اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

عرض كتاب .. رسالــــــــة في التسامــــــح

تأليف :جُون لوك
ترجمة: عبد الرحمن بدوي

عرض: مهدي النجار
من المعروف أن المسيحية نشأت في أحضان الإمبراطورية الرومانية، وقد شهد تاريخ هذه النشأة تصورات مغالية وأفكاراً متطرفة في تعصبها تدعو إلى اضطهاد الأديان الأخرى غير المسيحية والى استعمال القوة والقمع معها (خاصة في عهد القديس اوغسطين)، وبُرر ذلك بان إرغام الآخرين على اعتناق المسيحية يؤدي في الأقل إلى تعاليمهم، واستندت هذه الدعوى إلى نصوص من الانجيل، وخصوصاً إلى العبارة الواردة في إنجيل لوقا (اصحاح14 عبارة23 ) القائلة: "أرغموهم على الدخول compelle intrare " وتزايدت إجراءات وقوانين الاضطهاد بدخول القرون الوسطى، فقد اصدر الإمبراطور فريدش الثاني قراراً يقضي بإحراق المتهمين بالهرطقة من المسيحيين، وضد المسلمين واليهود. وقد أيد قرارات فريدش الثاني كل من البابا جريجوريوس التاسع (سنة1231 ) وانوسنت الرابع (سنة1252 ) وتولى تطبيق هذه الإجراءات "ديوان التفتيش inquisition " ابتداءً من أواخر القرن الثاني عشر.
ولكن منذ منتصف القرن الخامس عشر بدأت تظهر بوادر التسامح
to lerantia واخذ يرتفع صوتها ويشتد ساعدها بقيام الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر (1483 - 1546 م) وكانت دعوته موجهة ضد البابا والكنيسة فقد قال لوثر: "ينبغي التغلب على الملحدين بواسطة الكتابة، لا بواسطة النار" أما قيام الفرق داخل المسيحية فهو في نظره أمر طبيعي. يقول في هذا: "لابد من قيام فرق (انشقاقات) ويجب أن تدخل كلمة الله ساحة القتال وتناضل... ولتجتمع النفوس مع بعضها ولتلتقي... حيث يوجد نزاع ومعركة، فلابد أن يسقط البعض وان يُجرح البعض الآخر" وهنا تجدر الإشارة إلى تعاظم اضطهاد الكنيسة الانجليكانية للمذاهب الأخرى ونشر روح التعصب من خلال مؤلفات كتابها، خاصة كتاب : "قول في السياسة الكنسية" لمؤلفه باركر (أسقف اكسفورد) ويصرح باركر بأنه قصد بهذا الكتاب لا أن يقنع "المخالفين" بفضائل العقيدة الانجليكانية، وانما تنبيه السلطات المدنية والروحية إلى الخطر الناجم عن وجود "المخالفين" لأنهم بحسب ادعائه " أسوأ واخطر أعداء" لكل شكل من أشكال السلطة. لقد كان كتابه بمثابة إعلان حرب على كل من يخالفون الكنيسة الانجليكانية في العقيدة. وكان باركر يعتقد إن المَلكية تقوم على قرار من الله، ولهذا كان يقول إن القائمين بالأمر في الكنيسة والدولة اقدر على فهم القوانين والسياسات من غيرهم. وعلى أساس هذا المبدأ - أي سلطة الملك المطلقة وخطورة المخالفين على النظام - دعت الأغلبية في البرلمان إلى الأخذ بمبدأ اضطهاد الآخرين وخصوصاً الكاثوليك. وقال توماس ادواردز وهو من أشدهم خصومة للتسامح: "إن الكتاب المقدس وشهادة رجال الإصلاح الديني - وهم بمثابة آباء جدد للكنيسة - يوافقون على العقاب البدني للهراطقة وعلماء الدين الزائفين" وخلاصة رأيه إن " التسامح هو اكبر خطة وضعها الشيطان" .
إزاء هذا التعصب الشديد ضد "المخالفين" انبرى بعض الكتاب للدفاع عنهم والدعوة إلى التسامح معهم، منهم الكاتب وليم بن في كتابه " معقولية التسامح سنة 1687 الذي يؤكد فيه: "إن روح الإنسان ليست في متناول سيف الحاكم" ولهذا لا يجوز مطلقاً استخدام الإكراه في شؤون الإيمان لان القوة لا يمكن أن تضع نفسها محل تلك الأمور التي تتصل بعقل الإنسان.قد يفلح الإكراه في إيجاد نوع من التوافق الظاهري في ممارسة العبادات والنشاطات الدينية، لكنه يخلق منافقين - حسب تعبير وليم بن - في أمور الدين. والى جانب انجلتري كانت الدعوة إلى التسامح في هولنده وفرنسا في نفس الفترة مرفوعة اللواء قوية النداء، ففي سنة 1681 اصدر بيير بيل كتاباً بعنوان: "نقد عام لتاريخ الكلفانية" يقول فيه: " إن من الواضح إن الدين الحق، ايَّاً ما كان، لا يحق له أن يدعي أي امتياز يخولّ له العنف مع الديانات الأخرى، ولا يحق له أن يدعي إن الأفعال التي يرتكبها هو بريئة لكنها تكون جرائم إذا ارتكبها الاخرون، انه عدوان أكيد على حقوق الله أن يريد الإنسان إكراه الضمير".
نعود الآن إلى رسالة جون لوك في التسامح التي تعد بمثابة انقلاب جوهري مع أفكاره السابقة ضد التسامح، ويقال إن السبب في تغيير فكره باتجاه التسامح هو انه لما ترك انجلتري سنة 1645 وأقام بضعة اشهر في مدينة "كلف" الألمانية وكان يسودها تسامح ديني مدهش اثر تأثيرًا بالغاً في نفس لوك. وقد عبر عن هذا المعنى في رسالة إلى أحد أصدقائه يُخبره فيها انه شاهد الناس يمارسون عبادتهم بحرية ويحتمل بعضهم البعض. يقول في الرسالة: "إن كل واحد منهم يسمح للآخر في هدوء أن يختار طريقه إلى السماء، ولم ألاحظ أية عداوة بينهم في أمور الدين
انهم يروون آراء مختلفة دون أن يعتلج في نفوسهم أي بغض سري أو حقد". وبعد ذلك باثني عشر عاماً نجد لوك يسجل ملاحظات عن التسامح في مذكرة بنفس العنوان ( أي التسامح) بتاريخ 1679 يسجل حججاً سيستعين بها حين يكتب " رسالة في التسامح". فيقول مثلاً: " ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو، لان هذه المسالة شان خاص ولا يعني أي إنسان آخر.إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان، ولا لأية جماعة، ولا يمكن لأي إنسان أن يعطيها لإنسان آخر فوقه إطلاقاً ". لقد استمر لوك يكتم انه مؤلف "رسالة في التسامح" حتى قبيل وفاته بوقت قصير حين صرح بهذا الأمر في حاشية وصيته قبل وفاته بشهر واحد (توفي سنة1689) وقد طبعت الرسالة في مدينة" خودا" الهولندية سنة 1689 (أي في حياة لوك) مترجمة عن النص اللاتيني إلى اللغة الإنجليزية ولقيت هذه الترجمة رواجا هائلاً فنفدت في شهور قليلة فأعاد الناشر طبعها سنة 1690 وقد أفادنا المترجم الموسوعي الدكتور عبد الرحمن بدوي (مترجم الرسالة عن النص اللاتيني إلى العربية/1987 ) في صياغة الأفكار الرئيسية في الرسالة على النحو التالي:
1-لابد من التمييز بين مهمة الحكومة المدنية، وبين مهمة السلطة الدينية، واعتبار الحدود بينهما ثابتة لا تقبل أي تغيير.
2-رعاية نجاة روح كل إنسان هي أمرٌ موكول إليه هو وحده، ولا يمكن أن يعهد بها إلى أية سلطة مدنية أو دينية.
3-لكل إنسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين.
4-حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان.
5-التجاء رجال الدين إلى السلطة المدنية في أمور الدين إنما يكشف عن أطماعهم هم في السيطرة الدنيوية. وهم بهذا يؤازرون من نوازع الطغيان عند الحاكم. والمشاهد على مدى التاريخ إن تحالف الحاكم مع رجال الدين كان دائماً لصالح طغيان الحاكم فهو الأقدر على التأثير فيهم، وليسوا هم قادرين على تقويمه وردّه إلى السبيل القويم إن جنح إلى الظلم والاستبداد.
6-لا ينبغي للحاكم أن يتسامح مع الآراء التي تتنافى مع المجتمع الإنساني أو مع تلك القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني.
7-يستثني لوك من التسامح تلك الفِرق أو المذاهب الدينية التي تدين بالولاء لأمير أجنبي، لكن لا لاسباب دينية، بل لاسباب سياسية.
8-يجب ألا تتهم المذاهب المخالفة للمذهب السائد في الدولة بأنها بؤر لتفريخ الفتن وألوان العصيان. إن هذه التهمة لن يكون لها أي مبرر إذا ما قام التسامح، فان السبب في وجود دواعي الفتنة عند المخالفين هو ما يعانونه من اضطهاد من جانب المذهب السائد. ولهذا فانه متى ما زال الاضطهاد واستقرّ التسامح معهم، زالت أسباب النوازع إلى الفتنة والعصيان.
9- ومن أسباب التآمر والفتن استبداد الحاكم ومحاباته لاتباعه ولبني دينه، لهذا يرى لوك أن من حق الأفراد أن يستخدموا القوة في الدفاع عن أنفسهم ضد السلطة الظالمة.
إننا في المجتمع العراقي رزحنا طويلاً ( وما زلنا) تحت طائلة تاريخ مرير ومروع، تتجذر في داخلنا ثقافة التعصب والإكراه. ما أحوجنا الآن في لحظاتنا العصيبة هذه إلى أن ننتزع أنفسنا من هذا التاريخ المفزع ونندرج في ثقافة التسامح، نستوعبها ونتشبع بها ونستشرف آفاقها، نأخذ بدعوتها الحارة إلى حرية الضمير بوصفها حقاً طبيعياً لكل إنسان، إن حاجتنا ماسة إلى تحقيق هذه الدعوة بالفعل، لا بمجرد القول وبهذا التحقيق فقط يمكننا أن ندمر قواعد العنف والقهر وان نغادر تاريخ الآلام والقسوة والفواجع إلى الأبد، وبذا نصحح مسار تاريخنا وندخل أسوة بشعوب العالم المتحضر تاريخ المسرات والعقل والازدهار والسلام الاجتماعي.

منشورات مركز دراسات فلسفة الدين . بغداد ‏2006


البياض الحي وسط بياض الموتى .. قراءة في صورة من المقابر الجماعية
 

احمد الهاشم
أن يأتيك شيء عن بلادك و أنت في بلد غريب, وعبر شخص هو غريب في ذلك البلد الذي جاء منه ما يخصك, و أن يكون ما جاء يخص بلادك صوّره شخص هو بدوره غريب عنها, لهو امر اشد غرابة من المفارقة مهما حلمنا في تخيلها. الصورة حملها فنان سوري من ملتقى آرل 2005 الدولي للتصوير الضوئي الذي امتدت معارضه ومشاغله ومحترفاته من 5 تموز وحتى 18 من أيلول, من السنة الماضية ( وما أسرع ما تمر السنوات). أما المصور فهو فان كيسترين: صحفي ومصور ألماني جاء إلى العراق بعد أسبوع من نهاية الحرب في نيسان 2003 - وطبقاً لما تذكره كراسة الملتقى-"أرسلته اليونسيف ويعمل في نيوزويك ومجلة شتيرن وظل يبعث تقاريره مدة سبعة اشهر، وعمل صحفياً ثابتاً مدة سبعة أسابيع . و سبق له ان كان في العالم العربي".
لنتحدث أولا عن الصورة : مقبرة جماعية تاريخها 28 أيار 2003 في جرف الصخر : "أناس من مدينة المسيب بدؤوا بالبحث عن ضحاياهم بالقرب من الفلوجة، وهم ضحايا انتفاضة 1991 فقد و جدت المئات من الجثث معصوبة الأعين " - كما تذكر كرّاسة المعرض - " بعضهم تحددت هوياتهم و تم التعرف على جثثهم, و بعضهم الآخر أعيد دفنهم بدون التعرف على هوياتهم. إذ لم تكن هناك بحوث استباقية". و" بعد أن يتم عد الجثث وحسابها و يتم التعرف عليها - استطراداً مع ما تذكره كراسة الملتقى نفسها- تغلف بالأكفان البيض و تعاد إلى المسيب حيث يطالب أقارب الضحايا ببقاياهم" .. الجثامين المكفنة تحمل أرقاما تجاوزت المئات.
في الصورة شيخ حائر يبدو انه تعب من إجالة البصر وسط ذلك الطوفان الخامد من الجثث، يرتدي الدشداشة البيضاء وسط جموع مكفنة بالبياض أيضا. كأنه الأبيض الحي وسط حشود من البياضات الميتة.
كما يبدو انه تعب من التعرف على هوية القريب - الابن, الأخ, الأخت, القريبة أو القريب - يطلق نظرة تأتي من كان ما... أهي نظرة حائرة يائسة تلك التي كان يجول بها ذلك الكهل على تلك الجثامين ،أم هي نظرة ندم لأنه أنجب أبناء في بلاد الحروب و الموت والقتل؟ ربما كان المصور متقصداً التقاط الشيخ في هذا الموضع من المكان، إذ يبدو في مقدمة الصورة و خلفه أكثر مما أمامه، فمن دون جدوى حاول التعرف على كل ذلك العدد الهائل من الجثث المقمطة كأطفال يتامى. ماذا كان ينتظر ؟ أمجرد التعرف أم المعرفة؟ أي هل كان يرتجي "معرفة" مصير أحبته الذين أمضى دهرا لم يجرؤ فيه على السؤال عنهم كي لا يكون في عدادهم، أم انه تأكد من المصير - الموت - وما عاد يهمه سوى "التعرف" على يقين موتهم و دليله؟
وإذا كانت الصورة تبعث حس المشاركة بالتجربة كما تذكر سوزان سونتاج في كتابها الذي أصدرته في أواخر سنوات السبعينيات إذ تقول: " إن التصوير الفوتغرافي قد أصبح من أهم وسائل الوصول إلى خبرة مشتركة بالأشياء تعطي المرء انطباعا بأنه مشارك", فلنا أن نتخيل من باب المشاركة, رجلاً كردياً في واحدة من عمليات الأنفال : التشابه هنا تعاكسه الصورة ولا تعكسه : فالموتى أكثر من الإحياء و لا مجال هنا للموتى كي يدفنوا موتاهم أو يتحدثوا عنهم فعدد الأخيرين في الأنفال يبلغ من الكثرة حدا لا يتيح المجال لتصور وجود من بقي حيا كي يبحث عن ذويه حين تحين الساعة.
سأتخيل أماً هي زوجة شاعر كبير في العراق, أصابها الجنون بعد أن حُمل ابنها في حافلات الموت بعد الانتفاضة وهو طالب هندسة بعمر الورد. اعرف - أيضا ً- أماً لصبيين احدهما في الثالثة عشرة و الآخر في الثانية عشرة، لم تترك بابا لم تطرقه دون جدوى لمعرفة مصير ابنيها و عبثا كانت تعتبر ان كل طارق باب سيحمل لها خبرا، ولكن لا طارقاً كان يحمل خبرا عن "الأولاد" و لا باباً يفتح لمعرفة مصيره، وما كانت تدري أن بياض الكفن - في مقبرة جماعية- هو ما سيصادفه سواد ملبسها حين تحين ساعة اللقاء بهما ..
وعوداً على بدء اقتباس سوزنتاج من أهمية الصورة كوسيلة تبعث حس المشاركة فليتخيل احدنا نفسه"مشاركاً" في الحدث, وليضع نفسه موضع ذلك الكهل في الصورة، وتخيلوا حينها أن يبرز احد المتنطعين المتثاقفين ليتحدث ببرودة الموتى مشككاً أو نافياً صحة المقابر الجماعية! هل تبلغ بنا العبقرية مبلغ تخيّل ردة فعل "كهل" الصورة؟! أظن وبكل بساطة أن قولا كهذا لن تضاهيه مضاضة وأسى سوى ما جرى له من فقدان الأحبة ومقتلهم... فكل جحافل الموتى التي رآها ينكرها من لم يمت له احد ولم يُقتل له قريب.
وإذا كانت صورة الطفلة الفيتنامية الهاربة من النيران في زمن حرب الولايات المتحدة في ذلك البلد الآسيوي قد فعلت فعلها في تغيير الرأي العام الاميركي و العالمي فما بال صور مآسينا لا تثير لدى البعض - وما أكثره - سوى شحن ماكنات التشكيك والريبة بل والتنكر الكامل. ها هنا تبدو المسألة أخلاقية أكثر منها عقلية . فحين تتوفر الوسائل الكافية في الاستدلال العقلي على صحة شيء لن يكون الإنكار هنا سوى قضية أخلاقية تعارض الحق بالمصلحة، و علينا هنا أن نفهم الأخيرة بمعنى الارتزاق إذا كنا مولعين في إعطاء المفردات دلالاتها الحقيقية.
كما أن ثمة مغزى آخر يضاف الى هذا دلالة الإنكار. اذ يبدو أن الجرم كلما تعاظم، تعاظم معه إنكاره, لدى من يحاول أن يصطنع الضمير لمن فقدوه واقترفوا الجرم. فبدلا من الاعتراف بالجرم تتخذ الأخلاقية الجديدة كي تنسجم مع نفسها, الإنكار بديلا كي ترتاح ألذات المرتكبة من شقاء الضمير. فبعض من كان في صف المنتفعين من السلطة السابقة من العرب وليس فقط من بعض العراقيين - بل أن الأخيرين يبدون اقل حماسة واقل جرأة في الإنكار من نظرائهم العرب- يحاول في من خلال الإنكار تبرئة نفسه أكثر من تبرئة النظام السابق.
ثم أن المسالة في مداها الأبعد تتخطى مسالة الإنكار العربي من عدمه لتدخل في حيز التاريخ وطرائق التعامل معه. ففي زمن التدوين البصري للوقائع و الأحداث وتعدد النواقل السمعية البصرية، لا مجال كبير للتنصل من الأفعال و لنا في كوسوفو وأفغانستان والعراق خير دليل. فرغم التعصب العرقي ومحاولات الإخفاء والتستر على الحقائق و التواطؤ الدولي والإنكار الإقليمي أحيانا, تأكدت صحة الكثير من الوقائع بسبب الدليل المصور والموثق : إبادة حلبجة والمقابر الجماعية في كوسوفو و الأفعال الإجرامية لنظام الاستبداد الذي كان يحكم بغداد. في عهد ثقافة الصورة يبدو أن التاريخ قد بدأ يكتبه الضحايا أيضا مثلما يظل صحيحا أن الانتصار له املاءاته، فلم تعد كتابة التاريخ منوطة بفئة او جماعة منتصرة فقط، بل ثمة أطراف غدت معولمة بامتياز. فما من حدث اليوم من دون بعد عولمي يضع الأطراف المتناحرة تحت الاضواء الكاشفة، و قد غدا الإعلام أيضا مدون التاريخ الحديث بشكل يومي, وليس مجرد مدونات في الكتب، اذ تلتقط النواقل البصرية و السمعية بحساسيتها العالية الواردة والشاردة.. وقد غدت الشاهد على التاريخ بما يضع الأخير نفسه في موضع شك إذا ما أنكر.. الصورة و الصوت.


حق المرأة في الدستور .. وضعية المرأة العراقية اليوم حالة دستورية مميزة في المنطقة والعالم

حميد طارش

ابعد الرجل المرأة عن المشاركة في الحياة السياسية بحجة الاختصاص، فالمرأة تختص بشؤون الاسرة التربوية والمنزلية والرجل يختص بشؤون الحكم والادارة العامة وهذا المعتقد يجد اساسه التاريخي في المفهوم الروماني لدور المرأة التي يجب ان تلزم الدار وتغزل الصوف.
وكتب القديس بولص: لا اسمح للمرأة بان تتعلم ولا ان تكون لها سطوة على الرجل بل يجب ان تبقى صامتة فآدم هو الذي خلق اولاً وبعده حواء، وليس آدم هو الذي اغري بل المرأة. ومع هذا فسيكتب لها الخلاص حين تصبح اما، اذا ثبتت على الايمان، وعلى الاحسان وعلى اقامة الشعائر بتواضع. اما الفقيه الروماني البيا فيقول (بسبب الحياء الذي يناسب جنسهن فان النساء لا يستطعن مطلقاً ممارسة وظائف رجالية) هذه المعتقدات اثرت على حرمان المرأة من حق المشاركة السياسية بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789 حيث لم تعط الجمعية الوطنية للمرأة حق التصويت في الانتخابات وكذلك الجمعية التأسيسية الفرنسية رفضت اعطاء الحق للمرأة في التصويت رغم اعلانها عن ممارسة الحقوق السياسية باعتبارها حقوقاً طبيعية لكل انسان ثم جاءت مدونة نابليون في عام 1804 لترسخ هذا الاتجاه عندما نصت على عدم الاهلية للمرأة المتزوجة. وهذا الاعتقاد وجد اثره لدى بعض فقهاء الدستور، وكما يقول الفقيه (اسما) (ان استبعاد النساء من الاقتراع السياسي ليس تحكيماً ابداً، انه ينحدر من قانون طبيعي، من تقسيم العمل الاساسي بين الجنسين الذي هو قديم، ان لم يكن قدم الانسانية ففي الاقل قدم الحضارة فيكون من غير المعقول ان نطالب لهن بالاقتراع السياسي وكذلك لو اردنا اخضاعهن للخدمة العسكرية).
الدفاع عن حق المرأة
لم يمنع تأثير المعتقدات القديمة من ظهور الآراء التي بينت بطلانها بشكل عملي. حيث يقول المفكر السياسي الفرنسي (سيس) في ملاحظاته حول تقرير لجنة الدستور في تشرين الاول 1789 (نرى نساء قد دعين إلى العرش) فمن التناقض الغريب ان لا يسلم بأنهن من بين المواطنين العاملين كما لو كانت السياسة السليمة يجب ان لا تنزع دائماً إلى زيادة عدد المواطنين الحقيقيين، او كما لو كان من المستحيل على المرأة ان تكون ذات نفع بالنسبة للامور العامة اما ما اورده الفقيه اسما فيجيب عنه الفقيه دكي قائلاً (لا انكر تقسيم العمل بين الجنسين، فهو طبيعي وكان باستطاعة اسما ان يقول انه قديم قدم الانسانية لكنه يؤدي إلى انه لا يمكن ان نودع إلى الرجال ولا إلى النساء وظائف تمنعهم طبيعتهم الخاصة ان يؤدوها فيتوجب اذن اثبات ان التكوين الفسلجي والفكري للمرأة يجعلها غير قادرة على ممارسة الوظائف السياسية. الا انه من الاكيد ان لا احد يستطيع ان يقدم هذا الدليل، وتجدر الاشارة هنا إلى ان اهم اسباب حرمان المرأة من حقوقها السياسية قائم على التصور بعدم المساواة بين المرأة والرجل بالرغم من بطلان هذا التصور وما يعزز التمسك بعدم المساواة ارادة الرجال بالمحافظة على مصالحهم وامتيازاتهم بعيداً عن تنافس المرأة وهذا ما اكد صح الاستفتاءات السويسرية على مشاركة المرأة حيث تبين ان اكثر المعارضين لهذا الحق هم من الرجال.
ويؤكد كثير من الباحثين ان هذا الشعوء عام وليس طبقياً او حزبياً بل النظر اليه في هذا الاتجاه لا يخلو من تناقض، حيث غالباً ما تؤكد الاحزاب العلمانية على حق المرأة الكامل في الحياة السياسية بينما يذهب تصويت المرأة للاحزاب الدينية والمحافظة في الغالب، وهذا ما ادى إلى قيام الاحزاب العلمانية، بالعمل على خلاف رأيها بمشاركة المرأة في الحياة السياسية خلال الجمهورية الفرنسية الثالثة حيث وقفت وعملت على عدم مشاركة المرأة خوفاً من اعطاء صوتها للاتجاه الكاثوليكي الذي كان في تنافس حاد معه.
الاعتراف بحق المرأة دستورياً
ويبقى دور المرأة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يفرض ضرورة مشاركتها الفعلية في الشؤون العامة وتحملها الاعباء السياسية سيكون في مصلحة الرجل نفسه، كما ان هناك الكثير من المسائل الاجتماعية التي قد لا تحظى باهتمام الرجال ستتولى المرأة عند مشاركتهم الاهتمام بها وتجنب مساوئ اهمالها، واذا كانت حقيقة التصويت هي الدفاع عن مصالح معينة قبل ان تكون تعبيراً عن آراء معينة فان هذا يتطلب بالضرورة اشراك المرأة في التصويت للدفاع عن مصالحها وحقوقها، وهذا ما ادى إلى تفهم ضرورة مشاركة المرأة في الحياة العامة وحماية الحق من خلال النص عليه دستورياً وقانونياً.
وكانت ولاية وايومينك الامريكية اول من اعطت حق التصويت للمرأة في عام 1890 ثم نص التعديل التاسع عشر للدستور الفيدرالي في عام 1920 على (حق تصويت مواطني الولايات المتحدة لا يمكن ان يرفض او يقيد من قبل الولايات المتحدة او من قبل أي من الولايات، بسبب الجنس)، وفي انكلترا امتلكت المرأة حق التصويت والترشيح بشكل متساو مع الرجل في عام 1928، وفي فرنسا نص دستور 1946 على ضمان حقوق المرأة في كل الميادين بصورة متساوية مع الرجل، اما في الدول العربية فلا توجد حقوق سياسية اصلاً للرجال فما بال النساء ولا يمكن باي حال من الاحوال التطرق إلى النصوص الصورية لهذه الحقوق فهي اولاً صادرة عن سلطات غير شرعية، غير منتخبة من الشعب الذي هو مصدر السلطات، وثانياً تمثل نوعاً آخر من الاساءة للانسان العربي والاستهزاء به، ويستثنى من هذا الوضع العربي الشاذ واللا شرعي، المرأة العراقية التي كفلها الدستور العراقي بتحديد نسبة تمثيل واجبة للمرأة العراقية في اشغال مقاعد مجلس النواب مع ضمان حقها في التصويت والترشيح وما نراه اليوم من ظهور للمرأة العراقية في تولي حقائب وزارية. ومقاعد في مجلس النواب يشكل حالة متميزة في المنطقة والعالم اجمع.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة