رمزية الأشكال وروحانياتها في
العمارة والفنون
د.علي ثويني
معمار وباحث عراقي
يقيم في السويد
thwanyali@hotmail.com
يكتنف
الاشكال الهندسية عالم من الظنون والهواجس مثلما هو الحال
مع الأرقام والالوان ، وتؤول رمزيتها و تتداخل مع
الروحانيات ،و تكرس بالنتيجة تآصرا بين الفن والعقائد .
وتمادى البعض و أقتصر أشكالا بعينها تختص عقائد بذاتها .
فمثلت لديهم الدائرة الهندوسية والمثلث المسيحية والمربع
الإسلام. وثمة تفسيرات شتى لظواهر نفسية وخوارق اللاشعور
وحيثيات "باراسيكولوجية" تهاجن بين تلك الأشكال ،لتعلن
متاهة في شؤون البحث، وترسم ملامح توجه علمي جديد.
وللرمزية والتشبيه و التأويل وجود في النصوص القرآنية ،
كما في الذكر الحكيم (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ
زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ
عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).
ويمكن أن تكون هذه الرمزية مصدر الهام و إيحاء لرهط من
الفنانين المسلمين. وعلى العموم فقد أستهوت التفاسير
الرمزية أصحاب الكلام وأهل المذاهب العقلية والفلسفية
والباطنية ،ومنهم الصوفية والشيعة ،بينما دحضه ونقده أصحاب
المناحي النقلية والسلفية . و نجد نتفاً من تفاسير
المعالجات الفنية مبثوثة في كتب التراث الفلسفي الإسلامي
،بما لايتعارض مع الفقه الديني. ونجد سجالات بين مؤيد
ومدحض للنزعة الرمزية ،فها هو المصري عبدالباقي
إبراهيم(1926-2000) ينقد التأويل مصرحا:( أن حضارة الإسلام
متكاملة ترسم حياة الفرد والمجتمع في كل زمان ومكان
،لاتحدها أرقام أو معدلات أو طلاسم كادت تطمس كل القيم
الإنسانية والحياتية في الحضارة الإسلامية). وعلى خلاف ذلك
نجد الإيرانيان (أردلان) و(بختيار) حينما أعتبرا النقطة
تمثل الخالق والمستقيم الفكر والمثلث الروح من خلال
إتصالها حسب إتجاه رأسها نحو الأرض أو السماء، والمربع
المادة والمخمس الطبيعة والمسدس جسم الإنسان والمسبع
العالم والمثمن يعبر عن القيم الحسية ،والدائرة تمثل
الكون..الخ ) .
وثمة إقتضاب او إسهاب لرمزية الأشكال في شروحات فلسفة
الفنون وعلم الجمال ، وترد في العمارة من خلال الحالة
التحليلية للعناصر والهيئات والمساقط .وفي عمارة المسلمين
وردت في شروح بعض منظري العمارة من مستشرقين ومستغربين.
وبالرغم من كون بعض التحاليل تطأ تفاسير معقولة ،فأن البعض
أطنب في الرمزية. و نجد شروحات وممارسات رمزية للأشكال
وردت في العمارة والفنون العراقية والمصرية والشاميه،
تحتاج الى فك رموزها من خلال سلطان البحث التحليلي المقارن
وقراءة اللقى المشتتة والمخزنة في المتاحف العالمية. وربما
يكون لفكر اقليدس وأفلاطون وارسطو في الأشكال الهندسية
ورمزيتها تأثير ما في الظاهرة الرمزية الإسلامية، بعد أن
اعتمدت أحد مصادر المعرفة، وهو مايذهب اليه الغربيون ومنهم
المعمار الفرنسي (أندريه باكار) حيث يقول ( اهتدى الفنانون
المسلمون إلى تلك الأشكال بسبب ميل الإسلام الطبيعي إلى
الأفكار التجريدية والتزموا بتحريمه تصوير الكائنات الحية
فلم يلبثوا أن اصبحوا مبتكرين مدهشين للفن غير التشبيهي ).
وفي أشكال الدائرة والمثلث والمربع،التي تشكل أصل كل
الأشكال الهندسية شجون، في عمائر الشرق القديم . وإذا
تحولنا الى الفنون الزخرفية فأن التصاميم تستنبط من
الأشكال الأساسية ، وان سطحا مؤلفا من المثلثات والمربعات
المتجاورة يمكن أن يعطينا تصاميم مختلفة ، بعد أن نعين
الوحدة أو الخلية الأساسية للزخرفة. وهنا لعبت المسطرة
والفرجال دورا أساسيا في تمثيلها. فاذا أردنا ان نملا أو
نغطي سطحا معينا بزخرفة دون أن نترك فراغا، فان الخامة
الهندسية الأساسية لذلك هي المثلث المتساوي الأضلاع أو
المربع،ومن أي من هذين الشكلين تتمخض أشكال شتى. و
باستخدام الفرجال عند رسم الدوائر أو انصافها أو أرباعها،
داخل الانساق المربعة أو المثلثة سنحصل على أشكال منحنية،
بل إننا نحصل على منحنيات دون هذه الأقواس الدائرية .
و يجدر القول أن فلسفات الأشكال في الفنون تشذ في حال
العمارة بما تولده من غضاضة بما يخص العلاقة بين الشكل
والمضمون للمبنى المستخدم ،ويتولد الحذرمن الجدوى في قسر
الأشكال بما يحول دون تحرير الفضاءات المعمارية وإضفاء
أجواء معاشية صميمة ،أو يتداعى الى عدم توافق مع المقومات
التصميمية.وهنا يجدر بنا أن نسهب في أصول وإستعمالات
الأشكال الأساسية،وهي:
الدائرة
وردت الدائرة في المخططات وقياس النسب الجمالية والتطبيقات
الفنية و الزخرفية الآتية من أصول عراقية و هندية ومصريه
قديمة، وجاء استلهامها من الشمس و البدر ثم قوس السماء,
ووردت حظوتها من ثوابت الكون في دوران الليل والنهار وبين
الموت والبعث، والوحدة واللانهاية الكونية . وكانت للدائرة
قدسيتها ورمزيتها بما يتعلق بإيحاءاتها الجنسية لبعض شعوب
فارس واسيا الوسطى (الخزريون) حينما عبدو (تالوس) ثم
أعتنقوا اليهودية في حدود القرن العاشر الميلادي ،و مازالت
الدائرة هي الرمز المحبذ في البوذية والهندوسية .
لقد ربط بعض منظري الفن والجمال بين الدائرة ، و حركة
الطواف والدوران حول الكعبة ،أو حتى دوران الدراويش على
الطريقة المولوية. وهنا نذكر ما قاله (هشام أبن الكلبي) :
(إن العرب سموا طوافهم الدوار)، وفسر (الجرجاني) كلمة
الطواف بما معناه شعور الإنسان بالخفة والحركة في آن واحد
وهو ما يتطابق مع الشعور بالمتعة والطرب ، المـتداخل مع
فعل الإستدارة وشكل الدائرة .و نجد النزعة الى الطوفان قد
وردت في نحت صخري في (تدمر) .أما الحركة الرأسية للدائرة
المحلزنة السامية صعودا، فقد وردت في طقوس العراقيين منذ
القدم لدى تسلقهم سلم (الزقورة) الى الأعلى .وقد نجد
لإيحاءات تلك الحركتين "الدورانية و الحلزونية"عمقاً
روحانياً، ظهر بأجلى صوره في العمارة من خلال مئذنتي
(الملوية) في جامعي سامراء (المتوكلية)، و(أبي دلف) وتعود
للعام 845م حيث ترادفت الوظيفية المعمارية مع الرمزية
الشكلية والجمالية.
وربط المستشرق (آدم ميتز) بين قدسية الدوائر لدى المذاهب
الدينية الغنوسطية(العرفانية) السابقة للإسلام وبين التصوف
الإسلامي. ويذكر بان (الحلاج) ذكر في كتابه (الطواسين)
المشيئة عن أربع دوائر ويرمز لها بعلاقتها بالخالق فهي،
الأولى مشيئته ،والثانية حكمته ، والثالثة قدرته ،
والرابعة معلوماتة وأزليتة. وهذه الطريقة التي تمثل الرموز
بالدوائر كان ميزها (سيلسوسSelsus
) عند الغنوسطيين،
وقد نجد ما يشابهها لدى الحلاج و نجد ما يحاكيها اليوم في
مصنفات طائفة الدروز في الشام .ويمثل العقل في ذلك المفهوم
عند الغنوسطيين المعمّل، الذي يرد في طواسين الحلاج حيث
يمثل بالشكل المستطيل.
و اضطلعت الدائرة بالوسطية نظراً لتساوي أبعاد محيطها عن
المركز،و تداخل هذا المضمون مع الشكل والهيئة . وقد تناغم
مع مفهوم "الوسطية" في الإسلام الذي ورد في الذكر الحكيم
(وكذلك جعلناكُم أُمة وسطاً لتَكُونوا شهداء على الناسِ).
و للنصوص مدى عقلي ومساحات للتأويل في إطارها العام مما
يمكن ان ينعكس في الوسطية من كونها حالة شاملة تعني نزعات
نفسية بما يفيد الاعتدال والعدل والموازنة أو حتى موقعية
جغرافية. أما الوسطية في العمارة فيمكن اعتبارها مقياساً
للكم والكيف في المنجز بدءا بالوسطية في الإسراف والتزهد
.وفي العمران اختير لها الشكل الدائري المرتبط بمعايير
تصميمية ووظيفية. و كان قد مورس في بواكير التخطيطات
الحضرية الإسلامية وهي البصرة ثم الكوفة (636و 638م). ومن
المعلوم أن تخطيط مدينة الكوفة جاء دائرياً غير منتظم ويرد
في (تاج العروس) بأنها سميت بالكوفة لاستدارتها . وهذا
يعني أن مخطط الكوفة (أبا الهياج الأسدي) سار على نهج
عمراني استلهمه من التقاليد العمرانية العراقية في أور
ونينوى وآشور وحران والحضر والمدائن(طيسفون) وغيرها. و
مبررها مواءمتها لأرض العراق السهلية المفتوحة الأفق
والخالية من عوائق طبيعية تكبح حدود إسقاط الدائرة .وتجسد
الأمر في منطقة التلال في شمال الرافدين عندما نشأ أصلا
حول التلال والجبال كما في كركوك وأربيل الآشوريتين.
وبالمقارنه ففي وادي النيل نلاحظ أن جل مخططاتها الأساسية
جاءت من النوع الشريطي الخطي المتوائم مع بيئة الوادي
الضيقة.
وحدث أن أتخذ المنهج الممركز سنة تخطيطية للمسلمين ،ويجدر
بالذكر أن ذلك المنهج سنة عراقية وجدت في أقدم الأوابد
حينما تاخم المعبد قصر الملك لأسباب روحية ووظيفية. وفي
الإسلام جاء موقع المسجد متاخما لقصر الأمارة في الصرة
الحضرية سيرا على عين المبدأ.ثم تنطلق من تلك البؤرة
الشوارع والدروب لأرباض المدينة بمخطط يغلب عليه النظام (
الدائري - الشعاعي).و استمرت خصوصية مركزية المسجد حتى
عندما تغير شكل المدن. ووجد التدوير طريقه إلى حواضر
الإسلام الجديدة مثل (واسط) ثم بغداد ، التي خططها الحجاج
ابن أرطأة عام 761م وأطلق عليها اسم (المدينة المدورة)
لدورانها التام بقطر 3150 م.
و المغزى الوظيفي لتلك الممارسة هو اختيار المسجد الجامع
وقصر الأمارة في المركز لتتساوي المسافة في البعد والمجاز
عن أرباضها وساكنيها ، كما ورد عند شهاب الدين احمد ابن
أبى الربيع فيما يجب على من انشأ مدينة:(أن يبني فيها
جامعاً للصلاة في وسطها للتعرف على جميع أهلها) .يضاف لها
مبرر الاقتصاد حيث أن مساحة ارض المدينة المدورة تقل
بمقدار 11,37% عما يساويها من المساحة لأرض مربعة .
المثلث
يرد الشكل المثلث في الحضارتين العراقية والمصرية على حد
سواء ،مرتبطا بجذر تمثيل ثلاثي للأله أو الملوك المؤلهين .
ففي سومر نجد أن (نامو) آلهة الماء ولدت الأرض (كي)
والسماء (آن) ليصبح مثلثا مقدسا ، وفي مصر عن العلاقة بين
الآلهة الثلاثة المقدسين وهم الملوك أيزيس الأب وأيزوريس
الأم وأبنهم رع ،و استوحوا منه حتى شكل الأهرامات .
وأستعمل في ضبط النسب في العمارة المصرية القديمة وهي
3-4-5 والذي يسهل عملية بناء المثلث المستقيم ثم أنتقل
تباعا الى العبرانيين ، وصنعت منه نجمة داود من مثلثين
متعاكسين إحدهما يرمز للأرض والآخر للسماء. وقد انتقلت
تباعا الى اليونان و استعملوها في المنظومة الرمزية
والجمالية للعمارة والفنون وأسبغوها على بعض المدائن ومنها
طرابلس التي أصلها (تري بوليس) أو المدائن الثلاث.
واستعمله الأوربيون ابتداء من الرومان ووجد في مثلث
فيترفيوس للعمارة (ولد عام 85 ق.م) .ثم أنتقلت الفكرة الى
المسيحية الغربية من ضمن الكثير من المفاهيم التي وردتها
من الشرق ،وأنتقل هذا الرمز الى الأب والإبن والروح القدس
أو ما يطلق عليه الثالوث المقدس(سيلاسي الحبشية) . ثم تكرس
ذلك في عصر النهضة بدلالات رمزية وتطبيقية لمنظري العمارة
مثل (البرتي 1404-1473) .ومازال يعتبر الكثيرون من منظري
العمارة في الغرب بأن المثلث هو جوهر النسب التصميمية
والجمالية في العمارة المسيحية والأوربية.
ونجد للمثلثات وتقسيمات الزوايا على 30 و60 درجة حظوة
وحضوراً في الزخارف الإسلامية ونجد خير الأمثلة في قاعة
الحريم في قصر الحمراء(Sala
de las Camas)
،حيث نجد مثلثات ملونة ،فاذا أهملنا لوهلة الجانب اللوني
في الزخرفة ،سيكون بوسعنا ان ندير الورقة الغامقة بمقدار
زاوية قائمة الى وضع الورقة الفاتحة. واذا استمرت هذه
العملية من الدوران أربع مرات فإننا نحصل على المربع
الفيثاغورسي الوارد من سومر وبابل.
المربع
المربع واربعة واردة من ثقافات الشرق القديم ، حيث ورد لدى
السومريين الرقم أربعة رامزا للبيت والبناء وذلك لتشكيله
للجدران الأربعة حيث وردت كلمة
Ninda
التي تعني أربعة أو مربعا
أو بما يفيد البناء والسياج وأسبغ على فن العمارة. ثم وردت
لدى الكنعانيين وأطلقوها على مدينة الخليل (كريات أربع )
أو القرى الأربع، واستعملها الأكديون في العراق في تصميم
زقوراتهم المربعة .وأستعمل الآشوريون المربع في عمارتهم
وأطلقوه على حاضرتهم (أربيل) المتأتية من (أربع أيل) أو
الآلهة الأربعة.
وقد كان مرد حظوة المربع الى تساوي أضلاعه الرامزة لحالة
العدل والقسطاس والاستقرار والسكون ،و يفيد معنى الإقامة
والمكانية، فربع بالعربية بمعنى أقام، وأطمأن، وكذلك ترد
بمعنى الدار أو المحلة .وفي العراق والخليج مازال الناس
يستعملونها (الربع) بما يعني الجماعة ورابع بالعبرية ما
يقابل كلمة ربض أو حي بالعربية ، وربما أسترسل المفهوم الى
أسم المحلة في اللغات الغربية لاتينيا(quarter
). وورد رامزا الى
المادة او الأرض أو العناصر الأربعة أو أخلاط الطب الأربعة
كما في رسائل أخوان الصفا, و تداخل في رمزية الكعبة
المشرفة ،او المربع السحري لبعض الثقافات ،أو المثمن
المتألف من تراكب مربعين في خاتم النبي سليمان . و مقاسات
أضلاع المربع تتمخض من المتوالية الحسابية للجذر2 ? أو جذر
1 \2 ?
في المستطيل .
وأنعكست دعوة الإسلام للعدل الإلهي، في الشكل المربع ونجد
في ذكر المربع السحري الأول "الوفق" ما جاء به جابر بن
حيان في كتاب (الموازين) والذي لقي طريقه إلى التآلف مع
مخططات المربع (الفيدي) المقتبس من الهند. وورد لدى الصوفي
البغدادي (الشيخ عمر السهروردي) في مؤلفه (الأشراف)، واصفا
تطورهما وتفوقهما على علم الحساب . ثم تلاه ابن سينا في
فلسفة الكون المرموز لها بالدوائر السبعة (الكواكب) والذي
يناظر كل منهم مربعا سحريا وتتوالد عن تلك المربعات عدة
تراكيب تخطيطية والتي استخدمها المعماريون والفنانون في
تخطيطاتهم الناظمة والزخارف التي تدعى الأطباق النجمية حتى
آخر حقب صعود المدّ الحضاري الإسلامي في القرن الخامس عشر
،التي نعتبرها إيحاءات لهواجس فلكية في الطالع والبخت،
يشرئب الى الكواكب والنجوم،تبعا للسنة البابلية. ثم هبط
ذلك الدفق من الخيال الفني، لتؤول تلك الثورة العقلية الى
شعوذة على يد العرافين.
لقد حلل بعض منظري الفن والجماليين عدة مساقط و عناصر
زخرفية ، وأكدوا على حظوة المربع في منظومة الفنون
والعمارة الإسلامية. وإذ نورد نموذجا لذلك النهج ورد في
نصوص رسائل أخوان الصفا للشكل المربع حيث جاء في رسالتهم
الأولى (أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري جل ثناؤه
مربعات مثل الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة،ومثل الأركان الأربعة التي هي النار
والهواء والماء والتراب ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم
والبلغم والمرتان المرة الصفراء والمرة السوداء ومثل
الأزمان الأربع التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء ،
ومثل الجهات الأربع والرياح الأربع الصبا والدبور والجنوب
والشمال، والأوتاد الأربعة :الطالع والغازي ووتد السماء
ووتد الأرض والمكونات الأربع التي هي المعادن والنبات
والحيوان والأنس. وعلى هذا المثال وجد أكثر الأمور
الطبيعية ).ويزيدون (أن الباري جل ثناؤه أول شيء اخترعه
وأبدعه من نور وحدانيته ،جوهر بسيط يقال له العقل الفعال
،كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار ثم أنشأ النفس
الكلية الفلكية من نور العقل كما أنشأ الثلاثة بزيادة
الواحد على الاثنين ،ثم أنشأ الَهُيولى الأولى من حركة
النفس كما انشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة .ثم
أنشأ سائر الخلائق من الهيولى ورتبها بتوسط العقل والنفس
،كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها).
والهيولى يسمى بالمادة أو العنصر عند أرسطو.
ويتولد المكعب منهجيا من حالة دوران السطح المربع على
نفسه. ،وترد في اللغة "كل بيت مربع" وأخذت مفهوم لغوي يعني
الشرف والمجد كما ورد (أعلى الله كعبهم) أي رفع شأنهم .
وجاء ذكره لدى (الخليل بن أحمد الفراهيدي) البصري بأن(أهل
العراق يسمون البيت المربع كعبة ).وفي الطائف يقول ابن
الكلبي واصفا بعض الأنصاب (و اللات بالطائف وهي أحدث من
مناة وكانت صخرة مربعة) .ونقلت الأخبار بان بيتا كانت
تملكه قبيلة (ربيعة) يطوفون به ويسمونه (ذات الكعبات).
و نجد لذلك التكعيب وجوداً في معابد (مرن)، و(شحيرو)،
و(خلوة الشمس) في مدينة الحضر(مدينة الشمس) العراقية ،
وكذلك في معبد جوبيتر في (بعلبك) اللبناني وبعض معابد تدمر
في وسط البادية السورية. وقد لعبت بعضها دوراً شبيهاً
بالكعبة الحجازية . ومعبد نجران النصراني في اليمن بني على
صرح وثني مكعب والذي ذكره ياقوت الحموي في معجمه.وذكر
الهمداني بأن قصر (غمدان) الأسطوري اليمني كان مربعاً
وكذلك حال كنيسة (أبرهة الحبشي) وكذلك كعبات الجزيرة
العربية مثل كعبة( شداد الأيادي) و(كعبة غطفان) .
وأخذ هذا المنحى مداه الزمني التطوري ليتجسد في عمارة
الكعبة المشرفة التي بنيت فوق موضع (الحجر الأسود) في
الزاوية الشمالية الغربية منه، بشكل مكعب غير منتظم أبعاده
التقريبية 15م ارتفاعا، و12م عرضا.و تعود قدسية المكان الى
الإجلال الذي يحظى به النبي إبراهيم الخليل وابنه
إسماعيل(ع) اللّذان بنيا هذا البيت ،حوالي القرن الثامن
عشر قبل الميلاد . وتتجه نفوس المصلين ووجهتهم بشغف نحو
ذلك المكان ، حيث يكتسي اتجاهه (القبلة) أهمية في اتجاه
حرم الصلاة للمساجد ، الذي يحدد تباعا سجية المدينة
الإسلامية.
وفي هذا المنحى نقرأ رأيا معاصرا بما ذهب اليه الإيراني
(سيد حسين نصر)، في تنظيره للعمارة الإسلامية، من خلال
رمزية شكل الكعبة ،و اعتبر أن مكة المكرمة هي مركز الكون
الذي تتصل فيه الأرض بالسماء، وان مربع الكعبة يتردد في
أفنية المباني ويعكس صورة المعبد المكعب في الجنة .وأضاف
أن الشكل المثمن (المتاتي من تراكب مربعين) الوارد في
العديد من المساجد،ليس مجرد شكل إنشائي يساعد على حمل
القبة، بقدر كونه إنعكاساً لهاجس روحاني قرآني (
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ
فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) . وقد ذهب ابعد من ذلك
المعماريان الإيرانيان (نادر اردلان) و(لاله بختيار) حيث
رمزا للمربع بالمادة و يعتقدان أن الرقم (ستة) هو أول رقم
حسابي كامل ليس فقط لانه مأخوذ من ارتفاع الإنسان
القياسي(6 أقدام أنكليزيه) ولكن لانه يمثل الجوانب الستة
للمكعب الذي تستنبط منه نظم النسب التي تحدد الفراغ في
العمارة الإسلامية .
وذهب منظر الفن الإسلامي السويسري (تيتوس بورخارت) مذهبا
صوفيا بوصفه الكعبة بمركز العالم وربط بين المكعب ومركز
الدائرة في تحديد الخطوط الأساسية للفن الإسلامي .ثم الربط
بين المربع والدائرة ثم المكعب والكرة بصيغة تلاقحية تجسدت
في قبة الصخرة التي تحول فيها المثمن "وهو أحد نتاجات
المربع" الى قبة ترمز للسماء.وأشار الى النظرية التصميمية
للمبنى على أنها ربطت بين الدائرة والمربع كما لو ربطت بين
الحركة والسكون والزمن والفراغ،و تلاقحت خلاله القبة
السماوية مع المثمن الأرضي. وهكذا تشكل رمزية الأشكال
مرتعا خصبا لأصحاب الخيال والفلاسفة ،بحثا عن بناء نظرية
فلسفية للفنون والعمارة الإسلامية ،وتثير لدى البعض الأخر
،خوفا من الإنزلاق والتمادي في التأويل المؤدي للتيه
،والضلالة المؤدية الى النار.
|