المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

صدر عن (المدى) .. بيت على نهر دجلة للـروائـي مـهدي عــيـسـى الـصقر
 

مراجعة: باسم عبد الحميد حمودي
يقول مهدي عيسى الصقر على لسان بطله سعيد في واحدة من تجلياته أمام ولديه وقد حكى لهما حكاية حقل الألغام "لا أحد يعرف خبايا الحقل المميت حتى يتجنبه، إلا إذا كان هو الذي بذر البذار فالأرض تلوح بريئة. شجيرات عاقول وقبرات صغيرات وهواء لطيف وشمس صافية" وسعيد، شبه المجنون، الأسير السابق، والجثة غير الحقيقية والابن والأخ معاً للسيدة ساهرة المطلوب يخوض حياة إشكالية متكاملة في رواية الصقر الجديدة (بيت على نهر دجلة) التي تتمتع كعمل فني بنوع من الهيمنة والاستحواذ (المهني) على القارئ منذ الصفحة الأولى حيث تقضي (ساهرة) وقتاً لتنويم أخيها سعيد والاطمئنان على سكونه قبل أن تعود إلى فراشها مع زوجها لتجاوره في الفراش وهو يتمدد مستفزاً خائفاً من ليلة جديدة يقوم فيها سعيد (المختل العقل إلى حد) بإشعال جزء من البيت كما يفعل بين حين وآخر. إنه (سعيد) مشعل حرائق بدأت به عندما ذهب إلى الجبهة وتعرض إلى حقل الألغام ثم إلى الأسر فيما اكتشف المسؤولون العسكريون وفاته لتعيش شقيقته ساهرة وزوجته فاتن أياماً في مركز استلام الجثث مع الضابط منصور. خلال ذلك كانت (ساهرة) تعاين كل الجثث العائدة دون وجل بينما اكتفت فاتن بالتجربة الأولى في المشاهدة ثم أغمي عليها ففضلت الجلوس في غرفة الضابط مما مهد لها وله سبيل علاقة جديدة.
"لا أحد يعرف خبايا الحقل المميت حتى يتجنبه" وهكذا لم يتجنب أحد الحقل الذي مشى فيه، ساهرة المطلوب وهي تبحث عن حقلها الخاص، استقرارها الذهني والنفسي لدى الطبيب محمود سالم الذي تعترف له في جلسات مستمرة عن أزماتها الحياتية وحركتها في مركز استلام الجثث للوصول إلى الحقيقة دون وجل ولا خوف من أية تغيرات فسيولوجية تتمظهر في الجثث العائدة دون أن تحصل على نتيجة واضحة سوى (النتيجة) التي أوصلها الضابط منصور لها على شكل تابوت.
وماجد، زوج ساهرة الذي عاش لياليه مرعوباً من نار قد يشعلها (سعيد) العائد من الأسر في المنزل وهو رهين شرط عدم مس زوجته
وهي إلى جواره حتى يعود عقل أخيها وابنها (سعيد) إليه.
وحقل الألغام هذا، وهو حقل الحياة نفسها جر فاتن زوجة سعيد من بيت زوجها إلى بيت زوجها الثاني الملازم منصور، وجعل الطبيب المعالج (د. محمود) شبه مجنون لكثرة الاعترافات المرضية التي استمع إليها طوال حياته في عيادته، وهو حقل الألغام ذاته الذي وضع الصقر أبطال روايته فيه، وهو حقل ألغام مفتوح يمتد من أرض الجبهة إلى المقبرة حيث ترقد جثة لشهيد باسم (سعيد المطلوب) على سبيل الخطأ فقد عاد سعيد من الأسر وهو شبه مجنون وقد سبب لشقيقته الكثير من المتاعب في مشاهد حياتية متصلة وهي تقاوم كل سلبياته بتجاوزها وعدم التمسك بها أو وضعها كحاجز بينها وبينه.
ساهرة في (بيت على نهر دجلة) تتمسك بسعيد ميتاً أو حياً، مختلاً عقلياً أو إنساناً صافياً يروي الحكايات لولديه وهي تجد فيه بنية شخصية أخرى لبنيتها، بل إعادة تجسيد لإرادة تريد تشكيلها على ما ترجو لكنها لا تستطيع وتظل تعيش أزمة الاستمرار في إعادة صياغة شخصية سعيد معتبرة تجربتها هذه تجربة العمر الأساسية التي تقفل عند مشهد الرواية الأخير حيث تقترب من زوجها عندما أحست أنه قد دخل إطار عالم الإحساس المرضي الذي قاده إلى الطبيب النفسي (د. محمود سالم) الذي ترك عيادته لجنونه الشخصي، وما أن تقترب ساهرة من زوجها حتى تملأ غرفتها رائحة حريق شمل البيت كله في وقت غادر فيه مشعل الحرائق (سعيد) الدار بعدما نفذ ما أراد.
تبدو النار هنا فاصلاً بين عالم يتهاوى
هو عالم إيمان ساهرة بسعيد وعالم يظهر متكاملاً تحت الأضواء هو عالم الحقيقة الخارجية التي غابت عن ساهرة وماجد ودخلها سعيد الهارب من عالم صغير احترق بإرادته (المنزل) إلى عالم كبير مزحوم بالخوف والشجاعة والضوء والعتمة والفساد والحرية والعطش والارتواء، هو عالم لا تكشف عنه الرواية ولكن تقودنا إليه بفعل المناخ الكابوسي الذي صنعته لنا طوال فصولها الكاشفة عن تداخل السرد بين عدة أطراف حيث تكون حصص (الروي) موزعة بين المؤلف وساهرة وسعيد وفاتن وماجد ود. محمود حيث تتداخل وتتكاشف في دورة متكاملة تقود إلى إنجاز عملية بناء روائي متقنة كفلت لنا الحصول على رواية إنسانية تكشف عن جانب آخر من معاناة الإنسان العراقي مصورة مجموعة تجارب بشرية خضعت للقسوة والابتزاز والإيمان بشيء والتخلي عنه في وقت عاش فيه سعيد المطلوب جنونه الخاص المنفصل عن تجارب الآخرين وأحلامهم بعد معاناة تلبسته داخل الجبهة وداخل معسكر الأسر فعاد إلى بيته على نهر دجلة ليشد الآخرين في سلسلة تجارب حياتية انتهت بنجاحه في إشعال الحريق وهربه.
إن حركة النص الروائي جاءت مبنية لا على امتزاج بنية الأداء الدرامي بين الشخوص الساردة بل إن فصول الرواية مبنية بشكل توليفي خاص بحيث يبوح كل فصل بجزء من الذي سيحصل في الفصل التالي ويكشف الفصل عن جزء من حركة درامية حدثت في الفصل السابق ولا تظهر الصورة النهائية إلا في الفصل الأخير الذي بدا نتيجة صادمة لكل أفعال الفصول الأخرى وهي نتيجة تتجسد في بنية الرغبة وحريق المنزل واكتشاف مرض الزوج وخروج سعيد إلى حياة أخرى، وهو أمر يجذر وقائع أخرى بنيت داخل هذا العمل الروائي الذي يقود إلى إعادة قراءة تكتشف الوقائع من جديد وهي وقائع مبنية بصورة لولبية صنعها المؤلف على طريقة القراءة الحاسوبية للنص صعوداً ونزولاً عن طريق فأرة البحث في شاشة الرواية.
إنه عمل مميز للأستاذ الصقر يستحق الإعجاب والتهنئة كما تستحق دار المدى
الناشر الشكر على إظهاره للقارئ الكريم.


مقترح  لاتحاد الأدباء العراقي
 

عبد الخالق كيطان
مثل سقوط نظام صدام في العراق في العام 2003 فرصة كبيرة لانعتاق الثقافة العراقية من أسار العبودية التي جسدها النظام الديكتاتوري، وكما هو متوقع بعد التحرير فقد انطلقت عشرات المشاريع الثقافية والصحافية والاعلامية والتلفزيونية ما يعطي الدليل القاطع على رغبة الثقافة العراقية في الانطلاق والتحرر. ولقد كان اتحاد الأدباء أبرز التشكيلات الثقافية الوطنيةالتي أفادت من الحرية الوليدة عندما جرت، ولأول مرة منذ عقود، انتخابات ديمقراطية حقيقية رشح عنها انتخاب مجلس جديد للاتحاد العريق. والملاحظ بعد هذه السنوات التي تلت سقوط الديكتاتورية تردد نخبنا الثقافية في اتخاذ خطوات شجاعة على طريق حلحلة الوضع المتأزم عراقياً، وخاصة في الجانب السياسي، والبقاء في دائرة ردود الأفعال فقط، وعلى أكثر تقدير الاكتفاء بإصدار بيانات معينة في المناسبات الوطنية الأليمة المختلفة.
إن مشاركة المثقف العراقي في إدارة مشروع الديمقراطية الوليد في العراق ظلت دائماً هامشية، وتضج الصحف العراقية بشكاوى متكررة لمثقفين يرون أن دورهم قد همشته الأحزاب والتيارات السياسية في الوقت الذي يعتقد فيه أصحاب هذه الشكاوى بأن المثقف هو الأكفأ من غيره على انضاج خطاب وطني في هذه المرحلة الحرجة في تاريخ البلد.
وإذا كنا نتفق مع الكثيرين في أن السياسي إنما يفكر بالثقافة باعتبارها وسيلة إعلامية ليس لها غير تلميع برامجه فإننا من جهة أخرى ندعو إلى تفعيل عمل المثقف بما يقطع الطريق أمام السياسي لتكرار ترديداته المخطوءة عن دور المثقف. ندعو هذا المثقف إلى تقديم مبادرات وطنية شجاعة تخص العديد من المسائل التي أصبحت إشكالية اليوم، مبادرات تخرجه من رتابة القاعات المغلقة الصغيرة والجمهور المتواضع والعزلة التي وجدت من ينظر لإيجابياتها، وللأسف الشديد.
إن ما رشح في الشارع العراقي بعد جريمة تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام في سامراء الشهر الماضي يدعو النخب الثقافية العراقية بقوة للخروج من عزلتها والتقدم بمشروعات وطنية متكاملة تقلل من حدة خطابات السياسيين من جهة وتقلل من توتر أبناء الوطن الواحد من جهة ثانية، ناهيك عن أن هذه المشروعات سوف تضع النخب الثقافية مرة أخرى في واجهة الحدث الوطني. ولعل في ذلك فرصة لصياغة علاقة جديدة بين المثقف والمواطن في بلاد عرف عنها على مر الزمان تخريجها العقول الفكرية الجبارة في مختلف ميادين الابداع.
ما فعلته النخب الدينية بعد جريمة سامراء كان جهداً مشكوراً ولا شك عن طريق حقن الدم العراقي مؤقتاً عندما طالبت هذه النخب أتباعها بضرورة الصبر والتمسك بالهدوء، ولكن هذه الدعوة تمثل عقاراً مهدئاً لا أكثر ولا أقل، بمعنى أننا سنحتاج إلى عقار مشابه كلما تعرض مقدس عراقي للتهديد، ولقد كثرت هذه التهديدات، ولعل آخرها سلسلة التفجيرات البشعة التي طالت الأبرياء في مدينة الصدر، ولا نعتقد بأن حل العقار المهدئ هو ما يحتاج إليه وطننا وشعبنا وإنما الحلول الكبرى التي تحقن الدم العراقي وتضع الخطط الكفيلة بانضاج مشروع وطني متكامل للخروج من الأزمة الحالية، أزمة الطائفية بشكل خاص، ومن ثم فإن هذا المشروع سيعيد النخب الثقافية العراقية إلى واجهة الحدث التي ابتعدوا عنها. علينا التأكيد هنا بإن دعوات الصبر والانتظار والتغلب على الآلام وما إليه من التي يطلقها رجال دين وسياسيون عراقيون ليست دعوات بطرة في هذا الوقت العصيب، ولكن علينا أن لا ننسى قدرة المواطن على التحمل، ومن المؤكد أننا نرى اليوم تمظهرات عن انهيار تلك القدرة لدى عدد كبير من المواطنين، وليس في ذلك أية مثلبة، فلكل انسان طاقة صبر محدودة ربانياً ومجتمعياً.


من أجل السلام والوحدة العراقية .. شباب (عينكاوه) يوقدون الشموع
 

خاص بالمدى

تحت شعار (لتحلق حمامات السلام في سمائنا رغم الحريق) للشاعر (روند بولص)، عقد قبل أيام الملتقى العفوي الذي أقامه نادي شباب (عينكاوه) الاجتماعي في ضواحي أربيل، متزامناً مع الاحداث الاخيرة التي مر بها العراق من تفجير بيوت الله وتهجير العوائل وقتل وإرهاب، رافعين الدعوة للسلام باشعال الشموع.
فقد ابتدأت هذه المراسيم بمقاطع من موسيقا عالمية، وشباب أوقدوا (1500) شمعة لأجل أن ينعم العراق بالسلام، ثم عرضوا مجموعة من الصور المعبرة عن المآسي والاحداث البشعة التي تمر به من جراء الارهاب والاقتتال، معبرين بأقلامهم عما في دواخلهم على لوحة بيضاء، لتصبح في النهاية لوحة متكاملة معبرة عن طموح هذا الجيل الذي يدعو للسلام، ويتطلع الى عراق آمن تسوده الحرية والأمن والاستقرار.
وكان للحضور المفاجئ للفنان (جعفر حسن) طعمه الخاص ليسمع الحاضرين مقطعاً من اغنيته (السلام): (من أجل السلام سنزيل الظلام .. وننشد الأنغام في الحب والسلام)..
وعلى هامش هذا النشاط التضامني، التقينا الأخ (ايفل افرام) رئيس النادي، فقال: جاء هذا النشاط متزامناً مع الأحداث الأخيرة التي شهدها العراق، وباقتراح من نخبة من الشباب، اذكر منهم (سونيا بطرس) و(اسيل نجيب) وغيرهما، اذ كنا نخطط لفعاليات أخرى، لكننا أقمنا هذا الملتقى بشكل عفوي ونابع من القلب، وحتى وجود الفنان (جعفر حسن) بيننا كان محض صدفة، فكل شيء كان تلقائياً وشفافاً ليؤكد مشاركتنا آلام وعذابات أبناء شعبنا.
اما (سونيا بطرس) التي أسهمت في إقامة هذا المهرجان المصغر، فأكدت ان فكرته جاءت لكي لا نكون بمعزل عن مشاركة أشقائنا في الوطن بالمصائب التي تحصل كل يوم. و(اسيل نجيب) هي الأخرى شددت على أن حبها للعراق هو الذي دفعها لاقامة هذا النشاط، وإن الأهم بالنسبة للانسان هو أن ينعم بالسلام وأن يتذكر في مثل هذا اليوم الناس الذين يفتقدونه، عبر مشاركته آلامهم، وتعاطفه الحميم مع محنتهم. فالسلام هاجس البشر الدائم، وهو ينتظر من يصنعه.


قراءات:  نـمــوذج الـعـالـم
 

ترجمة / عادل العامل

"ليست هناك فلسفة يمكنها أبداً أن تحل محل الشعر، إلا أن الشعر يمكنه أن يحل محل الفلسفة، شريطة أن لا يصف العالم فقط، بالطبع، وإنما يفسره أيضاً..".
هذا القول للشاعر الليتواني إدوارداس ميزيلتيس، من كتابه "الشعر والاعتزاز بالجذور"، الذي يتناول فيه بأسلوبه الشاعري الجميل مختلف موضوعات الحياة الإنسانية المعقدة، ومنها أيضاً ما جاء في هذا المقتطف من الكتاب الآنف الذكر.
إن كلمة "إنسان" قديمة قدم العالم، وهذا لا يعني أنها غدت عتيقة الطراز، ولا يملك الكثيرون أدنى فكرة عن أن الشاعر، عندما ينطق بهذه الكلمة، التي تبدو عارية للغاية، فإنه يكشف عن طبيعته بالذات.
فهل هناك حقاً أمل لدى العلوم الدقيقة، التقنية البايلوجية، هندسة الموروثات، الميكرو إليكترونيك، في نمذجة إنسان جديد؟
وماذا عن الإنسانيات
الشعر، الأدب والفلسفة؟ وهل أن تكافل هندسة الموروثات والهندسة الإنسانوية humanaitarian على هذه الدرجة من الاستحالة؟
بعد كل شيء، لديهما الموضوع المشترك نفسه
الإنسان. فلماذا، إذن، ينبغي ان يكون هناك اختلافات في نماذج نمذجته الروحية؟ بصراحة، أنا أخشى أن تضع هندسة الموروثات يدها المجدبة، عاجلاً أم آجلاً، على كل المعرفة المتعلقة بالإنسان. فمنذ أن أصبحت العلوم الدقيقة معزولة بجدار عن الإنسانيات، ظهرت أخطار جديدة. فأين نصل، يا ترى، لو تم ربط هندسة الموروثات بتحسين موروثات الإنسان، بينما تلعب جارتها، الفيزياء النووية، بقدره؟ فهندسة الموروثات تساعد على تحسين المورثة، لكن الإدمان الشديد على المسكرات يدمرها، فأين هو المنطق؟
لا شيء في العالم يصبح عتيق الطراز، خاصة الفكر، فكل ما يبدو أن فكرة ما خاصة تكون عتيقة الطراز على نحو ميؤوس منه. ونحن نخشى هذا مثلما كنا في طفولتنا نخاف ساحرة رمادية الشعر. والواقع أن الفكر هو المادة الوحيدة التي لا تفزع من التجاعيد.
فالفكر ينبثق من ينبوع دقيق لا يدرك، ثم يصير جدولاً، نهراً، والأنهار تندمج لتشكل بحراً.
إنني أخرج لتوي من السن التي كان فيها طيف الألوان وتدرجاتها المعقد الخاص بفسيفساء العالم يتألف من مجرد لونين متغايرين
الأسود والأبيض.. إن المشاعر الداخلية والأمزجة تتغير، والحياة تصبح، بالطبع، أصعب، لكن هذه هي الطريقة التي على المرء أن يشعر بها ويعيش. ما من شيء مطلق في العالم. هناك أناس أينما كان، وأينما كان نرى إلى الكثير مما هو جيد والكثير مما هو رديء. وعندما يصبح مقدار سنوات عمر المرء مهيباً تماماً، تصير مفاهيم الخير والشر متوازنة. وإن لدي ميزاني الذي أقيس به خطوط الطول والعرض المتعلقة بالعالم. فشيء يطابق نموذجي وشيء لا يطابقه. لكن من الأفضل أن لا ندفع الأمور جزافاً، فبعد كل شيء، لا يمكن ملء فراغات الجغرافية الإنسانوية للعالم الحديث كيفما أتفق. وهذا هو السبب في أن هدفي ليس عالم اليوم بل عالم المستقبل.


في زمن الحرية والتجديد والبناء ..  ماذا حل بالأدباء والمفكرين العراقيين؟

فؤاد فاضل
لم يكن الاديب والمثقف العراقي افضل حالاً من السابق.. وانه طالما بقي رهينة الحاجة الى العناية والرعاية والاهتمام الحقيقي من قبل ذوي السلطة والنفوذ في الدولة العراقية، وهذه السلطة تتمثل في وزارة الاعلام قبل السقوط ووزارة الثقافة في الوقت الحالي، والتي يجب ان يكون لها دور فاعل في احتواء المثقفين العراقيين ولملمة شتاتهم من الارصفة والمقاهي والتشتت في البلدان العربية، والتي طالما ظلوا رهينة لوجودهم فيها، ومن هنا ومنذ عقود طويلة لم يجد المثقف العراقي مكاناً او ملجأ ثابتاً يأويه، الامر الذي جعله يهجر بغداد الى دول اخرى بحثاً عن ساحة ثقافية تناسبه، فهاجر الكثير منهم، حتى أن كبار الادباء العراقيين كالجواهري والبياتي ويوسف الصائع واخرين غيرهم قد ماتوا ودفنوا في مقابر الغرباء في دمشق....!

ولربما هناك من يتساءل، ماذا حل بالمفكر والاديب والمثقف العراقي بعد زوال سنين القهر والضياع والتشرد المتمثلة في النظام السابق؟ وماالجديد الذي طرأ عليه بعد شيوع زمن الحرية والانفتاح والديمقراطية ومجيء الحكومات الجديدة التي تبنت نظريات اعادة البناء وترتيب البيت العراقي بصورة افضل.

المبدع العراقي والمجتمع والدستور
ومن أجل الوقوف على واقع حال المثقف والاديب العراقي التقت (المدى) عدداً من المثقفين لمعرفة ما حل بهم بعد الاحتلال وما طرأ على حياتهم من تطورات بعد زوال النظام الشمولي السابق، وعن هذه التفاصيل تحدث معنا الكاتب والاديب ناظم السعود قائلاً:
-وصلني سؤالك وانا في خضم معاناة يومية لا تنتهي، ذلك ليس على المستوى الذاتي فحسب وانما على مستوى الوسط الثقافي ككل، فاليوم مثلاً حضرنا أربعينية الراحل عبد اللطيف الراشد وقبل ايام اقمنا جسلة تأبينية للراحل يوسف الصائغ وقبلها.... وقبلها.. والقائمة لا تنتهي، حتى اصبح المناخ مشرعاً للافتات السود الحزينة، وان سألتني أين الامل...؟ سأقول لقد توارى خلف ستارة الوعود الشاقة..!
فان المثقف العراقي ظل يصرخ طوال عقود متتالية ولكن قلما جاءه الرد او الغوث، وهنا ارجو ألا يكون الظن يذهب الى جهات الرسمية فقط، فالمشكلة اكثر شمولاً، لانها تعني العراقيين معاً، المؤسسة الرسمية والشريحة الشعبية، واكاد اقول ان خيبة المبدع العراقي مع جفاء واهمال وتناسي المجتمع له كذات ووجود وابداع اكبر بكثير من طبيعته إزاء التسلسلات الهرمية للدولة وهذه امرها مفهوم، لان المثقف بالضد من مشاريع التجهيل والتنكيل والتسطيح التي تمارسها السلطات الرسمية بغياب كلي للرقابة المثقفة.
أما أن يكون مجهولا لدى العامة ولا يعرف الجار جاره الاديب او الاعلامي المشهور فهذه هي الخيبة الكبرى وقد لمست ذلك شخصياً إذ كنت أذهب الى محافظات الشمال والجنوب والوسط سائلاً عن هذا الاديب وذاك فلا اجد هناك من يعرفه الا نادراً ومن قبل الاقارب والعائلة، فتصوروا اننا فقدنا اكثر من مبدع خلال العام المنطفئ، لكني أقف متألماً وخجلاً من مصيرنا الوافد للذاكرة والضمير امام اسماء مثل عقيل علي وجياد تركي وعبد اللطيف الراشد، والثلاثة ماتوا في الشارع، بلا امكنة تؤويهم ولا عناوين للسؤال عنهم مع انهم قد رحلوا في الواقع قبل ذلك بكثير، وقد اصبح حال المبدع العراقي يمثل نادرة وحديث المجالس والصحافة العربية والعالمية لانه محجوز في الخانق الجغرافي والانساني والاجتماعي، وجاءت العهود ورحلت ولم نتذكر ان هناك شريحة مبدعة تعيش في ارض السواد بحاجة لرعاية واهتمام يليق بتاريخها واثرها الابداعي.. اما انا فقد عشت خمسة عهود متتالية ابتداء من (نوري السعيد وانتهاء بجلال الطلباني) ولم أجد هناك من يولي هذه الشريحة اهتماماً يذكر الا في الخطب وايام الانتخابات، وكان القاسم المشترك الاكبر لهذه الوعود هو اقصاء المثقف العراقي، وللاسف فان عدداً لايستهان به من الادباء قد ساهموا في رسم هذه اللوحة القائمة لحال المثقف بحكم وسائل الارتزاق والتقرب للسلطات، وعلينا ان نتذكر ان هذا الحال ليس جديداً انما هو وليد العقود السابقة، فعندما نتذكر الرصافي حيث عاش ايامه الاخيره وهو يتسول الطعام والدواء، ومصير السياب وموته خارج العراق دليل اخر، اما مقبرة الغرباء في دمشق فهي تضم أحداثاً عزيزة مالجواهري والبياتي والصائغ لم تتح لهم الفرصة ان تتوسد اجسادهم هذه الارض الشاسعة.. لا اريد التشاؤم ولكن علينا الا نذهب كثيراً الى منطقة التفاؤل الساذجة فنحن البلد الوحيد الذي طرد المثقفين خارج منطقة التفاؤل وهي القانون الاساسي للدولة واعني به الدستور، فلا توجد فقرة في الدستور النافذ الاخير جاءت على ذكر الثقافة والمثقفين أو سنت لهم القوانين والشرائع التي تحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم، فكان من الطبيعي ان نجد صفوة المثقفين العراقيين تتخندق في المساحة الوحيدة المتاحة لها وهي الارصفة والمقاهي، فكيف لنا ان نطالب بحقوق وطموحات من حكومة آفلة واخرى قادمة.

الانسان العراقي كمواطن ومبدع وثراؤه المفقود
وعن حالة الثراء التي تحيط بالمواطن والمبدع العراقي والواقع الذي سيأتي منه توجهنا الى امين عام منظمة (اين حقي) السيد احمد محمد احمد الذي قال معاتباً:
الاشكالية الكبيره هنا، هي هذا التداخل بين حقوق المبدع كفنان وحقوق المواطن كانسان، وهي اشكالية وقع ضحيتها كبار الادباء والشعراء من جهة والانسان العراقي من جهة اخرى، وهذا الحال يشمل تاريخ الابداع العراقي الحديث منذ السياب والجواهري الى يومنا هذا... فالانسان العراقي انسان ثري ومترف و المفترض ان يكون هذا الثراء في خدمته اذا نظرنا للامر من زاوية حقوق الانسان، فلا يعقل ان يعيش بموجب تلك المعايير الانسانية حالة الايتام على موائد اللئام...
أما عن حقوق الابداع للمفكر العراقي فلا علاقة له بهذه الثروة المشكلة ان الكل يعاني والكثيرين محرومون سابقاً ولاحقاً.. واعتقد ان تامين الحاجات الانسانية الاساسية للانسان (اي انسان) هي في الاهمية لا تقل عن اهمية الفنان والمبدع.. فهناك خلط بين مطالبة المبدعين العراقيين بحقوقهم كمبدعين وبين المطالبة بحقوقهم كمواطنين وهذا هو حالهم اليوم..

المثقف والثقافة وجهان لعملة واحدة
وعن علاقة المثقفة والثقافة ودور وزارة الثقافة في احتوائها تحدث الناقد جبار حسين صبري قائلاً:
ان اردنا الحديث عن قضية المثقف فذاك تصريح الى موضوع الثقافة... لان الثقافة والمثقف وجهان لعملة واحدة ومن هذه العملة تنبثق مجموعة تقولبات سلبية وايجابية اهمها، الاستلاب المؤسساتي المتواصل والذي بات ينهش في جسد هذه العملة وعلى وجهيها، كما ان استمرار تبعية المثقف والثقافة لعربة السياسي باتجاه عسكرة الذات الثقافية في مستنقع معاركها الفارغة والانشغال الدائم بتوجيه الفردية للمشروع الثقافي وفرض التهميشات على هذا المشروع جعلنا كمثقفين ندفع جميع ازماتنا الثقافية من خلال حرية ابداء الرأي رغم غصات الواقع الدموي المعاش، أما وزارة الثقافة كونها بوابة تعنى بشأن العملة ذات الوجهين فقد جرت عربتها بتراكمات وتفشيات الماضي نحو ابقاء حال المشروع ضمن قيود الاستلاب السابقة، وليس امامنا سوى الاعتماد على انفسنا لانقاذ ما يمكن انقاذه.
وللاسف فان ادباءنا ومفكرينا مشتتون في المقاهي والبعض منهم ماتوا على قارعة الطريق، والدولة بعيدة عن عالمهم كل البعد، وان من الواجب على الدولة العراقية والمسؤولين الالتفات الى هذه الشريحة دون ان تكون لها منه عليهم وانا كثيراً ما سافرت ورايت كيف ان الدول الاخرى تحتضن ادباءها ومفكريها وكيف تمنحهم الرعاية والعناية والاهتمام لدرجة انهم يضعونهم بمصاف رؤسائهم، لان رئيس الدولة محكوم بفترة ولايته المحدودة الا ان أدباءهم ومثقفيهم هم الباقون بتاريخهم الفكري وعقولهم النيرة ونظرتهم البعيدة نحو الانسانية وما نرجوه من الذين يعنيهم مثقفي هذا البلد ان لا يولوا ظهورهم تاركين الحبل على الغارب فهناك الكثير من الادباء الذين بحاجة الى رعاية منذ سنين طويلة لاحتواء أقلامنا الشريفة وتبنيها وتهيئة المكان المناسب والاجواء المناسبة التي تحافظ عليها.


حول خطاب الثقافة العراقية وحُسن قراءة العالم
 

احمد ثامر جهاد
( إن استحالة تقديم الوهم للناس تنتمي إلى نفس نوعية استحالة إعادة اكتشاف مستوى مطلق للحقيقة ..)
جان بودريار

( الصور الزائفة )
عبر حكم الأنظمة الشمولية العتيدة، هناك ما يوازي إنجازاتها المدروسة في تحطيم الإنسان والقيم والمجتمع، ألا وهو إنكارها الزائف للثقافة بوصفها قيمة تحررية مناهضة للطغيان، وسعيها الأبدي لتحويل المعرفة الإنسانية إلى نسق كلياني أوحد، يسمح لها بتمرير التشدد السياسي لعقيدة ما إلى مختلف الأنشطة والممارسات الثقافية . وحيث يشمل ذلك كل المجالات والمعاني الادراكية والأخلاقية والتعبيرية، تخضع الثقافة كغيرها من الممارسات الواعية إلى مختلف صور الإرهاب والإنكار والتشويه والاعتقال، وبأسلوب مراوغ يدعي التحديث الحزبي للأطر التقليدية التي تخالف أهداف الحزب ومرجعياته .
ورغم النجاحات الباهرة التي أحرزتها الأنظمة الشمولية في ميادين حروبها الدموية مع الأفراد والجماعات والمفاهيم والقيم، لا تكتفي سلطة الحزب / الدولة بتبديل تلك الأطر والأشكال والممارسات المدنية، إنما تجاهد لتدمير البنى الفاعلة في حياة الإنسان، من خلال سعيها المغامر لتنفيذ مشروعها الأمثل في تهشيم الجوهر الإنساني المغاير وإلغائه . لذا عادة ما تضطر الثقافة تحت ضغط الأنظمة القمعية المغلقة إلى الهجرة -كما البشر - نحو ضفاف آمنة، فتجرب حظها في حياة المنافي . تنزع بعض هويتها لتلبس جواز الانشقاق والمعارضة .
هكذا نرى أن الثقافة العراقية في عقود حياتها المريرة مع الدكتاتورية، عانت ككل أشكال الحياة الأخرى من اضطهاد عنيف واستلاب قسري، بسببه تعرضت هي ورموزها إلى حرمانات طويلة تركت ظلالها القاتمة على المشهد العراقي برمته . لكن من الإنصاف القول : أن الثقافة العراقية لم تكن ذات حظ وافر يوما ما منذ تأسيس الدولة العراقية حتى يومنا هذا، إلا في فترات محدودة جدا، انتعشت فيها لأسباب غير ثقافية غالبا . الأمر الذي جعل خطابها الإبداعي معزولا عن لحظاته التنويرية التي تفتحت هنا وهناك من دون أن يتاح لها النضج في أي مشروع معرفي مكتمل ذي تأثير بارز .
ولم يكن المثقف العراقي هو الآخر بمنأى عن هذه التشوهات التي طالت الحياة بسعتها، خاصة حينما تورط في عقد شراكة ما مع برامج السلطة السياسية، وهي المحترفة في لعبة تغير رقعة الشطرنج من حوله ليبدو مثقفنا (الثوري) و (اللاثوري) الذي قيل دائما انه ضحية أفكاره، اشد المدافعين عن مشروعها، بعد أن غادر خطابه الطليعي حقل المراهنة على نجاح الغايات الوطنية والتعددية الآيديولوجية وقضايا التحرر في معترك الأزمات العنيفة للحياة العراقية . وليس خافيا انه خلال مخاضات العقود الثلاثة الماضية، كان البعض قد تصور، فيما ادعى البعض الآخر، إن السلطة هذه تمثل جلَّ طموحاته الثقافية ومبادئه السياسية، بينما انقسم الجمع المتبقي بين مشارك صغير ومعارض هامشي . وقد تواصلت الإشكالية الثقافية تلك بألوان وأشكال متغايرة الخواص، بين رياح مدٍ وجزر، إلى أن ختمت أزمات السلطة السياسية وحروبها المأساوية على بقايا الصورة الإعلامية الخادعة التي بدا أنها تهشمت قبيل ذلك بسنوات في بشائر ثقافة ظل مشاكسة، شكلت فيما بعد جزءا مهماً من طبيعة الصراع الثقافي الذي على أيديها قد ترتسم في ثناياه صورة مستقبل الثقافة العراقية .
في حال أمعنا النظر في جانب آخر من جوانب المحنة العراقية التي خلفتها الحقبة الدكتاتورية على لائحة المعرفة الاجتماعية وثيقة الارتباط بالثقافة عامة، سنجد أننا أمام إشكالية كبيرة تتمثل في الأمية المتفشية خلال عقود طويلة من التجهيل تسببت بانهيار قيمي واعتباري لكل ما يمت لقطاعات التعليم بصلة داخل صيرورة المجتمع العراقي . وفقا لذلك قد لا يمكننا الحديث عن أحوال الثقافة في مجتمع انحدرت فيه القيمة التعليمية والتربوية إلى أدنى مستوياتها بمعزل عن تشخيص العوائق التي تجعل اغلب المثقفين غير متخلين عن نخبويتهم بعد أن أضل خطابهم الثقافي علامات الطريق إلى وجدان الناس، مكتفيا بمساحات فردية مغلقة، أعدمت فيها مظاهر التواصل الإيجابي والتبادل الحر مع من يراد تمثيلهم في حقل الممارسة الثقافية .
ورغم المزاعم والشجون التي قد يثيرها الحديث عن انعدام الصلة الحميمة بين التثقيف والتعليم في العراق، يبدو لنا أن ثمة فرصة سانحة لإعادة إنتاج وبث تاريخ الثقافة العراقية في المناهج التعليمية والتربوية عامة، والتي كانت قد حفّظَت متلقيها بتلقين قسري أسماء كل شعراء الحزب والثورة، من دون أن تعرف يوما أن في سمائها حشداً بارزاً من أعلام الفكر والإبداع العراقي في شتى ميادين المعرفة والأدب والفن . ستحتاج الثقافة إلى أن تتفشى كما يتفشى الجهل، قبل أن تتصف حياتنا بالعقم والخمول، لا سيما ان الخطاب الثقافي العراقي يحاول في ضوء المتغيرات السياسية التي تعصف بحياتنا الآن، أن يتلمس الطريق الموصل إلى إقصاء كل أشكال الثقافة الحزبية سيئة الصيت، مجربا منح ثقافة الحوار والشفافية الفكرية فرصة أن تحيا بعيدا عن شهوة الرقابة والانجراف وراء السلطة المتسترة تحت عناوين العنف الرمزي وآلياته المتحالفة . ولن يصبح متاحا ذلك من دون سعي العملية الثقافية الراهنة إلى امتلاك قدر من الاستقلال والحرية، يكون بوسعه إذكاء الإمكانيات المخلصة واستنفار طاقاتها الحقة في رسم سياسات جديدة تستند إلى جملة من الأسس والمعايير والمفاهيم المسؤولة عن إعطاء الثقافة هويتها التنويرية في مناخات تتطلع لقيام مجتمع مدني حديث، بعيدا عن أية فروض أو برامج مؤسساتية تجعل من المثقف موظفا هامشيا يعتاش على نفقة الوزارة، في الوقت الذي تتطلب الشفافية الثقافية هنا قدرا آخر من الممارسة المستقلة والفاعلة عبر اختيار الثقافة لمؤسساتها واتحاداتها ونقاباتها ومجالسها غير الاستهلاكية . ويمكنها فيما بعد أن تأخذ على عاتقها وبخبراتها الواسعة مهمة إعادة تعريف الجهاز المفاهيمي الملتبس لجملة علائق ووقائع لا تنفصل عن مجمل التحولات الجدلية المتلاحقة عن صور المثقف والسلطة والعالم. هكذا نستدل،كأناس فاعلين، على إيجاد روابط وآليات وطموحات غير طوباوية وسط الأفكار وبها، حيث يكون علينا إدراك أن ( الأفكار تكتسب أهميتها لا من كونها تكشف عن الحقيقة، أو عن الواقع الموضوعي، بل من كونها تسهم في إنتاج الحقائق ) نفسها . لكن في الوقت عينه ليس من مصلحتنا اليوم إعادة إنتاج المشكلات والمصاعب في إطار صياغات فكرية استهلكت مرارا فيما خلقته لنفسها من مشاريع وأوهام شعاراتية، فـ(حيث عملت النخبة على توعية الجماهير، ازدادت الأخيرة تبعية وهامشية، وكيفما شُكلت أنظمة سياسية على يد النخب أو باسمها، كانت هي الأسوأ . ومكمن العلة هنا ليس في الجماهير ولا في الواقع، بل في ثنائية الطليعة والجماهير، أو النخبة والعامة، أو الحزب والأمة . إن مثل هذه الثنائيات تكشفت عن عيوبها وفقدت مصداقيتها كإطار للرؤية أو كأداة للعمل ..) . بمعنى آخر يلزمنا التفكير بإعادة بناء البيت العراقي وترتيبه، بعناية شاملة تمسك بكل مكامن الخلل الواقعي الراهن، وتعيد قراءة الصورة من الداخل، من مقاعد الدراسة إلى كراسي الحكم ومن السوق الشعبي إلى البنى الاقتصادية ومن العادات إلى المفاهيم، من دون أن يرتكن عملها هذا إلى التأكيد على تلميع إحدى غرف البيت، بطريقة تسمح لها أن تبدو ديكورا خادعا يظهر سلامة البيت من زاوية مموهة . لذا ستكون عملية ترسيم خطاطة عراقية لطريقة إرساء دعائم المجتمع المدني مطلبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا بقدر يتساوى في الأهمية ويتناغم في الهدف والإنجاز . خاصة ونحن نواجه انهيارات لا حد لها تطال اشد مفاصل حياتنا حساسية، إلى الدرجة التي تجعل المشكل العراقي عصيا على التناول المفهومي . فبعد خلط سيئ للأوراق، جرى تشويش متعمد للعديد من المفاهيم : الوطن، العدالة الحرية، الهوية، لدى مختلف الشرائح العراقية التي تكابد في صراعاتها الحالية للاعتراف بحق الآخر في أن يحيا داخل وطنه مستشعرا للمرة الأولى معنى أن يمتلك حقا في لوائح حقوق الإنسان العالمية .
أليس من مهام الثقافة بشكل عام، بوصفها ركنا حيويا من أركان المجتمع المدني، إشاعة مناخات عصرية منفتحة تسمح بالتعبير عن فرادة الآخر وتمايزه بعيدا عن النزعات الطائفية والأيديولوجية الضيقة، ليكون بمستطاعها تبني ما يوائمها من المفاهيم المجتمعية داخل منظموتها المرنة على نحو تنويري يتيح للجميع ممارسة حقوقهم ويؤمن لهم ضفاف العيش بسلام، طالما " إن الحرية في النهاية فضاء تداولي نسهم في خلقه أو توسيعه " بتعبير علي حرب .
لا شك في أن الحداثة الثقافية إذا ما جرى تفعيلها على أساس العلاقة بين عملية التحديث الاجتماعي من ناحية، وبين التطور الثقافي من ناحية أخرى، فإنها قادرة على إخضاع شؤون الحياة لضرورات النظام تحت ضغط التناغم مع آليات النمو الاقتصادي والإنجازات التنظيمية للدولة الحديثة، مع الإشارة بالطبع الى أهمية تصور آخر يرى في الحداثة وما بعدها مشروعا استهلاكيا أو ( أنها الطريقة التي يحلم العالم فيها أن يصبح أمريكيا ) بوصف " ستيوارت هال ". وبوسعنا أن نرى كيف إن التزام الثقافة في البلدان الغربية اصبح وثيق الارتباط بنجاح مشروع التحديث في أتون الحياة الراهنة، رغم الانتقادات التي يوجهها ( هابرماس ) لمشروع حداثة لم يكتمل، اخترقته صراعات قوية، ليصبح فيما بعد إحدى عقائد المحافظين . ورغم أن أمرا كهذا يحدث في مجتمعات تتسم بالنمو العقلاني والاستقرار النسبي والتوازن المؤسساتي على مختلف الصعد، لكنه لن يكون سهلا بالنسبة لمجتمع يجهل مضار النمط الاستهلاكي لأنه لم يجرب بعد تذوق حسناته .
خلاصة القول، أن جدارتنا في قراءة الحدث السياسي الراهن وهضم تداعياته وتفاعلاته الواقعة والمحتملة، بطريقة كلية، أوسع من التحزب والتحيز واقرب إلى الحوار والشفافية، قد تؤهلنا في نتائجها المحصلة إلى استشراف مستقبل العراق الجديد في خطاب الثقافة والسوسيولوجيا والاقتصاد والسياسة، ذلك الخطاب الذي من أجل بلورة مواقفه الحقيقية غير المهادنة، سيقتضي منا حسن قراءة العالم حولنا، من زاوية عقلانية، وثيقة الصلة بواقعية الحدث العراقي وراهنيته .


مجلات عراقية
 

جدل .. عدد جديد

صدر حديثا العدد الثاني من مجلة جدل، التي تصدر عن مركز جدل الثقافي، متضمناً موضوعات مختلفة، توزعت على ابواب المجلة الثابتة.
عدد من الموضوعات تضمنها باب (جدل سياسي) منها موضوع (الاصلاح السياسي في الشرق الاوسط) لنورا بنسهل ترجمة ايمن عبد الجبار، (المشروع الديمقراطي العراقي) للدكتور منعم المعمار، و (استراتيجية الخلاص الديمقراطي) لجمعة عبد الله مطلك، و(باتجاه ستراتيجية فاعلة) د.هيثم كريم.. موضوعات أخرى في باب (جدل اقتصادي) منها (الاقتصاد العراقي والتحولات نحو اقتصاد السوق) لهيثم البدري.. اما قضية جدل فتناولت موضوع (النخبة المثقفة العراقية) كتبه الدكتور محمود شمال حسن.. فيما تضمن باب جدل فكري موضوع (المرجعية الثقافية واشكالية الاصلاح الشامل في العراق) للدكتور ميثم الجنابي، و (الديمقراطية الشعبية وسؤال اليقظة) للدكتور علي المرهج...وخصص باب (جدل ثقافي) لموضوع (تنصيص الموروث الشعبي في الادب العراقي).
وقد ساهم ياسين النصير بـ(تدمير العراقة وصيانتها) و (د.صالح هويدي) بـ(حضورات التراث في المتخيل السردي) ويحيى الكبيسي (التراث الشعبي والرواية) وعلي بدر (السرد والثقافة الشعبية) و د.فاطمة بدر (تداخل الحكائي في الرواية العراقية) اضافة الى موضوعات اخرى.
 

الشبكة العراقية

العدد الرابع من مجلة (الشبكة العراقية) صدر حديثا عن شبكة الاعلام العراقي تصدرته افتتاحية رئيس التحرير حسين العادلي عن الاعتداء الاثم على مقام الامامين العسكريين (ع) وضرورة رص الصفوف العراقية فيما توزعت مواد العدد على الابواب الثابتة دين ودنيا طب وعلوم- النصف الآخر- وراء كل باب حكاية- فيما كان استطلاع العدد عن (الجمعية الوطنية السابقة) فيما شمل الاستطلاع (العمارة بلا اعمار) الذي كتبه عبد الحسين بريسم تفاصيل حيوية عن هذه المدينة الجنوبية المهمة، تاريخاً وواقعا وكانت الصفحة الاخيرة (سامراء.. اطوار بهجت) التي كتبها وجيه عباس مخصصة للحديث عن شهيدة الصحافة العراقية. الشبكة العراقية خصصت صفحات باللغتين الكوردية والانكليزية لتقدم ملخصاً لموضوعاتها عبر اللغتين.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة