ذاكرة
امرأة عراقية:
بعد سقوط الصنم
وجدت الرجل الذي دمــر
حياتها واسرتها وقد اصبح اكثر جاهاً كرجل تقي ووطني
تفتح صفحة (قضايا عراقية)، نافذة لذاكرة المرأة العراقية
المناضلة كي تكتب تاريخ وقفتها المشهودة والنادرة في تاريخ
النضال السياسي للشعب العراقي بكل تياراته السياسية
والفكرية التي قارعت حكم الطاغية وقدمت المرأة العراقية
على مذبح حريتها ثمناً باهظاً شهيدة وسجينة ومنفية، نساء
من طراز خاص تحدين إرهاب الدولة وصرخن عالياً بـ(يعيش
العراق) وهن متوجهات إلى ساحة الاعدام أو حبل المشنقة،
وتحملن كل عسف وألم زنزانات النظام المقبور. امرأة عراقية
أخفت زوجها وابنها واخاها وحبيبها بل جارها، عن أعين فئران
الزيتوني البؤساء هذه المرأة مطلوب منها ان تكتب هذا
التاريخ الحقيقي للمرأة العراقية لا تاريخ اتحاد النساء
وحفلات نادي الصيد!
(قضايا عراقية)
تفتح هذه النافذة.
بغداد/شذى الشبيبي
(ع م
رافت) حره من هذا العراق الحر زجت في درب النضال دون ان
تنتمي الى اي حزب سياسي اذا بها تحرق الجناة بنزاهة كفاحها.
استقبلتني كضيفه واشترطت ان لا احمل قلماً او ورقه لغاية
ادركتها فيما بعد.
وضعت بجانبها طبقاً فيه اصناف من الادوية ضئيلة الجسد
ترافق يدها ورقبتها رعشة ظاهرة كاي عجوز ذهلت حينما عرفت
انها من مواليد 1952وبسرعة بديهية لا حظت ذهولي وعلقت : لا
تستغربي شكلي ذات يوم قال لي ضابط الامن احمدي الله
واشكريه لانك تتنفسين. فعلاً كانت هذه اصدق كلمة سمعتها من
لسان شيطان لان ماجرى علي يصهر الحديد وانا لحم ودم.
ففي عام 1982 اعتقل زوجي وكان تاجراً معروفاً لم اعرف كيف
اتصرف ولي سبعة اولاد ( خمس بنات وولدان ) كان عمري وقتها
(29) سنه اسرعت الى جارلنا اعرف انه يعمل بالامن وطلبت منه
المساعدة بحكم علاقة الجوار، فرحب بي وابدى استعداده
للمساعدة وبعد يوم ابلغني بأن اترك الموضوع له كي يتصرف
بمعرفته ثم بعد ايام جاء واخبرني بانه عرف اين زوجي
وبامكانه ان ياخذني الى مكانه لنراه شكرته وكنت ممتنه
ولكنه حذرني من اصطحاب الاطفال واقترح ان ترافقني ابنتي
الكبيرة فقط. لم اناقشه ووافقت بدون تردد لم يكن يهمني
آنذاك اي شئ، المهم زوجي واخباره في اليوم التالي ذهبنا
معه.
وهناك لم اواجه زوجي بل فابلت رجلاً سالني بعض الاسئلة عن
اتجاهنا السياسي ووضعنا المالي وما يملك زوجي وهل لديه
حسابات في البنوك اجبته بكل صدق وامانة، وبالرغم من الحاله
الصعبة التي كنت بها في تلك الساعه لفت انتباهي ان ذلك
المسؤول (الامني) كان يتكلم ولكن عينيه على ابنتي وبكل
وقاحة.
والمسكينه بدورها كانت مطرقة نحو الارض، قال لي اذهبي الان
وسنتصل بك عن طريق ابي فلان الجار الوفي حينما ناخذ موافقة
المسؤول الكبير وفي اليوم الثاني جاء الجار الغيور وابلغني
بانهم سمحوا لي برؤية زوجي وانني محظوظة ونبهني على ضرورة
التحفظ على ذلك وهذا سر يجب ان لايعلم به اقرب الناس لانه
قد يكون السبب في قطع رزقه وحتى حياته ... وعدته بذلك لانه
صاحب فضل وجميل علينا ولسنا جاحدين وحينما اخذت ابني
الصغير اعترض بعصبيه وطلب مني ان اصطحب ابنتي الكبيرة.. لم
تنفع حجتي بانها يجب ان تبقى لرعاية اخوتها . فطاوعته
مكرهة في هذه المرة ادخلوني الى المكتب وبقيت ابنتي في
الباب... وبعد جلسة قصيرة واسئلة غير مترابطة طلب مني ان
اتبعه وخرج من باب اخرغير الذي دخلت منه.. رغم قلقي وخوفي
تصنّعت الهدوء ولم يراودني اي خوف على ابنتي لانني اوصيت
ابا فلان عليها وبعد مروري بممرات عديدة دخلنا مكتب
اخروانا اتبعه بصمت اخاف من طرح اي سؤال كان عذابي قاتل
فكرت بكل الاحتمالات السيئة...... ولكن ايماني كان رفيقي
وبعد فترة طويلة رميت نفسي على كرسي في المكتب كان احساسي
بالارهاق والضياع ورغبة بالصراخ والبكاء ليس لها مثيل...
سالته ان كانت زيارتي لهم ستطول وان ابنتي ستقلق علي
فسالني هل انت خائفة منا ؟ قلت : كلا ولكن كان المفروض ان
اترك ابنتي الكبيرة لترعى اخوتها , سالني سؤالاً غريباً هل
تظنين ان اطفالك يحتاجون الى الام والاب أم الاخت اكثر ...
استغربت سؤاله وتمنيت لو اني لم اتورط فهؤلاء الناس انذال
ولا يتورعون عند اي شئ وسرعان ما تذكرت جارنا وطمأنت نفسي
وبقيت ادعو الله ان يدفع ما كان اعظم وبعد اكثر من ساعة
بقيت فيها وحدي عاد ليقول اخت ام رافت اني اسف كان بودي ان
اساعدك وتواجهي زوجك ولكن ظروف العمل.. والان عندي واجب
وانتِ تقدرين طبيعة عملنا).
على كل اضطرت ام رافت لمغادرة المكان الموبوء على امل ان
يتصلوا بها من خلال جارها الشريف , كان لا بد لي من
التركيز الشديد كي اجتاز الابواب والممرات العديدة كي اصل
الى المكان الذي دخلت منه وتركت فيه ابنتي واقسمت في داخلي
ان لا اعود الى هنا مهما كان السبب.. فالرعب والخوف الذي
عشته في تلك الساعات لا يقاس .
حتى زوجي ساترك امره لله واغلق بابي انا واولادي لان ما
رايته من دناءة في الاسئلة والنظرات لا يمكن احتماله .
وصلت اخيرا الى المكان الذي تركت فيه ابنتي لم اجدها ..
بقيت اتلفت برأسي واجول بنظراتي لعلها ذهبت لتشرب الماء
فالجو حار ولو انني اوصيتها ان لا تتناول اي شئ في هذا
المكان ... سالت عنها في الغرف الاخرى لم يرد علي احد وصرخ
بي احدهم ... بقيت اسال كل من يمر بقربي عن جارنا فلم
يتعرف عليه احد ولم اعد قادرة على التفكير ... تعب وجوع
وزوج معتقل وستة اطفال في البيت وابنتي الكبيرة اختفت ...
راودتني شكوك سيئة جلست على المصطبة وازدحمت الافكار برأسي
كانت الدنيا قد اسودت بعيني تماما .
عجبت لسعة صدر هذه المرأة لم تأبه لدموعي ولانني بدأت افهم
رغبتها بالاسترسال وهي تشعل السيكارة تلو الاخرى لا تبكِ
واسمعيني جيدا ليعلم الناس جميعا ويعلم القاضي الذي يحاكم
هؤلاء المجرمين بجرائم لم يعرفها التاريخ ان هؤلاء الكبار
الذين في القفص خلفهم مجرمون ما زالوا احراراً يعيشون في
بيوت فارهة بكل سعادة .
وفي الصباح التالي ذهبت وحدها الى نفس الدائرة ( الامنية )
سالت عن ( ابو فلان ) جارها فلم يعرفه احد سالت عن الرجل
الذي قابلته وبعد التي واللتيا قابلها احدهم للتحقيق معها
كيف وصلت الى هنا وماذا تريد ومن اين تعرف فلان وفلان وباي
حق تسال عن ابنتها واتهمها بالجنون والاستهتار وبعد
التهديد غادرت المكان المشبوه شبه مجنونة ذهبت الى اهلها
استنهضت غيرة اخوتها ووسط البكاء واللوم الشديد ايقنت ان
لا احد يستطيع نجدتها فالقضية فيها اسم (الامن)
الذي يثير الرعب في النفوس واتفق الجميع على ان الجار
الامني له ضلع كبير بما حدث .
تقول ( ام رافت ) مرت عليّ أيام وانا كالمجنونة لانني جنيت
على ابنتي، لقد اخذتها بيدي للمذبح , وبعدما التقيت بالجار
الغدار اعتذر مني بخشونة وامتعاض، وحاول التهرب من اسئلتي
بكل وقاحة قائلا : والله يا اختي عملت ما بوسعي لمساعدتكم
ولكن يبدو انكِ تريدين ان تلبسيني تهمة... صحيح اتقي شر من
احسنت اليه ... كان كلامه سما تجرعته من اجل ابنة الخمسة
عشر عامل لا بل توسلت واعتذرت وكانت ام رأفت مستعدة لتقبيل
الاحذية فقط ليكمل فضله ويذهب معها الى نفس المكان من اجل
ابنتها ... اقتنع وذهب معها على مضض لان ( قلبه الطيب )
سيجره الى التهلكة ...
التقت اخيرا ب( العبد لله ) المسؤول الامني الذي فوجئ
بمسألة الفتاة وادعى انه لا يتذكر حتى شكلها تقول: حينما
راني ابكي واتوسل بدأ يصرخ ويشتم وحينما وقعت على حذائه
دفعني وركلني وهو يصرخ بهيستريا خذوها المجنونة زوجة
الجاسوس ...
هذه المرة وضعوها في غرفة انفرادية فيها سرير وبعض الاثاث
وثلاجة صغيرة ,
هناك جاءها الجار البعثي ... فوجئت بشخصية اخرى , ارتمى
عليها كالحيوان يبثها غراما واعجابا وانه كان يحسد زوجها
عليها وهي لا تشبه زوجته في الشكل والاخلاق وانه مغرم بها
منذ زمن واذا ما اطفات نار هيامه سيزول حقده على زوجها
ويعمل المستحيل ليخلي سبيل زوجها وقد يحل لغز ابنتها ...
صمتت ام رافت ولطمت فمها بقساوة وهي تقول : هذا الفم قبل
احذية الانذال لا يستحق الحياة. كنت اتصور ان لهم قلوباً
مثل البشر . في هذه المرة رفضت المساومة القذرة وباصرار
ورغم انه منحها فرصة ثلاثة ايام لتراجع نفسها وكانت مصرة
على موقفها الشجاع . فلن تخسر نفسها مهما كان المقابل ...
بعدها مورست ضدها اساليب متنوعة من التعذيب وتمزيق الملابس
وقص الشعر بالسكين واطفاء اعقاب السكائر في مناطق حساسة من
جسدها ... واخيرا وضعوها في الممر امام الزنزانة التي كان
فيها زوجها ليمارسوا انحطاطهم على مراى منه ...
تقول : جاهدت كي لا افقد الوعي وان لا اتفوه بشيء كي لا
يسمع صوتي ويموت قهرا رغم انهم كانوا يصرخون ويقهقهون
باسمه ... اصعب موقف على المراة ان تكون بيد انذال ورغم
انني كنت مدللة في بيت زوجي تمنيت من الله ان يحرمني من كل
شئ فقط اخرج من ذلك المكان الموبوء حتى لو انام على الرصيف
..
بعد ايام من التعذيب الوحشي وجدت نفسها في مستشفى كان
الحليب قد تخثر في صدرها وسبب تقيحا ودما وكان لابد من
عملية ( استئصال ) !!
تواصل أم رأفت أفرج عني بعد ان وقعت على تعهد ان لا اتكلم
باي شئ يمس الحزب واعضاء
الحزب والامن واكف التساؤل عن ابنتي ولا ولا ولا ..
وابلغوني ان ابنتي عندهم لانها مطلوبة امنيا واذا تفوهت
بحرف واحد سيوزعون على الناس شريط فيديو وصور ليس بصالح
العائلة ... وحينما عادوا بها الى البيت جاء الجار النذل
ليبلغها بان ابنتها في مكان امين لان مديره اعجب بها
ولكنها عنده واجبرها على كتابة رسالة لابنتها لكي ( تلين
راسها ) ولا يحصل معها كما حصل مع امها حفاظا على اختها
الاصغر ...
بعد (16 ) يوماً طرق الباب فجرا اربعة مجهولين جلبوا ابنتي
شبه ميتة دفعوا بها نحوي وحذروني من مراجعة اي طبيب او
مستشفى، حذروني من البكاء والكلام وذكروني بالتعهد الذي
وقعته ( والا سينقطع لسانك ) وفي نفس اليوم في الساعة
الثامنة والنصف صباحا عادوا ومعهم ورقة تقول بان امرا صدر
بمصادرة البيت العائد لزوجي الذي نفذ به حكم الاعدام (لعلاقته
بجهات اجنبية) كما يقولون.. لم اتنفس ولم اصرخ اعطوني مهلة
ثلاث ساعات رحمة منهم ومنعونا من اخراج اي قطعة اثاث ما
عدا قليلاً من الملابس .. وقفت امامهم عزلاء ضعيفة اردت ان
استصرخ فيهم النخوة ولكن لساني لم يتحرك ... ذهبت مع
اطفالي الى بيت اهلي، وهناك ماتت ابنتي الغالية بصمت لم
تكن تتكلم ممددة كالذبيحة تدور بنظراتها المسالمة نحوي لا
ادري ان كانت تلومني ام تواسيني بقيت ممسكه بيدي، جسمها
ملئ بالكدمات ليست اثار التعذيب ولكنها كدمات من نوع اخر...
ماتت بسرعة غريبة كانها تناولت مادة قاتلة او ابرة ...
تشاور اخوتي فيما بينهم ولعل الخوف من الانذال دفعهم لذلك
واقترحوا علي ان اسكن في بيت احدهم الذي لم يكتمل بعد (
هيكل ) وافقت بسرعة لرغبتي في العيش بعيدا عن الناس كما
اني خشيت على اخوتي ... عشت في بيت لا ابواب فيه ولا
شبابيك كنت لا أنام احرس اولادي ولكن بعد فترة اقل من شهر
اعتقلوا اخي واخرجت من المكان فقد تمت مصادرته !!
سكنت بعدها في ( صريفة ) وصرت في ذلك الوقت اشعر بانني مثل
( الكلب الاجرب ) الجميع يتحاشى حتى السؤال عني وعرفت ان
الخوف سيد الموقف وان الحق بعيد المنال .. كان لزاما علي
ان اطعم ستة افواه ظلموا بلا وجه حق وكنت اخرج في الصباح
الى الاحياء المجاورة اخدم في بيوت الاعنياء وقد اكون دخلت
بيوت المجرمين الذين قتلوا ابنتي وزوجي ودمروني دون ان
اعراف ... ولطالما راودتني تلك الفكرة ولذلك كنت اتفنن في
لبس الحجاب لتغيير وجهي رغم ان شكلي قد تشوه كثيرا .
وهكذا مرت علي سنوات طوال حتى كانت الانتفاضة الاذارية ولم
نترك المدينة فنحن متنا منذ زمن ... ولكن الجيش اجبرنا على
الخروج الى الناحية الغربية قرب مدينه الفلوجة , هناك
وجدنا من احتضنونا واوونا ... وهناك عرفت ان بلدنا ما زال
بخير وان اهل العراق لن تحكمهم الطائفية او العقيدة
السياسية مهما تحكمت فيهم، ولكن يبقى قلبي ينبض الى
المدينة التي ولدت فيها والارض التي ابتلعت زوجي وابنتي
تبقى عزيزة علي .
التزمت ( ام رافت ) بتعهدها للانذال ولم يعرف بقصتها احد
تركت جميع بناتها المدارس واصرت على ان ينال ابناؤها
الذكور نصيبهم من التعليم لانهم اولاد، ساعدتها بناتها في
تدبير لقمة العيش , تقول : كنا نطبخ في الافراح والماتم
وننظف دون ان نعرف للراحة طعماً.
بعد سقوط الطاغية كان اول ما فعلته الذهاب الى منطقتها لكي
تلقي نظرة على بيتها وتعرف اخبار المجرم جارها .. وتقول
ليتني لم افعل فقد وجدت ان الرجل الذي احرق حياتي وقلبي
اصبح اكثر جاها واوسع املاكا يحترمه الناس كرجل تقوى وطني
من الطراز الاول !..
وفي سؤال لها عن رايها بمحاكمة صدام واعوانه : تبتسم ام
رافت بلا مبالاة وتقول:
وما يهمني منه , يحاكم او لا يحاكم فالذين نفذوا الجرائم
هم اخطر منه , احرقوا قلوبنا وما زالوا يذبحوننا كل يوم
ويعيشون بيننا مرفهين واحراراً .. اما نحن عباد الله فليس
لنا إلا ان نعزي انفسنا ونرثي موتانا وننتظر المعجزة ...
|