الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

رؤية مستقبلية لإحياء مبنى القشلة

أ.م هيثم خورشيد سعيد (مهندس معماري إستشاري)

 أستاذ مساعد: قسم الهندسة المعمارية - جامعة بغداد
مقدمة:
أن التراث الحضاري المعماري لوادي الرافدين على مر العصور في حقيقته / ما هو إلا الإنعكاس الصادق للبيئة الحضارية التي سادت كل مرحلة من المراحل التاريخية المتعاقبة.
وهذه البيئة الحضارية ما هي إلا محصلة الكثير من التفاعلات بين عوامل متصلة في المكان وعبر الزمان منها العوامل الثقافية والعقائدية والاجتماعية والاقتصادية.. ويضطلع المعماري عبر العصور بترجمة هذه التفاعلات إلى عمائر لإعمار الأرض.
أن الجدل الفكري المعاصر حول كيفية تحقيق التواصل الحضاري بين (الماضي والحاضر والمستقبل في مجال العمارة) الذي تبلورت عنه اليوم مفاهيم مرادفة أخرى مثل (التراث والمعاصرة)، (البحث عن الهوية) العودة إلى الأصول. الخ، يظهر فشل الدعوات التي تميل إلى أعطاء الأولوية (للحفاظ) باتباع الوسائل التقليدية التي تكتفي بالصيانة والترميم واستعاده ما كان، وبالتالي عجز نتائجها عن الوقوف أمام عامل المتغيرات الطبيعية والانسانية وذلك بسبب الحاق التأهيل بأعمال الحفاظ بموجب نظرة ضيقة تكتفي بـ(تأهيل) كوظيفة استخدامية يتم اخضاعها وحشرها في مثل تلك النتاجات. ومن ذلك كله تبرز أهمية البحث والدراسة في مشكلة (الاحياء في العمارة).
الأهداف الأساسية في إحياء مبنى القشلة:
بمرور الزمن وتغير الوضع في البلد انتفت الحاجة التي كانت يلبيها مبنى القشلة وظهرت احتياجات جديدة وهكذا تغيرت الوظائف للمبنى والمراد هنا توضيح نقطة معينة هي أن التعامل مع مبنى بعد انتهاء وظيفته الأصلية خلال حقبة الزمن الماضية كان لا بد أن يكون بصيغة تلائم الهدف في عملية صيانة وظيفته الجديدة والتي تختلف عن وظيفته الأصلية تماماً.
لذلك يمكن تحديد الأهداف في الأساس على النحو الآتي:
أولاً: محاولة الحفاظ على المبنى والابقاء على معالمه وتنوع تضاداته التي تعبر عن اختلاف الزمن عليه.
ثانياً: ادخال نوع من التعبيرية الهادئة في التعامل من خلال المنهاج التصميمي المقترح وبشكل لا يسحق معها القيم الجمالية التي تركتها التغيرات التي سبقتها.
الاحياء في العمارة:
تأتي كلمة الاحياء في معظم المعاجم من الفعل (أحيا) وتعني، منح حياة جديدة أو عزماً جديداً. ويقابل ذلك في مجال العمارة في اللغة الفرنسية reanimation وهي في الانكليزية reanimation.
وذلك للإشارة إلى أنعاش أو بعث المباني والصروح التاريخية الحضارية واعادتها للقيام بدورها في المجتمع.
وكذلك جاء تعريف الأحياء المعماري في بحوث سابقة على أنه أعطاء حياة جديدة بمعنى إعادة الفاعلية reactivation الحيوية بشكل مقصود لعمارة معينة متروكة أو مهملة أو زائلة جزئياً أو كلياً تعود لزمن سابق ويشمل ذلك اية عملية احضار مقصودة مهما كانت بسيطة محافظة على الموضوع. الاحياء وعليه يمكن القول أن الأحياء يقابل الحفاظ وإعادة التأهيل. إن الرغبة في الإحياء والحفاظ على ممتلكات الماضي ليست بجديدة، وقد جاءت كرد فعل للتغير الذي يحدث في مدننا بدرجة من السرعة والمقياس يضحى معهما التغير ملحوظ التأثير والأثر.
إن التغير العمراني أي التغيير في البيئة يعكس وبوضوح التغيير الاجتماعي متمثلاً بالتغير في العادات والتغير في الحاجات، وما يتبع ذلك من تغييرات أخرى. أن المجتمع المتغير يخلق الحاجة إلى البيئة المتغيرة، وما لم نتمكن من إذابة التناقض بين الحفاظ والتغيير من أجل أن يتكامل الحاضر وبتعاطف مع سلفه فإن تراثنا المعمارس سيكون عرضه للضياع. أن علينا أن ندرك بأن الحفاظ بحد ذاته يحتاج إلى التغيير ليكون تأثيره فعالاً. وكذلك علينا أن نفهم التغيير العمراني ومنابعه الاجتماعية والاقتصادية الأساسية، ليكون التعامل معه تعاملاً شاملاً يعي تلك المنابع ويستجيب لها. أن سياسة الحفاظ يجب أن تهدف إلى الحفاظ على كل ما هو ذو قيمة مؤثرة على شخصية المدينة من ناحية، وعلى توجيه كل ما هو جديد ليتعاطف مع الواقع من ناحية ثانية.
يمكن تعريف الحفاظ على أنه سياسة العناية بمصدر محدد قابل للتلف (كمنطقة تاريخية مثلاً أو أبنية منفردة فيها) لتأمين الاستمرارية والكفاءة في الاستعمال. وبرغم أن الهدف العام للعملية الحفاظية يتمثل في الحفاظ على النسيج العمراني للمدينة وما يتضمنه من تكوينات حضرية مميزة تاريخية ومعمارية، فإنها وفي بعض الأحيان تمتلك خصوصية الهدف في الحفاظ على طراز الحياة المقترنة به، وفي الحفاظ على البيئة أيضاً.
قراءة في تاريخ بناية القشلة
تمتد بناية القشلة على الضفة الشرقية لنهر دجلة في محلة السراي مقابل جامع السراي وبجوار سوق المكتبات. القشلة لفظة تركية مأخوذة من فعل (قاشلاغ) بمعنى (أشتى) أو المشتى وصارت لفظة القشلة فيما يعد اصطلاحاً يطلق على (ثكنة الجند) اي مكان تعسكر الجند وعدم خروجهم للحرب في فصل الشتاء.
يعود بناء القشلة إلى زمن الوالي نامق باشا سنة (1851-1852) ومن المرجح أن بناءها قد تم في الفترة الاولى لتوليه بغداد فجعلها بطابق واحد فقط وعرفت باسم قشلة البيادة (ثكنة الجنود المشاة). وجاء من بعده الوالي مدحت باشا (1868-1872م) ليكمل بناءها ويجعل لها طابقاً ثانياً ويشيد برجاً عالياً في وسط ساحتها ووضع عليه ساعة لايقاظ الجنود ولم يتغير في هذا البرج سوى قمته التي جددت بعد أن سقطت في ثلاثينيات القرن العشرين. وقد بقي المبنى مشغولاً ومستعملاً وظيفياً منذ انشائه حتى الآن. غير أن وظائفه تنوعت بتولي الأحداث. فقد رفع العلم البريطاني فوق برج الساعة عام 1916 بعد اندحار الجيش العثماني ثم أستعمل المبنى عام 1917م مسكناً للضباط الانكليز وعوئلهم. وقد توج الملك فيصل الاول عام 1921م في ساحة المبنى، مع تشكيل الوزارات والدوائر الجديدة بتأسيس الحكومة العراقية في تلك السنة إتخذت مبنى القشلة مقراً لبعض دوائر الحكومة والمؤسسات المالية والعدلية. وهناك إشارة حول ميلاد المتحف العراقي في سنة 1923م في إحدى غرف الطابق الأول من المبنى وأستمر المبنى مشغولاً من قبل دوائر الدولة حتى أتخاذ القرار بصيانته بوصفه مبنى تأريخياً وتراثياً في عام 1989م.
الملامح التخطيطية والمعمارية
مبنى القشلة واحد من سلسلة المباني التاريخية - التراثية الممتدة على ضفة نهر دجلة الشرقي أبتداء من قبة وزارة الدفاع ثم القصر العباسي وقصر الثقافة والفنون ودار الوالي وقبة السراي والقشلة والمحاكم القديمة وجامع الوزير أنتهاءاً بالمدرسة المستنصرية. ترتبط هذه الصروح بسلسلة من الأسواق الخطية ذات الطابع التخصيصي كسوق السراي، السراجين والصفافير، شكل رقم (1) ويكون هذا المسار جزءاً مهماً في الذاكرة التاريخية للعراقيين. وعليه يفضل أن تكون هناك دراسة تخطيطية تأخذ بنظر الاعتبار النواحي المختلفة للمنطقة من الجوانب التاريخية، الخدمية، الاجتماعية، الاقتصادية كجزء من التطوير الحاصل لمدينة بغداد.
أن الواقع الحالي لهذه المنطقة يشير إلى التدهور لأهم منطقة تراثية في بغداد الرصافة ومرجع ذلك في الأساس إلى أنعدام الوعي الثقافي والحرصي بأهمية التراث.. المعمارية.. وكذلك الارتجال والتسرع في أخذ القرارات التخطيطية والتصميمية أما التأثيرات المعمارية التي طرأت على هذا المبنى فيمكن تحديدها بالشكل الآتي:
أولاً: فترة الحكم العثماني وقد جاء ذكر تاريخ إنشاء الطابق الأرضي في عهد الوالي نافع باشا 1851-1852. والمكون من كتلة على شكل حرف (L) باللاتينية، يكون الضلع الطويل إمتداد شارع جديدة حسن باشا. يتميز الطابع المعماري بالايقاع الواضح / من الخارج وكذلك الداخل (ORDER). والأسلوب الانشائي الذي اعتمد لهذا الطابق هو استعمال المواد المحلية والتسقيف بالتقبية الآجورية.
أما الطابق الأول فأنشأ بعهد الوالي مدحت باشا وأضيف للتكوين المعماري برج الساعة على محمور المدخل الرئيس شكل رقم (2).
ثانياً: فترة الاحتلال الانكليزي واستعملت فيها العقادة بالطابوق والشلمان للطابق الاول وكذلك ترميم الجزء العلوي لبرج الساعة وأضيف في هذه الفترة جناح آخر استعمل دائرة للأشغال العامة.
ثالثاً: فترة الحكم الوطني أدخل على المبنى قواطع وسقوف ثانوية داخلية كي يلائم الوظائف الادارية المختلفة.
في دراسة مقارنة قام بها الاستاذ ياسر حكمت عبد الحميد والمنشورة في مجلة (الهندسة والتكنولوجيا) المجلد 19 العدد (1) أيلول 2000م. أكد فيها تأثير عمارة عصر النهضة الإيطالية على العديد من المنشآت في العهد العثماني لتلك الفترة إذ بدأت فكرة التحديث لمؤسسات الأمبراطورية العثمانية ويتخذ الباحث من المجمع الحضري لسان مركوس (Sant Marcos) في فنيسيا أيطاليا مثالاً للمقارنة إضافة إلى مبادئ وأسس تصميمية أخرى كانت متبعة في العمارة في حينها شكل رقم (3).
وأني شخصياً أتفق إلى حد كبير مع هذا الطرح الذي يمكن تلخيصه بالنقاط الآتية:
أولاً: مبدأ الانفتاح إلى الخارج (على ضفة) نهر دجلة لمجمع القشلة مخالفاً لما هو كان سائداً بالانفتاح على الداخل (Court Yard) كما هو الحال في القصر العباسي والمدرسة المستنصرية. شكل رقم (4).
ثانياً: أسلوب توزيع الكتل والنظام الواضح (ORDER) الذي يظهر في الخارج والداخل. والمحور الرئيس في المدخل الذي ينتهي ببرج الساعة ليكون بؤرة جذب لخطوط الرؤية، والذي اعتمد في اغلب الأحيان في عمارة عصر النهضة الأيطالية.
ثالثاً: تأطير مشهد برج الساعة من خلال المدخل الرئيس (Vista) وهذه كانت معتمدة كثيراً في التصاميم للفضاءات الحضرية في أيطالية على وجه الخصوص.
الاستنتاجات والتوصيات:
من خلال الدراسة والاستعراض السابق يمكن أقتراح خطوات نظرية وكذلك عملية تطبيقية لأحياء مبنى القشلة. فمنهاج الاشغال يمكن أن يكون ثقافياً ترفيهياً وبشكل لا يحدث تلوثاً للقيم التاريخية والقيم المعمارية التي أقيم عليها، علماً أن المبنى بمساحته الواسعة يستوعب أكثر من فعالية. لذلك يمكن القول:
أولاً: دراسة منهاج تصميمي لمركز ثقافي أو مدرسة للفنون النبيلة أو متحف متخصص كأن يكون للعملات أو للملابس.. ألخ.
ثانياً: الاهتمام والتأكيد على تصميم الحدائق الخارجية والمطلة على نهر دجلة بشكل ينسجم وطبيعة التصميم المعماري وأغناء المبنى بربط الداخل مع الخارج.
ثالثاً: توقيع محطة نهرية خاصة لتسهيل عملية التواصل بين جانبي بغداد الرصافة والكرخ.
الخطوات العملية:
أولاً: أجراء عملية تنظيف وإزالة جميع الشوائب والاضافات في الموقع حالياً.
ثانياً: الرجوع إلى المسح الموقعي الذي قامت به الشركة الأيطالية بالتعاون مع مديرية الآثار والتراث.
ثالثاً: جمع كل الوثائق والتحريات المتوفرة للمبنى.
رابعاً: تحديد المبنى التحتية والخدمية للمبنى.
خامساً: دراسة المنهاج التصميمي المقترح وطبيعة الموقع.


عشرون يوماً هزت العالم: (5-6)
                                                                                         وارد بدر السالم

الرقص على الأطلال
في لحظة مبرمجة من السقوط الأسطوري لصدام حسين ونظامه الدموي في التاسع من أبريل الماضي، هرع الغوغاء من كل مفرق وزاوية وشارع وعطفة وساحة ومحلة وبيت وكوخ وفندق، يجوبون بغداد بفرح أسود قلّ نظيره بين الأفراح المعتادة، لا يعرفون كيف انتهى كابوس الحكم الظالم، وكيف انزاح جثام ثلاثين عاماً من الصدور الضيقة بمآسيها في لحظة خرجت من فك الزمن الرمادي الكالح ودخلت في زمن مجنون آخر لا يعرفون ماهيته ولونه ورائحته؛ ولولا إن الدبابات الأمريكية أخذت تجوب شارعي السعدون وأبي نؤاس بسرفاتها المزمجرة لما كان أحد قادراً على تصديق الحرية الجديدة والبهاء الجديد في أول ولادته القيصرية؛ ولمفاجأة الفرح الذي لا يُحتمل حقاً، كانت الآذان والقلوب تصغي لهاتف الانتقام يهتف في دواخلها وخوارجها، أمامها ووراءها ومن كل اتجاه، وما كانت الحرية إلا بيضة طرية لم تجف دماء الولادة عليها، وثمة مَن اندسّ بين الصفوف المتراصة وهي تتملى الحال المتغيرة في فضاء الحرب، وثمة مَن رأى الدبابات الأمريكية تقتحم المعاقل والأسوار وأيدي جنودها تومئ الى الحشود وتحضها على الاقتراب؛ فقد ولّى عصر الخوف وجاء عصر الخراب.. هرب صدام حسين ورعيانه ورعيته وحلّ عصر الرقص على الأطلال، ومن صوت الى صوت كان الجميع يجربون الحناجر وقدرتها على الصياح، وكانوا يجربون الأجساد وعضلاتها ويتجرؤون على عرين السد المتمثل في كل مكان، وليس من المصادفات أن تكون (اللجنة الوطنية الأولمبية العراقية) أول عرين يُلتهم بكامله ! وأول بيتٍ رئاسي يهدونه على أعقابه ثأراً لزيف الرياضة التي اضطلع بها الولد عدي صدام حسين وهو يبني مجده الأزلي في هذا الصرح الذي يقوم أساساً على الرجولة والأخلاق والفروسية، وليكتشفوا لأول مرة في العالم أن هذا الصرح الكبير عبارة عن سجن كبير يضم غرفاً للحبس وأخرى للحجز وثالثة للتعذيب، مزودة بأحدث آلات التعذيب مخصصة لرياضيين موهوبين زهدوا بمتع الحياة العابرة وانتموا الى فضاءات الشباب الطرية؛ فأية رياضة يريد بناءها ذلك الكسيح المعاق ؟ وربما تشجعت جماهير الغوغاء وهي تكتشف تلك المفارقة غير المتوقعة في هذا البناء الشامخ بطوابقه المتعددة، الأمر الذي جعلها تزحف وهي تنضم الى بعضها لتشكل جماعات وجماعات طاردة كل المخاوف والمحارم، مستدلة بضخامة الدبابات الأمريكية التي تتناوب في الظهور والاختفاء بين الجموع المهيّجة، ومنتمية الى بربرية محلية ولدت في لحظتها ونمت وكبرت وتوسعت ودخلت الى أضيق الشوارع كما دخلت الى أوسعها في أكبر عملية ثأر بشكل سطو ونهب وتخريب وحرق؛ ترافقها أصابع لئيمة تنير أمامها ما عَتَمَ، وتفتح لها ما انغلق، وتفك لها ما اشتبك، وتدلها على الأهم بدلاً من المهم!!
“هذا الغزو الداخلي الذي رافقته أولاً بأول في رصافة بغداد بدا بتواطؤ محسوب بين طرفي المعادلة، الغزاة يزمجرون بدباباتهم في الشوارع الرئيسة مستعرضين عضلاتهم بعد إن دخلوا بغداد بلا قتال؛ والغوغاء الذين شكلوا طرفاً مساعداً للغزو الأجنبي عندما صفقوا للمحتلين ورفعوا أيديهم محيين انتصارهم الباهر على صدام وشلته المجرمة؛ بل كانت طوابير من النساء يقفن على الأرصفة ملوحات لشباب المارينز بأيديهن ومناديلهنّ في أغرب حالة من حالات الحروب : أن يصفقن لمحتلي البلاد !!! فيما كان الجنود الأمريكيون غير مصدقين هذا الواقع الغريب، وكانت علامات الذهول والاستغراب مرتسمة على وجوههم الصغيرة أول الأمر؛ لكنهم فهموا لاحقاً؛ وكان عليهم أن يفهموا هذا جيداً؛ إن صدام حسين تسبب في كل هذا البلاء، وغيّر حتى من الشعور بالوطن والمواطنة لمجرد التخلص منه بأية وسيلة حتى لو أُحتلت البلاد”!! غزوان في وقت واحد، أحدهما أكثر خطراً من الآخر. الأمريكيون أقفلوا على هدفهم الثمين غير مصدقين سهولة حصولهم على هذا الهدف، وغوغاء الناس تواطأت مع الغزاة واندفعت الى الفوضى التي عمّت الأرجاء، لتلتهم كل ما يصادفها بلا مشقة أو عناء، وكانت الكثير من الوجوه التي أراها على شاشات الشوارع وجوهاً مفرّغة من الرحمة، قاسية وبليدة، شرهة، تنعكس من داخلها روح انتقامية فظّة، وليس من الصعب أن تعرف مَن هي الوجوه المجرمة والمثقلة بالجريمة، أو المقبلة على أية جريمة ممكنة، وكان التداخل السكاني يتضاعف مع الوقت بعد شيوع حالة الإطمئنان واللصوصية، فتختلط مرايا الشر بغيرها وتمتزج العيون واللحى والشوارب والأنوف والأفواه والأسنان بوجهٍ واحد لا مفر من الاعتراف بقبحه وهمجيته، ويصبح كل شيء مشاعاً، بلا تقديس أو هيبة. مشروعاً للنهب والسلب والحرق في نهاية المطاف مهما عظم أو صغر شأنه؛ وكان كل شيء واضحاً منذ يومه الأول من إن بغداد عارية وقد سقطت عنها ورقة التوت، وإنها مقبلة على أيام عصيبة في ربيعٍ معتم خرج من سياق الفصول الطبيعية ودخل في فصول الجريمة المنظمة التي تديرها مافيات مدرّبة لمثل هذه الأوقات المنفلتة..
“حيّرني رجل يقترب عمره من الستين عاماً؛ فعلى مدار يومين أراه يحمل على ظهره النحيل ما ثقل من الأثاث المنزلي ويختفي في أزقة (الميدان) ثم يعاود الظهور وهو اكثر حماسة من غيره ويتدافع مع الآخرين لينقل من جديد قنفة أو كرسياً أو طباخاً أو ثلاجة أو سريراً، وكان خط سرقاته موزعاً بين مبانٍ حكومية مختلفة وعلى امتداد منطقة الوزيرية، وكان من الثابت لكثيرين من الذين يتفرجون على شعب يسرق شعباً أن يشمئزوا لمنظر الرجل الستيني المنهمك باللصوصية العلنية دون أن يخجل من كبر سنه ولا على شيبهِ الغزير؛ وقد تمكن بعض الشباب من مشاكسته في نهاية الأمر وهو يحمل بفرح الأطفال بطانيتين وشرشفاً وبعض الأدوات المطبخية، وكان الرجل قد وجد ظلاً ليستريح ويدخن سيجارة سومر، كما كان واضحاً في ختام سرقاته المكوكية بين الدوائر الحكومية القريبة من الميدان، وقال إنه الآن مطمئن على (مستقبله) ما دام صدام حسين قد سقط هو ونظامه، وهذا الذي يسرقه منذ يومين هو حصيلة انتظار دام ثلاثين عاماً، لأنه لم يستطع أن يوفر أثاث بيت صغير طيلة ثلاثة عقود حتى أنهكته الأمراض في الغرف المؤجرة بين الفنادق، ولم تقبل به أية امرأة، وما استطاع أن يحصل عليه بعد سقوط النظام هو حصته المسروقة منه منذ ثلاثين عاماً ‍؟
“تبرير ظريف ولقطة لا تحتاج الى وقفة مطولة؛ فهذا الرجل نموذج لسلوك ما بعد الحرب الذي يحمل معه أسبابه الموجبة والسالبة، وبالتالي جاهزية أفعاله المختلفة؛ ولكن ما بالكم بمن يسرقون (العقول الإلكترونية ) للمحولات الكهربائية ؟ وكيف يتمكن رجل مثل هذا أن يصل الى مثل تلك العقول وينتزعها ؟ وماذا يفعل بها ؟ وما بالكم بمن يسرقون حلقات خاصة تشبه الفواصل الكهربائية بين سكك الحديد ؟ هل فعلها رجل مثل هذا جارَ الزمان عليه ؟ وماذا تقولون عن زمرة تسرق مفكات وصواميل من حقول النفط في البصرة ؟ هل يفعلها جهلة ؟ أم (وفد) إليها مَن يعنيه الأمر ؟؟
”لماذا بقيت بناية وزارة النفط سالمة من العبث والسرقة والتخريب والحرق حتى هذه اللحظة!!
“مَن سرق المتحف العراقي ؟ هل فعلها ذلك الرجل الستيني الباحث عن غرفة عرسه وهو في خريف العمر ؟
“ومَن سرق دار المخطوطات ؟ هل فعلتها امرأة جاهلة لا تقرأ ولا تكتب ؟
“ومَن سرق وأحرق المكتبة الوطنية ؟ هل فعلها غوغاء وصعاليك وشطار وعيارون ومجرمون وهاربون من الخدمة العسكرية ؟ “مَن سرق ضفاف دجلة ؟ هل فعلها الشعراء والعشاق والحالمون ؟
“في خضم هذه الأسئلة ثمة أجوبة منطقية فعّالة تعين كثيراً للوصول الى شيء مهم من الحقيقة التي أرادوها أن تضيع وسط الحرائق ويطمسوا معالمها بين الأنقاض؛ ولما لم نكن، ومعنا القارئ الكريم، في لجنة تحقيقية لكشف الجناة والفاعلين، فإننا سنعزف عن أسلوب التشكيك، ونقارب بين حقائق الأرض التي شاهدناها عن قرب ولمسنا تفصيلاتها على نحوٍ مؤلم من خلال عرض سريع لخراب بغداد في التاسع من أبريل وما بعده....
لصوص ورايات

كل لص عليه أن يحمل ما يثبت لصوصيته : أن يرفع راية بيضاء ! وكل سيارة ترتكب السرقات من دوائر الدولة عليها أن ترفع راية بيضاء أيضاً ! وبهذه الطريقة اتفق الغزاة واللصوص على تعرية بغداد واغتصابها وقتل روحها وإحالتها الى هشيم تذروه الرياح، ولعل امرأة حمقاء قد عبّرت عن هذا الإتفاق بالامتنان الكبير لجيش الاحتلال الأمريكي وهي تقبّل يداً ممدودة لأحد جنود المارينز في أولى لحظات الغزو الداخلي !! وقد شكّلت تلك اللقطة السينمائية المتخاذلة، بل العاهرة، ضوءاً اخضرَ للهجوم على دوائر الدولة الرسمية وشبه الرسمية؛ وإذا ما كانت تلك اليد الممدودة للجندي الصغير إيذانا ليومٍ بغداد الأسود فإن تلك اليد القذرة كانت تؤشر الى (( آخرين )) لا نراهم، كانوا كالجميع يضعون شاراتٍ بيضاء ويمتطون السيارات ويدلفون الى.... الى ما لا يفكر به الحرامية عادة، ويتوزعون بإيعازات صارمة ومستعجلة الى أمكنة تم تأشيرها على خرائط المعركة باللون الأحمر، وها هي الآن على الأرض حقيقة ماثلة ينبغي التعامل الفوري معها في لجّة الفوضى وحمأة السرّاق الذين وجدوا إن الدولة بلا دولة ! وإن عصر الأمان كان صعباً وقاسياً !! وإن اللصوصية هي الطريق الديمقراطي الذي أخفاه صدام حسين ثلاثين عاماً عن الشعب المسكين الذي كان يتضور جوعاً وعطشاً!

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة