قصة
قصيرة:
الرجل الذي فقد صوته
ابتسام يوسف طاهر
اعتاد الحوار مع
الذات بصمت. لكنه اليوم وفي هذا الوقت المبكر من الصباح،
احتوته رغبة في ان يرفع صوته، فخرج الى حيث لن يتهمه احد
بالجنون، فليس هناك سوى حفيف اوراق الاشجار والريح تداعبها.
لكنه شعر فجأة بالكلمات تتعثر وهو يحاور نفسه، كأن هناك
هوة سحيقة تبتلع صوته، فتحولت تلك الرغبة، الى حاجة مُلّحة..
تطلع حوله بشيء من القلق، المكان خال في هذه الساعة
المبكرة، اذن ليصح.. ليسمع صوته. فتح فمه محاولا ان يقول
شيئاً ما.. او ليدندن لحنا من الالحان التي كان يرددها في
الشارع، في الحمام، او وهو في طريقه للعمل.. كان يضحك من
اعتراض اولاده عليه، وهم يشعرون بالحرج حين يسمعونه يغني
بصوت مسموع في الشارع. حاول ان يشرح لهم حاجته تلك،
واحساسه بالاختناق لو قمع تلك الرغبة. يعرف ان صوته ليس
جميلا، لكنها اشبه بحاجة للبكاء لخيبة ما، او اشبه بالحاجة
للضحك لموقف طريف، او ربما هي حالة الحلم بالفرح او الرغبة
بالصراخ..
لم يفهموه، فتجنبوا السير معه تدريجيا! هاهم اختفوا
وتضاءلت زياراتهم، حتى اتصالاتهم التلفونية تلاشت هي
الاخرى.
فكر في ان يسأل احد المارة، يسأل عن شيء ما. فقط ليسمع
صوته، ليتأكد من انه مازال قادرا على الحديث، مازال حيوانا
ناطقا، فكر باشياء عديدة.. منها ان يسأل عن الوقت، عن محطة
ما. استوقف شابا كان يسير مع فتاة جميلة تتهادي بسيرها.
أشار لهما بيده مبتسما، لم يسمعا تحيته على مايبدو, فقد
بدت على ابتسامتيهما الحيرة والتساؤل:
ـ نعم، هل انت بحاجة لشيء ما؟ كيف نستطيع مساعدتك؟
تطلع اليهما بعيون حيرى متوسلة، بذل جهده لاستخراج السؤال
من بين شفتيه اللتين جففهما الارتباك. ظنّا انه اخرس، او
اطرش، فصارا يحاولان سؤاله بالاشارة!
إحتار كيف يوصل اليهما انه يسمعهما، والسؤال فقط ليشعره
انه مازال له صوت وانه لم يفقده هو الاخر! ثم اشار بيده
لهما شاكرا مبتعدا بسرعة قبل اكتشاف دمعته.
ـ أما مجنون او غبي..
سمع تعليق الفتاة ولم يسمع اعتراض الشاب عليها.
ارتمى على اقرب اريكة من الارائك المنتشرة في حديقة الهايد
بارك. فاجأه الصوت الذي اعتقد انه اختفى, ليهمس بتشف من
بين اغصان الشجرة التي يستظل بها، او كأنه يهبط مع أحدى
الوريقات الصفر الخريفية التي تتطاير من الاغصان.
"انت غبي.. واناني" قالتها قبل عشرين عاما ومازالت طرية
تتجدد كتلك الاوراق.
اعتقد في بدايات حياتهما ان مجيء الاولاد مبكرا، سيمنحها
دفء الامومة ويطهر روحها من
نزعات التلاعب بمشاعره... لذا أصر على الاحتفاظ بعلاقتهما
بالرغم من توسلاتها, في بادئ الامر، ثم اصرارها الوقح على
التخلي عنه، بعد ان لاحظت تهرب الاخر منها..
اصرت على قتل الحب الذي توهمه قويا, بعد نموه لسنوات قبل
الزواج! لكنه عاند كرامته والاحساس بمرارة الخيبة، وراهن
على حبه لها بالرغم من انتقاد الجميع له!
لماذا أحبَّها؟ بعد كل تلك السنين مازال ذلك السؤال يعذبه..
وبالرغم من ابتعادها ورحيلها عنه منذ زمن.
نهض متثاقلا وسار بلا اتجاه، وضع يديه بجيبي معطفه الداكن،
منحنيا يتدلى رأسه المثقل بالحيرة والاسئلة. يتأمل قدميه
وهما تهرسان اوراق الخريف الجافة، منحه ذلك ابتسامة
ازاحت بعضا من غيوم ذلك الكابوس. تذكر ابنه الاصغر حين
كانا يتسابقان ليدوسا الاوراق الاكثر جفافا فيأنسا للصوت
الذي يشبه قروطة الكرسب ـ شرائح البطاطا الرقيقة المقلية ـ
كما يعلق ابنه بفرح.
اين هو الان؟ انقطعت مكالماته هو الاخر، حتى رسائله صارت
شحيحة.
باغتته فكرة تحمس لها، لم يبق امامه الا ان يتصل باحدهم،
ليسمع صوته! فهو بعد ان اتعبته قوائم التلفون، حيث صار
كلما تراكمت في دواخله الحوارات والاسئلة بالسياسة او
الادب، اتصل باحدهم، فتطول الحوارات معهم بالساعات. اراد
اختبار اهتماهم به وسؤالهم عنه! فرمي دفتر العناوين..وجعل
خط التلفون للاستقبال فقط، ليسمع اولاده في الاقل، لكنهم
هم ايضا انقطعوا تدريجيا. لابد من انها نجحت بتحويل
مشاعرهم عنه، بطريقتها الذكية البارعة باختلاق كذبات عن
كرهه للاصدقاء، عن بخله وانانيته! عن عنفه وقسوته معها او
مع الاولاد؟ كل ذلك لتبرر سلوكها, الذي حاول ان يكتمه ولا
يخبرهم بشيء لا تتشوه صورتها بنظرهم.
وصل احدى كابينات التلفون العمومي، حاول ان يتذكر ايا من
الارقام التي كان يحفظها، لم يتذكر سوى رقم احدهم "لابد من
انه رقم تلفون ابنه الاصغر"، الذي كان اقربهم اليه واكثرهم
حميمية.
هلل للفكرة، فضرب الارقام، شعر ان قلبه هو الذي ينبض
باصابعه..
لم يرن سوى مرة واحدة.. فجاءه الصوت حادا قويا، عرفه توا،
انه صوتها... تدلت السماعة من يده. خرج مسرعا من الكابينة,
وهو يسمع صوتها بعيدا كأنه آت من هوة سحيقة.
"الو..نعم..غريب..الخط مفتوح.. من ياترى..."!؟
|