعتمد على الكشف والذوق ولذلك فهي مرتبطة بالاشراق والذي هو تجل لانوار العقل في مبادئه الاولية وانبثاقها من الارواح الصافية عند تحررها من مسألة الجسمانية.
اعتمد الفرس في فلسفتهم على الحدس والكشف وقد فعل الفلاسفة اليونانيون نفس الشيء باستثناء ارسطو ومدرسته والذي اعتمد الفكر والقياس المنطقي.
استطاع الشهرزوري ان يحيط بالميزات الأساسية لفلسفة الاشراق ومعظم النقاشات المهمة التي تتصل بطبيعتها.
فلسفة السهروردي تختلف عن سابقتها الإسلامية كفلسفة ابن سينا في اعطاء مبدأ طريق المعرفة لما هو فوري وحدس آني حيث يلعب الحدس دوراً اساسياً على كل من المستوى الأولي للاحساس وفي شكل المعرفة الصوفية المباشرة للموجودات المتعالية والتي دعاها السهروردي في كتابه بـ (الانوار العقلية).
تقف فلسفته متحركة ومدينة إلى فلسفة ما قبل الارسطوطاليسية خصوصاً افلاطون وكالافلاطونية المحدثة في أيام الامبراطورية الرومانية فانه قد اعترف ان هذه الحكمة قد شرحت بشكل عام بصيغة رمزية في الحكمة القديمة للامم الأخرى وخصوصاً المصريين القدماء كما تتمثل في هرمس (المثلث العظمة) والحكمة الفارسية القديمة والملوك الحكماء.
الجدل المتصور عادة في تلك المدة يتمثل بالضبط في تلك الدرجة التي يجب ان ترى فيها فلسفة السهروردي كفلسفة فارسية وإذا نظرنا إلى الامر بطريقة أخرى يتمثل هذا الجدل في ما إذا كانت فلسفة السهروردي يجب ان ترى كنظام فلسفي متكامل بالدرجة الأولى أو هي مجرد روحانية وعرفان.
يميز السهروردي نفسه فترتين في تفكيره الفلسفي مقسومة بحلم ارسطو المبسوط في المبدأ الاساسي للمعرفة بالوجود وبقبوله بحقيقة الاشكال الافلاطونية. وهناك الاعمال التي كتبت في زمن ما قبل العقيدة الارسطية وهناك الاعمال الأخيرة التي عكست افكاره الاشراقية ولاغراضنا (في هذا البحث) تقسم اعمال السهروردي إلى اربعة اقسام وهذا النظام مستوحى من تحليل مؤلفاته والمعطى في مقدمة حكمة الاشراق وهي كالتالي:
1-كتب السهروردي العديد من المؤلفات السابقة لتطوره الفلسفي وهي كما يبدو كانت على شكل تمارين.
2-المؤلفات الفارسية والعربية الصوفية حيث كتب العديد من الاعمال التي تعالج موضوع التصوف وافضل ما معروف هو القصص الرمزية المكتوبة بالنثر الفارسي وهناك الادعية أيضاً.
3-مؤلفات الشباب الارسطية وهي ثلاثة اعمال وسيطة وموجزة لعمله الفلسفي الكبير وهي (التلويحات) و(المقاومات) و(المشارع والمطارحات) وقد كتبت هذه المؤلفات باسلوب ابن سينا التقليدي لكنها تنتقد الأرسطية في عدة نقاط.
4-حكمة الاشراق.
العلاقات المتبادلة بين هذه المؤلفات كانت موضوعاً للجدل والتي عكست تفسيرات مختلفة عن طبيعة مشروع السهروردي الفلسفي وبين الباحثين الغربيين هناك نظرتان رئيسيتان:
اولاً: رأي المستشرق الفرنسي الكبير هنري كوربان والذي يرى مشروع السهروردي الفلسفي كـ (تصوف شرقي) ولذلك فالاعمال الارسطية (المشائية) كانت كلها مرحلة انتقالية صافية في تفكيره.
خلال المؤلفات الفلسفية تبرز حكمة الاشراق وحدها كتمثيل لفكر السهروردي الناضج، المهم في ذلك المؤلف هو ميتافيزيقيا الضوء والظلام وبشكل عام العناصر المثيولوجية في فكر السهروردي وفوق ذلك فان القصص الرمزية والمؤلفات الصوفية تعتبر مثلاً للمرحلة النهائية والعليا في فكره.
معرفة السهروردي الأولى للثقافة كان عبر إيران القديمة.
ان تفسير كوربان ذو جذور ليست حديثة موجودة في الزرادشتية الشرقية لفلسفة الاشراق الهندية (
mughal) لذلك فان تفسير كوربان الآنف الذكر قد شرح ليس في دراساته حول السهروردي فحسب بل في ترجماته أيضاً وكذلك في اضافاته النقدية لاعمال السهروردي فتصوراته المستخدمة لكلمات مثل (تصوف) و(مشرقي) تعكس البؤرة الأسطورية الأساسية لتفسيرات كوربان. ترجمته لفلسفة الاشراق تجاهلت المنطق وطبعاته الثلاث للمؤلفات الارسطية (المشائية) (أو ربما كان من الأفضل القول، ضد الارسطية) حذف منها المنطق والطبيعة وتحتوي على اقسام الميتافيزيقيا فقط.
طرق مثل هذه تقلل حتماً من السمات الفلسفية لفكر السهروردي.
الآخرون - ونحن منهم - نرى ان منهج السهروردي هو منهج فلسفي بالدرجة الأساسية ونعتبر مؤلفات النضج الارسطية (المشائية) كجزء من نفس المنهج الفلسفي كحكمة الاشراق.
في مثل هذا التفسير فان نقد السهروردي المنطقي والميتافيزيقي للارسطية (المشائية) مركزي لمشروعه الفلسفي حيث يقدم السهروردي ما هو فلسفي بالدرجة الأولى مع إعطاء مكان لاستعمال الرمز والخبرة الصوفية وهكذا فانه يفسر ويقيم بمصطلحات فلسفية.
ان مجموعة النصوص في فلسفة الاشراق تقدم بالطريقة التالية:
التلويحات، المقاومات، المشارع والمطارحات وفي النهاية أفضل ما عرف والذي يحمل اسماً لنظام جديد كعنوانه (فلسفة الاشراق) وبنفس الطريقة كذلك هي ضرورة دراسة كل جزء من كل نص (المنطق والطبيعة والميتافيزيقيا) لاكمال فهم فلسفة الاشراق وهذا ما يعززه الشهرزوري في تعليقه الاشراقي الشامل في (شرح حكمة الاشراق).
المؤلفات الرمزية، كما لو كانت ادبية، تبدو كأعمال ليست مركزية أساسا لفلسفة الاشراق.
هذا المدخل إلى اعمال السهروردي والذي تبدو فيه معظم المؤلفات الارسطية (المشائية) وفلسفة الاشراق كمجموعة مستقلة متماسكة يصدقها امثلة من التقاليد الفلسفية الايرانية المتأخرة وهي تناقش دائماً استعمال السهروردي لمصطلح ابن سينا التقليدي وتأخذه كمدخل للافتراق وهي بالضبط تلك النقاط التي يهاجم فيها السهروردي ابن سينا والفلسفة الاسلامية التي سبقته مثل: اسبقية الماهية، الاشكال الافلاطونية، مصطلح الوجود، رفض التعريف الارسطوطاليسي وما يتعلق بها.
في مصطلحات فلسفة الاشراق فان تلك القضايا المأخوذة من جزء المنطق و(فلسفة المنطق) هي التي مال كوربان واتباعه إلى اهمالها.
اشار السهروردي إلى فلسفة المنطق وهي جزء من مصدرين للفلسفة المثالية بمصطلحات مثل: الحكمة البحثية، طريق المشائين ومذهب المشائين اما الجزء الآخر فهو (فلسفة الحدس) والذي له الأولوية في تأسيس مبادئ الفلسفة والمصطلحات المستعملة لها مثل: ذوق، الحكمة الذوقية، العلم الحضوري وعلم الشهود كلها تشير إلى فلسفة الحدس لكنها تختلف حين تستخدم في سياق تقني.
هذا التميز وضع من قبل ارسطو في التحليلات المتأخرة حيث يعطي الاولوية (للقياسات الاساسية المعروفة والمسموح بها) في العلم.
تفسر فلسفة الحدس في اغلب الاحيان (كتجربة صوفية) واتحاد فلسفة المنطق والحدس في نظام موحد الذي هو - فلسفة الاشراق - كان انجاز السهروردي الرئيس في عيون مؤرخي القرون الوسطى والشارحين للنصوص الاشراقية. قضية فلسفة الاشراق ستلخص لاحقاً لكن من المناسب اولاً ان نورد شيئاً حول العقائد الاساسية المميزة للسهروردي ومدرسته.
اولاً عقيدة المعرفة بالوجود: يشدد السهروردي على ان كل معرفة تستلزم مصدراً مباشراً ما وهي مقابلة لا تتوسط بين العارف والمعرف وبصورة عامة فهو قد رفض الآليات الوسيطة كطرق لشرح المصادر المتنوعة للمعرفة وفي اقل تقدير فان ذلك قد استلزم رفض نظريات التخارج والتداخل للتصور وما يشابهها من نظريات لتوضيح الاحاسيس الاخرى اما على مستوى المنطق فهو قد رفض التعريف الارسطي الاساسي بإثباته ان جوهر (الاشياء) ممكن ان يدرك من خلال المعرفة المباشرة.
وفي اعلى تقدير كان الحدس يعرف بنفس الطريقة التي تعرف بها الموجودات ما فوق الحسية. المعرفة بالوجود تستحضر ايضاً لحل صعوبة التصورات الارسطية (المشائية) للمعرفة الإلهية للاجزاء.
ثانياً عقيدة اسبقية الماهية: يبدو ان السهروردي نفسه لم يستعمل هذا المصطلح وآخر ترجمة صنفت وجوده كـ (اسبقية الماهية) بالتناقض مع زعم ملا صدراً (لاسبقية الوجود) هذه القضية تظهر من تقسيم ابن سينا المشهور للماهية ووجود الشيء الحقيقي.
برهن السهروردي على ان وجود التصنيف الذهني الصحيح لا يتضمن الوجود الحقيقي المطابق له في الاشياء المادية وبكلمة اخرى فان المفاهيم الميتافيزيقية كالوجود، الضرورة، الوحدة... الخ كانت مجرد اعتبارات عقلية والموجودات الفردية المادية فقط هي الموجودات الحقيقية.
يبدو في الختام ان السهروردي نفسه يرى ان السؤال حول الاشكال الافلاطونية قد اصبح هو القضية التي توحده وقدماء الفلاسفة ضد الارسطية (المشائية) ولذلك فانه يرى ان هذه الاشكال ليست كينونات معرفية لكنها تفسير ميتافيزيقي للنظام في الكون فهو يستنبط هذه القضية بمصطلحات عديدة من خلال افكار روحية.
المشاؤون والذي يعني بهم ابن سينا بشكل رئيس قد قبلوا تسلسل عشرة من هذه الاشكال لكن الاشراقيين يؤمنون بان هناك الكثير من هذه الاشكال والكثير منها متساوية بالمنزلة لكنها مختلفة بالنوع.
تاريخ المدرسة الاشراقية: ان أي تاريخ شامل لمدرسة الاشراق لم يكتب لحد الآن ما عدا السنوات القليلة التي مكث السهروردي فيها في حلب. فالمدرسة لم توجد كشيء منظم او مجموعة مؤسسة بالمقارنة مع الفيثاغورثيين او الافلاطونيين الاوائل او فلاسفة الاسلام.
يؤكد في حكمة الاشراق على ان الفهم الملائم لفلسفته يعتمد على القائم بالكتاب أي خليفة السهروردي ومفسره ذلك انه يجب ان يكون هناك شخص مضمر في مذهبه.
يعلق الشهرزوري على ذلك قائلاً: ان رحلات السهروردي كانت بدافع البحث عن مثل هذا النظير الثقافي ولم يجده حيث تفرق تلاميذ السهروردي بمقتله ويبدو اننا لم نعثر على اسم أي واحد منهم.
انتشرت كتب السهروردي بصورة واسعة بعد مقتله لكنها غير مصحوبة بشرح سوى تفسير شفوي تقليدي.
اول مدافع بارز عن فلسفة السهروردي كان الشهرزوري الذي اشتهر في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي وكما يبدو فانه كان مؤلفاً للعديد من الاعمال المقروءة بشكل واسع.
لقد بقي الشهرزوري شخصية غامضة نوعا ما وعلى العكس من بعض التواريخ فهو لم يكن بالتأكيد تلميذاً مباشراً للسهروردي ولم يكن قد تعلم بواسطة احد من تلاميذه لكن يبدو من الواضح في مقدمة تعليقه على فلسفة الاشراق ان معرفته بالسهروردي كانت عن طريق الكتب (القراءة).
عرف الشهرزوري جيداً من خلال ثلاثة مؤلفات والتي قرئت بصورة واسعة لكنها لم تطبع (لحد الآن) وهي: الموسوعة الفلسفية المسماة (الشجرة الالهية) وقاموس السيرة الذاتية للفلاسفة القدماء والاسلاميين على ضوء المبادئ الاشراقية المسمى بـ (نزهة الارواح) وكذلك تعليقه على فلسفة الاشراق.
تعليق الشهرزوري على فلسفة الاشراق كان الاساس لتعليق قطب الدين الشيرازي العالم المعروف والذي كان تلميذاً لنصير الدين الطوسي. حيث ان تفسيره قد ضم وحل محل تفسير الشهرزوري واصبح الواسطة التي من خلالها اصبحت الفلسفة الاشراقية مفهومة لدى الفلاسفة الاسلاميين المتأخرين. تأثير السهروردي كان واضحاً في موسوعة قطب الدين الفلسفية بالفارسية والسماة (درة التاج).
الشارح المبكر الآخر لفلسفة الاشراق كان اليهودي المتحول إلى الاسلام ابن كمونة حيث كان كتابه (الجديد في الحكمة) جزءاً من الفلسفة الاشراقية والذي كتب شرحاً على مؤلفات اخرى للسهروردي كالتلويحات.
في القرنين التاليين كان هناك فراغ فلسفي على الرغم من الشروحات التي كتبت حول مؤلفات السهروردي بواسطة غياث الدين دشتكي وجلال الدين الدواني.
في حوالي بداية القرن السادس عشر الميلادي لم يعرف إلا القليل حول فلسفة تلك المدة لكن الاحياء الرئيس لفلسفة الاشراق كان مقترناً بما تسمى بـ (مدرسة اصفهان) في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر والذي رافقته الرغبة في احياء العلم الزرادشتي في الهند في نفس المدة.
لقد برز الاهتمام بالسهروردي من قبل طلاب مدرسة اصفهان والذي كان اهتماماً فلسفياً كبيراً. لقد كان الداعية العظيم لافكار السهروردي هو المير داماد (1040 هجرية 1631 ميلادية) حيث اعتبر تلميذه ملا صدرا (صدر المتألهين) من اهم الفلاسفة الاسلاميين في المدة التي تلت حيث انه انفرد عن المير داماد والتقاليد الاشراقية ببعض النقاط المهمة واهم قضية كانت هي الحقيقة واسبقية الوجود بينما اعتبر السهروردي واتباعه الوجود اعتبارياً (وجوداً سببياً) ينتج بنشاط العقل لكن ملا صدرا اعتبر ان هناك نوعاً عميقاً من الوجود لم يطبقه السهروردي في نقده لابن سينا ولذلك فانه من الطريف القول انه في التقاليد الفلسفية الايرانية ان هناك جناحين للتقاليد الاشراقية: الاول ظل وفياً للسهروردي في قضية اسبقية الماهية والآخر يقوده ملا صدرا والذي ينتقد السهروردي في عدة نقاط لكنهم ظلوا يعرفون عن انفسهم بنفس المصطلحات للقضايا التي وضعها السهروردي من قبل.
ومنذ ملا صدرا انقسم الفلاسفة الايرانيون بشكل كبير بين مؤيدين لـ ملا صدرا وبين رافضين لنقد ملا صدرا للسهروردي مع رجحان كفة المؤيدين عموماً حيث تجد كلا المدرستين في ايران إلى يومنا هذا.
ما زالت فلسفة الاشراق تدرس في الاكاديميات اللاهوتية في الهند. لقد الهمت السمات الميثيولوجية لكتابات السهروردي مجموعة من المثقفين الفرس والذين يقودهم الكاهن الزرادشتي ادهر كيوان.
بالنسبة لهم فان السهروردي بتلميحاته لعقيدة النور والظلام التي استمدها من الفرس القدماء قد كسب احتراماً ثقافياً للحكمة الزرادشتية والذي بدا في نتاجات هذه المدرسة كـ (الدساتير) و(دابستان المذهب) والتعبير الفلسفي الاكبر عن المدرسة الهندية يوجد في تعليق (هراوي) الفارسي على فلسفة الاشراق اما في الاجزاء الغربية من العالم الاسلامي على الرغم من تلخيص اجزاء من فلسفة الاشراق موجودة في خزانة الوزير لسان الدين ابن الخطيب (776 هجرية 1375 ميلادي) واما في فلسفة القرون الوسطى الاوربية فلم يكن لها تأثير على الاطلاق.


المسرح الاسود

أ. د. عقيل مهدي

بامكان الممثل في المسرح الأسود بوصفه (لاعب العرائس) ان يرى على ملابسه السود "بعض" العناصر "الملونة" بالالوان الفسفورية، كما انه في الامكان ان تظهر (أجزاء) من (العروسة) كما لو كانت (منفصلة) عن باقي جسم العروسة عندما تلون الاجزاء الملونة بـ (مساحات سود) والعروسة في فراغ المسرح الأسود تتخذ حركتها بحرية كالطيران في الفراغ والانفصال والاتصال، كاجزاء والظهور والاختفاء، وذلك بالانسحاب من (الساتر الضوئي) أو الدخول اليه واحياناً تلون العناصر من احد وجهيها والناحية الأخرى تكون سوداء ففي حالة (الاستدارة) تختفي هذه العناصر وبالعكس.)
ان الاشعة فوق البنفسجية:
(شائعة الاستخدام في المسارح فهناك مواد معينة ذات خاصية فسفورية تتوهج توهجاً ساطعاً عندما تضاء بالاشعة فوق البنفسجية وهي في عملها هذا تحول بعضاً من طاقة الموجات فوق البنفسجية عالية التردد (غير المرئية) إلى ضوء (مرئي) (منظور) ذي تردد اقل.
وان (الملابس) و(المناظر) المطلية تمثل هذه المواد الفلورسية لتتلألأ تلألؤاً ساطعاً بتعرضها للاشعة فوق البنفسجية (فقط) لاشيء سواها من الضوء المرئي (المنظور) امكن جعل الملابس والمناظر تتلألأ تلألؤاً وضاء على المسرح في الظلام).
وهذا ما يحتم دقة الشكل لان الممثل في المسرح الأسود يتميز بالمرونة العضوية لضمان حركة الأشياء في ايقاع عام بدون أي زيادة أو تأخير للحفاظ على "الشكل" عن طريق عناصر التشكيل لان حركتها المستمرة تشكل (الصورة المرئية) للعرض الذي ينبع من (التركيبة الدرامية المطروحة) وفي "اجتماع" التشكيلات أو (توزيعها) عن طريق: "الانتشار" أو "الاختفاء" أو "الظهور" يتشكل المكان بصورة (تدريجية) في احد مناطق الخشبة في الفراغ اللا محدود ويمكن أيضاً تدريجياً ظهور تشكيل آخر في مكان آخر داخل الفراغ.
أو يتم (الاختفاء) بسرعة خاطفة (...) عالم الاحلام المطلق يخاطب (عين المتفرج) بلغة الخطوط والتشكيلات والايحاءات معتمداً على النص الموسيقي والمؤثرات والتشكيلات في وحدة عضوية.
وخبرنا تجليات المرئيات، في الاشكال الفلكلورية مثل (صندوق الدنيا) (القرة قوز) (خيال الظل) وتتمايز اشكال الفرجة الشعبية، (عن طريق الشكل واللون والضوء).
فالمناظر هي: العنصر الوظيفي المهم (يؤكد وجود العروسة أو الشكل المتحرك يوجد الجو العام.)
كما انها تحدد حركة العروسة (أو الشكل) بتحديدها للفراغ داخل الحيز المحدود فهي ترسم (البيئة)بالنسبة للعروسة.
وتكشف عن طبيعة (الشخصيات التي تتحرك داخل الفراغ هذا (يستحيل الفصل بين (الشكل) = الدمية والارضية: المنظر) فهما

الشكل                                                        الارضية
فالدمية - تميل إلى البروز                                والارضية تمثل إلى التواري (الاختفاء)
-كثيرة التفاصيل                                              -عام (مجملة)
-محدد (قاطعاً)                                              - حيادية
-(هناك حالات يتخلطان فيها داخل -                      
-الحيز ويتفاعلان في وحدة عضوية

اما أسس التصميم، لهذه الاشكال المرئية بعناصرها (الثابتة) و(المتحركة) فانها تعتمد على نظام خاص. حتى ان نظام الكون يتميز بالايقاع والتباين والتوافق.


كوابيس المنفى لزهير شليبة .. ذاكرة الغائب وتمثل المكان البديل

حمزة عليوي
يستدعي الغائب، إزاء اقصاء مدمر، المكان ومظانه الثقافي، وتشكلات ساكنيه الحكائية، عبر (رؤيا) سوف يحولها المكان البديل (المنفى) إلى (كوابيس)، يعيد انتاج فعل الاقصاء ذاته في ثلاث عشرة قصة تألفت منها مجموعة القاص العراقي المغترب الدكتور (زهير شليبة)، الصادرة في القاهرة عن مركز الحضارة العربية.
لا يبدو غريباً، ان تسعى هذه القصص، إلى تلمس آثار الاقصاء على ذاكرة المغيب عن امكنة الولادة والتشكل، ومخيال الغائب في الامكنة البديلة، التي لا تخفي هذه القصص صلتها المقلقة بها، بدءاً من عنوانها ذي التركيبة المتضايقة (كوابي المنفى)، والتي لا تخفي سمتها الاشهارية الفاضحة، مروراً بثيمات السرد التي يعاد تكريرها، وبنية الاستذكار عبر سارد يدرك، حقاً، صفته الثقافية المنقسمة على ذاتها، كراوٍ غيبه اقصاء مستمر عن مكان يختزن ذاكرة لاذعة، ملؤها الناس بحكاياتهم المتعددة، وافعالهم العجائبية، التي يعمد السارد إلى ترحيلها إلى المكان البديل بهياة كابوس، أو كوابيس، هي في المحصلة، جزء رئيس من الثقافة المتحول اليها وامكنتها المقلقة. وهو أيضاً الراوي ذاته الذي اقصي إلى ثقافة اخرى، وامتلأ بفراغات الامكنة الجديدة، طالما ان شخصيات هذه القصص، تتحول اليها بفعل الاقصاء، لا بفعل الرغبة العابرة، أو الهجرة المؤقتة، أو الاغتراب الذي من الممكن ان تدركه وتعانيه هذه الشخصيات في امكنتها الأولى.
اوجب اعتماد القاص على ثيمة (الرؤيا) الكابوسية كبديل يستحضر من خلاله مفردات الاقصاء، من مكان لا نعرف عنه سوى صفته الكابوسية، وشخصيات بلا ملامح قارة سوى شخصية السارد، الذي يصلنا صوته عبر ضمير المتكلم، خافياً اسمه في احيان كثيرة، ومصراً في اللحظة ذاتها على استدعاء اشخاص لم تبق منهم سوى كناهم، التي تجلب معها الكثير من الاخيلة واسئلة لا تلبث ان تتكرر بتكرير مسوغاتها.
وإذا كان التعميم الذي يمارسه على شخصياته في هذه القصص، كجزء رئيس من بنيتها الكابوسية، ينسجم، إلى حد ما مع بنيات القصة القصيرة، التي لا تحبذ الاطالة، لان مثل هذا الامر يؤدي بها إلى مراكمة الاحداث، وملاحقتها عبر شخصيات تستدعي بيئاتها الاجتماعية والثقافية، مما يخرج السرد إلى الرواية ومظانها، فان إصرار غالب هذه القصص على ادراج احداثها وازمنتها ضمن بنية (الرؤيا) الكابوسية، وتكريرها من قصة إلى أخرى، وان تقع هذه الرؤيا في امكنة عديدة سمتها الطاغية، فضلاً عن كونها عائمة وغير محددة، انها المنفى الذي اقصي اليه السارد. هذا الامر لا بد من ان يدفعنا إلى اعادة توصيف هذه القصص، وموقعتها ضمن ادب عراقي منشغل حد الهوس بـ (الخارج) الذي هاجر اليه أو اغترب فيه أو أقصي اليه.
الحق ان هذه الموضعة تدفعنا إلى تدقيق طبيعة العلاقة التي اقامها، ولا يزال الكاتب مع المكان الذي (انتقل) اليه ومدى صلته بمكانه الأول الذي (انتقل) منه؛ هذه الموضعة مهمة، برأينا لانها تقربنا كثيراً من اشكالات هذا الادب، وتوصيفه حسب العلاقة السابقة، كونه منفياً أو مهجراً أو خارجاً.
لا تخفي هذه القصص صلتها المقلقلة بالمكان البديل، الذي يوصف ابتداء بأنه (منفى)، ثم يعاد تشكيله ثقافياً بأنه الحاضنة لكوابيس لا تنتهي.
اذن نحن إزاء قصص تعمد إلى تسمية مكانها البديل بأنه (منفى) وانها - أي هذه القصص - محض كوابيس لا يمكن فهمها من دون ادراك الفعل القسري الذي يمارسه المنفى على قاطنيه، وربما يكون لجوء القاص إلى تقنية (الرؤيا - الحلم) احدى اهم مظاهر هذا القسر، وترحيلها من قصة إلى أخرى، إذ يبدو فعل الاقصاء شاملاً بالغاء أي دور للشخصية - السارد، وقذفه إلى مساحة ضيقة، يبدو من خلالها نائماً أو فيما هو بحكمه.
يتم استحضار حركات وسكنات الشخصية عبر ذاكرة تستدعي الكثير من متعلقات المكان الأول، في سعي لابطال ما تسميه (فاطمة المحسن) عقوبة النفي، ولكنها لا تعمد ابداً إلى توصيفه.
نلحظ هذا الامر في قصص (ذاكرة البحر) و(الواحة الخريفية) و(مدرسة السياقة) و(الغيوم) و(الهروب) و(العينان الدائريتان) و(المهاجر) و(لقاء في مكتب اللاجئين) و (حكم الاعدام)، فهي جميعاً تعتمد على ثيمة (الرؤيا - الحلم) في متابعة احداثها. وإذا علمنا ان هذه المجموعة تتكون من ثلاث عشرة قصة، فاننا نكون إزاء بنية مهيمنة. ويمكننا بلحاظ تسمية المكان البديل بأنه منفى، ان ندرج القصص الأربع المتبقية، وان اختلف بناؤها، بغيرها من قصص هذه المجموعة في بنيتها الرئيسة، وخضوعها من ثم لبنية مهيمنة، تقرر التشهير بالمكان البديل بوصفه منفى.
نستطيع ان نلمس في القصص التسع الأولى دأب السارد على ملاحقة مكانه الأول عبر ذاكرة يقظة وان تشكلت وتلبست بثيمة (الحلم - الرؤيا). وقد نعيد القول ان السارد لا يستحضر المكان بذاته، قدر ما تلح عليه بعض أنماط التكلم، وبعض بناه الثقافية.
ففي قصة (ذاكرة البحر)، والعنوان ذو دلالة واضحة، لا نكاد نجد للمكان الأول من اثر، تتشكل القصة بتداخل لا تفضه سوى النهاية، بين ما يحدث في الواقع كأحداث يتم تقديمها عبر منظور السارد، وما يحدث في الحلم. ومما يزيد الامر اشتباكاً جنوح السرد اثناء الحلم إلى التشبث بمرجعياته، جاعلاً من الرؤية شائهة وغير ذات دلالة (هل كان الكابوس يحمل من دلالة غير صفته القسرية!!). ومثلما غاب المكان الأول فاننا كذلك، لا نعثر في هذه القصة على توصيف ملموس للمكان البديل، فلا تشكل بعض الاوصاف اللغوية التي يمكن ان تعثر عليها في القصة، مكاناً ذا ملامح ثقافية. والملفت للانتباه ان معظم هذه الاوصاف يجري رصدها وتشخيصها من قبل ساكن المكان الأول. وهي أيضاً تبدو كمحفز لتذكر الفعل الثقافي الذي انجز في المكان الأول، من خلال ذاكرة السرد حيناً، وذاكرة السارد حيناً آخر.
يمكننا ان نلاحظ ان السرد يجلب معه، فضلاً عن ذاكرة السارد، ذاكرة اضافية تعمل على اعادة تأثيث المكان البديل بمظان المكان الأول، ويشمل هذا طريقة التلفظ التي لا يمكن اختزالها إلى محض فعل كلامي من دون ادراك صلتها العميقة بالمكان الغائب (الأول).
وباستبدال الحلم بالواقع، وتغير نوعية الاحالة ما بينهما، تحقق قصة (الواحة الخريفية)، وهي القصة الثانية في المجموعة، اختلافاً نوعياً في توظيفها لثيمة الحلم - الرؤيا. فالقصة تتشكل عبر حلم واحد دونما تداخل مع سرد يقع خارج الحلم. وتحقق، خلافاً للقصة السابقة التي يحيل واقعها إلى رؤيا ثم إلى اليقظة، احالة مختلفة باضفاء صفة الكابوسية على واقع (يسترجع) الشخصية من حلمها، من دون ان يعني هذا تجريد (الرؤيا) من صفات (العجائبية)، التي تسقط فيها بلا مسوغ، وهي احدى ارغامات الاقامة المضطربة في مكان يوصف، ابتداءً بأنه منفى.
في قصة (مدرسة السياقة) ولعلها من اجمل قصص المجموعة، يتخلص السرد ولو إلى حين، من اضطراب توصيفاته جراء هيمنة العجائبي المتحققة بفعل ثيمة الحلم - الرؤيا، وينزع إلى اجراء محايث، وهو السخرية التي تقترب به، عبر لغة ترتدي لبوس الخطاب الرسمي، من المرويات الشعبية في وصف شخصيات بعينها. ينداح معها السارد في لغة شعبية لاذعة تحمل روائح عدة لامكنة مختلفة، من العراق وبلاد الشام، ولكنها تظل، ابداً قريبة من رائحة مكان تشكله أنماط التكلم والحكي، وتستدعيه ذاكرة محمومة تخفق في توصيفه، لكنها لا تيأس من ملاحقته.. انه العراق.
تعيدنا قصة (الغيوم) إلى الآلية السابقة، حيث يهيمن الحلم الذي لا يلبث ان يتحول إلى كابوس، يتم فيه استثمار عنوان القصة (الغيوم) لجلب بنيات حكائية عديدة، تعمل على جعل السرد ذا حركة حلزونية تنتهي باضطراب المخيلة إذ تشتبك البنى الحكائية السابقة مع بعضها، وتختلط التفاصيل في نسيج سردي هو اقرب إلى الشتات منه إلى الالتئام بفعل الانتقال إلى بنية مغايرة أخذت بارباك منظور الشخصية.
تسجل هذه القصة تراجع الاوصاف المكانية ذات الدلالة على مكان ثقافي، لصالح انشغالها بثيمة العنوان على ان هذا لا يعني افقار السرد من الاحالة إلى أمكنة مختلفة، روسيا، العراق، ثم خاتمة القصة بتوصيف دال من خلال الفسحة الصغيرة في ستارة شباك يطل على فضاء مكان غطته الثلوج. انها اوصاف سريعة، وعابرة، لا تتوقف عندها القصة، ولا تنشغل بها، قدر انهماكها بتداعي الشخصية في مكان مقتضب لا يثير اهتمامها، وهي من ثم تهرب منه إلى ذكرياتها، جاعلة من (الغيوم) مفتاحاً تلج بواسطته اغوارها.
ان خفوت المكان وعدم فاعليته، وبالتالي تأثيره الملموس على الشخصية يدفعها إلى التشبث بامكنة بعضها يعود إلى سني الطفولة وآخر إلى سني الدراسة في سعي لاستعادة الفة مفقودة. ولا نقصد بها الالفة مع مكان طارئ، وانما المكان ذي النسق الثقافي المختلف. ولعلنا نجد في قصة (الهروب) مصداقاً لما نعتقد. فهي تستخدم على شاكلة القصة السابقة ثيمة الحلم - الرؤيا. وتعمد أيضاً إلى احالة الحلم - الكابوس إلى مرجعيات اليقظة التي تنتهي بها القصة. ولكنها تسجل من جهة أخرى استخداماً مذهلاً لتقنيات السرد الموضوعي من خلال السارد المراقب الذي يتابع ما يحدث من دون ان تكون له صلة به. فهو محض مراقب يسجل عزلته من خلال رصد حركات الاخرين الظاهرة بلا تأويل يحيل إلى معرفة مسبقة قد تشعرنا بانتماء السارد إلى ما يحدث، أو صلته المفترضة به. تبدأ القصة بجملة تقريرية مباشرة (يبدو ان الجميع كان ينتظر. ماذا ينتظرون؟ لا احد يمكن له الإجابة على هذا السؤال قبل ان يتمعن كثيراً بهيئاتهم والاشياء التي يحملونها معهم. يبدو انهم كانوا ينتظرون قدوم حافلة..).
تغيب في هذه القصة التي ترى أو التي تتكلم، وتجعل منها مراقباً في حلم يتم تقطيعه، وتقديمه على دفعات تتخذ طابعاً مضطرباً يسلط فيها الضوء على شخصية أخرى يتكرر ظهورها بصور مختلفة. انها عزلة السارد - الشخصية المراقبة في مكان بلا ملامح.
وايا كان اشتغال القصص الأخرى في هذه القصص الاخرى في هذه المجموعة على ثيمات النفي والإقصاء، الذي نأمل ان نقف عنده في مناسبة أخرى، نعمد فيها إلى تأويل دلالة (الرؤيا) في القصة العراقية المغتربة، لاسيما ان (الرؤيا) ثيمة ثقافية ذات ارث تاريخي عريق في القصة العراقية، منذ بداياتها الأولى وحتى (رؤيا) محمد خضير وجليل القيسي وغيرهما، ممن عاد حديثاً لتوظيف هذه الثيمة في القصة العراقية القصيرة، بلحاظ الفارق في القصد بين قصة عراقية شكلتها الذاكرة في مكان يستبدله القاص، أو يجبر عليه وقصة عراقية أخرى تستبدل (الرؤيا) بواقع متهرئ.
نقول انه مهما اختلفت القصص الأخرى وتباينت فيها زوايا النظر، فانها تعمد عن قصد كجزء من اجرائها السردي إلى توصيف دلالي لاخفاقها في تمثل المكان البديل، واخفاقها في توصيف مكانها الأول، ويغدو انغماسها، وتشكلها ضمن بنية حكائية مغايرة، هي بنية الحلم - الرؤيا، ادانة مسبقة للمكان البديل فهي تهرب منه إلى الحلم، لكنه ينجح في الضغط عليها ليحول الحلم إلى كابوس.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة