الصابئة المندائيون في
الناصرية يحتفلون بعيد( البنجة) بعيداً عن شاطئ الفرات
الناصرية/ حسين كريم العامل
هنا
في المندى وفي حوض ضيق تصب فيه صنابير المياه تعمد مندائيو
الناصرية على غير عادتهم في عيد البنجة واحتفلوا بالثامن
عشر من اذار 00بعيدا عن شاطئ الفرات الذي دنست مياهه
الطحالب 00ولوثت ضفافه اكداس القمامة.
*
البروانايا
جلس حكيم سليم ونهض اكثر من مرة وهو يحدثني عن عيد البنجة
، فنحن في اليوم الاول من العيد والواجب يستلزم ان يستقبل
رئيس مجلس الطائفة مهنئيه من الصابئة والمسلمين الذين
توافدوا على المندى منذ ساعات الصباح الاولى.
- الله بالخير .. بادر سليم ضيفه والتفت نحوي ليواصل
حديثه عن عيد البنجة قائلا :
تعتبر البروانايا او البنجة من اسعد ايام السنة على
الاطلاق وهي خمسة ايام بيض تجلت فيها حكمة الخالق بخلق
وتكوين عوالم النور والارواح الاثيرية الاولى وفيها تفتح
بوابات النور وتنزل الملائكة والارواح الطاهرة ليعم نورها
الارض 0
لذلك فان الايام المقدسة لاتحتسب ضمن ايام السنة ولا تحتسب
من العمر ايضا كلها نور وليس فيها ليل فهي يوم واحد
لايداخله ظلام تبتهج فيها الانفس والارواح لانها سر الرب
الخالق ( مسبح باسمه ) لذلك فانها من حصة النفس المعرجة
الى اصلها ،الحياة الاولى وايامها كالاتي :
اليوم الاول ( ايلايا ربا
–
الرب العظيم ) واليوم
الثاني ( مارا ادريوثا
–
رب العظمة ) واليوم
الثالث ( مندا دهيي
–
عارف الحياة ) واليوم
الرابع ( ادموث كشطا
–
رب الحق ) واليوم الخامس
( المياه الحية الجارية ) 0
وتقول الليدي دراور عن البنجة ما نصه :
( يقام في هذه الايام الخمسة الكبيسة اكبر عيد عمادي نهري
وتأتي في وقت ارتفاع مياه النهر خلال الايام الربيعية
الدافئة وقد جاءت في اعوام 1932
– 1933
– 1934
-1935
في الخامس من نيسان لكنها جاءت في الرابع من نيسان عام
1936 ) 0
وتاتي البنجة بعد الثلاثين من شهر شمبلته المندائي وقبل
اليوم الاول من شهر قينه وايامها غير متطابقة مع التقويم
الميلادي فهي تتغير كل اربعة اعوام لكون اشهر التقويم
المندائي تتكون من ثلاثون يوما فضلا عن الايام الخمسة 0
والبنجة هي احتفال ديني اكثر مما هي عيد اذ تجري فيها
احتفالية تعميد لكل الصابئة في الماء الجاري وتقام في هذه
الايام التي اخذت اسمها من اللغة الفارسية الوجبات الطقسية
( اللوفاني ) على روح المتوفى وتشمل تقديم اللحم والسمك
حسب قدرت اهل المتوفى وكذك تقدم الصدقات للمحتاجين في هذه
المناسبة في حين يعد الزواج وممارسة الجنس وشرب الخمر ولعب
القمار من المحظورات في هذه الايام الطاهرة.
* التعميد
اكثر ما يميز الصابئة المندائيين في اعيادهم هو ملابسهم
البيض ( الرستة ) وارتماسهم بالماء والبنجة من الاعياد
التي تعتمد في طقوسها كثيرا على الماء الجاري فمنذ ساعات
الصباح الاولى اخذ الصابئة يتوافدون على المندى وهم يرتدون
رستهم البيض التي تتكون من خمس قطع هي ( الكسويا
–
القميص ) و ( الشروال
–
السروال ) و(البرزنقا-
العمامة ) و( النصيفة
–
الوشاح ) و ( الهميانة )
وهذه الاخيرة عبارة عن حزام من الصوف يتكون من 60 خيطا وهو
اقدس جزء في الرسته.
وقد حدثني نعمان جوبان عن طقوس البنجة قائلا :
تبدأ طقوس البنجة بالوضوء ( الرشامة ) والصلاة ( البراخا )
حيث يقف المندائي على الشاطئ ويتوضأ ثلاث مرات وذلك بغسل
يديه ووجهه ورأسه بالماء الجاري ورش الماء على ركبتين
وبعدها يقيم الصلاة صلاة الصبح فقط فايام البنجة كلها نهار
حسبما يقول جوبان كونها اياماً نورانية ليس فيها فرق بين
الليل والنهار 0
ويواصل جوبان حديثه ليشرح طقوس التعميد قائلا بعد اداء
الصلاة يقرأ الاشخاص المراد تعميدهم تراتيل خاصة طلبا
للرحمة وهم ممسكون بالدرفش ( درافشاتاقنا ) او الراية
المتقنة وهي عبارة عن غصنين متقاطعين ملفوفين بقطعة من
الحرير الطبيعي الابيض تعلوهما سبعة اغصان من الاس
0والدرفش يعني انتشار النور والمحبة والسلام والحياة في
الاتجاهات الاربعة. وبعد اتمام التراتيل ينزل المتعمد الى
الماء من يسار الترميذة او الكنزفرة ( رجل الدين ) ويستدير
الى اليمين و( يطمش ) أي يغطس ثلاث مرات في الماء ، يتناول
بعد ذلك ثلاث كؤوس من الماء من رجل الدين الذي يمسك بعصا
من الزيتون ( مركنة ) وقنينة من الماء المقدس كاسان
يشربهما المتعمد والثالث يرشه على جسده وهذه الجرعات تمثل
الروح والنفس والجسد ، واثناء طقوس التعميد يقوم رجل الدين
بنقل غصن الاس من الخنصر الايمن للمتعمد ليضعه فوق الجبهة
تحت العمامة وعموما لا يجور لرجل الدين تعميد اكثر من شخص
في ان واحد كما لا يمكنه تعميد الحائض والمراة الحامل ،
وينزل المندائيون فرادى للنهر لغرض التعميد وينتظرون
الاخرين بعد خروجهم من الماء وهم جالسون طيلة فترة
الانتظار على مصاطب خشبية اعدت لهذا الغرض فلا يجوز
للمندائي الجلوس على الارض اثناء التعميد ، وبعد فترة
انتظار قصيرة يتم طقس اخر هو الدوران ثلاث مرات حول
الطريانة من اليسار الى اليمين ايضا ، والطريانة موقد
لاشعال البخور ينتصب بجوارها الدرفش ولا تتم طقوس الدوران
الا بعد خروج رجل الدين من النهر وتتم جماعيا بحسب اسبقية
خروج المتعمدين من الماء ويشير السيد جوبان الى هذه
الالتفافه من اليسار الى اليمين على انها انتقالة من
الظلام الى النور وفي هذا الطقس يرسم رجل الدين على جبهة
المتعمد رسم الحي العظيم مستخدما زيت السمسم ويبدأ بقراءة
التراتيل والادعية لطلب الرحمة وغفران الخطايا ويرددها
وراءه المتعمدون كما يقوم باطعام المتعمدين ( البهثة
والممبوهة ) أي الخبز والماء المقدس.
ويقول الترميذة رعد كباشي في تحقيق سابق عن الارتماس
بالماء ( الماء هو الذكر والارض هي الام والانسان حين ينزل
الماء يصبح جنينا وبعد التعميد يولد الانسان من جديد لان
التعميد يغفر الاخطاء غير المقصودة اما المقصودة فغفرانها
عند الله 0
* تعميد الاواني
اثناء مراقبتي لطقوس الاشخاص شاهدت عدة اشخاص يحملون صررا
تحوي اواني منزلية (قدور وصواني وصحون وسكاكين) من غير
قبضات خشبية ويناولونها الى الترميذة سرمد سامي الغاطس حد
ركبتيه في حوض الماء ليديرها حوله من اليسار الى اليمين
واحدة تلو الاخرى ويتلو عليها الادعية الخاصة ، وحين سألت
ابا ميلاد المندائي ذا اللحية المخضبة بالبياض عن تعميد
الاواني اجاب انها الاواني التي يطبخ بها اللوفاني ( طعام
الغفران) وهذا الطعام يوزع على روح المتوفى لطلب المغفرة
والثواب وان لكل انية دعاء خاص فدعاء الانية المصنوعة من
النحاس يختلف عن دعاء الانية المصنوعة من الفانون.
ليس من السهل على المندائي عندما يمارس طقوس التعميد ان
يستبدل مياه النهر الحية بالمياه الصناعية المنقولة عبر
الانابيب لكن للظروف السائدة احكامها الخاصة 0
ويقول احسان جوبان خليل عن هذا التغيير غير المسبوق لقد
لجانا الى استخدام الحوض للتعميد لان مياه النهر ما عادت
نظيفة ، فتكدس النفايات على الشاطئ ونمو الطحالب والشمبلان
اثر بشكل كبير على طهارة الماء حتى انها اصبحت شبه راكدة
لا تصلح للتعميد.
وطالب خليل زيادة الاهتمام بالنهر والعناية بنظافته وتحديد
مكان خاص لتعميد المندائيين وممارسة طقوسهم 0 في حين اشار
ابو ميلاد الى عدم وجود أي اشكال ديني في استخدام مياه
الحوض في طقوس التعميد قائلا:
هناك مفاضلة في اختيار الاشياء وهناك شيء افضل من شيء
فمياه النهر بوضعها الحالي تكاد تكون اسنة وغير نظيفة
ولذلك اضطررنا الى استخدام مياه الحوض كبديل عن مياه النهر
الملوثة وقد فتحنا صنابير المياه لتظل المياه جارية وهذا
الامر اقرته المراجع المندائية العليا من باب الاجتهاد.
* انطباعات
وتحدث السيد خلدون جميل سالم احد ابناء طائفة الصابئة
المندائيين عن تاثير الاوضاع غير المستقرة على طقوس هذه
المناسبة قائلا :
ان عدم الاستقرار والمخاطر المستمرة التي يمر بها البلد
اخذت تؤثر على حياة الجميع وتنعكس سلبا على مجمل الاوضاع
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، والطائفة المندائية
كونها احدى مكونات هذا المجتمع ليست بمنأى عما يحدث ويدور
حولها فقد تسبب تردي الاوضاع الامنية وتصاعد نبرة الخطاب
الطائفي واعمال العنف بتقليص النشاط الاقتصادي لابنائها
وهجرة عدد غير قليل منهم الى الخارج كما اثر ذلك تاثيرا
مباشرا على حياتهم الاجتماعية وممارسة طقوسهم الدينية فعلى
سبيل المثال كنا نحتفل في العام الماضي على الشاطئ ، نتعمد
في الماء الجاري نضرب خيامنا ونحتفل على الشاطئ اما الان
وللاسباب التي ذكرتها فقد اقتصرت طقوسنا على المندى فقط
مما اثر ذلك على بهجة الاحتفال وانعكس سلبا على نفسية
المحتفلين0
ووافقته الرأي عدوية جوبان قائلة :
ما نلاحظه ان الاعياد السابقة افضل من الاعياد الحالية
والسبب هو تردي الوضع الامني فاعياد البنجة في العام
الماضي كانت افضل مما هي عليه الان فقد حرمنا هذا العام
حتى من التعميد في النهر بسبب تلوث المياه وتمنت جوبان ان
تكون الاعياد افضل في الاعوام القادمة 0
وعن ذكرياتها عن اول عام احتفلت فيه دينيا قالت :
في عام 1996 احتفلت اول مرة بهذا العيد ومن حينها واضبت
على ممارسة طقوس البنجة وقد كانت اياماً جميلة لا يمكن ان
تنسى 0
في حين تذكرت ميادة مانع شاهين ما كان يقوم به اجدادها في
هذه المناسبة قائلة :
اتذكر حينما كان جدي ( شاهين ) على قيد الحياة كم كانت هذه
الايام جميلة وزاهية وكيف كان كبار العائلة يقومون بعملية
الذبح وعمل اللوفاني وممارسة الطقوس الدينية على ضفاف
النهر في اجواء كرنفالية عبقة مازالت راسخة للان في ذاكرتي
واحتفالات البنجة في هذ العام على الرغم من انها لم ترتقي
لبهجة تلك الايام الا ان اخوتنا في المهجر يغبطوننا عليها
ففي هذه المناسبة يجتمع المندائيون ليعبروا عن وحدتهم
ويجسدوا على ارض الواقع ان المندائيين اسرة واحدة ، وفي
الختام تمنت شاهين مثلما تمنى الجميع الخير والمحبة
والامان لكل العراقيين في بلد تسوده المحبة. |