اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

دوره العلمي ـ فلسفته ـ نظرته للمعرفة ـ موقفه من مدرسة كوبنهاكن .. من ملامح الدرس الفلسفي للعالم العراقي الراحل د. محمد عبد اللطيف مطلب
 

علي الاشتر

من ملامح تجربته العلمية والفلسفية
لم تول المؤسسة الثقافية العراقية، حكومية، او غير حكومية، اهتمامها وعنايتها، بالتجربة العلمية، والفلسفية للعالم
والمفكر العراقي الراحل الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب، ولا المؤسسات الاخرى كاتحاد الادباء والكتاب العراقيين، او الجمعية العراقية للفيزياء والرياضيات ومات احد (اقمار) الثقافة العراقية في المانيا وحيداً، ليدفن في النهاية في النجف الاشرف والسؤال هنا:
متى تنصف المؤسسة الثقافية العراقية (حكومية، وغير حكومية)، (افراداً وجماعات) مفكراً عراقيا، كان يردد في مقدمات كتبه لازمة تقول: (وعسى ان يساهم الكتاب في بث النظرة العلمية للعالم، في اوساط ، شعبنا العزيز النبيل)؟؟
لنعلق الاجابة عن هذا التساؤل، فهو لا يتصل، فقط بالراحل بل باشكالية انشطار (وحدة الذاتي والموضوعي) في الثقافة العراقية، وباشكالية (العلاقة بين السياسي ـ الثقافي) فضلا عن الذهاب حتى تخوم (مستويات الوعي الثقافي العراقي) لذا سوف نحاول ان نمسك ببعض ملامح التجربة العلمية والفلسفية لنعرف اولا كيف يفعل وعي المفكر العراق على "بث" النظرة العلمية للعالم في اوساط (شعبنا وثانيا من اجل ان ننصفه، بوصفه عالما عراقيا متميزاً عمل على نشر الثقافة العلمية بين افراد المجتمع، وداعية للتقدم الاجتماعي والخير والسلام بين الشعوب والامم.
المسار البيبلوغرافي
يظهر الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب في مساره على نحو كرس فيه حياته للعلم والتفكير والثقافة، ونقرأ انه ولد في الحلة عام 1921، وحصل على البكلوريوس عام 1943 في الجامعة الاميركية في بيروت، ثم نال الدكتوراه في (الفيزياء النووية) من جامعة درسدن في المانيا عام 1968، ثم حصل على شهادة دكتوراه ثانية في "فلسفة الفيزياء" من جامعة همبولت ببرلين عام 1974. وعمل استاذاً في جامعة بغداد كلية العلوم، قسم الفيزياء.
ومن مؤلفات الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب:
1ـ فلسفة الفيزياء، (صدر ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة العدد 2 عام 1977).
2ـ تاريخ علوم الطبيعة (صدر ضمن السلسلة العلمية من منشورات وزارة الثقافة والفنون العدد الاول عام 1978).
3ـ صورة الكون (صدر في سلسلة الموسوعة الصغيرة عام 1978).
4ـ القنبلة النيوترونية (ضمن الموسوعة الصغيرة) العدد 102 عام 1981.
5ـ علماء فلاسفة (حلقات ضمن الموسوعة الصغيرة).
6ـ كتب ونشر العديد من المقالات في الصحف والمجلات العراقية.

فلسفة العلوم
تفضي مؤلفات الدكتور مطلب، الى صياغة مفهوم لفلسفة العلوم تصبح الاخيرة فيه، اداة ووسيلة للتفكير في "العالم" عقلانياً، وعلمياً ، وتحرر العقل من عاداته السيئة، وتلح على النظر الموضوعي للظواهر الطبيعية والاجتماعية والفكرية، ان فلسفة العلوم عنده "علم خاص بجانب العلوم الاختصاصية ولها مع هذه العلوم هدف مشترك هو معرفة العالم المادي بتعدد اشكاله، وتعقيداته، وانعكاس كل ذلك في الفكر وذلك بالكشف عن القوانين العامة لـ(حركة) الطبيعة والمجتمع والفكر) ومن بين وظائفها توجيه البحث العلمي في ما يخص النظر للعالم، ومساندة البحث العلمي بتشجيع السلوك الاجتماعي لصالح التقدم، وفي الاجابة عن المسائل الاخلاقية التي يثيرها تطور العلم، واستخدامه من جانب المجتمع وعلى هذا يصبح من وظائف الفلسفة ان تزودنا بنظرة علمية عامة متطورة عن العالم.
وفي تصوره ان حدود التخصص بين العلوم، وفلسفات العلوم، لا تلغي الوحدة الدايلكتيكية "الجدلية" بين الفلسفة والعلوم. كتب يقول "ان مجرد التامل في الطبيعة والمجتمع او الاعتماد على الخبرة الشخصية اليومية وحدها، لا يمكن للمرء ان يصل الى نتائج فلسفية يمكن الركون اليها، وان الفلسفة يجب ان تعتمد على العلم في تعميماتها.. واذا كانت الفلسفة العلمية تعنى بالقوانين العامة، معتمدة في بحثها على العلوم الاختصاصية فهي لا يمكن ان تحل محل تلك العلوم، ولا تقدم حلاً جاهزاً للمسائل التي تدرسها تلك".
ويعتقد (ان الموقف الصحيح في حالة حصول تناقض بين الاكتشافات الجديدة في علم الطبيعة والمقولات الفلسفية القديمة هو: ان المقولات الفلسفية القديمة التي لم تعد تطابق الحقائق العلمية، اما ان تصحح وتعاد صياغتها حتى تطابقها، او ان تنبذ. اما الحقائق العلمية ـ الطبيعية ـ فلا يمكن ان تغير حتى تطابق المقولات الفلسفية القديمة".
وفي قراءة مقارنة لافكار الفيلسوف الفرنسي باشلدر وجدنا اتفاق النظر عند الاثنين لـ(العلاقة) بين العلوم، والفلسفة مع ملاحظة ان باشلدر اشتغل على التحليل النفساني للمعرفة العلمية ولم يلتفت كثيرا الى العامل الموضوعي في جدل المعرفة العلمية.

مفاهيم ومقولات
وضع الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب قراءة في مواجهة مفاهيم ومقولات مثل "المادة وتطور مفهومها في الفلسفة والفيزياء، والمجال، والطاقة، والكتلة، والبنية، ويعرف الاخيرة بقوله عنها "خاصية جوهرية لكل الاشياء (والسستمات) والعمليات في العالم الموضوعي، ولكل اشكال انعكاسها في الفكر، وتعني انها مبنية من عناصر او اجزاء تتصل ببعضها بعلاقات ثابتة نسبياً، وبهذا تكتسب ترتيباً داخلياً، وتتعين بنية (السستم) "النظام" بمجموع العلاقات الجوهرية واللاجوهرية العامة والخاصة الضرورية والصدقية بين عناصره في فترة زمنية معينة".
اما عن التعميم الفلسفي فيقول ان (التعميم هو الطريقة التي تتقدم بها المعرفة من المفرد الى العام، ويستهدف الى التوصل الى المفاهيم والقوانين والنظريات العلمية ولهذا فالتعميم الفلسفي، هو الوسيلة العلمية للحصول على المفاهيم والقوانين والنظريات الفلسفية) ويرى ان تعميم المعارف الاساسية يسهم في "تعميق نظرتنا العلمية للعالم" فيما يرى باشلار في التعميم احدى العقبات المعرفية في جدل المعرفة العلمية".
وفي تناوله للحتمية يخلص الى انها "مفهوم فلسفي عن الرابطة الموضوعية، والاشتراط المتبادل لكل الاشياء والعمليات في الطبيعة والمجتمع والفكر، ووجوب حصولها حسب القوانين الموضوعية" ويميز بين الحتمية الميكانيكية والحتمية الجدلية التي جعلته يربط بين قدرة الانسان على الاختيار في حياته قائلاً: من الصحيح ان الانسان امكانية فاعلة لاتخاذ القرارات الحرة التي لا صله لها بـ(الحرية المطلقة) الغامضة، انما هي نتيجة لتطوره الشخصي والاجتماعي لهذا فالسلوك الانساني غير محتم بصورة مطلقة بالمعنى الميكانيكي الجبري، انما يستطيع الانسان ضمن حدود معينة طبيعة واجتماعية تاريخية، وبمعرفة القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي اتخاذ قرارات (حرة).
ثم يتحول لعرض مفاهيم "القانون السببية، والمصادفة والتنبوء العلمي لينتهي الى معالجة (النهج وجدلية المعرفة في الفيزياء) ويعرض لمفاهيم "النظرية، النهج" منتقداً الاتجاهين التجريبي والعقلاني، ويرى ان حل التناقض بين الاتجاهين لا يكون الا بالربط الديالكتيكي "الجدلي" بين "الذات والموضوع".

الروح النقدية
ويمكن للقارئ ان يلمس الروح النقدية للدكتور محمد عبد اللطيف مطلب وهو يعرض لبعض النظريات الفيزيائية وما تثيره من مسائل فلسفية كالنظرية النسبية، والفضاء والزمان، والموت الحراري، والميكانيك والنظرية الكوانتية، فقد انتقد "مدرسة كوبنهاكن" كاشفا عن جذورها الوضعية، وفعل ذلك ايضا مع الاصطلاحية والاجرائية، ويمتد نقده لسلوك العلماء ويحملهم مسؤولية نتائج الاعمال العلمية التي يقومون بها، والاضرار التي يمكن ان تحلق بالبشرية جرائها ففي سياق دراسته "الفلسفة والفيزياء" وتوقفه لبحث العلاقة بين علم الطبيعة والتطور الاجتماعي يقول: لم يحدث في تاريخ البشرية ان العمل عجز عن حل المشاكل التي واجهت البشرية، وقد اثبت تطور العلم والتكنيك ان الافكار المتشائمة عن مستقبل الانسان افكار غير مقبولة لكنه يستدرك ليقول "الا ان هذا يجب ان لا يكون اساسا لتفاؤل وهمي كاذب بالعلم والتكنيك يبالغ في امكانياتها بالاستقلال عن الظروف الاجتماعية" ويؤمن الدكتور مطلب بان "الامن والسلام" هما الحل المشروط لكل المشاكل الاخرى، ويحذر من خطر القوة النووية، ونبه الى ان منجزات العلم والتكنيك يمكن ان تستخدم ضد الانسان مثلما لخيره، لذا يقول "علينا ان ندرك الخير والشر اللذين ياتي بهما العلم.. وعلى العالم ان يتحمل واجب السيطرة على العلم".

تاريخ العلوم
وفي مؤلفه "تاريخ علوم الطبيعة" الصادر في بغداد عام 1978، لا يكتفي د. محمد عبد اللطيف مطلب بمجرد السرد التاريخي لتطور العلم ابتداء من خطوات الانسان الاولى، وانتهاء بالسيبرنتيك والاتصالات، وفيما يسهل على القارئ الوقوف على تفاصيل الاكتشافات والنظريات العلمية، فانه يرى ان تطور المعرفة العلمية وتاريخ العلم عموما مشروط ببقية الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وينتقد المؤرخين الذين لا يرون في تاريخ العلم سوى انتقالا للمعرفة من عالم الى اخر وكان تاريخ العلم هو تاريخ للافكار والمفاهيم العلمية، ويلخص تصوره لتاريخ تطور المعرفة العلمية بقوله "ان تطور علم الطبيعة ينتج عن عوامل داخلية وخارجية معقدة، لا يحصل الا بنشاط عدد لا يحصى من شغيلة العلم، وعلماء افذاذ يمارسون تاثيرا عظيما على هذا التطور وفي مجرى التطور تؤثر فروعه المختلفة ببعضها تاثيرا متشابكا تبادليا، وقد يحدث ان تسبق الاكتشافات العلمية الحاجات العملية".
دعوة
واخيرا نوجه الدعوة للمؤسسات الثقافية العراقية "حكومية وغير حكومية" الى انصاف هذا العالم الجليل وعلى انحاء مختلفة اعادة طبع كتبه في الاقل او عقد ندوة حول تجربته العلمية والفلسفية ، فليكرم شعبنا علماءه...


الباحث د. ميثم الجنابي .. العراق ومعاصرة المستقبل منظومــــــــة فكرية عــــــن العراق الجديــــــــد
 

علي عبد العال
الباحث العراقي ميثم الجنابي المختص بالدراسات الإسلامية وظاهرة التصوف في التاريخ العربي والإسلامي، المحاضر في الجامعة الروسية ـ قسم الدرسات الفلسفية يزور دمشق حاليا للإشراف على الجزء الثالث والأخير من ثلاثية جديدة تصدر له عن دار المدى للثقافة والفنون ـ دمشق، تتمحور حول إنهيار النظام الدكتاتوري والأوضاع الراهنة التي يمر بها العراق عقب هذا التغيير الجذري، إضافة إلى البحث المعمق عن هوية العراق المستقبلية.
وهي سلسلة تتألف من ثلاثة مؤلفات فلسفية وفكرية على درجة كبيرة من الأهمية لجهة تسليطها الضوء على المسارات المستقبلية للعراق الجديد، عراق ما بعد الحقبة الدكتاتورية الصدامية ذات الطبيعة التوتاليتارية. العناوين التي تعالجها تلك الدراسات ـ المؤلفات تتعلق بمستقبل العراق القادم، ولا تلتفت للماضي إلا بالقدر الذي يفيد باستشراف المستقبل وبلورة مجمل بدائل فكرية وسياسية وفلسفية ميدانية من شأنها خلق فضاءِ معرفي وفكري، وحتى سياسي بالمعنى العام، أي عدم الخوض في مضمار الأحزاب العراقية التي طفت على الساحة العراقية عقب التغيير، وإنما تكوين رؤية شاملة تمنح هذه الأحزاب والقوى السياسية العراقية فرصة دراسة واقع المجتمع العراقي في وضعه الراهن والإنطلاق بذات الوقت نحو آفاق المستقبل الذي ينتظر العراق. لذا نرى أن هذه العناوين التي وسم بها البروفيسور ميثم الجنابي مؤلفاته الأخيرة عن العراق تركز على المستقبل منذ البداية حتى الشوط الأخير وهي على التوالي:
1ـ العراق ومعاصرة المستقبل
2ـ العراق ورهان المستقبل
3ـ العراق والمستقبل ـ زمن الإنحطاط وتاريخ البدائل
يقع المؤلف الأول في نحو 390 صفحة، والمؤلف الثاني يقع أيضا في نفس الحجم 390 صفحة، أما المؤلف الثالث الذي سيصدر قريبا فهو يقع في 600 صفحة. جميع هذه المؤلفات تصدر عن دار المدى للثقافة والفنون كما أشرنا.
تعالج هذه المؤلفات جملة عناوين هامة تخص عراق الحاضر وعراق المستقبل. ويتوصل الجنابي في غمرة البحث المستفيض إلى نحت مصطلحات جديدة تختص بالهوية العراقية وملامحها المستقبلية، تلك الهوية التي شابها الكثير من التشوهات وأحيانا الكثير من الألتباس والكثير من الغموض. وأخيرا نحن نقف أمام سؤال كبير وهام: ما هي الهوية العراقية؟
ربما يظن البعض أن الجواب على هذا السؤال من قبل مواطنين عراقيين هو سهل للغاية. بيد أن قراءة متأنية للواقع العراقي بصيغته الدستورية الجديدة، أي "العراق الفيدرالي الديموقراطي" تذهب بنا للتساؤل: مَنْ هو المواطن العراقي بالتحديد؟ وما هي الملامح المحددة والواضحة للهوية العراقية؟ وهل بإمكان المواطن العراقي الكردي أو المواطن العراقي الكلدآشوري أو المواطن العراقي العربي أن يقف بنفس الدرجة من الإحساس بالأنتماء للهوية العراقية بذات المستوى وبذات الحس وبذات المشاعر؟ هنا، وللإجابة على هذه المعطيات المركبة والمتناقضة يتوصل الدكتور الجنابي إلى نحت مصطلح "الإستعراق" الذي يصيغ منه آلية فكرية، بعبارة أدق "منظومة فكرية" تؤدي في نهاية المطاف الى الارتقاء بملمح الهوية العراقية الجديد لتشكل صفة واقعية حقيقية للمواطن العراقي بغض النظر عن إنتمائة العرقي أو القومي أو المذهبي. اي، بمعنى آخر "هوية واقعية" تؤكد على الملامح الحقيقية لهذا المواطن وتمنحه صفته القانونية والدستورية. التوصل إلى تحديد الهوية العراقية وبلورة ملامحها القانونية تمكننا من فهم وتحديد هوية المواطنة العراقية، كما نفهم ونتعرف على الشخص عندما يكون "ألمانيا" أو" روسيا" ـ وليس "سوفييتيا" أو "سويديا" على سبيل المثال. يُراد التوضيح هنا خلاصةً تُفيد أن المواطن العراقي يجب أن يرتقي بالشعور الجمعي لكي يحدد أنه "مواطن عراقي" قبل الشعور بكونه كرديا أو عربيا أو آشوريا. إذاً يؤشر مصطلح "الإستعراق" على خلق شعور جمعي بالإنتماء الحقيقي لهذه البقعة الجغرافية لبلاد ما بين النهرين تبرز فيها صفات هذا المواطن الجديد وتبعده بذات الوقت عن الأفكار الإنعزالية الذاتية، أو ما يتعرض له من تهميش من قبل الحكومات التي تتعاقب على حكمه وإدارة شؤونه.
يوضح البروفيسور الجنابي فكرتة حول مصطلح الإستعراق على النحو التالي:
(غير أن هذا الاستنتاج العام يفترض تدقيقه الملموس في ما يتعلق بفكرة الهوية العراقية،بوصفها الموضوع الجوهري لفلسفة المجتمع العراقي إلى جانب فلسفة الاعتدال العقلاني وفلسفة المرجعية الثقافية، اللاتي يتوقف عليهن آفاق ومسار التطور اللاحق للدولة والمجتمع والثقافة. ولعل الصيغة المعقولة والواقعية بالنسبة للعراق في الظرف الراهن تقوم على تحويل الحكمة الآنفة الذكر في رؤية بديلة يمكن أن نطلق عليها اسم "حكمة الإستعراق"؛ وهي حكمة ينبغي أن تستمد مقوماتها من التاريخ الذاتي للأقوام والأمم العراقية، من خلال جعل العراقية أسلوب تذليل العرقية، وبالتالي رفع الجميع إلى مصاف القومية الثقافية. وليس المقصود بالإستعراق هنا سوى فلسفة الفكرة الوطنية القادرة على تمثل مضمون الأرتقاء من العرقية إلى العراقية. بهذا المعنى يمكن النظر إلى الإستعراق على أنه ظاهرة قومية رفيعة المستوى من حيث كونها نفيا ثقافيا للعرقية وليس للقومية كما هي. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن الإستعراق هو الحد الأقصى للقومية الحقيقية في العراق والمدى الثقافي الأرحب لها. وهي الحكمة الكبرى التي ينبغي تمثل حقائقهااستنادا إلى التاريخ العريق للعراق وتجاربه السياسية المعاصرة وتوظيفها في بنائه الجديد. ) ـ كتاب العراق ومعاصرة المستقبل ص 43 ـ 44.
يستند البروفيسور ميثم الجنابي على منظومة فكرية ترتكز على تحديث الدولة والمجتمع والثقافة. هذا الاستناد على تلك الركائز الثلاث يجر إلى البحث العميق في خصوصية المجتمع العراقي وأبراز ملامحه العامة والخاصة، والبحث في تاريخه القديم والحديث، فضلا عن التفتيش والتنقيب عن العناصر الموضوعية التي يمكن لها أن تؤسس لفكرة البدائل التي يوليها الجنابي أهمية بالغة في كتابه الثاني ضمن هذه السلسلة المعنون "العراق ورهان المستقبل".
لا يمكن لنا هنا في هذا المقال استعراض المادة الفكرية والفلسفية الوافرة التي تزخر بها هذه السلسلة من الكتب الصادرة عن دار المدى للثقافة والفنون، والتي تتناول تاريخ العراق والرهان على مستقبله. ذلك الأمر يستدعي دراسة موضوعية عميقة ودقيقة. لكن الحديث عن النقاط الجوهرية في هذه السلسلة الفكرية الغنية التي تهم المواطن العراقي بنفس الدرجة التي تهم الباحث والمختص والأكاديمي وطالب الدراسات ذات الأختصاص، والساسة العراقيين بطبيعة الحال. وتقع مهمة الأرتقاء بالهوية العراقية الجديدة بالدرجة الأولى، كما يرى الجنابي، على الدولة العراقية الجديدة ومؤسسات المجتمع المدني، والنظام الديموقراطي القائم على فصل السلطات. ويقدم مجمل أدوات عمل على شكل منظومة فكرية وفلسفية يراد منها التركيز على مستقبل العراق وتكوين ملمح وشكل هذا المستقبل ومضمونه وجوهره الذي سيشكل ملمح وشكل ومضمون دولة العراق القادم.
يرى البروفيسور ميثم الجنابي من خلال عملية إستقراء فلسفي علمي وفكري واقعي أن صنع مستقبل العراق الجديد هو متاح متى ما توفرت الإرادة الوطنية الحرة المبنية على حل معضلة "الهوية العراقية" وحسم شكلها ومضمونها. أما العناصر والمكونات المكملة الأخرى فهي متوفرة بكم ونوع متطور من ناحية المادة التاريخية ـ الحضارية ـ السياسية. وكذلك من ناحية المكونات والشروط الجغرافية والاقتصادية الغنية التي يتمتع بها العراق. والأجدر بالذكر أن الجنابي شديد التفاؤل بمستقبل العراق الجديد على الرغم من غمامة الغبار الأسود الذي يحيط بحاضره المأساوي الذي هو خلاصة لحقبة الظلام الدكتاتوري التوتاليتاري الذي خرب العراق واعاده إلى نقطة الصفر. هذا التفاؤل لا يقوم على أوهام فلسفية، وإنما يستند على أسس واقعية تتداخل فيها عناصر المجتمع ومكوناته السياسية والاقتصادية والثقافية.
يمكن الإشارة بهذا الصدد إلى الدور الذي تلعبه دار المدى في الإسهام بضخ الفكر الفلسفي الحديث الذي يجسد حاجة العراق الجديد إليه بعد اربعة عقود غاب فيها الفكر التنويري عن الساحة الثقافية والفكرية العراقية ليسود محلها الفكر الفقير الذي يميز دول الاستبداد السسياسي وطغيان الزعيق الأجوف للفكر القومي العنصري الذي أثبتت حكمة التاريخ فشله الذريع. لذا نود الإشارة إلى ضرورة توفير هذا الجهد الفلسفي المعرفي إلى طلاب الجامعات العراقية المختصين بالحقول المعنية، فضلا عن تزويد المكتبة العراقية بهذه المادة التي من شأنها توفير حيز من الرؤية العقلانية والموضوعية، ومن شأنها تخفيف نبرتي الزعيق والغوغاء الجديدتين وهما تفرضان واقعا عراقيا لا يختلف كثيرا عن السابق.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة