كتاب تحت
الطبع:
أمــيـــــــرة
بـابـلــيــــة ..
اكتشاف لسيرة ورصد لنجمة
أشعت من سماء تلكيف إلى ثقافات الدنيا مخبأة في مدونات
القرن التاسع عشر
(1-4)
تحرير:
امل بورتر
ثمة شخوص في
التاريخ العراقي نسيت أو فرض عليها النسيان والتجاهل
والتهميش، في لجة قرون التخلف العجاف أو غياب "المصلحة" في
إماطة اللثام عنها. وحدث أن فعلت الصدفة البحثية دورها
بالوقوع على أسماء وسير تناءت عنها السنين وضمر بشجونها
الدليل والأثر أو تشتتت أشلاء في بطون المراجع. وهكذا نقع
على أخبار بشر يعتد بسيرتهم، وتعلو الهامات بعلمهم
ومناقبهم ومواهبهم.أن تنشيط البحث والحث عليه، يكرس
الاعتزاز بالذات العراقية ويصب في غايات كتابة التاريخ
الحقيقي للفرد والجموع العراقية، ويوظف في تنشيط
الذاكرة،ومعرفة الذات،ويساعد في إشاعة التنوير ووضع الحلول
لمشرق وقادم الأيام.
ولكن ما الذي دعاني الى البحث عن شخصية من تلك الشخصيات
المنسية وكيف وجدتها؟ في زيارة الى سويسرا وفي بيت احد
الاصدقاء وانا اقلب الكتب الكثيرة في مكتبته وقع بين يدي
كتيب صغير عنوانه (تلكيف) مطبوع سنة 1969.
تذكرت هذه السنة اذ حينها كانت قد مرت سنة على حكم البعث
كانت سنة وتلتها سنوات مليئة بالكوابيس لعائلتي ولي، تصفحت
الكتاب ومؤلفه قس لا اتذكر اسمه وبدأت اقرأ بسرعة ووجدت
سطرا اثار اهتمامي وآلمني في الوقت نفسه اذ يقول" من
شخصيات تلكيف ماري تيريز اسمر، ولدت سنة 1804 وهي رحالة
الفت كتاباً باللغة الانكليزية ولكنها بالغت اذ وصفت بيت
والدها وقالت انه بحجم قصر اللوفر"، حز في نفسي ان يذكر
رجل الدين سطرا واحدا وبصفة انتقادية لامرأة من طينته
سافرت الى اوربا وتؤلف كتاباً كما يقول باللغة الانجليزية،
ألم يكن هناك شيء اخر يثير الاهتمام بكتاب هذه المرأة سوى
هذا السطر الذي وصفه بالمبالغة. قررت ان ابحث عن هذا الاسم
وبدون ان اضيع الوقت اذ في هذا الزمان استطيع ان اجوب
العالم بدقائق عن طريق الشبكة العنكبوتية كما يطلق على
الانترنيت وبما ان كتابها قد ترجم الى اللغة الإنكليزية
فلابد من ان المكتبة البريطانية تحتفظ به وفعلا خلال دقائق
ظهرت لي ملفات المكتبة البريطانية وفهارسها التي تقول:
مذكرات أميرة بابلية ماري تيريز اسمر وبدات رحلة البحث عن
ماري تيريز اسمر، ما بين فروع المكتبة المزروعة في حقول
يوركشر والمقر الرئيسي في لندن الا انني وجدت ضالتي ومن ثم
التعرف عليها، واجدها حبيسة جدران المكتبة البريطانية،،
وارى صورتها في مقدمة الكتاب، هذه المرأة هي احدى الشخصيات
التي تم تناسيها وتجاهلها و اهمالها ،امرأة من تلكيف
العراق يعرفها الغرب بـ(الأميرة البابلية)، ولدت عام 1804
في خيمة بين خرائب نينوى حسبما تصف هي ذلك في كتابها
النادر والثمين والذي تحتفظ به المكتبة البريطانية بكل
اعتزاز ولا تريده ان يفارق بنايتها. الكتاب يقع في جزءين
بحوالي 800 صفحةوالصادر في شهر ايار سنة 1844 .
عاشت وأدلت دلوها قبل قرنين من السنين، وتركت لنا أسفارا
بالإنكليزية عن شجون عراقية محضة، صادقة ومرهفة، دونت في
ثناياه سجلاً غنياً عن حياة الأيام التلكيفية والموصلية
والبغدادية وعن عين كبريت ودير ربان هرمز وعن شجون الزراع
والحياة مع البدو. وتدل قراءة مدوناتها على وجود مبادرات
ذاتيه فرض عليها النسيان والاهمال في التاريخ العراقي
المعتم،يجدر تسليط الضوء عليها ونشرها.
التقطت الكتاب بيدي المتواضعتين وضعت كفي على صفحاته
مررتها وانا احس برهبة ووجل ونوع من الخشوع اتجاه امرأة
شابة من بلادي تغادروادي الرافدين تسافرعبر صحاري وتخترق
وديانا وتمر بجبال، تزور خلالها سوريا وفلسطين ولبنان،ثم
تذهب الى ايطاليا وفرنسا وانجلترا وتمر بفترات ضيق لكنها
تقاوم، تقابل اشرافاً وامراء وملوكاً والبابا وتؤلف الكتب
و تترجم وتطبع كتبها سنة 1844. تكلمت بلغات كل تلك
الشعوب،فقد نطقت بالعربية والسريانية والعبرية واللاتينية
والتركية والكردية والفرنسية والإيطالية والإنكليزية.
ايعقل هذا؟ في الوقت الذي كان العراق باكمله يغط في سبات
عميق ويعاني من الحكم العثماني الجائر، وهذه الفتاة تتحدى
وتطالب بمدرسة للفتيات، تزور اخت الباشا حاكم مدينة الموصل
وبمفردها ترافق قافلة كبيرة جدا وتقطع الصحراء الى سوريا
ثم فلسطين ولبنان ومنها الى اوربا،تعمل كمرافقة للأميرة
اللبنانية الشهابية وتسكن قصر بيت الدين في لبنان وهناك في
ذلك القصر الشامخ تؤلف وتخرج وتمثل مسرحية بلقيس ملكة سبأ
وتقوم هي بدور سليمان، وبهوى واجلال نابعين من الصميم
تتحدث عن الدروز.
في كل سطر تجدها تبوح بشغف عن الانتماء لأرض الرافدين وهذا
الاعتزاز بكل صغيرة وكبيرة شيء مذهل، خاصة حينما يصدر عن
امرأة من تلكيف، تلك المدينة الصغيرة التي فرض عليها القهر
والتعسف والتي تقبع غصبا عنها، على هامش التاريخ
والجغرافية. ولكن ماري تيريز اسمر تتباهى بكل ما له علاقة
بتلكيف، بالعامل والبناء وتصف كيف تعمر البيوت وكيف يتم
انجازها في ايام قلائل، وتصف كيفية تبييض وتلييس الجدران
وتذكر خامات وعناصر البناء وتسقيف البيوت وتصف الحوش
وحديقة الدار والبادكير والتختبوش، وكانها كانت تعمل
بنفسها مما يدل على حرصها ودقة متابعتها لما يدور في وطنها
وفي البيئات المختلفة منه.
تتحدث عن برج بابل وعن نينوى بفخر واعتزاز وبحرارة وصدق
والم وندم حتى قبل الشروع في عصر الحفريات في العراق
وإماطة اللثام عن آثاره بسنين. كما وتذكر ايام الضيق
وانتشار الأوبئة وتعرج على الاضطهاد و التحيز الديني او
الطائفي وتقف عنده وتشرح تفاصيله، ولكنها لا تغفل عن ان
تحيي ايام الانفتاح والتسامح والرخاء والعز ايضا.
هل الومها لو قالت انها أميرة بابلية! لا والله العظيم
انها أميرة وتستحق الامارة بكل جدارة لانها وضعت بلدها في
قلبها وعلى لسانها وحدثت الامراء والملوك والنبلاء في
اوربا قبل ان يستطيع اي رجل من وادي النهرين(ما بين
النهرين) ان يفعل ذلك وثانيا لقب الامارة كان من صفات شيوخ
القبائل فنجد أمير الكويت وأمير المحمرة وأمير نجد وأمير
حائل وهذا ما كان متعارف عليه في العراق ايضا مثل أمير
ربيعة وهو رئيس قبيلة.
هذه المرأة تستحق ان تحيى بتحية خاصة، وافضل تحية لهذه
المرأة الرائعة هو ان اقدمها للقارئ والقارئة بتفاصيل ادق
اذ بعد ترجمتي لكتابها الذي يقع في 750 صفحة شعرت ان ماري
تيريز اسمر هي البعيدة القريبة، الممتنعة السهلة، الواضحة
العصية، الغريبة والحميمة، تتحدث عن خلجات وتصف حوادث ليست
غريبة عن ابناء وادي الرافدين الذين تمتعوا وارتووا او
غصوا بماء دجلة والفرات وبنفس الوقت هي بعيدة في العمق
الزماني والمكاني. كسرت حواجز الصمت وخرجت عن الاطر
التقليدية بكافة صيغها وخاصة في السفر والترحال والعمل
واخيرا واهم من كل هذا في اسلوب الكتابة ومضمونها.
اسلوبها في الكتابة حديث جدا، كانك تقرأ كتاباً لاديب
معاصر تستعرض الحاضر وتقود القارئ بيسر وسهولة الى الماضي،
تعتمد التشويق السلس غير المثير بشكل عام، ولكنها بنفس
الوقت تحفز القارئ للمتابعة، تخلط اوراق الحاضر بذكريات
بالماضي بعفوية وصدق وبدون تكلف، كتابتها تدل على عمق
تجربتها الادبية لأنها قد قرات الكثير، رغم انها تحدثنا عن
تجربتها الا اننا نشعر وكاننا جزء من تلك التجربة تقحمنا
في عالمها، وتدخل عالمنا المعاصر بكل حرية وكانها واحدة من
بنات هذا الجيل، وتجعلنا نغوص في الحوادث اليومية التي تمر
بها وكاننا شركاء لها، مقنعة جدا في طرحها لكل صغيرة
وكبيرة مما يدور حولها.
نجد الحميمية والقرب والدفء في استعراضها لما يجرى حولها،
دقة التفاصيل تفرض علينا ان نكون ضمن الاطار الذي فرضته
علينا، ونكون معها فيه ونحس بما تقول، تجعل القارئ يشعر
انها جليسته تحدثه حتى يكاد يغفو، كانها اعتمدت اسلوب
شهرزاد في تداخل النص او الخروج عنه، لها فينا نفس تاثير
شهرزاد على شهريار وكأني بها تريد ان تخلق من القراء كلهم
شهرياراً مسترخياً مقتنعاً، يحس بصدق الحب والامان
والانتماء والهدوء، وماري تيريز تتحدث بشغف وصدق وقناعة
وحيوية، بصوت هادئ لا انفعالي.
من اجل فهم ودرس هذه الشخصية لابد من ان نبحث عن مصادر
اخرى تتحدث عنها او تشير اليها، اننا نعرف مولدها ونشاتها
وما قالته لنا ولكن كيف نستطيع ان نحلل ونفهم ونستوعب كل
تلك الاحداث بدون ان نستعرض وجهات نظر مختلفة او حتى مؤيدة
او ربما اشارات لوجود تلك الشخصية،كما ويجب الا يغفل عن
بالنا مراعاة القرن الذي عاشته وسنينه العجاف احيانا
والمثيرة جدا أحياناُ أخرى، فأوروبا قد خرجت من ثورة
فرنسية كبرى هزت العروش والقيم، وحروب طاحنة دمرت دولاً
ونفوساً وبنفس الوقت تعيش ثورة صناعية ضخمة غيرت المفاهيم
وقلبت المجتمع، تصف بلادها ارض الرافدين بكل عبق تاريخها
وإنجازات اهلها التاريخية وتطلق على بغداد مدينة الخلفاء
بفخر، ولكنها تعي ان بلادها مدفونة تحت رمال التخلف والجهل
والتعصب العرقي والديني والطائفي، الا انها بلاد جميلة
نبيلة زاغ عنها المجد وفارقتها النعم واستحوذت عليها قوى
التعصب والطائفية.
نحن لا نعلم كم سنة عاشت، هل ترهبت كما كانت تود ام انها
اقترنت برجل ما؟ اين عاشت، في اي بلد؟ واي مدينة قضت فيها
ايامها بعد كتابة سيرة حياتها؟ وباي لغة كتبت سيرة حياتها؟
ومن ترجمها للأنجليزية؟ ولماذا ترجمت؟ وما مكانتها بالنسبة
للجمعية البريطانية الاسيوية؟ هل اشتغلت، وما هو مصدر
رزقها؟ كيف كانت تقضي اوقاتها؟ من هم أصدقاؤها وصديقاتها،
في اي كنيسة كاثوليكية تتعبد في انجلترا البروتستانتية، هل
عادت الى الشرق ام اسيا ام بلاد النهرين كما كانت تحب ان
تطلق على بلدها؟ كم عمرت، هل تعدت المائة مثل جدتها؟ اين
ماتت؟اين دفنت؟ هذه اسئلة لا نعرف عنها جواباً إذ اننا من
حضارة ترفض التسجيل والتوثيق حضارة شفاهية تعتمد الحكايات
وتضيف على النص الاصلي خيالات لا محدودة او تحذف منها ما
لا يناسبها، حضارة تهوى ان تنسى لا ان تتذكر، حضارة تحب
الكلام وان تروى لا ان تكتب وتقراْ، واخيرا تتجاهل ما سمعت
وتنكر ما روت ولا تقيم وزنا او تحتفل بانجازات افرادها،
وشكرا لسومر لانها كتبت على الطين.
بما انها قد كتبت سيرتها ونشرتها في انجلترا فلابد من
البحث في السجلات الرسمية البريطانية التي تحتفظ بسجلات
الولادة والوفاة والزواج وتوجهت الى تلك السجلات اقلبها
ابتدأت من 1844 السنة التي نشرت كتابها بحثت عن وثيقة زواج
او شهادة وفاة ووصلت الى سنة 1860 وتوقفت هل ساواصل البحث
مع علمي بانها قد ذكرت بانها ستودع انكلترا، هل سيواصل هذه
المهمة باحث اخر اسلمه عهـدة ماري تيريز اسمر؟
|