ما بين
دجلة وشارع الرشيـد ..
ذكـريات واشجان وحنـيـن
بغداد/آمنة عبد
العزيز
كنت برفقة زميلي محمد
درويش لإنجاز تحقيق صحفي وعندما اردنا العودة الى صحيفتنا
شدنا الحنين الى ان نركب أرجلنا ونبدأ رياضة المشي التي
طوتها الاحداث التي نعيش، وبدأنا عابرين جسر السنك وفي
منتصف الجسر ثقلت خطواتنا وبدأنا نتأمل مياه دجلة المرتفع
منسوبه هذه الايام، كانت مياهه فيها شئ من الحزن الذي
بداخلنا وكعادتنا نحن العراقيين نضعف امام دجلة، تمعنا في
وجهه حيث ترتمي كل خفايا الروح ونقرأ بين صفحاته ذكرياتنا،
ومن منا ليست له مع دجلة قصة؟
وعند
الجرف القريب من جهة الرصافة كانت بوادر صيفنا اللاهب
توضحت ملامحه، صبية يرتمون في احضان المياه غير مكترثين
بتطلعنا وفضولنا نحوهم.
اطلق زميلي زفرة مغلفة بآه لتلقى صداها عندي وقلنا
مستذكرين تلك الايام المشبعة بالأمان التي باتت ماضياً
جميلاً نشد الرحال اليه يومياً لنغترف منه ما يجعلنا نستمر
في الحياة.
وذلك الجرف الممتد على طول جسد دجلة كان بالامس مرفأ لكل
اشكال الحياة.
اليوم اضحى صورة لاعلاقة لها بالماضي أبداً. اسرعت خطوات
زميلي محمد الى حيث السلم قبل نهاية الجسر الذي يوصلنا الى
شارع الرشيد، حاولت ان اسابقه الخطوات ليس لإثبات اني اكثر
لياقة بدنية منه وانما بسبب الرائحة الكريهة المنبعثة من
الازبال على سلم الجسر الجانبي، مما يجعلك تحبس انفاسك حتى
آخر درجة من السلالم، وعلى جهة اليسار تشاهد اسطبلاً
لأصحاب عربات النفط وممن يعملون في شراء المواد المستهلكة
صدمت بشدة لما رأيت وقلت محدثة زميلي: هل هذا المكان في
قلب بغداد حقاً؟
ضحك ساخراً وقال: (ليش انتي مو بالعراق) قلت نعم ولكن لم
تطأ قدماي هذا المكان منذ زمن، وعندما سرنا في شارع الرشيد
تمنيت على (الرشيد) ان ينهض من قبره ويرى بعينه الشارع
الذي يحمل اسمه والذي تحولت كل معالمه الى مجرد بقايا من
شارع تغنى به الشعراء وأرتاده الادباء والسواح من كل مكان
كونه اقدم شارع في بغداد.
وبعد عدة خطوات توقف زميلي فجأة واشار الى مكان تباع فيه
مولدات كهربائية مختلفة الاحجام والأنواع وقال بألم حتى
المقهى البرازيلي الذي كان ملتقى لمعظم الأدباء والمبدعين
تحول الى دكاكين وبدأ يسرد لي حكايات عن هذا المقهى والذي
قطعت أوصاله الحوانيت التجارية!
وقبل ان نجتاز المكان وعند مدخل احد الأزقة كان هناك رجل
مرتم على الأرض وهو شبه فاقد للوعي وبملابس رثة قذرة.
تابعته نظراتي بشفقة على ما هو فيه وسألت زميلي ترى ماذا
حصل لهذا الرجل ؟
أجابني وهو يضحك هذا سكير.
تساءلت ترى ما الذي يجعل الرجل ان يفقد كرامته وإنسانيته
حتى يصل لمثل هذا الحال ويكون نائماً عند قارعة الطريق
كباقي النفايات القريبة منه؟!
أدركنا العطش بعد هذه (المسيرة) الصحفية وأخذنا عصيراً من
المحل القريب وكان عبارة عن (ثلج مبروش) اكثر منه عصيراً.
وقبل ان نصل الصحيفة مروراً بشارع ابي نواس سرت من الجزرة
الوسطية كي استظل بافياء الأشجار الكبيرة التي امتدت
بظلالها حتى وسط الشارع.
التفت الي محمد وقال اين ذهبتِ ؟
قلت اتعرف كم هو عمر هذه الأشجار ؟
وبلهجته الساخرة كما في كتاباته قال: ومن قال لك إني عالم
طبيعة؟ لكن بتقديري عمرها من عمر شارع ابي نواس الذي أعطته
هذا التميز والجمال على امتداده ولم يبق منه الا اسمه
وذكريات مضت مضافة اليه ذكرى أخرى هو اننا مررنا به اليوم
وهو منسيّ.
|