الانثروبولوجي الحاج جلال آل أحمد في مكة (2-3)
عبد
الجبار الرفاعي
ان هذه الرحلة منحت آل
احمد فرصة هامة لاعادة اكتشاف طبيعة العلاقات السائدة بين
عامة الناس ونمط وعيهم وتفسيراتهم للظواهر الاجتماعية
والثقافية والسياسية والاقتصادية، ورؤيتهم الكونية،
وطقوسهم، ولذلك كان يهتم بملاحقة كل صغيرة وكبيرة في
احاديث المرافقين في القافلة، وحالاتهم في ساعات الراحة
والسكينة، والاضطراب والتوتر.
وبالتالي تبدو هذه الرحلة مناسبة عزيزة في حياة آل احمد،
للفرار من عوالم النخبة ومشاغلهم، والعيش مع عامة الناس،
والالتصاق بحياتهم، تلك الحياة الزاخرة بالبساطة، والعفوية،
والبراءة، المشابهة للبداوة، او القريبة من الاشكال
البدائية، وهي اشكال مافتئ آل احمد شغوفا بالعودة اليها،
لانه كان يمقت كل الاساليب الحديثة التي اكتسحتها.
ولم تقتصر مطامح آل احمد في رحلته على الملاحظات العابرة،
والانطباعات العاجلة ، وانما كان يسعى للتوغل في الابعاد
الخفية لما يراه من ظواهر، ويعمل على تحليلها، من اجل
اكتشاف مضمراتها، وما لاتقوله من نزعات بشرية، وما يدخل في
تشكيلها من عناصر ثقافية.
انه يحاول ان يسجل ملاحظاته من منظور باحث انثربولوجي،
ولذلك يمكن ان تصنف هذه المذكرات كوثيقة انثربولوجية،
لدارس مهتم بالتعرف على طبائع المجتمعات الاسلامية، وانماط
ثقافاتهم، من خلال معايشة الجماعات الوافدة للحج من تلك
المجتمعات والاختلاط بمن يلتقيه منهم والمبادرة بسؤاله بما
يتقنه من العربية او الانجليزية.
تشتمل هذه الرحلة على معلومات تاريخية هامة، ذلك ان مؤلفها
كان يدون ما يشاهده، من عمارة البيت الحرام، والجغرافيا
السكانية والعمرانية لمكة المكرمة والمدينة المنورة
والاسواق والمتاجر والشوارع وعربات النقل، والمناسبات في
عرفات، ومزدلفة ومنى، واشكال مخيمات الحجاج فيها، بل حرص
على تقديم احصائيات رقمية لاعداد الوافدين الى الحج في ذلك
العام، وجنسياتهم وهي ارقام استقاها من الصحافة الصادرة
وقتئذ، لان آل احمد كان مواظبا على مطالعة الصحف اليومية
في الديار المقدسة، وربما استقاها ايضاً من اسئلته
المتنوعة للاشخاص الذين يلتقيهم، حين يستقل وسائط النقل،
او يتجول في الاسواق، او اثناء اداء المناسك وزيارة
المشاهد المشرفة.
وقد ظل يواظب على تسجيل ملاحظاته في دفتر يصطحبه حيثما كان،
في محل الاقامة، وفي السيارة، وفي المناسك، وحتى في مواطن
الانتظار، في المطار وغيره.
ولم يتوان جلال في كتابة مذكراته، الى حين عودته مثلما فعل
غير واحد من الحجاج ممن كتبوا مذكراتهم بعد عودتهم الى
مواطنهم، وانما حرص على تسجيل ما يعاينه مباشرة. كانت
كتابته آلية، يسترق دائما لحظات، فيخلو بها، ويعكف على
تعزيز يومياته، والاضافة اليها في كل مرة يلفت نظره فيها
موقف يستحق الذكر فمثلا تتمدد كتابته في بعض الايام، بحسب
زحمة حركته، ووفرة لقاءاته، او تتقلص، عندما يضطر للمكوث
في المسكن، ولا يلتقي الاخرين.
تصنف رحلة آل احمد الى البيت الحرام، في النصوص الادبية
الفريدة المدونة باللغة الفارسية، في مصر الحديث، فان نصه
يوظف الموروث الحكائي، والفلكور والسخرية ويبدع في صياغة
نموذج مميز للسرد.
ويذهب بعض النقاد الى ان اسلوب جلال طور الادب الفارسي،
لانه يصوغ عباراته ببيان يمزج فيه بين اللهجة الدارجة
واللغة الفصيحة، وتتشكل نصوصه من جمل قصيرة، واحيانا لا
تحتوي الجملة التي يصوغها على فعل في تركيبها ومع ذلك تعبر
عن معناها بوضوح.
وربما كانت جزالة بيانه، وشفافية اسلوبه وقدرته الفائقة
على الكتابة بلغة السهل الممتنع، من العوامل الرئيسة
لاشتهار اثاره، وشدة اقبال القراء عليها، ووفرة المطبوع
منها.
وقد حاول بعض الادباء تقليده واستعارة تقنياته في السرد،
ومحاكاته فيما كتب بنحوبات اسلوب آل احمد احد النماذج
الشهيرة في الادب الفارسي الحديث. وقد تجلى هذا الاسلوب
كاروع ما يتجلى في "قشة في الميقات" باعتباره من النصوص
الاخيرة التي كتبها جلال قبل وفاته بسنوات، مضافا الى انه
كتبها في ظروف خاصة، مر خلالها بحالات قبض وبسط روحي،
ولحظات انفعال، وتوتر وضراوة ولحظات استرخاء وهدوء،
وانشراح وكل حالة ولحظة من تلك الحالات واللحظات تثير لديه
شتى الهواجس، وتستدعي في وجدانه مختلف الايحاءات والصور.
والى ذلك يعود تميز اسلوبه وفرادته في الرحلة فهو يتالق في
مواضع عديدة فيرتقي الى الشعر المنثور، او قصيدة النثر،
حسب مصطلح النقد الادبي اليوم.
5- ليست يوميات آل احمد تأملات في استجلاء الابعاد
التربوية لعبادة الحج، واستيحاء فلسفة كل واحد من المناسك،
كما فعل بعض الذين كتبوا عن الحج، لان آل احمد اراد
لمذكراته ان تتدفق بعفوية، وتجري بتلقائية، لا تتقيد
بترسيمات وحدود مسبقة، بل تواكب حركة الحاج، واحداث الرحلة
اليومية الشديدة الغنى والتنوع، فهي تضم رؤى انثربولوجية،
ورصد ظواهر اقتصادية، وتحليلات سياسية، وطرائف ادبية،
ونقدا ساحرا ومعلومات تاريخية، وجغرافية، وغير ذلك.
لكن رحلة آل احمد توهجت فيها ومضات، تحدثت عن فلسفة لبعض
المناسك، كشذرات رصعت عباراته، خاصة في المواضع التي كان
يكتب فيها مذكراته في الايام التي امضاها في بقاع المناسك
في عرفات، والمشعر الحرام، ومنى ، او اثناء اداء الطواف في
البيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة.
ولا اريد ان ابالغ لو قلت: على الرغم من مطالعتي لمجموعة
من رحلات الحج المعروفة، وتشرفي باداء الحج والعمرة عدة
مرات، فاني وجدت نفسي مع "قشة في الميقات" انبسط حيث ينبسط
جلال، وانقبض حيث ينقبض واعيش في خيالي حالاته واحاسيسه،
في السعي والطواف، وكاني اواكبه في خطواته واتماهى مع
مشاعره، فأرى ما يرى، وارتشف مايرتشف واتحسس خطواته،
واستمع الى ابتهالاته واستغاثاته، واذكاره، وعندما كنت
اقرأ حالاته، اتعطش بوجد وشوق الى البيت الحرام، والمناسك
المقدسة، واتمنى ان اتمثل تلك الحالات والابتهالات، بل
اتمنى ان يطالع الحجاج والمعتمرون رحلة آل احمد، لينفتحوا
على ما تختزنه المناسك من منابع للالهام الروحي والتربوي،
وليغدو الحج مناسبة استثنائية لاعادة بناء الشخصية المسلمة،
واعدادها اخلاقيا ومعنويا، لتجسيد رسالة الاسلام في الحياة،
وبالتالي تجسيد التسامح وقبول الاخر، والامن والسلام.
|