اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

العراق: دولة دينية.. دولة مدنية

فالح عبد الجبار

لم يكد فرز أوراق الاقتراع يبدأ، حتى تعالت أصوات باسم ثلة من علماء الحوزة تنادي بولاية الفقيه مبدأ للجمهورية الخامسة في العراق. وبذا بدأت المعركة الدستورية قبل تشكيل المجلس التأسيسي، لتحديد ماهية النظام السياسي المقبل.

المناداة بولاية الفقيه ظهرت من دون اسماء محددة. ومرت من دون أي اعتراض سياسي او فكري، او أي ايضاح من جهة المرجعية العليا، نعني بالتحديد السيد السيستاني.
نعرف من فتاوى سابقة، ان السيد السيستاني حرم على رجال الدين الشيعة احتلال أي منصب حكومي، مثلما افتى بوجوب اسناد كتابة الدستور إلى هيئة منتخبة، وذلك منذ الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) 2003 .
وقتها نشرت صحيفة "المؤتمر" البغدادية تلك الفتوى بمانشيت عريض كأنها البشارة المنتظرة. نعلم من تطمينات كثيرة ان السيد السيستاني شأن استاذه وراعيه آية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي، لا يقر بالولاية المطلقة للفقيه، فهو،حسب هذا المنطوق، يرى ان الولاية، أي الحكم السياسي، حق محصور بالامام الغائب، لا يدانيه فيه احد. وهذا الموقف استمرار للرؤية التاريخية في الفقه الشيعي.
لم يخرج على هذه الرؤية غير فقيهين، الاول هو الملا احمد النراقي (ت 1828) الذي كان اول من يصوغ مفهوم "ولاية الفقيه" تطويرا لفكرة ان الفقيه نائب الامام الغائب. والثاني هو السيد الخميني، الذي وسع الفكرة لتشمل الميدان السياسي، او بالتحديد ليضع الفقيه في موقع الرقابة على الدولة.
وثمة لبس في ما يخص فهم الخميني لشكل تطبيق مبدأ ولاية الفقيه. الواقع ان الصيغة الحالية، كما نراها مجسدة في دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية، لم تكن واردة في ذهن الخميني يوم آب ظافراً من نوفيل لوشاتو إلى طهران بداية عام 1979 فقد اقال بختيار من منصبه باسم الشعب (حسب منطوق بيانه) لا باسم الامام ولا باسم باريه. ويوم اسند رئاسة الوزراء إلى الليبرالي المخضرم مهدي بازركان، ابلغ مساعديه، حسب رواية احدهم (السيد محمد الموسوي البروجنوردي - عميد كلية الفلسفة في طهران حالياً) بان "ولاية الفقيه قد تحققت" وعبر عن عزمه الذهاب إلى قم ليواصل تأمله الروحي. هذه واقعة معروفة لدارسي تاريخ ايران، غير ان النسيان يطويها لما تثيره من اهواء متضاربة، ابرزها هوى السلطة والثراء. وإذا كان الخميني، صاحب ولاية الفقيه، يرى دوره اخلاقياً تعبوياً، فكيف عدل عن رأيه؟ الجواب يأتي من الاتباع المقلدين من صغار ومتوسطي رجال الدين الذين احاطوا به، ووجدوا سلطة الدولة النفطية تقع غنيمة سهلة، فصعب عليهم مفارقتها.
هذا الوسط الاجتماعي المحكوم عليه باقتسام موارد الخمس الشحيحة، ليس منزهاً عن الغرض وهو يمثل فئة اجتماعية طماعة، بل احياناً شرهة، تدرك انها لا تملك سبيلاً إلى الصعود لقمة الهرم المراتبي، فذلك حكر على قلة ذات صفات قد تكون نادرة احياناً.
وبضغط هذه الفئة التي بقيت بمنأى عن ضربات السافاك، امكن لها استثمار المرجعية، ودفعها في اتجاه دمج المنصب الديني (الفقيه الولي) بجهاز الدولة. والمرجعية هنا ينبغي ألا تفهم على انها شخص فرد، بل مؤسسة ذات قواعد وأسس تتمتع بموارد الخمس (بيت المال) وهياكل ارتكازية (جوامع وحسينيات، وجمعيات خيرية) وشبكة وكلاء ومقلدين. انها اشبه بدولة الفاتيكان، مع فارق انها ليست رسمية، واذا كان المرجع هو باني هذه المؤسسة وراعيها فهو ايضاً، بمعنى من المعاني، نتاجها وثمرتها.
استطاعت فئات رجال الدين الصغار والمتوسطين في ايران ان تحقق دمج المقدس بالدنيوي. وطلع علينا دستور ايران فريداً في بابه. فهو يعتمد مبدأ ان الشعب مصدر السلطات، لكنه يضع الفقيه الولي فوق المؤسسات كلها.
يعترف الدستور الايراني بان "الله منح الانسان حق السيادة على مصيره الاجتماعي، ولا يحق لأحد سلب الانسان هذا الحق الالهي" (المادة 56 من الدستور).
وتنص المواد 56 و 58 و 114 على ان الشعب يمارس هذا الحق، والشعب يختار نوابه والشعب يختار رئيس الجمهورية، والشعب ينتخب اعضاء المجلس الاعلى للقضاء (المادة 158)، لكنها جميعاً مشروطة بموافقة الفقيه الولي، كما ان مجلس النواب (الشورى) مقيد بهيئة رقابية اسمها مجلس صيانة الدستور (المادتان 96 و 98).
رضخ الخميني لهذا التحول من الجمهورية المدنية إلى الجمهورية المقدسة. ونرى اليوم في العراق بوادر تحرك مماثل يأتي من منابع شتى، من داخل جهاز مرجعية السيد السيستاني، رغم انه اعلن انه يؤمن بـ "ولاية الامة"، على عهدة بعض الوفود التي زارته.
هل يشهد العراق محاولة لتكرار المثال الايراني؟ قطعاً نعم. بل ان هذه المحاولة جارية منذ الآن، تغذيها مراكز قوى عديدة تضم إلى جانب بعض النافذين في جهاز المرجعية، قياديين اسلاميين، ونخباً سياسية واجتماعية طموحة. وتغتذي هذه الشخصيات على تعمق الهوية الشيعية وسيلة احتجاج على اقصاء تاريخي مديد من مقاليد السلطة في دولة يشكل فيها توزيع السلطة توزيعاً للثروة في آن: ذلك انها دولة مترعة بالنفط.
لقد كان تأسيس الهوية الشيعية اداة احتجاج مشروعة في عهد عبد السلام عارف المعروف بتحيزه الطائفي وعهد البعث، الذي حكر ثروة الامة على اسرة ضيقة. وكانت الهوية الشيعية ايضاً دريئة حماية امام غول دولة شرسة، ومسكناً مخففاً لأهوال فترة الحصار.
اما اليوم فان العملية السياسية السلمية تفتح باب المشاركة من دون أي عائق، ولم يعد للهوية الشيعية، بمعناها السياسي لا الديني (فالهوية الدينية لن تتغير) من وظيفة سوى التعبئة الانتخابية. وقد استثمرها سياسيون طامحون في الحكم خير استثمار. وامكن للضغط المتواصل ان يزج المرجعية بارادة منها او بغير ذلك، وبعلم المرجعية او بخلافه، في اعداد قائمة انتخابية موحدة. وبذا تحولت المرجعية من راع شامل متجرد إلى طرف منحاز. وحرمت جمهور الشيعة قبل غيره من تطوير ملكته الديمقراطية باختياره القادة، وعزلهم، ومحاسبتهم. هذه سابقة غير حميدة، حسب رأي الكثير من المراقبين. فالسياسة فن دنيوي فيه من الاهواء والمصالح المبتذلة، ما لا يجوز ربطه بمكانة دينية سامية.
ولقد رأينا الجوامع تتحول على هذا الخط إلى مستودعات سلاح. وعلى ذلك الخط إلى مراكز دعاية انتخابية. ومعروف ان الجوامع هي بالتعريف الفقهي، وقف لعموم المسلمين، وليست مكاناً لهذا الواعظ او ذاك الحزب. وجاء فك دور العبادة عن اسر جهاز الدولة صيف عام 2003، لا ليحرر دور العبادة من الدولة، بل ليضع الدولة تحت رحمة دور العبادة.
لا ندري كم من المقترعين صوت لإسم السيد السيستاني بذاته، وكم صوت لهذا الحزب او ذاك. لعلنا سنحظى بمثل هذا التفصيل في الانتخابات القادمة، عندما تمضي العملية بزخمها الخاص. ولا ندري بالتحديد كيف سيؤول تفسير دعوة السيد السيستاني إلى "احترام الاسلام" في الدستور القادم، فكلمة احترام كلمة عريضة، حمالة اوجه، وقد تعني الشيء ونقيضه. ومسودة الدستور الحالي(قانون ادارة الدولة) شأن الدستور الملكي، تنص على ان الاسلام دين الدولة، كما تنص على ان الشريعة مصدر للتشريع: نكرر "مصدر" وليس "المصدر الوحيد" وهذا وارد في الدساتير السابقة، رغم ان الاسلاميين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها طلباً لوحدانية مصدر التشريع في عالم الاسلام الموزع إلى ملل ونحل، ومذاهب وطوائف واجتهادات لا حصر لها وإلى مناطق فراغ في التشريع لها اول وليس لها آخر. وقد رأينا من تجربة ايران الاسلامية عجز المشرعين عن تقنين اصلاح زراعي، او حقوق النقابات، بدعوى انها لم تكن موجودة في الاسلام، ورأينا ايضاً لأول مرة في التاريخ الشيعي، نزع المرجعية عن آية الله كاظم شريعتمداري، واقصاء آية الله منتظري. فالسلطة عقيم لا تلد. والصراع على سدة الحكم قوض مبدأ الاعلمية الذي ترتكز عليه أي مرجعية،واستبدله بمبدأ "التصدي السياسي"، معطياً لكل من هب ودب الحق في القيادة.
ومن حسن حظ العراق انقسامه الاثني والديني الذي يربأ باي تطبيق لمبدأ الولاية في الصيغة الايرانية. وثمة حقيقة اخرى: لا القوى الليبرالية ولا الديموقراطية ميالة إلى تكرار غلطة الكتلة الليبرالية - اليسارية في ايران عام 1979 .
واخيراً، الدولة الدينية في عراق اليوم هي محض انتحار سياسي.


درس عظيم من الديمقراطية العراقية(1)

د. شاكر النابلسي
-1-
بعد احتجاجات واسعة قامت بها منظمات نسائية عراقية، ساندها فيها نخب كثيرة من المثقفين العراقيين وكذلك الصحافة العراقية والعربية وقوى سياسية ضد قرار مجلس الحكم العراقي رقم 137 بإلغاء قانون الأحوال الشخصية المعمول به منذ اكثر من 40 عاماً، أُعلن في بغداد وقف تنفيذ القرار. وقال مسؤول في وزارة العدل العراقية إن القرار الذي سبق أن أكد قانونيون عراقيون بأنه سيُعمِّق الطائفية في البلاد، ويخلق مشكلات اجتماعية جديدة، قد جُمِّد موضحاً أن العمل سيستمر بتطبيق قانون الاحوال الشخصية المعروف. وقال المسؤول إن القرار الذي رفض تمريره رئيس سلطة التحالف بول بريمر، قد عاد الى مجلس الحكم من جديد لمناقشته مع احتمال تعديل بعض بنود قانون الأحوال الشخصية.
-2-
فلأول مرة في العراق الحديث، تستجيب السلطة لنداء الشارع العراقي، وللرأي العام العراقي، وللنخب المثقفة، ولجموع النساء العراقيات اللائي طالبن بالغاء القرار الذي أصدره مجلس الحكم العراقي بخصوص إلغاء نظام الأحوال الشخصية واستبداله بنظام جديد لا يليق بالديمقراطية العراقية الجديدة. أليس الرجوع عن الخطأ فضيلة؟ أليس رجوع مجلس الحكم العراقي عن هذا القرار تحت ضغط الشارع العراقي والرأي العام العراقي يُعد فضيلة كبرى، يجازى عليها مجلس الحكم العراقي الديمقراطي السابق بالشكر والامتنان وبالعرفان بأنه كان مجلساً ديمقراطياً، يستجيب لرغبات الشعب العراقي، ويسمع لنداءات الشارع العراقي.
-3-
لقد اعتادت الأنظمة الديكتاتورية العربية ومنها النظام العراقي الديكتاتوري السابق على معارضة كل قرار يطالب به الشارع حتى لا تكون السلطة الديكتاتورية بنظر الشارع والرأي العام سلطة ضعيفة، تستجيب لرأي الآخرين ورغباتهم. بل الأكثر من ذلك شاهدناه حين يتسرب مشروع قرار ما للسلطة إلى الشارع وإلى الصحافة قبل أن يصدر وتبشّر الناس به، فتمتنع السلطة عن اصداره وتوقفه حتى لا يقال أن السلطة خضعت لرأي الشارع والرأي العام!
-4-
في الدول الديمقراطية ومنها العراق الجديد، السلطة هي الشارع وهي الرأي العام، لأن السلطة ليست فئة من الناس احتكرت السلطة. ولكن السلطة هي مُمثلة من قبل كل الناس ومن قبل كل الأطياف السياسية. ولهذا تستجيب السلطة لرأي الشارع ولرغبات الرأي العام. في الدول الديكتاتورية، لا علاقة للسلطة بالشارع وبالرأي العام. بل هي تعد الشارع والرأي العام العدو اللدود المتربص بها، الذي يسعى إلى تقويضها، لذا فهي تقف ضد رغبات الشارع والرأي العام، إن قال يميناً قالت السلطة شمالاً، وإن قال شرقاً قالت غرباً. في الدول الديمقراطية ومنها العراق الجديد، السلطة هي أُذن الشارع التي تسمع، وعين الرأي العام التي تقشع، ولسان الحال العام الذي ينفع. فالسلطة في الدول الديمقراطية جاءت للناس كافة، ولخير الناس كافة، وهي تقول قبل أن يقول الناس، وتقرر قبل أن يطالب الناس، وتنفذ قبل أن يرتفع الصوت ويحتقن. إنها ضمير الناس، وما ينفعهم. في الدول الديمقراطية تتراجع السلطة عن قراراتها غير المدروسة وغير الحكيمة وغير المفيدة للناس، لا خوفاً منهم ولكن خوفاً عليهم وعلى مصالحهم. وهذا ما فعلته السلطة العراقية مُمثلة بمجلس الحكم السابق حين رضخت لارادة الشعب العراقي، وألغت العمل بقانون الأحوال الشخصية الجديد، وأعادت القانون السابق. والرضوخ هنا لا يعني الخوف من الرأي العام، ولكنه يعني احترام الرأي العام. في الدول الديكتاتورية يُداس على الرأي العام، ويُمرّغ الشارع بأوساخ هذا الشارع وأوحاله. فلو حدث ما حدث في موضوع القرار 137 الخاص بالأحوال الشخصية في عهد الديكتاتورية العراقية المنهارة، فماذا يمكن في تصوركم أن يتم؟ بكل بساطة سوف يتم سجن كل من عارض هذا القانون الجديد للأحوال المدنية، هذا إذا جرؤ من يعارض مثل هذه القوانين أو حتى يهمس بعدم رضاه عنها، وسوف يتم تعذيبهم وقتلهم ودفنهم في المقابر الجماعية كما تم في السابق. وسوف يتم الابقاء على ما أصدرته السلطة من قرارات حتى ولو كانت خاطئة، من دون أي تراجع عنها. ذلك أن أي تراجع عن أي قرار كان قد صدر في الأنظمة الديكتاتورية يعني الاستهانة بالسلطة، والنيل من هيبتها وكرامتها، والتقليل من شأنها.
-5-
لقد علم مجلس الحكم العراقي الديمقراطي السابق بأنه مجلس مُتداول بين الناس. فهو اليوم في الحكم وغداً في المعارضة، وأنه ليس مُخلداً على كرسيه كما يُخلّد الحكام الديكتاتوريون، بحيث يحول هذا الخلود بينهم وبين احترام ارادة الشعب، كما يحول بينهم وبين تلبية رغبة الشعب. وهذا يعني أن أعضاء مجلس الحكم السابق كما كانوا اليوم في الحكم فسمعوا للمعارضة، فعلى مجلس الحكم القادم أن يسمع للمعارضة التي هي مجلس الحكم الحالي. أما في الأنظمة الديكتاتورية، فالديكتاتورية لن تتحول إلى معارضة في يوم من الأيام. إنها خالدة مُخلّدة في الحكم، وليس لديها من مبرر للخضوع لطلبات المعارضة، لأنها لا تنتظر أن تكون معارضة يُستمع إليها في الغد. درس القرار 137 للأحوال المدنية العراقية درس عظيم للديمقراطية الجديدة في العراق، وامتحان عسير لها، نجحت فيه نجاحاً باهراً، علينا أن نتعلم منه الكثير.

1-من كتاب الزلزال للكاتب شاكر النابلسي الذي سيصدر قريباً عن دار المدى بدمشق.


الحكومة التركية وعقلية القرن التاسع عشر

سلام ابراهيم عطوف كبة
تركيا ركيزة أساسية من ركائز الأمن الإقليمي في الاستراتيجية الغربية والأمريكية على وجه الخصوص. وهي تكتسب الأهمية مع تعاظم غطرسة القوة، وأمركة العولمة، وبقائها في قبضة المؤسسة العسكرية. وتلعب تركيا الأوراق المتضادة عبر الساحة العراقية فتثير متعمدة بين الحين والآخر تبعية الموصل الى تركيا وأطماعها في نفط كركوك ومشاريعها الكونفدرالية لابتلاع شمال العراق. وتنتهك قواتها العمق العراقي متى ما اقتضت مصلحتها الأمنية.. وتعبر تصريحات قادتها العسكريين ووزراء دفاعها عن جوهر النهج والسياسة العنصرية ضد الكرد.. (بلاغ المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكردستاني في 26/8/2002) حيث اللعب على ورقة العلاقات معهم! وعليه لا تزال النافذة العراقية هي المفضلة لدى تركيا في سبيل حماية مصالحها وامتيازاتها الاقتصادية بعلاقتها المستمرة مع النظام العراقي البائد سابقا وحكومة المركز في بغداد ، وترسيخ مفهوم الحزام الأمني في شمال العراق، وكسب المواقع المتجددة دوما في سياق النظام الدولي الأحادي القطب عبر حروب المياه والتحالف مع إسرائيل.
وتلعب تركيا أيضا بورقة المحيط العربي والإسلامي كلما استدعت الضرورة مما الحق الضرر بالمصالح التركية. وكلما مالت تركيا الى الغرب أكثر.. تمنع الأخير أكثر، مما خلق عندها التذبذب والازدواجية وانشطار الهوية! ويدرك الاتحاد الاوروبي (
EU) استحالة انضمام تركيا لعضويته لاختلاف المفاهيم والثقافات وأنظمة الحكم! هكذا يحصل ارتداد التوجهات. وتحاول تركيا تعويض خيبة أملها في اكتساب عضوية الاتحاد الأوروبي وتحميل الغرب تركيا مسؤولية المذابح بحق الأرمن مطلع القرن الماضي بالأوهام العثمانية الجديدة والطورانية وأساطير الأحقية التاريخية في هذه المدينة او تلك وتشويه مواقف الكرد القومية..
تركيا الدولة الخامسة في العالم في شراء الأسلحة والدولة الثانية بعد إسرائيل في التزود بالمعدات العسكرية الاميركية.. وبلغت الاغتيالات السياسية فيها عامي 93-1994 فقط (3200) ضحية. وقد أمر وزير الدولة التركي لحقوق الإنسان بقصف القرى والبساتين في جنوب شرق تركيا بالطائرات والمدفعية مما أدى الى هجرة قرابة مليون كردي الى محافظة ديار بكر.. لكن الرئيس الامريكي الأسبق (بيل كلينتون) امتنع عن الاستجابة لمطالب جمعيات حقوق الإنسان بتعليق بيع الأسلحة الاميركية الى تركيا التي تقوم بتوجيه 80% منها الى صدور الأكراد!.
يغازل كرد العراق وبغض النظر عن سحق كرد تركيا
إنها السياسة الاميركية التي كانت وما زالت وستبقى على جوهرها المعادي للتطلعات الوطنية التحررية لشعوب المعمورة.وقد اضطلعت تركيا بدور مهم في الاستراتيجية العسكرية الاميركية منذ صعود الطغم العسكرية الى السلطة ليوكل لها دور لم تحلم به حتى إسرائيل ! . في تركيا الجيش هو حامي النظام العلماني دستوريا مما خلق لها مشكلات معقدة على الصعيد السياسي. وقد كرس (أتاتورك) هذا الامتياز الدستوري عبر هيمنته على مجلس الأمن القومي وهو أعلى سلطة قرار في الدولة، وقام الجيش بإسقاط 4 حكومات منذ عام 1960 ناهيك عن حصوله على 30 % من إجمالي الناتج القومي. وهو يقف خلف الجهاز المدني الحاكم ويحدد سقف حركة النظام والمجتمع!
بقيت تركيا مدنية بالظاهر عسكرية في الجوهر. ويتدخل الجيش عندما يحس بأن دوره في خطر وعند المنعطفات، والضوء الأخضر الاميركي والغربي! واستثمر الجيش القضية الكردية لإحكام قبضته على الأوضاع السياسية في البلاد وفرض مواقفه على المؤسسة السياسية. كما استثمر الجيش بروز التيار الإسلامي المنظم بوصفه خطرا على العلمانية، واخذ الجيش التركي دوره في سياق الاستراتيجية الاميركية عبر التعاون مع إسرائيل لتغطية ممارساته السياسية والعسكرية. واتخذت الولايات المتحدة من قواعدها العسكرية في تركيا وبالأخص (انجرليك) مراكز انطلاق لحماية الملاذ الأمن في شمال العراق والدوريات الجوية فوق العراق قبل احتلاله بالكامل الى جانب استغلالها السماء التركية وأجواؤها لتحليق الطائرات الاميركية في أي وقت من دون استئذان مسبق! عليه تعد العلمنة على الطريقة التركية أي تحت حكم العسكر دستوريا السياسة التي أجلست وتجلس الفلاسفة العثمانيين الجدد على الخازوق العلماني العبري القديم نفسه.
تعيش تركيا بين دوامة ألازمات السياسية المتتابعة وتعدد سيناريوهات مرحلة ما بعد بولند اجويد! ويبدو ان التركيبة الحكومية التركية الحالية هي الأفضل لإبداء التعاون المطلوب مع المخططات الاميركية ..... لكن نظام القسر وإخضاع المجتمع والدولة لخياراته أدى ويؤدي الى تشابك العوامل السياسية والاقتصادية وتراتباتها وبقاء تركيا في قبضة المؤسسة العسكرية وانتعاش الاستقطابات الإسلامية والعلمانية والطائفية والقومية والاجتماعية، والاستقطاب بين النزوع الأوروبي والنزوع الطوراني.
مطالبة تركيا بالمشاركة في العمليات العسكرية
طالبت واشنطن أنقرة بإلحاح بدعم عملياتها العسكرية ضد العراق في الربع الاول من عام 2003 في الوقت الذي يواجه فيه الإصلاح الاقتصادي وبدعم صندوق النقد الدولي الأخطار الحقيقية. وقد وصلت المحادثات المتعلقة بالقضية القبرصية الى مرحلة حساسة وباتت العلاقات مع الاتحاد الأوروبي على المحك. ويؤكد الواقع ان بولند اجويد قد خسر ثقة الإصلاحيين ولم يبق معه سوى غلاة القوميين المتطرفين من أمثال صباح الدين جكماك - هذا الجنرال الذي أثارت تصريحاته غير المتوازنة ونياته الشريرة ردود الفعل الغاضبة والاستنكار الواسع في أوساط الشعب العراقي في حينها !( كلمة إذاعة صوت الشعب العراقي للحزب الشيوعي العراقي في 26/8/2002) وحتى الآن لم تتدخل القيادة العسكرية كما هو متوقع .. وهي تجد نفسها بين فكي الرغبة في دعم الإصلاح والانضمام الى الاتحاد الأوروبي، وحقيقة ان تدخلها يأتي بنتائج عكسية على البلاد بأسرها.
إحياء للمطامع القديمة
"الجكماكية" هي إحياء للمطامع الطورانية في مناطق ما وراء حدود تركيا الحالية في العراق. طورانية كانت أم عثمانية جديدة، تبقى إنها ليست من بنات أفكار (توركوت اوزال) فقط بل تعبير عن تيار واسع في تركيا خاصة في صفوف القيادات السياسية والعسكرية. وهذا يعطي الانطباع بان تركيا باتت في خضم مشروع تعده تاريخيا يستهدف استعادة نفوذ غابر في شمال العراق والبلاد العربية. لكن الابعاد الحقيقية للعثمانية الجديدة والطورانية التي تتسم بها استراتيجية العسكرتاريا التركية الحاكمة من خلف ستار مجلس الأمن القومي لا تقابل بمواقف حازمة من أصحاب الشأن العربي والكردي وحتى التركماني مما يفسح المجال واسعا أمام الطموحات التركية- الإسرائيلية في بلقنة الشرق الأوسط والعالم العربي على خلفية احتلال العراق .. كما لم تظهر الى الآن القوى الدولية اللازمة لكبح جماح "الثعلب" التركي الذي يعاني من أزمة مركبة تعد من تداعيات زلزال نهاية الحرب الباردة.. وإذ يستقوي النظام التركي على الكرد والعرب والتركمان معا ويحالف إسرائيل، ترفض الأخيرة مشروعات السلام ماضية في غيها بسلب ونهب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني من دون رقيب او حسيب!
لم تتضمن مطاليب الكرد في شمال العراق إنشاء الدولة المنفصلة بل تركز جلها في إقامة العراق الديمقراطي الدستوري الفيدرالي الموحد وضمان الحقوق القومية للتركمان والكلدو-آشوريين والقوميات الأخرى.. وهذا بحد ذاته يسحب البساط من تحت أقدام العسكرتاريا التركية!

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة