انـفــتـــاح المـســـــــــرح ..
الاكتشافات المسرحية ما بين التقليد والتجديد
د. عواطف نعيم
ميزة
المسرح انه متجدد، ليس من ثوابت فيه بل تغيير واجتهاد وبحث،
قد يكون متردداً خجولاً او قد يكون في احيان اخرى صادماً،
حاداً كاسراً لكثير من التابوات والقوالب. المسرح عوالم
تتوالد عبرها عوالم، بدءاً بالممثل الواحد، تحيط به وجوه
المتطلعين المدهوشين بهذا الذي يشدو امامهم، والذي تشظى من
واحد الى اثنين ثم الى ثلاثة ثم يضاء المسرح بالعديد من
المؤدين البارعين. مر المسرح بالعديد من التحولات
والتطورات بمرور الزمن وتواتر السنين وايامها، ليخرج من
الملفوظ الكلاسيكي الجليل، الى الحركي الصامت التعبيري، من
التقليدي المقدس الى العبثي المنفلت. المسرح حركة اكتشاف
لا تعرف التوقف، اكتشاف يأتي من خلال البحث والتجريب. قد
يكون هذا الاكتشاف مقبولاً عند انبثاقه وقد يتعرض للجدل
والنقاش ويثير من حوله الكثير من علامات الاستفهام
والاستغراب. إلا انه سرعان ما ياخذ موضعه ليغدو جديداً يتم
التعامل معه وبعد ذلك يصبح من القديم الذي لابد من مغادرته.
هي اكتشافات عديدة افرزت لنا في المسرح مدارس ومذاهب
واليات اشتغال وما الاسماء الكبيرة التي نستشهد بها في
كتاباتنا ودراساتنا البحثية وتنظيراتنا الدرامية حين
نتدارسها، منظرين وناقدين وباحثين الا نتاج تلك الاجتهادات
والتجارب الباحثة المجربة وصولاً الى اكتشاف جديد، نظرية
حديثة في فنون المسرح المتنوعة من تمثيل واخراج وكتابة
نصية واعداد اقتباس ، تأليف خالص، تناص ادبي او في تقنيات
المسرح واليات الاشتغال على خشبته، ظهر الكثير من المبدعين
المجددين في الظاهرة المسرحية في مراحل مختلفة من عمر
المسرح الذي امتد لسنوات طوال من زمنه التراجيدي عبر
الاغريق حتى زمنه العبثي. واللامعقول في نهاية الالفية
الثانية، وما بين حداثة وما بعد حداثة، تعرض المسرح الى
العديد من التبدلات والاكتشافات ضمن نسخ وتقليد الى جدة
وبناء والى هدم وتشظية (كي ننقذ المسرح لابد من تدميره
واقامة مسرح المستقبل). وقد اتخذ هذا الهدم وذاك البناء
اشكالاً متعددة ومظاهر مختلفة افضت الى ولادة مدارس
اخراجية وطرائق ادائية جديدة غادرت المألوفف والجاهزي
وابحرت نحو فضاءات مغايرة ومشاكسة ولدت بدورها انساقاً
مدهشة انضجتها وتفتقت عنها المخيلة الابداعية للفنان
المجرب صاحب الحس الشعري والروح المرهف (جميع الاشكال
كامنة في ذهن المشاعر إلا ان هذه الاشكال ليست مستخلصة او
مكونة من الطبيعة بل من الخيال). ونتيجة لذلك البحث
والاجتهاد والتجريب في الظاهرة المسرحية تبلورت مفاهيم
جديدة في فن المسرح خرجت به من آلية التنفيذ والتقليد
والتبعية الى آلية التجديد والمغايرة واللاجاهزية. ولم
يكتف المبدعون بذلك فكان ان خرجوا بالمسرح من المنطق
والمعقول الى حالة من اللامنطق والتشظي والتشتيت. (ان
المفهوم الجديد للفن المسرحي يقر بان الفن المسرحي سببه
اشخاص امثال كوردن كريج وادولف ابيا، وهذا المفهوم يقر بان
الفن المسرحي هو مزيج من الكلمات والاصوات والرؤى والحركات
والاحداث. ان المسرح مزيج من كل العناصر التي تشكله). لقد
ادت الاكتشافات المسرحية والتي لم تأت عن غير قصدية لدوافع
عديدة تتعلق بذات المبدع والباحث وما يحيط به من متغيرات
وانقلابات وتطور معرفي علمي وتكنولوجي، ادت الى بروز حالة
من التطرف في التجريب ومغالاة في الرؤى. وقد طال هذا
التوجه اغلب العناصر المكونة للعرض المسرحي بعد ان طال
النص المسرحي، فما بين واقعي ورمزي وما بين تعبيري وسريالي،
وما بين رومانسي وسحري. وايضاً ما بين طبيعي وعبثي تنوعت
المدارس الاخراجية وتعددت الرؤى المسرحية واتخذ الاداء
الدرامي اشكالاً ومظاهر واليات اشتغال مختلفة ومتنوعة.
المعايشة بكل صدقها وحرارتها وذاكرتها الانفعالية ولولاها
السحرية الى كسر للحواجز وابعاد لحالة الابهام ووعي بلحظة
الاداء، ثم محايدة باردة مجردة من المشاعر الانسانية قريبة
من روح الالة، كسر لسلطة المكان، تفتيت لبنية النص، تشظية
للمعاني والافكار بعثرة لكل ما هو مقدس فقد اجاز باحثو
المسرح ومصلحوه لانفسهم ان يجربوا كل شيء ويكتشفوا كل خفي
ويرفعوا الستر عن كل محجوب في الظاهرة المسرحية. فعن سلطة
المكان وجدوا ان (الاحتفال المسرحي يمكن ان يحدث في كل
مكان في الخارج في كراج او في حظيرة). وعن رفضهم لكل ما هو
متعارف عليه وجدوا ان (الخلق الفني يجد القوانين الاساسية
ويثور ضد المصطلحات المسرحية البالية). وبحثاً عن هذا
الجديد والمدهش البكر الذي لم يتم غزوه، عمد المسرحيون من
مخرجين وكتاب وممثلين وتقنيين الى الثورة على كل ما يمت
للجاهزي والمألوف بصلة، منطلقين في ذلك من ان (التجريب
يعني كل اكتشاف جديد يتحرر من التقنية القديمة). وقد كان
الدافع لهذا التوجه لدى هؤلاء المصلحون والمجددون
المسرحيون. هو الرغبة في التأثير على المتلقي والاستحواذ
على اهتمامه ومتابعته وخلق حالة من التجاوب والتفاعل الذي
يمس ويحفز مدركاتهم الحسية ومخيلتهم الانفعالية. (ان العمل
الفني لا يستطيع ان يؤثر إلا عبر الخيال، لهذا يجب عليه ان
يحفز هذا الخيال دائماً) وفي خضم كل هذه المحاولات
التجريبية وعمليات الاكتشاف والبحث نشأت هوة كبيرة ما بين
جمهور المتلقين والمسرح، فقد غالى المسرحيون في توجهاتهم
تلك وحولوا خشبة المسرح سواء اكانت مسرح علبة ام فضاء
جديداً تم توظيفه ليصبح مسرحاً او كانت مكاناً قادراً على
خلق علاقة حميمة مع المتلقين الى فضاءات غارقة في الطلاسم
والاحاجي. فوسائل الاتصال الحديثة تم استخدامها وتوظيفها
قسراً او ضرورة على خشبة المسرح (شاشات العرض السنمائية،
التلفزيونية، الشريط الصوري المسجل والشريط الصوري الحي
المسجلة الموسيقى، مؤثرات ضوئية ليزرية... الخ). غاب
الملفوظ وحل محله التعبير الحركي الراقص والايمائي. ضاع
الاخراج في فوضى الحداثة وما بعد الحداثة ما بين منطوق
متردد ومتقطع ومنطوق لا يحمل سوى التصويت والصراخ، وما بين
منطق غائب ومعنى مفقود وفكرة مشتتة، قزم الممثل ذلك اللاعب
الماهر والساحر المفكر حتى تحول الى جزء من تقنيات العرض
ومكمل للصورة البصرية لم يعد هناك مسرح يحمل خصوصية بيئية
او هوية محلية او سمة تحيل الذاكرة الجمعية للمتلقين الى
بلد محدد او جماعة معينة اصبح هناك تسابق في نشر الفوضى
على الخشبة وتنافس في التمويه والمسخ والتشابه فيما يقدم
من عروض، فهل كان التجريب والاكتشاف في المسرح لاجل تشويه
وتحجيم حركة المسرح ضمن توجه فكري ينحرف به عن هدفه الاساس
بوصفه خطاباً فنياً وجمالياً ذا فكر انساني شامل بعيد عن
اللون الواحد والنظرة الواحدة والتوجه العولمي، بوجهه
السلبي المهجن لكل ما هو اصيل وخصوصي، المسرح وسيلة من
وسائل التوعية والتثقيف يسعى للارتقاء بالذائقة وينهض
بالمتلقي من خلال بثه لقيم الخير والوعي والمتعة، هناك
مخاوف كبيرة ظهرت مع بداية ظهور الفن السابع بكل سحره لئلا
يكون هذا الفن مؤثراً على المتلقين لفن المسرح، وزادت
المخاوف حين ظهر التلفزيون وتحلق من حوله المتفرجون في كل
بيت ومقهى ومكتب، تركزت المخاوف على المسرح من هذين
الوسيلتين الجديدتين لما لهما من قدرة على التأثير وتحويل
المتلقين الى ساحتهما وتجريد المسرح من جمهوره ومحبيه
ورواده!!
لكن المسرح برغم ذلك الجديد استطاع ان يستوعب هذين الضيفين
بكل جدارة ويحولهما الى ادوات موظفة داخل فضائه، الذي يحدث
الان هو خلخلة لكل ما احببناه في المسرح تحت ذريعة
الاكتشاف والتجديد والمغايرة.
لذا كان لزاما علينا ومن خلال هذه المهرجانات المسرحية
التي تجمعنا تحت خيمتها مثقفين ومهمومين منشغلين بالمسرح
ثقافة وحضارة، ان نشخص ونشير الى هذه المخاوف ونحذر من تلك
المغالاة. وان نشدد على وجود مسرح حقيقي يكون فيه الجديد
ضرورة تفرضها طبيعة التجربة وينحتها التجريب الواعي والذي
يرتقي بالعرض المسرحي المقدم ويمد بينه وبين المتلقين
جسوراً من الفهم والتجاوب والوضوح دون ان يغفل عناصر
المسرح الاساس واركانه المتينة الكاتب والممثل والمخرج
والمتلقي، لابد من وجود الافكار ولابد من وجود الاداء
الصوتي وحرارة المشاعر والاحاسيس، كما لابد من وجود الجسد
الراقص الرشيق المعبر عبر الحركة والايماءة بما يضيء خشبة
المسرح، لابد من وجود رؤى ناضجة، ساحرة تستفز الخيال وتشحن
المخيلة وتوقظ الاحاسيس في المشاهد البصرية والسمعية في
تركيبة العرض المشهدية لابد من اعادة اكتشاف المسرح بعمقه
الانساني وثقله الحضاري جمالاً وفناً وفكراً بعيداً عن
الحذلقة والتطرف والمغالاة والغموض، وحذر من التشويه
والتمويه والتعميم الذي يفضي الى غياب الخصوصية والاصالة
بحجة الانفتاح على الاخر والتحاور معه، اذ ان الانفتاح
بهذا المفهوم لابد وان يتأتى من مستوى معرفي قائم على
التكافؤ والندية.
منطلقاً من اكتشاف الذات الانسانية اولاً بحجمها وخصوصيتها
وتمايزها الابداعي لكي تكون مع الاخر في مواجهة متوازنة
تمنح التواصل. وليس تابعاً او ناسخاً او مقلداً. ليكن
الاكتشاف ركيزة للابداع الذي يضيف ويؤثر ويفتح الافاق
واسعة لكي نحلم ونتخيل.
|