البياض
الحي وسط بياض الموتى ..
قراءة في صورة من المقابر
الجماعية
احمد
الهاشم
أن يأتيك شيء عن بلادك و
أنت في بلد غريب, وعبر شخص هو غريب في ذلك البلد الذي جاء
منه ما يخصك, و أن يكون ما جاء يخص بلادك صوّره شخص هو
بدوره غريب عنها, لهو امر اشد غرابة من المفارقة مهما
حلمنا في تخيلها. الصورة حملها فنان سوري من ملتقى آرل
2005 الدولي للتصوير الضوئي الذي امتدت معارضه ومشاغله
ومحترفاته من 5 تموز وحتى 18 من أيلول, من السنة الماضية (
وما أسرع ما تمر السنوات). أما المصور فهو فان كيسترين:
صحفي ومصور ألماني جاء إلى العراق بعد أسبوع من نهاية
الحرب في نيسان 2003 - وطبقاً لما تذكره كراسة
الملتقى-"أرسلته اليونسيف ويعمل في نيوزويك ومجلة شتيرن
وظل يبعث تقاريره مدة سبعة اشهر، وعمل صحفياً ثابتاً مدة
سبعة أسابيع . و سبق له ان كان في العالم العربي".
لنتحدث أولا عن الصورة : مقبرة جماعية تاريخها 28 أيار
2003 في جرف الصخر : "أناس من مدينة المسيب بدؤوا بالبحث
عن ضحاياهم بالقرب من الفلوجة، وهم ضحايا انتفاضة 1991 فقد
و جدت المئات من الجثث معصوبة الأعين " - كما تذكر كرّاسة
المعرض - " بعضهم تحددت هوياتهم و تم التعرف على جثثهم, و
بعضهم الآخر أعيد دفنهم بدون التعرف على هوياتهم. إذ لم
تكن هناك بحوث استباقية". و" بعد أن يتم عد الجثث وحسابها
و يتم التعرف عليها - استطراداً مع ما تذكره كراسة الملتقى
نفسها- تغلف بالأكفان البيض و تعاد إلى المسيب حيث يطالب
أقارب الضحايا ببقاياهم" .. الجثامين المكفنة تحمل أرقاما
تجاوزت المئات.
في الصورة شيخ حائر يبدو انه تعب من إجالة البصر وسط ذلك
الطوفان الخامد من الجثث، يرتدي الدشداشة البيضاء وسط جموع
مكفنة بالبياض أيضا. كأنه الأبيض الحي وسط حشود من
البياضات الميتة.
كما يبدو انه تعب من التعرف على هوية القريب - الابن,
الأخ, الأخت, القريبة أو القريب - يطلق نظرة تأتي من كان
ما... أهي نظرة حائرة يائسة تلك التي كان يجول بها ذلك
الكهل على تلك الجثامين ،أم هي نظرة ندم لأنه أنجب أبناء
في بلاد الحروب و الموت والقتل؟ ربما كان المصور متقصداً
التقاط الشيخ في هذا الموضع من المكان، إذ يبدو في مقدمة
الصورة و خلفه أكثر مما أمامه، فمن دون جدوى حاول التعرف
على كل ذلك العدد الهائل من الجثث المقمطة كأطفال يتامى.
ماذا كان ينتظر ؟ أمجرد التعرف أم المعرفة؟ أي هل كان
يرتجي "معرفة" مصير أحبته الذين أمضى دهرا لم يجرؤ فيه على
السؤال عنهم كي لا يكون في عدادهم، أم انه تأكد من المصير
- الموت - وما عاد يهمه سوى "التعرف" على يقين موتهم و
دليله؟
وإذا كانت الصورة تبعث حس المشاركة بالتجربة كما تذكر
سوزان سونتاج في كتابها الذي أصدرته في أواخر سنوات
السبعينيات إذ تقول: " إن التصوير الفوتغرافي قد أصبح من
أهم وسائل الوصول إلى خبرة مشتركة بالأشياء تعطي المرء
انطباعا بأنه مشارك", فلنا أن نتخيل من باب المشاركة,
رجلاً كردياً في واحدة من عمليات الأنفال : التشابه هنا
تعاكسه الصورة ولا تعكسه : فالموتى أكثر من الإحياء و لا
مجال هنا للموتى كي يدفنوا موتاهم أو يتحدثوا عنهم فعدد
الأخيرين في الأنفال يبلغ من الكثرة حدا لا يتيح المجال
لتصور وجود من بقي حيا كي يبحث عن ذويه حين تحين الساعة.
سأتخيل أماً هي زوجة شاعر كبير في العراق, أصابها الجنون
بعد أن حُمل ابنها في حافلات الموت بعد الانتفاضة وهو طالب
هندسة بعمر الورد. اعرف - أيضا ً- أماً لصبيين احدهما في
الثالثة عشرة و الآخر في الثانية عشرة، لم تترك بابا لم
تطرقه دون جدوى لمعرفة مصير ابنيها و عبثا كانت تعتبر ان
كل طارق باب سيحمل لها خبرا، ولكن لا طارقاً كان يحمل خبرا
عن "الأولاد" و لا باباً يفتح لمعرفة مصيره، وما كانت تدري
أن بياض الكفن - في مقبرة جماعية- هو ما سيصادفه سواد
ملبسها حين تحين ساعة اللقاء بهما ..
وعوداً على بدء اقتباس سوزنتاج من أهمية الصورة كوسيلة
تبعث حس المشاركة فليتخيل احدنا نفسه"مشاركاً" في الحدث,
وليضع نفسه موضع ذلك الكهل في الصورة، وتخيلوا حينها أن
يبرز احد المتنطعين المتثاقفين ليتحدث ببرودة الموتى
مشككاً أو نافياً صحة المقابر الجماعية! هل تبلغ بنا
العبقرية مبلغ تخيّل ردة فعل "كهل" الصورة؟! أظن وبكل
بساطة أن قولا كهذا لن تضاهيه مضاضة وأسى سوى ما جرى له من
فقدان الأحبة ومقتلهم... فكل جحافل الموتى التي رآها
ينكرها من لم يمت له احد ولم يُقتل له قريب.
وإذا كانت صورة الطفلة الفيتنامية الهاربة من النيران في
زمن حرب الولايات المتحدة في ذلك البلد الآسيوي قد فعلت
فعلها في تغيير الرأي العام الاميركي و العالمي فما بال
صور مآسينا لا تثير لدى البعض - وما أكثره - سوى شحن
ماكنات التشكيك والريبة بل والتنكر الكامل. ها هنا تبدو
المسألة أخلاقية أكثر منها عقلية . فحين تتوفر الوسائل
الكافية في الاستدلال العقلي على صحة شيء لن يكون الإنكار
هنا سوى قضية أخلاقية تعارض الحق بالمصلحة، و علينا هنا أن
نفهم الأخيرة بمعنى الارتزاق إذا كنا مولعين في إعطاء
المفردات دلالاتها الحقيقية.
كما أن ثمة مغزى آخر يضاف الى هذا دلالة الإنكار. اذ يبدو
أن الجرم كلما تعاظم، تعاظم معه إنكاره, لدى من يحاول أن
يصطنع الضمير لمن فقدوه واقترفوا الجرم. فبدلا من الاعتراف
بالجرم تتخذ الأخلاقية الجديدة كي تنسجم مع نفسها, الإنكار
بديلا كي ترتاح ألذات المرتكبة من شقاء الضمير. فبعض من
كان في صف المنتفعين من السلطة السابقة من العرب وليس فقط
من بعض العراقيين - بل أن الأخيرين يبدون اقل حماسة واقل
جرأة في الإنكار من نظرائهم العرب- يحاول في من خلال
الإنكار تبرئة نفسه أكثر من تبرئة النظام السابق.
ثم أن المسالة في مداها الأبعد تتخطى مسالة الإنكار العربي
من عدمه لتدخل في حيز التاريخ وطرائق التعامل معه. ففي زمن
التدوين البصري للوقائع و الأحداث وتعدد النواقل السمعية
البصرية، لا مجال كبير للتنصل من الأفعال و لنا في كوسوفو
وأفغانستان والعراق خير دليل. فرغم التعصب العرقي ومحاولات
الإخفاء والتستر على الحقائق و التواطؤ الدولي والإنكار
الإقليمي أحيانا, تأكدت صحة الكثير من الوقائع بسبب الدليل
المصور والموثق : إبادة حلبجة والمقابر الجماعية في كوسوفو
و الأفعال الإجرامية لنظام الاستبداد الذي كان يحكم بغداد.
في عهد ثقافة الصورة يبدو أن التاريخ قد بدأ يكتبه الضحايا
أيضا مثلما يظل صحيحا أن الانتصار له املاءاته، فلم تعد
كتابة التاريخ منوطة بفئة او جماعة منتصرة فقط، بل ثمة
أطراف غدت معولمة بامتياز. فما من حدث اليوم من دون بعد
عولمي يضع الأطراف المتناحرة تحت الاضواء الكاشفة، و قد
غدا الإعلام أيضا مدون التاريخ الحديث بشكل يومي, وليس
مجرد مدونات في الكتب، اذ تلتقط النواقل البصرية و السمعية
بحساسيتها العالية الواردة والشاردة.. وقد غدت الشاهد على
التاريخ بما يضع الأخير نفسه في موضع شك إذا ما أنكر..
الصورة و الصوت.
|