الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 


كيف ننتقل من المدرسة السلفية إلى المدرسة العقلانية؟ (1-2)
مداخلة في مؤتمر الحداثة والحداثة العربية المنعقد بين 30 نيسان و2 أيار 2004

العفيف الأخضر
في مقال باليومية لوموند نشر مدير مكتب التحليل والتوقع في منظمة اليونسكو جروم باندي مقالاً بعنوان “ مستعدون للقرن الحادي والعشرين” جاء فيه أن على الإنسانية أن ترفع أربعة تحديات يطرحها عليها القرن الجديد. التحدي الأول، أن يغدو “التعليم للجميع وطوال الحياة” أحد ركائز العقد الاجتماعي الجديد الذي ينبغي أن يعوض العقد الاجتماعي القديم لسنة 1945، عقد دولة الرفاه الذي تفكك الآن. أما التحدي الثاني فهو التنمية المستدامة أي التي تحفظ حقوق الأجيال القادمة في بيئة نظيفة وموارد وفيرة. ولا شك أن التعليم عامل أساسي في الوعي بضرورة هذه التنمية المستقبلية. التحدي الثالث هو تحدي إقامة ديمقراطية كونية. ولا شك أيضاً أن التعليم هو حجر الزاوية في تحقيق هذا التحدي. فالديمقراطية لا تُستنبت في مجتمع أميّ، وأقل من ذلك في مجتمع يكفرها. التحدي الرابع إقامة سلام يكون شرطاً مسبقاً لرفع التحديات الثلاثة. ولا يمكن لتعليم، خاصة ديني، يعتبر “الجهاد إلى قيام الساعة” مهمة مركزية للمسلمين المعاصرين، أن يساعد على رفع هذا التحدي.
بدوره، أعتبر تقرير البنك الدولي لسنة 2003 أن التعليم هو الرهان المركزي في عملية التنمية. الاهتمام بالتعليم هو إذن اهتمام بالتنمية الشاملة والمستدامة.
فيما يخصني، اعتبرت دائماً تحديث وترشيد التعليم والتعليم الديني مهمة مركزية للنخب في العالم العربي. كتاباتي بهذا الصدد منذ عام 1993 شاهد على ذلك.
لماذا هذا الاهتمام؟ إذا كان بياجيه PIAGET قال عن المدرسة الفرنسية في عهده انها تجعل العبقري موهوباً والموهوب تافهاً فالمدرسة العربية الإسلامية - باستثناء المدرسة التونسية الحديثة والعقلانية - تفعل ذلك بل وتضيف إليه، فتجعل المسالم عدوانياً والعدواني إرهابياً بسبب التعليم الديني السلفي.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تُعلّم النخب العربية الإسلامية مواطني الغد تعليماً لا يؤهلهم لمعاصرة عصرهم ورد تحدياته؟
باختصار، بسبب افتقادها للشرعية الديمقراطية، وخاصة شرعية الإنجازات السياسية والاجتماعية - الاقتصادية، راحت هذه النخب تطبق الاسلاموية بدون إسلامويين على حساب مشروع مجتمعي، الحداثةُ رائدُه والعقلانيةُ منطلقُه.
المدرسة الحاملة لمثل هذا المشروع هي مدرسة عمال الغد؛ أي التقنيين، المهندسين، الباحثين، العلماء والأطباء. ووظيفتها هي تخريج مواطنين معاصرين لعصرهم أي يفكرون بأنفسهم لا بأسلافهم ويحسنون استخدام البرهان بدلاً من سلطة النص، ويقبلون، دون عُقَد أو شعور بالذنب، مؤسسات وقيم وعلوم عصرهم العقلانية والإنسانية حتى تلك التي تتعارض مع تراث الأسلاف وتقاليدهم. مثل هذه المدرسة لم توجد بعد في العالم العربي، باستثناء تونس التي استطاعت خاصة منذ 1990 أن تعيد هيكلة التعليم الديني على نحو قطع مع المدرسة السلفية؛ مدرسة الاحتكام للنص ولظاهر النص بعيداً عن التأويل، وأكثر من ذلك بعيدا عن القراءة التاريخية للنص التي تشكل العمود الفقري لتجديد الخطاب الديني الإسلامي بتكييف الإسلام مع الحداثة بعد أن اتضح أن أسلمة الحداثة حيلة لتفادي الحداثة.
العقلانية الدينية المنفتحة هي التي ينبغي أن تكون قوام التعليم الديني المنشود في الفضاء العربي الإسلامي. فهي تُخضع النص للفحص والبحث العقلانيين؛ فتصديق النص وتكذيب الواقع ضرب من الجنون.
المدرسة السلفية تُعلّم النشء التعصب الديني بما هو رُهاب الاختلاف وإنكار الآخر حتى إعدامه، الذي هيكلَ الوعي الإسلامي، منذ “الاعتقاد القادري” [نسبة إلى الخليفة القادر بأمر الله - سنة 480 هـ]. فمدرسة العقلانية الدينية المنشودة تؤطر تعليم الدين بعلوم الحداثة، خاصة علم الأديان المقارن الذي يفتح الوعي الإسلامي على الديانات الميتة كالبابلية والمصرية .. إلخ، التي تساعد على فهم التطور التاريخي للديانات التوحيدية الثلاث؛ فبدون الديانات الميتة يبقي فهم الديانات الحية أسطورياً. السُسيولوجيا الدينية تُعلّم النشء الوظائف الاجتماعية للدين وكيفية استخدام الفاعلَين السياسييَن والاجتماعييَن له. الألسنية تعلم النشء أن النص الديني هو تناص، أي ملتقى نصوص تلاقحت عبر التاريخ، وأن كل نصٍ قابلٌ للتأويل لأنه نص مجازي؛ وهكذا يستطيع التلميذ والطالب أن يفكرا في النص المقدس بنفسيهما وأن يؤولاه حسب مصالح وحاجات الناس ومتطلبات الحقبة التاريخية. الفلسفة تقدم للنشء ما افتقده في تراثه، أي الفكر النقدي الذي يُعلمه التساؤل الخلاق بدلاً من تقديم الأجوبة الجاهزة المستوردة أو المستوحاة من تراث الأسلاف. وبالمناسبة، فالفلسفة الحديثة تُدَرّس في السنتين الأخيرتين من التعليم الثانوي في تونس حسب منهج الفلسفة الفرنسي؛ كما تُدرس في الزيتونة، مع جميع الاختصاصات العلمية الأخرى بما فيها التقنية. وحقوق الإنسان كفيلة بتحديث وترشيد الوعي الإسلامي بتطعيمة بقيم الحداثة العقلانية والإنسانية التي ظل إلى الآن مغلقاً دونها لأنها حداثة “اليهود والنصارى” الذين علمته المدرسة السلفية، وما تزال، وجوب مخالفتهم حتى فيما هو صالح له كما يقول ابن تيميه.
أولية أولويات العقلانية الدينية المنفتحة إدخال ثلاثة إصلاحات أساسية على الإسلام لتحويله إلى دين روحي لا جهادي.
ظلت المسيحية ديناً روحياً طوال القرون الأولى قبل تبني الدولة الرومانية لها كدين رسمي. خلال هذه القرون لم تكن المسيحية إلا ملاذاً روحياً يقدم للمؤمنين العزاء والسلوى عن اضطهادهم. بعد أن غدت ديناً للدولة تضاءلت روحانيتها لحساب تدخلها في الشأن الدنيوي - ضداً على الأناجيل نصاً وروحاً. ولم ينقذ الروحانية المسيحية إلا الكنائس التي لم تتبناها الدولة كالكنيسة المرقصية القبطية. أما الكنيسة الرومانية فقد تحالفت مع الدولة فانغمست في جميع ممارساتها الميكافيلية والحربية، ولجأت إلى حيلة مكشوفة: تأجير محاربين ليخوضوا الحرب نيابة عنها. وكانت محاكم التفتيش شاهداً على تخلي الكنيسة الكاثوليكية عن الروحانية المسيحية. لم تعد الكنيسة لهذه الروحانية إلا بعد أن فصلت الحداثةُ الدينَ عن الدولة، فأرسلت رجال الدين إلى هدوء الأديرة كما كان يعيش أسلافهم الرسل.
بدوره لن يصبح الإسلام ديناً روحياً إلا إذا انفصل، أو فُصِل، عن الدولة وممارساتها الدنيوية. فَصْل الروحي عن الزمني في الإسلام يتحقق بشرطين شارطين: مصالحة الإسلام مع نفسه ومصالحة الإسلام مع الآخر. مصالحة الإسلام مع النفس تعني الاعتراف للمرأة بإنسانيتها على قدم المساواة مع الرجل بإحلال القانون الوضعي محل الأحكام الفقهية التي تعتبرها ناقصة عقل ودين وقاصرة أبدية. فعندما يفتي، منذ أسابيع، مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز الشيخ بأن قيادة المرأة للسيارة مماثلة لارتكابها للزنا المستوجب لحد الرجم فهو يعطي للعالم الصورة الحقيقية والمذهلة للإسلام غير الروحي: إسلام عداء المرأة والعقوبات البدنية. مصالحة الإسلام مع الآخر تتطلب، من جهة، إحلال الدستور الحديث الذي يعترف لجميع المواطنين بحقوق المواطنة بغض النظر عن الدين محل أحكام فقه الذمة الذي مازال يعتبر المواطن غير المسلم نصف مواطن أو صفر مواطن؛ كما يتطلب من جهة أخرى إحلال القانون الدولي محل فقه تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب ودار كفر.
كيف نحقق ذلك؟
بأن نلغي من التعليم الديني والخطاب الديني وقوانيننا ومؤسساتنا كل ما هو زمني عبر قراءة جديدة للإسلام، في المناهج المدرسية والخطاب الديني، تنطلق من واقعة أن نبي الإسلام كان نبياً تنحصر رسالته الروحية في التبليغ “وإن تولوا فإنما عليك البلاغ” [20 آل عمران]. وَرَد حصرُ رسالة النبي الروحية في التبليغ في 13 آية كلها في سور مدنية، كما وردت بصيغ أخرى في عدة آيات منها “فذكّر إنما أنت مُذكر” [21 الغاشية]. إذن رسالة نبي الإسلام الروحية تنحصر في التذكير، أما “السيطرة” أي الحكم فمهمة الحاكم الدنيوي. آيات الإسلام الروحي المُبلغ والمُذكر تلتقي مع الآية الإنجيلية التي انطلقت منها المسيحية لقبول فصل الزمني عن الروحي “أعطِ ما لله لله وما لقيصر لقيصر”. لكن بعد الهجرة إلى المدينة غدا محمد نبياً وقائداً لجيش ورئيساً لنواة دولة كونفيدرالية سماها “أمة”، وهي كلمة عبرية تعني القبيلة. وهكذا فممارساتُه العسكرية والسياسية والآياتُ التي قننتها ليست عابرة للتاريخ بل هي، كأي عمل بشري، بِِِنت عصرها وتنتهي بنهاية العصر الذي أنتجها. آياتُ السيف والجهاد والعقوبات البدنية والمعاملات الدنيوية آياتٌ زمنية لم تَعُد متطابقة لا مع حاجات ومصالح المسلمين وغير المسلمين ولا مع قيم العصر ومتطلباته. نَسْخ القرآنِ نفسِه لبعض آياتِه اعترافٌ صريح بأنها آياتٌ زمنيةٌ نُسِخت لأن أحكامَها غدت متقادمة. وهكذا فَهِم الصحابة الآيات الزمنية فنَسَخ أبو بكر آية المؤلَفة قلوبُهم “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم” [60 التوبة]. يقول الطبري عند تفسيره الآية في رواية عامر “كانت الرّشى [جمع رشوة] على عهد النبي، فلما ولي أبو بكر انقطعت الرشي”. ونَسَخ عمرُ بن الخطاب وعليُ ابن أبي طالب ومعاذُ بن جبل آية الفيء “واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمُسه وللرسول” [41 الأنفال]. وبالمثل نسخ الفقهاء آية وجوب كتابة عقد الدَين “إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمي فاكتبوه” [282 البقرة]. ونسخ الونشريسي استثناء آل النبي من الزكاة. جميع هذه الآيات والأحاديث المنسوخة بررها الصحابة والفقهاء بحجج عقلية: برّر أبو بكر نسخ آية المؤلفة قلوبهم قائلاً: “قَوِى الإسلامُ ولا حاجة لنا فيهم”. وبرر عمر بن الخطاب نسخ آية الفيء في رسالته إلى المقاتلين “بمصلحة الأجيال القادمة”: “إذا أخذتم أرض السواد [العراق] فماذا سيبقى لمن يأتي بعدكم؟”. وبرر الفقهاء وجوب كتابة عقد الدين بـ”انتشار الأمية في الأمصار” مما سيتسبب في ضياع مصالح الناس. وبرر الونشريسي استثناء آل النبي من الزكاة بواقع أن إعطاءهم الزكاة في عصره، القرن التاسع الهجري، أحفظ لكرامتهم من التسول في الطرقات، وصاغ نَسخَهُ للسنةِ النبوية نظماً: “والوقت قاض بجواز اعطا/ آل الرسول من مال الزكاة قسطا”. بإمكاننا اليوم أن نقول، مثل فقيهنا الونشريسي بل أكثر منه، بأن “الوقت قاض” بنسخ جميع الآيات الدنيوية التي لم تعد متكيفة مع متطالبات عصرنا ومصلحة معاصرينا.
ضرورة الفصل بين الآيات الزمنية والآيات الروحية لم يعد مسكوتاً عنها بل هي آخذة في الانتشار في الوعي الإسلامي الحديث. يقول د. محمد عبد المطلب الهوني: “ملخص القول أن الإسلام في كثير من تشريعاته كان لا يعمل في فراغ وإنما يتعاطى مع بشر، لهم همومُهم وثقافتهم ولهم اقتصادهم ولهم نمط حياتهم، ولذلك فإن كل الآيات القرآنية التي أتت لسن قوانين المعاملات البشرية هي آنية ولا يجب أن تكون لها صفة الديمومة لأن المعنِيّ بها هم أمة المسلمين الذين عاشوا في تلك الفترة والفترات اللاحقة التي تتسم بالشروط نفسها. أما اليوم، فيجب أن نفرق بين الجريمة بمعناها المدني التي يسن عقابها الناس كلٌ حسب ظروف عصره، وبين معناها الأخلاقي الذي قد يبقي عابراً للعصور. أي لابد لنا أن نفرق بين الجريمة والخطيئة، فالجريمة يعالجها البشر، أما الخطيئة فتبقي كابحاً على مستوى الضمير وإن كان لها عقاب فهو أخروي. وهذه التفرقة أصبحت اليوم ضرورية للتمييز بين الحياة وما وراء الحياة” [من كتاب تحت الطبع:المأزق العربي: العرب في مواجهة الاستراتيجية الأمريكية، من الفصل “سوء فهم المعتقد].
تحرير الدولة من الدين يحولها إلى مؤسسة دنيوية خالصة تعالج شؤون مواطنيها بمرجعية دنيوية وعقلانية بعيداً عن القيود اللاهوتية، وذلك يعني الدستور الحديث والقانون الحديث والتعليم الحديث وتالياً مساواة المرأة بالرجل وغير المسلم بالمسلم .. إلخ، وتحرير الدين من الدولة يحوله إلى نفحات صوفية وروحية يستطيبها حتى من لا يأخذون بدين من الأديان، فالدين الروحي أقرب ما يكون إلى الفن تستسيغه الذائقات المرهفة. مثلاً أجد لذة خاصة في قراءة المتصوفة من جميع الأديان وخاصة ابن عربي المؤسس الأول لدين الحب الذي بلوره بعده بقرون فيور باخ.
التعليم الديني السائد الآن خارج تونس يناضل بقوة ضد هذه القراءة الجديدة والضرورية للإسلام اليوم لذا سأقدم نماذج من التعليم الإسلامي الجهادى المعادي للآخر بأوسع معانيه، بما فيه آخر الذات، وللمرأة وغير المسلم والعقل والحياة؛ وسأقدم بالمقابل نموذجاً من برنامج جامعة الزيتونة التي أعتبرها نواة صلبة لتعليم العقلانية الدينية المنفتحة الذي أدعو إليه.
تلقين عبادة الأسلاف
“مع طول الزمن والبعد عن آثار الرسالة، يحصل كثير من الانحراف، ويخفى كثير من السنن، وينبت كثير من البدع .. وكان الصحابة والتابعون يقفون لهذه الأمور بحزم وعلم، فلم تفلت بل قمعوها، وبينوا الحق وأزالوا الشبهة، وما من بدعة إلا ويقيض الله لها من يردها ويكشف عوارها وينصر السنة، وما من رأس من رؤوس الضلالة إلا ويقيض الله له من أعلام السنة من يتصدى له ويفضحه، ويرد عليه بدعته ويقيم عليه الحجة .. لما ظهرت نزعات الابتداع الأولي في عهد عمر الفاروق .. قيض الله لها عمر فأقام معوجها بدرته المشهورة .. وأدب الأمة كلها بقطع شجرة الحديبية .. وأدب علي من غلا فيه وحرقهم بالنار .. وأمر بجلد من فضله على الشيخين .. ولما ظهر من ينفون القدر تصدى لهم متأخرو الصحابة كابن عمر الذي حذر منهم وكشف عوارهم .. ولما أعلن غيلان الدمشقي هذه البدعة تصدى لها التابعون ..فلما أصر على بدعته قتله هشام بن عبد الملك .. وضحى الأمير خالد بن عبد الله القسري بالجعد بن درهم .. وهكذا كلما كثرت حشود البدعة تصدت لها جحافل السنة .. ولما احتشدت حشود الأهواء .. قيض الله لهم إمام السنة وقامع البدعة الإمام أحمد بن حنبل، فكسرهم كسرة لم ينهضوا بعدها إلا متعثرين بحمد الله .. وكان شيخ الإسلام ابن تيميه مجاهداً بعلمه ولسانه لأهل الكلام والفلسفة والصوفية وغيرهم من جحافل البدع الذين تصدي لهم .. ولا تزال آثاره ومؤلفاته مرجعاً لكل صاحب سنة، وقذى في عين كل صاحب بدعة” (التوحيد. أول ثانوي).
هذا النص هو أحد النصوص الكثيرة التي تلقن وعي الناشئ السعودي عبادة الأسلاف التي مثلت في اللاشعور الجمعي الإسلامي ضميراً أخلاقياً باغياً أعاق الوعي الإسلامي عن استقبال وتشرب منجزات ومؤسسات وعلوم - خاصة الإنسانية - وقيم الحداثة. وفضلاً عن ذلك فالنص يلقن أيضاً التلميذ رفض الحق في الاختلاف. فالمسلم المختلف عن المسلم السلفي يعامل كـ”مبتدع” أي ضال، إذن كعدو. وهذا ما يهيؤه لممارسة شتى ضروب العنف الرمزي والدموي فيحرق بالنار.
في سياق هذا المنطلق السلفي التبديعي والتكفيري نسوق النص التالي: “الاحتفال بمناسبة المولد النبوي هو تشبه بالنصارى فيحتفل جهلاء المسلمين والعلماء والضالون وتحضر جموع غفيرة من دهماء الناس وعوامهم ولا يخلو من الشِركيّات والمنفرات”.
وفي سياق المنطق نفسه تعبئ المناهج السعودية التلميذ لتكفير المسلم الخارج عن السلفية. فالقومية العربية في المناهج الدينية السعودية: “دعوة جاهلية إلحادية، تهدف إلى محاربة الإسلام، والتخلص من أحكامه وتعاليمه” (حديث 2 ثانوي) (..) “الفكر القومي يُسقط الدين من اعتباره .. بل إنه يعتبر الدين عائقاً في سبيل القومية” (حديث 2 ثانوي) (..) “الانتماء للأحزاب الجاهلية والقوميات العنصرية، كفر وردة عن دين الإسلام” (توحيد 3 ثانوي) (..) “لا شك أن فكرة القومية ردة إلى الجاهلية” (حديث 3 ثانوي) (..) “العالم الإسلامي أصبح بعد ما غزته أوروبا سياسياً وثقافياً، يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية، والوطنية .. والواجب أن يعلم أن هذه الحزبيات عذاب بعثه الله على من أعرض عن شرعه وتنكر لدينه” (توحيد 3 ثانوي).
في سياق تلقين الناشئة تكفير منجزات الحداثة تقول المناهج السعودية .. “الصحافة والإذاعة والتلفزيون مؤسسات منحلة الأخلاق منسلخة عن العقيدة ولا يجوز للمسلم الاستماع إليها”.
“الصحفي الذي يكتب أن الخطط التنموية تقضي على الفقر وأن تَقَدُّّم الطب يقضي على المرض .. يشرك بالله”.
“الاشتراك في أسابيع، مثل أسبوع الشجرة أو المرور، تقليد للكفار والطالب الذي يمارسه فاسق وعاصٍ”.
“ينبغي على المسلم الذي يسافر إلى بلاد الكفرة ليتعلم أو يتاجر أو يتطبب أن يقيم بينهم وهو يضمر العداوة لهم”.
مناهج التعليم الأزهرية لا تقل شحناً للوعي الإسلامي بأساطير القرون الوسطى المعادية للمرأة وغير المسلم والعقل والحياة. يقول الطبيب د. خالد منتصر:
“سنحاول أن نقرأ منهج المدارس الثانوية الأزهرية حتى نعرف مدى التخلف الفكري الذي سيحمله الخريج الشاب عند مواجهته لمستجدات العصر وأسئلته المتجددة وسنعود في تلك القراءة لكتب الفقه المقررة على المدارس الأزهرية مثل “الروض المربع بشرح زاد المستنقع” وهو للمذهب الحنبلي وتم تأليفه منذ أربعة قرون. وكتاب المذهب الشافعي “الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع” وتم تاليفه أيضاً منذ أكثر من أربعة قرون. وكتاب المذهب الحنفي “الاختبار لتعليل المختار” وهو مؤلف منذ أكثر من خمسة قرون. أما أحدثهم وهو كتاب المذهب المالكي “المقرر من الشرح الصغير” فهو مؤلف منذ قرنين! وبالطبع أول ما سيفاجئنا هو هذه المدد الزمنية البعيدة التي لابد أن تحمل معها الغريب من الألفاظ والمهجور من الأفكار التي طالما نادى المستنيرون من المسلمين بتطويرها. ومن أهم الدراسات التي ناقشت هذا التغيير دراسة علاء قاعود في كتابه إصلاح علوم الدين، وهي من أهم هذه الدراسات على الإطلاق، وأحمد صبحي منصور، وسليم العوا وطارق البشري وأيضاً شيخ الأزهر نفسه. وسنحاول التركيز على أشياء محددة بعينها في هذه المناهج نستطيع أن نخلص منها إلى خطورة تبنيها والاعتماد عليها لأنها ببساطة هي تفريخ منظم للإرهاب الخفي أو في الأقل إفراز مستمر للجمود والتزمت”.
“في القرن الواحد والعشرين يقرأ تلاميذ الأزهر عن كيفية الطلاق إذا قال الرجل لزوجته سأطلقك إذا كان هذا الطائر المجهول غراباً، ويظل التلاميذ يحلون هذا اللغز العويص عن ماذا لو طلع غراب فعلاً وما هو الحل إذا ظهر أنه أبو قردان مثلاً؟! (صفحة 377 الروض المربع). وعن حكم الخنثى المشكل الذي يجامع في نهار رمضان خنثى أخرى. أو امرأة مع امرأة بمساحقة فأنزلت، وما هو مصيرها؟! (ص 158 نفس الكتاب السابق). أو وجوب الغسل إذا أدخل الذكر حشفته أو قدرها من مقطوعها في فرج بهيمة او في دبرها (ص 9 كتاب المذهب الشافعي). أو ماذا لو أولج حيوان قرداً أو غيره في آدمي ولا حشفة له؟ (نفس الصفحة السابقة من نفس الكتاب). أو إذا خلق للمرأة فرجان فماذا يكون حكم الحيض؟! (ص 145 كتاب المذهب الشافعي). أو ماذا نفعل نحن المساكين الذين أمرنا بأن نسجد على سبعة أعظم هي الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين. ماذا يفعل من خلق برأسين وأربع أيدي وأربع أرجل؟ (ص 2، 5 نفس الكتاب). (..) ماذا يستفيد أطفالنا وشبابنا من قراءة كلمات غريبة مهجورة مثل: لا يجوز لبس السرموزه والجمجم. أو لا بأس على المرأة أن تصل شعرها بقرامل وهي الأعقصة. ويجوز المسح على الجرموق. ويجب أن يعرف عفاصها .. إلخ. أما المقاييس والأنصبة والأوزان والمكاييل التي تستعملها تلك الكتب فهي كطلاسم اللغة الهيروغليفية أو شفرات اللغة الصينية. فمازال الطلبة مطالبين بالقياس بالقلة والوزن بالرطل الدمشقي والمثقال العراقي. أو قصر الصلاة إذا كانت المسافة ستة عشر فرسخاً. والمكيال من أجل الزكاة هو الوسق الذي هو ستون صاعاً (يا سلام قال إحنا عارفين الصاع أصلاً). ولابد أن نأخذ في الاعتبار الدرهم الإسلامي الذي هو ستة دوانق”!!!
“وهذه مجرد عينة بسيطة جداً من تلك الألفاظ الغريبة المهجورة والألغاز الشاذة المطالب بحفظها وحلها الغلابة من أبنائنا وإخواننا طلبة الأزهر. أما السلوكيات والعادات التي كانت بنت وقتها فهي أيضاً مشروحة بالتفصيل الممل. والكارثة أنها تقدم في شكل أوامر فقهية واجبة الطاعة. ففي باب وليمة العرس وآداب الأكل: “الأكل مما يليه بثلاث أصابع وتخليل ما علق بالأسنان ومسح الصفحة وأكل ما تناثر والشرب مصاً .. إلخ”. وفي كتاب البيع “ يحرم التسعير ويحرم بيع الكلب”. وفي فصل صلاة الجنازة ص 328 من المقرر الشافعي “إن ترك المريض التداوي فهو أفضل” يعني الأحسن أن نلغي التامين الصحي من مدارس الأزهر ونستريح ونوفر. وعندما يذكر الكتاب شروط من تقبل شهادته يؤكد على أنه لا شهادة لمغني أو لمن يأكل بالسوق يعني باختصار لا شهادة للسيدة أم كلثوم وبالطبع هشام عباس وأمثاله من الصابئة. وطبعاً لا شهادة لحضرتك قارئي العزيز في المحاكم لأنني متأكد من أنك قد تناولت في الأقل (ساندوتش طعمية) أو (كنتاكي) في الشارع ! وبذلك تكون قد خسئت وصرت من مساخير البشر الذين لا تقبل شهادتهم حسب قوانين كتب الأزهر الشريف”.
“في بداية الألفية الثالثة يقرأ الطالب الأزهري أساطير طبية وعلمية تعود إلى القرون الخوالي مثلاً: (..) في صفحة 119 يتحدث الكتاب عن التداوي ببول الإبل. وفي ص 355 ينهي عن الكلام عند مجامعة النساء لأنه تسبب الخرس والفأفأة ! وفي ص 5 في باب الآذان يسن للمؤذن أن يجعل سبابته في أذنه لأنه أرفع للصوت. وفي ص 72 تبطل الصلاة بمرور كلب أسود لأنه شيطان. والكلام الغريب عن دم الحيض الذي يقول عنه الكتاب في صفحة 43 أنه يخرج من قعر الرحم لحكمة غذاء الولد وتربيته (..) وفي كتاب الجنائز عن علامات الموت يقول أنه يعرف بانخساف الصدغين وميل الأنف وانفصال الكف واسترخاء الأرجل ص 12 ! وهو ما اعتمد عليه الفقهاء المحافظون في تأخير قانون زراعة الأعضاء ورفض الموت الإكلينيكي الذي تحدده الأجهزة الطبية. وفي كتاب المذهب الشافعي نفس الكلام المجافي للعلم مثل يستثني من النجس الميتة التي لا دم لها سائل مثل القمل والبرغوث. وإن الماء بالليل مأوى الجن ص 76، وأن التنشيف بذيل الثوب بعد الوضوء يورث الفقر ص 69، ولابد من طي الثياب ليلاً حتى لا تلبسها الجن ليلاً ص 31 (..) وفي آداب قضاء الحاجة ص 8 “يكره حشو مخرج البول من الذكر بالقطن وإطالة المكث في محل قضاء الحاجة لأنه يورث وجعاً في الكبد”.(..) فالرعد مَلَك والبرق أجنحته يسوق بها السحاب” ص 203 (..) وفي صفحة 84 بأنه إسترخاء أعصاب الدماغ بسبب رطوبات الأبخرة الصاعدة من المعدة (..) ويواصل الكتاب تعريف الموت بأنه “زوال الشعور من القلب مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء”. أما الشرط الذي وضعه كتاب المذهب المالكي للتوأم فهو من أعجب الشروط فهو يقول في صفحة 79 “والتوأمان الولدان في بطن إذا كان بينهما أقل من ستة أشهر.”!

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة