الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

أول الستارة
الكثير من الفنانين، يختلف على بسام الوردي. فمنهم من كان يقول: إنه فنان، ومنهم من كان يقول: إنه شاعر، فإنتظرنا طويلاً حتى اتسع مفهومي الشعر والفن، وحتى أنبهر بهما الناس، فإذا هو لا شاعر ولا فنان، على الرغم من شواغله المتعددة في المسرح \والسينما والتلفزيون.
تخرج بسام الوردي منذ وقت مبكر من أكاديمية الفنون الجميلة، وتنقل بين الفرق المسرحية المعروفة، كالمسرح الفني الحديث والشعبي واليوم حتى استوطن في الفرقة الاخيرة، كأحد المؤسسين أو الرواد فيها، جنباً إلى اسمائها المعروفة، امثال: جعفر علي، نور الدين فارس، أحمد فياض المفرجي، مكي البدري، علي فوزي، قاسم حول وآخرين..
من يعرف هذا الفنان عن قرب، سيجد الرقة والشمائل العراقية المبثوثة في السلوك والحديث والتوجه.. هادئ الطبع، حصيف الرأي، وكفاءته عالية بلا إعلان أو إدعاء. كتب واخرج الكثير من الفنون الدرامية المرئية في القسم الثقافي بتلفزيون بغداد. لكنه، مع كل هذه الصفات الأليفة المحببة، فهو من طراز النساك أو الزاهدين.. إنه مجامل وقنوع بالقليل القليل مما يقدم له على الصعيدين الشخصي والعام.. وهكذا، ظل هذا الفنان راضياً بما يقدم له من امكانات تقنية أو فنية أو مادية.. وهذا ما جعل منه في دائرة الظل لفترة طويلة، دون أن يطالب يوماً أن يكون في مركزها، أو يقف تحت أضوائها المشعشعة الكاذبة.
نقول هذا الامر، بعد إنزواء بسام الوردي منذ أعوام طوال عن فنه وأصحابه ومريديه، معتكفاً في بيته.. يقرأ كثيراً، ويكتب كثيراً، من دون طائل.
أما أحوجنا اليوم لدعوة هذا الفنان الشريف العفيف للولوج إلى شواغلنا وإنهماكاتنا الفنية الحالية، بعد سنوات من الاضطهاد والتغييب والعزلة.. بل، ما أحوجنا الآن، أن يكون بسام الوردي في صدارة مشهدنا الفني بطريقة مناسبة وبحجم مناسب.
المحرر
 

الروائي والكاتب العراقي نجم والي:
- راعني شكل الخراب الذي حل بالإنسان العراقي.
- غراس هو الروائي الوحيد الذي فاز بنوبل وهو ليس بروائي.

دمشق ـ ابراهيم حاج عبدي
نجم والي قاص وروائي عراقي اصدر عدة مجموعات قصصية منها: “ ليلة ماري الأخيرة “ و “ فالس مع ماتيلدا “، واصدر ثلاث روايات هي “ الحرب في حي الطرب “، و “ مكان اسمه كميت “ ومؤخرا رواية “ تل اللحم “ التي أثارت ردود فعل متباينة في الأوساط النقدية وكذلك على مستوى القراء تراوحت بين السخط والرضا ، وهو يتقن الألمانية حيث يعيش في مدينة هامبورغ الألمانية منذ اكثر من عشرين عاما وله مؤلفات بهذه اللغة، كذلك يتقن الأسبانية والإنكليزية.
إضافة الى ذلك فهو مجتهد في الكتابة للصحافة العربية في مختلف القضايا المثارة سواء تلك المتعلقة ببلده العراق او القضايا التي تستحوذ على اهتمامه على الصعيد الشخصي، وهو يركز، خصوصا في مقالاته الصحفية، على سيرة الأفراد بوصفهم المحرك الأساسي للتاريخ وفي هذه النقطة يفترق فيها عن الماركسية التي ترى بان التاريخ تصنعه المجتمعات. فيما يلي حوار معه جاء بمحض المصادفة فأثناء توقفه في دمشق قادما من العراق استعدادا للعودة الى ألمانيا، زار دار المدى وقدم نفسه: “نجم والي”، رنين الاسم حرك في داخلي فضولا صحفيا، وبينما هو يتفحص عناوين الكتب أفصحت له عن رغبتي في إجراء حوار معه، لم يتردد في الموافقة، فرتبنا هذا اللقاء الذي تم على أنغام أغنية يقول مطلعها “ بلغي يا ريح عنا. . . أهل بغداد السلاما “، ومن هنا بدأ الحديث:
*بعد غياب دام اكثر من عقدين كيف وجدت العراق، كيف عانقت هذا البلد الجريح، وما الانطباع الذي تركه لديك البشر والمدن ؟
- منذ ان سقط النظام في 9 نيسان الماضي كنت أريد زيارة العراق لكنني كنت مترددا لأسباب عدة منها ما يتعلق بالوضع غير المستقر ومنها ما يتعلق بأسباب أخرى لكنها أساسية فقد كان لدي خوف من ان تتحطم صورة حلمية جميلة لدي اخترعتها وشكلتها عن البلاد احتفظت بها خلال سنوات الغربة، وهي صورة ليست مخترعة من الوهم إنما مبنية على أساس مجموعة من العوامل التي تأسست على ما أسميه بـ “الذاكرة الفعالة “ التي تفاعلت مع كل الأحداث التي جرت بالعراق وعلى أساس كل ما كنت أتخيله من تغيرات وكنت أخشى ان تكون الصورة الأصلية الواقعية غير متطابقة تماما مع الصورة التي في ذهني وحين وصلت الى العراق شعرت تدريجيا وكأنني شخص ينزل من قمة جبل الى الوادي على دراجة مسرعة يصعب التحكم بها او وقف مسارها.
وما رأيته شكل صدمة لي، ليس على المستوى غير المتوقع، بل على مستوى ما هو ابعد من المتوقع، فكنت اعلم تماما ان هناك خرابا في العراق نتيجة الحروب الكثيرة، لكن ما راعني هو خراب الذات وليس خراب البنى التحتية في المدن والأرياف والتي يمكن إعادة بنائها لكن الخراب الكبير الذي يصعب إعادة بنائه هو خراب الإنسان، وكان لدي حدود متخيلة لخراب الإنسان لكن ما لقيته يفوق كل تصور برغم انني كنت أعيش جانبا من تمثيلات هذا الخراب بالعراقيين الذين قدموا في السنوات الأخيرة الى المنافي الأوروبية حيث أعيش، لكن كنت أجد ذلك خارج المكان الذي يتحرك فيه العراقيون. ما وجدته في داخل العراق هو ان العراقيين “ مذلون مهانون “ فلم أجد إنسانا عراقيا يسير ووجهه الى الأعلى وحتى اختيارهم للألوان والملابس وحتى البيوت أصبحت ذات لون واحد وجدت الإنسان العراقي ذا بعد واحد او لا بعد له. . نمطي. . مهمش ومذل لنفسه.
*هل تقصد بان الإنسان العراقي تآلف مع واقعه المرير، حتى غدت الحياة القاسية التي كان يعيشها في ظل حكم الديكتاتور طبيعية، واعتيادية ؟
- نعم، لانه يعتقد بانه حينما يتآلف مع الحياة القاسية ويصل الى هذه المرحلة من الإذلال يستطيع ان يعيش بسلام، فأنت تستطيع العيش بسلام حينما تسمح للآخر بان يضطهدك ويشوه إنسانيتك وهذا ما حصل للإنسان العراقي المغلوب على أمره سواء على مستوى الإنسان العادي او النخب المثقفة.
ومن جانب آخر رأيت فروقات في مستوى الخراب فيما يتعلق بالبنى التحتية في المدن فالخراب في بغداد هو اقل نسبيا من الخراب الذي حل بمدن الجنوب وخصوصا البصرة المدينة التي تشكل بالنسبة لي اكثر من مدينة واقعية بل هي مدينة متخيلة بكل ما حملته من بهاء طوال تاريخها كونها كانت مدينة البحارة والحانات والليالي الاحتفائية الكرنفالية. الآن تكتشف بان هذه المدينة لم تهمل فقط أثناء حكم النظام السابق إنما خربت أيضا، فالديكتاتوريات دائما هي ضد الجمال، وتحاول ان تثبت ذاكرة أحادية خاصة بها وموديلاً خاصاً بها دائما، والموديل الذي كرس في العراق هو موديل قادم من منطقة واحدة وعنوان واحد هو: العوجة ـ تكريت، فمثلا أنا ذهبت الى البصرة ابحث عن مكانين كانا يشكلان جزءاً من ذاكرة الصبا والمراهقة واقصد حانتين كتبت عنهما كتابين هما حانة ماري وحانة ماتيلدا، فلم أجد سوى الأطلال.
*تقصد بالكتابين المجموعتين القصصيتين “ ليلة ماري الأخيرة “ و “ فالس مع ماتيلدا “ ؟
- نعم بالضبط، فجزء من مشروعي الكبير في الخارج كان يتمثل في جماليات المقاومة، فعندما تبتلى بنظام يلغي الذاكرة و تقوم سياسته على إلغاء الجمال و يجند جيشا من المثقفين و الإعلاميين داخل الوطن عن طريق الرشاوى والأموال الاغراءات المادية والمعنوية وشراء الذمم لمحو الذاكرة و لإشاعة الجهل في العراق فأنت تشعر ككاتب بان عليك ان تثبت جماليات المكان وجماليات العراق إزاء هذا الخراب الذي كان يحدث وذلك بان أخذت على عاتقي تثبيت ذاكرة البصرة والذاكرة المتغيرة أثناء الحرب مع الوقت، فالبصرة اكثر المدن العراقية التي عانت أثناء الحروب جميعا إضافة لقمع النظام وتخريبه لهذه المدينة فأخذت نماذج لهذه المدينة من بصرة الكورنيش وبصرة الخشابة والزنوج ورقص “الهيوى “ و الغناء البصري المعروف وبصرة البحارة و الموانئ و بصرة البيوت والأسواق القديمة كل ذلك حاولت إنقاذه عبر الكتابة.
*ألم تجد شيئا من هذا الزخم والجمال الذي أرشفته في قصصك على ارض الواقع ؟
- لا، فقد تغيرت ملامح مدينة البصرة وأصبحت باهتة إضافة طبعا الى أماكن أخرى، فحتى في بغداد ثمة شوارع كثيرة محيت وفي جميع المدن العراقية رأيت تغييرا و دمارا لا يمكن تصوره.
*في ضوء ما تقول، لو قيض لك ان تحاكم صدام، كيف ستحكم عليه ؟
- لو أتيح لي ذلك فلدي حكم جاهز، لكنني لا أحاكم المجرم بمنطقه بل أقول: لو كان صدام شخصية أدبية في رواية مفترضة فأنا سأحكم عليه بان يبني العراق حجرا حجرا وبالألوان من زاخو الى البصرة.
*كمثقف وروائي عراقي كيف تنظر الى مسالة الفيدرالية التي يطرحها الكرد في العراق والتي تثير وجهات نظر متباينة ؟
- أنا شخصيا مع الأكراد بكل ما يقرروه هم لأنفسهم لأنني اعتقد اننا كعرب ليس لدينا أي حق في تقرير مصير الأكراد فيكفي ما عاناه الكرد من الحكومات المركزية المتعاقبة وعندما أقول الكرد لا اعني القيادات السياسية بل اعني الأكراد كبشر، كناس، كقومية لها الحق في ان تعيش بكرامة.
وبشكل عام اعتقد ان الأكراد هم اكثر جدارة وأحقية بالحديث عن أنفسهم طالما انهم عانوا من الحكومات المركزية المتعاقبة التي هي عربية بالأساس و ذروة القمع كانت مع الحكومة البعثية.
ودعني أقول بصراحة ووضوح أنا مع الفيدرالية طالما هي خيار الكرد الآن، لكن لدي تصور للفيدرالية فهي كنظام يمكن ان توجد وجهات نظر مختلفة بشأنه والإشكال الذي يحدث لدى الكثير من العراقيين الذين يرفضون الفيدرالية يكمن في جهلهم بطبيعة هذه الفيدرالية وما المقصود بها ؟ونحن لدينا مشكلة عدم وعي وهنا أقول من منطلق المحبة والصداقة بان على الكرد ان يوضحوا الفيدرالية بدقة، بمعنى التعامل بشفافية و وضوح مع الفكرة لإزالة أي التباس او غموض قد تنجم عنها مواقف رافضة.
*لننتقل من هموم السياسة الى هموم الكتابة، فقد تشكل في المنفى أدب عراقي له خصوصيته و هويته كيف تنظر الى هذا النتاج، و ما مدى تقاطعه مع أدب الداخل ؟
- ظهرت تحت عنوان أدب المنفى تجارب مختلفة ومتباينة لكن وبصورة عامة اعتمد المنفي ـ المبدع على الاستذكار والنوستالجيا والحنين الذي وصل في بعض الأحيان الى حد البكاء على الأطلال و خاصة في الشعر، ان ما كتب في المنفى هو في غالبيته نماذج تابعة لما يحدث في البلاد و يظل على الحافة و يطرح شخصية الضحية المغرقة في الحنين للام، للحبيبة، لاماكن الطفولة، وتضمين ذلك إشارات ورموز معينة عن باب البيت والشرفة وبنت الجيران. . . وكأنما المكان يبقي ثابتا والإنسان كذلك، طبعا ضمن هذه الملامح العامة هناك تجارب خاصة ومتميزة استطاعت ان تطور الرواية العراقية بشكل حر وبالتالي استطعنا بعدها ان نتحدث عن وجود “رواية عراقية” لان الرواية التي كتبت بالداخل خلال فترة حكم صدام حسين لا يمكن اعتبارها رواية فهذه تتطلب نوعا من الحرية والنظرة العميقة للمجتمع و هذا ما لم يتوفر لها فكان أدب الداخل العراقي ـ مع استثناءات قليلة ـ أدب تعبوي، خطابي وتقريري يمجد الحروب الحمقاء تحت أسماء “القادسية” و “لهيب النار” والتي حصلت على جوائز صدام وأم المعارك...
ومن هنا ظل الأدب في الداخل يتطور بمعزل عما يجري بالفعل من كوارث. أما الأدب البديل الذي حاول ان يقاوم فلجأ بدلا من اليومي الى التاريخ وراح يتحدث عن طريق الرموز والأسطورة والخيال والعودة الى بابل والسومريين ووادي الرافدين كما فعل محمد خضير ومحمود جنداري مثلا وهو أيضا لم يكن له علاقة بعذابات الإنسان المعاصر وخراب البلاد.
وكان ثمة اعتقاد ان هناك أدباً آخر موجود بالأدراج المغلقة، مكتوب بحرية ودون رقابة داخلية لكنني كنت اشك في وجود مثل هذا الأدب لان الخوف والرعب والتهديد كان يصل الى حدود خوف الإنسان من ظله فكيف إذن للإنسان المهدد بالمحو الفيزيائي ان يكتب بحرية فهذا الشعور يمنعه من الكتابة بحرية، أضف الى ذلك ان تجارب البلدان الأخرى مثل أسبانيا فرانكو او ألمانيا هتلر او برتغال سالازار او إيطاليا موسوليني أثبتت انه لم يكن هناك أدب بالأدراج وكذلك في العراق تبين بعد سقوط الديكتاتورية ان الأدب الوحيد كان أدب التغني ببطولات النظام الذي لم يترك سوى خيار التمجيد له او الصمت او المغادرة.
*الكتابة بالنسبة لك صنعة او حرفة، ولك محاضرة في هذا الخصوص عنوانها ( الكتابة. . . اجمل حرفة في العالم ) تقول فيها “ كل البشر عندهم أياد متشابهة. الأيدي تخدم لكتابة “الوصايا السبع” و “الكوميديا الإلهية” مثلما تخدم في صنع الصواريخ والقتل بالسكين. . . كيف تشرح لنا ذلك؟
- أنا أردت ان انزل الكتابة من عليائها لسبب بسيط وهو اننا مجتمعات غير ديمقراطية لا في السياسة فحسب بل حتى في علاقتنا بالأدب. فالأديب بدوره، كالسياسي، يتربع على عرشه بعيدا عن الناس مدعيا انه في انتظار الوحي والساحرات وبانه مخلوق فوق العادة لا يشبه الإنسان المقموع الذي يعاني الهموم والمشاكل يومية والذي لا يملك ثمن علبة دخان او دواء، أنا أردت سحب هذا البساط و تعرية ادعاءات لا علاقة لها بالواقع، وثمة أمثلة كثيرة، خذ مثلا اتحاد الكتاب العرب:أشخاص جالسون في أبراجهم العاجية و يدعون الأدب ولا علاقة لهم بالأدب. الأدب صنعة و من حق أي إنسان ان يصبح أديبا لكن ليس كل من يكتب هو مبدع بالضرورة مثلما ليس كل من يصنع كرسيا يصنعه بالمهارة نفسها، بتعبير آخر كل إبداع هو صنعة لكن ليس كل صنعة هو إبداع.
* إذا فأنت تنفي مسالة الموهبة والوحي والإلهام ؟
- لا، الموهبة لا انفيها بل انفي مسالة الوحي والإلهام. أنا إنسان واقعي لا انتظر الساحرات إنما الموهبة موجودة وهذه أيضا تتشكل من خلال التجربة الواقعية اليومية وصحيح ان هناك ميلاً معيناً لدى كل إنسان منذ الطفولة ولكن لو درسناها دراسة حقيقية نكتشف لماذا الإنسان يميل الى الرسم او الموسيقى او الكتابة مثلا. هناك شيء في محيطه جعله يميل لهذا الجانب وعن تجربتي الشخصية أذكر ان الأستاذ كان يقول لنا اذهبوا الى المكتبة وادرسوا كتبا للأطفال ولخصوها وكنت الوحيد الذي يهتم، كنت أجد متعة وعلى هذا الأساس تطورت لدي الرغبة في القراءة والكتابة واذكر انني كتبت مرة قصة غريبة بطلب من المعلم عما فعله كل منا في العطلة الصيفية فقد كتبت بأنني كنت خائبا فأينما اتجهت وجدت كلمة ممنوع وفي الأخير وبعد مللي من الممنوع عزمت على الانتحار بإلقاء نفسي في نهر دجلة وعندما احتضنني النهر قال ممنوع ان تبقى في السطح، انزل الى الأعماق وعندها خرجت وقلت لن انتحر. وبعد ان قرأتها قال لي المعلم بعد مجموعة من الأسئلة: ستصبح روائيا وقصاصا ماهرا وهذا ما نسميه الموهبة أي مجموعة تجارب وخبرات مكتسبة تتجمع.
لا أؤمن بمعطى من خارج الإنسان بل هناك شيء ينمو من داخل الإنسان ويتشكل لكن لو قمع في الطفولة يمكن ان يتلاشى وهناك الكثير من الموهوبين قمعوا فلم يبرزوا، وبالتالي فان مقومات الكتابة الناجحة هي الذاكرة والخبرة والفضول بالتعلم، أي كاتب ينبغي ان يملك فضولا غير طبيعي يسمع ويشاهد ويرى ويراقب محيطه فكل ما يحدث في الواقع هو “انسيكلوبيديا” جديدة يومية تضيف له أشياء جديدة، والروائي الجيد يجب ان يكون صفحة بيضاء تتسلم أي شيء جديد ويجب ألا يعتقد ان هناك شيئاً لا يستهوي فضوله، فالكتابة تسير في الطين وتحت المطر وتتكئ على العلاقات اليومية وتوثق أي لحظة جميلة او مريرة....
*على ان يمتلك الكاتب أدواته بمهارة ؟
- نعم وبالدرجة الأولى اللغة، فاللغة هي مثل اللون بالنسبة للرسام هل يستطيع الفنان التشكيلي ان يرسم من دون ألوان ؟بالطبع لا، وكذلك الكاتب اللغة بالنسبة له وسيلة ووطن، وطني أنا هو الكتابة.
*إذا كنت تعول الى هذه الدرجة على التجربة والخبرة فأين إذا دور الخيال في العمل الأدبي ولاسيما أنت أيضا تمزج بين الواقع والمتخيل في رواياتك كما في “تل اللحم” مثلا ؟
- في العراق لا تحتاج الى كثير خيال فما حدث يفوق كل تصور و يفوق كل ما يطلق عليه الواقعية السحرية او السوريالية ففي هذا البلد كل شيء معطى جاهز والروائي الجيد بحاجة الى موضوع جيد ورغبة في القص وفي العراق هذا الشيء متوفر أي توجد مواضيع جيدة بما يكفي ففيه من الفانتازيا بحيث لست بحاجة لان تكون سورياليا او “واقعيا سحريا” او. . . كل شيء موجود اذهب الى بغداد وشاهد ستجد ان كل إنسان هو حالة خاصة وحياته هي رواية بذاتها، ولكن المسالة هي: كيف تنظر لذلك ؟ و بأي عين ؟ ومن أي زاوية ؟ للأسف نحن لدينا روايات أفكار لان الكاتب ينقل ما يعيشه بشكل يومي في الوقت الذي يجب ان يبتعد فيه عن ذلك ويبقي مسافة بين ما يكتب وبين تجربته الشخصية التي يجب ان ينظر لها بتواضع لأنها اصغر تجربة ضمن تجارب الآخرين، وهذا له علاقة بالفكرة التي ذكرتها في إجابة سابقة فعندما ينعزل الكاتب عن الناس في برجه العاجي ويقول بانه ينتظر الساحرات والإلهام فلن يكون مبدعا لسبب بسيط وهو انه ينظر الى تجربته بتعال دون ان يكترث بتجارب الآخرين لأنها في اعتقاده دون مستواه مع انها من الثقل حتى أصبحت على الأرض وبين الناس.
*“تل اللحم” أثارت الجدل، لدرجة بدت ان نقد الرواية في بعض الأحيان تجاوز الرواية الى تصفية حساب مع كاتبها، ما ردك ؟
- كونها أثارت الجدل فهذا معناه انها رواية مقروءة وبعض هذا الجدل نتج، في اعتقادي، عن ان الرواية تعرضت لمحرمات ومقدسات على كل المستويات و حينما قرأوا الرواية شدتهم بما أضافته من معرفة ومتعة، فلا أحد يجبر نفسه على قراءة رواية تتجاوز 400 صفحة من القطع الكبير دون ان يشعر بمتعة. يكاد يكون ذلك مستحيلا، التفسير الأرجح هو ان الرواية بحد ذاتها شدت القارئ سواء الذي أشاد بها او الذي شتمها.
واعتقد ان العمل الجيد يضيف متعة ومعرفة كما يقول بريخت ولدينا، فضلا عن ذلك، ثقافة الإشاعة بمعنى القول بان الرواية تتحدث عن هذا الشخص او تلك الأسرة او ذلك المكان. . . الخ وجزء من مهمة الأدب هو ان يحطم الأصنام، أنت تقرا رواية عندما تجد نفسك فيها أنا لا استمتع بعمل لا أجد نفسي فيه ففي الرواية ومنذ الصفحات الأولى أجد نفسي إما ان أكملها او اتركها لان الإنسان حر ليس مجبر على ان يقرا رواية.
*الملاحظ انك لم تنتقد من شتم الرواية بل اعتبرتهم قراءك واحترمت رأيهم ؟
- نعم فرواية تل اللحم تحتاج الى أسبوع للقراءة وهذا يعني انني أخذت أسبوعا من أعمارهم وهم غير مجبرين على القراءة، والذي شتم العمل ولم يقرأه عليه ان يصمت، وهذه مفارقة: أشخاص أرادوا شتمي فاجبروا على قراءة الرواية ودفعوا ثمنا من الوقت والجهد وأقول ثمن لانهم قرأوا عملا لشخص لا يحبونه.
*ألا تجبر نفسك في بعض الأحيان على قراءة عمل روائي ؟
- قد يحدث ذلك لأجل الدراسة وهذه مسالة أخرى أما أن أجبر نفسي على قراءة عمل لروائي مهما كانت شهرته فلم يحدث خذ مثلا غونتر غراس الذي حاولت أكثر من مرة أن أقرأ له عملا حتى النهاية لكنني اعترف الآن بانني لم أقرا له عملا واحدا حتى النهاية فهو ممل جدا و كذبة كبيرة منقولة الى عالمنا العربي ويقرأ في ألمانيا لانه ينتمي الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي ينتمي له أكثر من نصف مليون عضو وهؤلاء عليهم واجب حزبي بان يشتروا كتبه.
*كيف تفسر إذا فوزه بجائزة نوبل ؟
- غراس هو الروائي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل وهو ليس بروائي، غراس شاعر كبير ومنح نوبل في الرواية خطأ، حاول ان تقرأ طبل الصفيح المترجم الى العربية والتي تعتبر من أهم أعماله وحتى هذه لم استطع ان أكملها برغم اني تربطني به علاقة شخصية وفيها صراحة وهذا الكلام أقوله له وجها لوجه وفي العام الماضي ذهبت معه الى اليمن وكنت مترجما له وفي الغرب يحترمون صراحتك.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة