المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

هل يحق لنا أن نقول هذا؟

علي بدر

بمناسبة حصوله على جائزة محترمة في بلد أوربي، وهذه الجائزة مخصصة إلى أدباء أجانب يكتبون بلغة أهل البلد، كتب أحد الأدباء العرب مقالة طويلة عريضة في تحقير الثقافة العربية التي لم تحترم مواهبه ولم تقدرها حق قدرها، فمن أين للرواية أن تكون ذات موقع مهم عند شعب أكثره من الأميين، وفي مجتمع ليست القراءة والكتابة من عاداته، ولا الثقافة الحديثة من صناعته، وأنا هنا أشدد على الثقافة الحديثة، لأنه أمر لم يذكره الكاتب العربي في مقالته وأنا أقصدها هنا، ذلك إن نحن تحدثنا عن الثقافات فلا مجتمع من دون ثقافة، حتى الشفاهية منها، أما الرواية فهي بطبيعة الأمر ترتبط ارتباطا كاملا بعصر الحداثة الغربي، وبالتالي ستكون ثقافتنا بوجه من الوجوه محرومة منها، وسأبين وجهة نظري هنا من الأمر برمته، دون أن أنتقد وجهة نظر الكاتب العربي وأدافع عن ثقافات مهجورة، أو أكون في جانبه في الدفاع عن ثقافة حديثة غربية، ثرية، واستطيقية أيضا:
ترتبط مغامرة الحداثة في الغرب بعصر الصناعة الذي لم نعرفه إلا متأخرا، والحداثة وهي نتاج العالم الصناعي هي التي أخرجت الإنسان الغربي من المقدس، ومن جلالة السلطة، ومنحته المغامرة الفاوستية ليؤسس ذاته بذاته ويتمتع بالحق والقانون، وكلنا
وإن نحن بدرجة أقل- من نتاجات هذه الفاوستية اليوم، ولولاها لكنا بقينا متشبثين بعقائد القرون الوسطى، فهي حررتنا كما حررت الغربيين من قيود الحياة الجاهلة والمظلمة، ومنحته الحرية والعلم... ولكن هذه المعرفة العلمية الخلاقة والحرة أيضا أفقدته العالم السحري الذي كان يعيش عليه، أفقدته الرموز الروحية، أفقدته الأسس الأسطورية العميقة والقوية، لأن الوهم قد زال عن حياته مطلقا...أما التعويض الذي قدمته الحداثة الغربية بديلا عن الحياة الروحية فهو الفن والأدب.
وهكذا لعبت الرواية دورا أساسيا في تعزيز الحالة الحلمية والوهمية من جهة، ومن جهة أخرى أسهمت إسهاما كاملا في تربية الذوق الروحي والأخلاقي والإحساسي في العالم الغربي، لقد عوضت الرواية في الغرب ما أهمله العلم تماما، وبذلك نجد العالم الغربي والإنسان الغربي يرتبط ارتباطا كاملا بالرواية...
يندر أن تدخل بيت أحد الغربيين دون أن تجد الروايات في المكتبة، يندر أن تصعد في الباص أو في المترو أو في الطائرة دون أن تجد أحد الراكبين هناك يحمل بيده رواية ويقرأ، يندر أن تدخل المتنزه أو البارك دون أن تجد أحد هؤلاء الغربيين لا يقرأ رواية، والرواية تحديدا، فهي الفن الذي يلعب دورا هائلا وخلاقا في حياة الطبقات الشعبية والبسيطة في العالم الغربي، وهي التي يعبر تعبر عن حياتهم، وهذا أمر نجهله تماما في ثقافتنا؟
ولكن الحداثة ...لها مكان وزمان وليست مطلقة دون شك....لها أرض حدثت عليها، ولها معطيات تاريخية واجتماعية وسياسية وليست أمرا مطلقا أبدا، هي ليست الثورة النيوليتيكية التي استوعبتها جميع الثقافات وتبنتها، لقد حدثت الحداثة والثورة الصناعية في فضاء ثقافي محدود: ايطاليا، فرنسا، ألمانيا، انجلترا، أما نحن فلم نعرف هذه الحداثة إلا مع العصر الحديث، مع نابليون في دخوله إلى مصر، ولكننا على الصعيد العملي لم نشهد حداثة حقيقية مطلقة؟ لماذا؟ لأننا ببساطة ما زلنا نعيش على خزانٌ من الأفكار يمنحنا ما يطلق عليه فاتيمو سحر العالم...الغرب أزاح عن نفسه سحر العالم، والإنسان الحديث بالرغم من ثراه وثقافته العليا بدأ يعاني من ثغرة روحية، فالحداثة التي تهتم بالقضايا الاقتصادية أو السياسية تهمل كل حاجاتنا الأساسية...وهكذا تكفلت الرواية إلى حد كبير بما كبَتَـه العلمُ وأقصاه...
الأمر لدينا مختلف تمام الاختلاف فما زال عالمنا السحري قائما، ومازالت التواكلية والنظرة الغيبية هي المهيمنة، ولم يستطع العلم أن يحررنا من المجهول..فأين الرواية في مجتمعات لديها هذا المعادل الموضوعي وهي لم تفقده بعد...وهذا ما فات كاتبنا في مقالته، هل سنتساوى مع الغرب في قراءة الرواية..مستحيل..لأن المعطى التاريخي مختلف تماما..إنه مختلف إلى درجة كبيرة ومن المستحيل أن تتحول الرواية هي الأدب الشعبي في هذا العصر وإن كانت تتسع قراءتها في المدن الحديثة، مثل القاهرة وبغداد ودمشق والرياض وبيروت.
يبقى شيء آخر، وإن كنت سعيدا مثل غيري بهذا المعطى الذي قدمه الكاتب وبلغة غريبة عليه، واستطاع أن ينتج أدبا بلغتهم وحاز على جائزة من جوائزهم، ولكن ومن أجل أن لا نبالغ فهي جائزة على قدر مجالها، فهي تمنح لكاتب أجنبي كتب بلغتهم، وبالتالي فهو نسبة لهم لا توماس مان ولا هيرمان هسه ولا ينظر إليه بوصفه كاتبا من جنس أدبهم ومن روح ثقافتهم، وليس هو أفضل كتابهم، بينما يمكنه هنا ومعنا أن يكون توماس مان أو هيرمان هسه في ثقافتنا، أقصد كقدر هؤلاء في ثقافتهم، بالنسبة لنا يمكنه أن يكون ما كانه نجيب محفوظ في ثقافتنا، وما سيكونه أيضا...وسؤالي هو لماذا نتعلق بأدوار صغيرة في ثقافات أخرى ولا نطلب لأنفسنا أدوارا رئيسية في ثقافاتنا...حتى وإن كانت ثقافاتنا هامشية وظرفية في عالم اليوم، فهي في الأقل رئيسية لدينا.


الانثروبولوجي الحاج جلال آل أحمد في مكة  (2-3)
 

عبد الجبار الرفاعي
ان هذه الرحلة منحت آل احمد فرصة هامة لاعادة اكتشاف طبيعة العلاقات السائدة بين عامة الناس ونمط وعيهم وتفسيراتهم للظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ورؤيتهم الكونية، وطقوسهم، ولذلك كان يهتم بملاحقة كل صغيرة وكبيرة في احاديث المرافقين في القافلة، وحالاتهم في ساعات الراحة والسكينة، والاضطراب والتوتر.

وبالتالي تبدو هذه الرحلة مناسبة عزيزة في حياة آل احمد، للفرار من عوالم النخبة ومشاغلهم، والعيش مع عامة الناس، والالتصاق بحياتهم، تلك الحياة الزاخرة بالبساطة، والعفوية، والبراءة، المشابهة للبداوة، او القريبة من الاشكال البدائية، وهي اشكال مافتئ آل احمد شغوفا بالعودة اليها، لانه كان يمقت كل الاساليب الحديثة التي اكتسحتها.
ولم تقتصر مطامح آل احمد في رحلته على الملاحظات العابرة، والانطباعات العاجلة ، وانما كان يسعى للتوغل في الابعاد الخفية لما يراه من ظواهر، ويعمل على تحليلها، من اجل اكتشاف مضمراتها، وما لاتقوله من نزعات بشرية، وما يدخل في تشكيلها من عناصر ثقافية.
انه يحاول ان يسجل ملاحظاته من منظور باحث انثربولوجي، ولذلك يمكن ان تصنف هذه المذكرات كوثيقة انثربولوجية، لدارس مهتم بالتعرف على طبائع المجتمعات الاسلامية، وانماط ثقافاتهم، من خلال معايشة الجماعات الوافدة للحج من تلك المجتمعات والاختلاط بمن يلتقيه منهم والمبادرة بسؤاله بما يتقنه من العربية او الانجليزية.
تشتمل هذه الرحلة على معلومات تاريخية هامة، ذلك ان مؤلفها كان يدون ما يشاهده، من عمارة البيت الحرام، والجغرافيا السكانية والعمرانية لمكة المكرمة والمدينة المنورة والاسواق والمتاجر والشوارع وعربات النقل، والمناسبات في عرفات، ومزدلفة ومنى، واشكال مخيمات الحجاج فيها، بل حرص على تقديم احصائيات رقمية لاعداد الوافدين الى الحج في ذلك العام، وجنسياتهم وهي ارقام استقاها من الصحافة الصادرة وقتئذ، لان آل احمد كان مواظبا على مطالعة الصحف اليومية في الديار المقدسة، وربما استقاها ايضاً من اسئلته المتنوعة للاشخاص الذين يلتقيهم، حين يستقل وسائط النقل، او يتجول في الاسواق، او اثناء اداء المناسك وزيارة المشاهد المشرفة.
وقد ظل يواظب على تسجيل ملاحظاته في دفتر يصطحبه حيثما كان، في محل الاقامة، وفي السيارة، وفي المناسك، وحتى في مواطن الانتظار، في المطار وغيره.
ولم يتوان جلال في كتابة مذكراته، الى حين عودته مثلما فعل غير واحد من الحجاج ممن كتبوا مذكراتهم بعد عودتهم الى مواطنهم، وانما حرص على تسجيل ما يعاينه مباشرة. كانت كتابته آلية، يسترق دائما لحظات، فيخلو بها، ويعكف على تعزيز يومياته، والاضافة اليها في كل مرة يلفت نظره فيها موقف يستحق الذكر فمثلا تتمدد كتابته في بعض الايام، بحسب زحمة حركته، ووفرة لقاءاته، او تتقلص، عندما يضطر للمكوث في المسكن، ولا يلتقي الاخرين.
تصنف رحلة آل احمد الى البيت الحرام، في النصوص الادبية الفريدة المدونة باللغة الفارسية، في مصر الحديث، فان نصه يوظف الموروث الحكائي، والفلكور والسخرية ويبدع في صياغة نموذج مميز للسرد.
ويذهب بعض النقاد الى ان اسلوب جلال طور الادب الفارسي، لانه يصوغ عباراته ببيان يمزج فيه بين اللهجة الدارجة واللغة الفصيحة، وتتشكل نصوصه من جمل قصيرة، واحيانا لا تحتوي الجملة التي يصوغها على فعل في تركيبها ومع ذلك تعبر عن معناها بوضوح.
وربما كانت جزالة بيانه، وشفافية اسلوبه وقدرته الفائقة على الكتابة بلغة السهل الممتنع، من العوامل الرئيسة لاشتهار اثاره، وشدة اقبال القراء عليها، ووفرة المطبوع منها.
وقد حاول بعض الادباء تقليده واستعارة تقنياته في السرد، ومحاكاته فيما كتب بنحوبات اسلوب آل احمد احد النماذج الشهيرة في الادب الفارسي الحديث. وقد تجلى هذا الاسلوب كاروع ما يتجلى في "قشة في الميقات" باعتباره من النصوص الاخيرة التي كتبها جلال قبل وفاته بسنوات، مضافا الى انه كتبها في ظروف خاصة، مر خلالها بحالات قبض وبسط روحي، ولحظات انفعال، وتوتر وضراوة ولحظات استرخاء وهدوء، وانشراح وكل حالة ولحظة من تلك الحالات واللحظات تثير لديه شتى الهواجس، وتستدعي في وجدانه مختلف الايحاءات والصور. والى ذلك يعود تميز اسلوبه وفرادته في الرحلة فهو يتالق في مواضع عديدة فيرتقي الى الشعر المنثور، او قصيدة النثر، حسب مصطلح النقد الادبي اليوم.
5- ليست يوميات آل احمد تأملات في استجلاء الابعاد التربوية لعبادة الحج، واستيحاء فلسفة كل واحد من المناسك، كما فعل بعض الذين كتبوا عن الحج، لان آل احمد اراد لمذكراته ان تتدفق بعفوية، وتجري بتلقائية، لا تتقيد بترسيمات وحدود مسبقة، بل تواكب حركة الحاج، واحداث الرحلة اليومية الشديدة الغنى والتنوع، فهي تضم رؤى انثربولوجية، ورصد ظواهر اقتصادية، وتحليلات سياسية، وطرائف ادبية، ونقدا ساحرا ومعلومات تاريخية، وجغرافية، وغير ذلك.
لكن رحلة آل احمد توهجت فيها ومضات، تحدثت عن فلسفة لبعض المناسك، كشذرات رصعت عباراته، خاصة في المواضع التي كان يكتب فيها مذكراته في الايام التي امضاها في بقاع المناسك في عرفات، والمشعر الحرام، ومنى ، او اثناء اداء الطواف في البيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة.
ولا اريد ان ابالغ لو قلت: على الرغم من مطالعتي لمجموعة من رحلات الحج المعروفة، وتشرفي باداء الحج والعمرة عدة مرات، فاني وجدت نفسي مع "قشة في الميقات" انبسط حيث ينبسط جلال، وانقبض حيث ينقبض واعيش في خيالي حالاته واحاسيسه، في السعي والطواف، وكاني اواكبه في خطواته واتماهى مع مشاعره، فأرى ما يرى، وارتشف مايرتشف واتحسس خطواته، واستمع الى ابتهالاته واستغاثاته، واذكاره، وعندما كنت اقرأ حالاته، اتعطش بوجد وشوق الى البيت الحرام، والمناسك المقدسة، واتمنى ان اتمثل تلك الحالات والابتهالات، بل اتمنى ان يطالع الحجاج والمعتمرون رحلة آل احمد، لينفتحوا على ما تختزنه المناسك من منابع للالهام الروحي والتربوي، وليغدو الحج مناسبة استثنائية لاعادة بناء الشخصية المسلمة، واعدادها اخلاقيا ومعنويا، لتجسيد رسالة الاسلام في الحياة، وبالتالي تجسيد التسامح وقبول الاخر، والامن والسلام.


فاخر محمد واشكالية الخروج من اطار الصورة

محسن الشمري

يعتمد التنافذ الداخلي والخارجي في بنية النص التشكيلي على مقدار الحيلة التي تسمح للشكل بمغادرة مكانه التقليدي، بوصفه ظرفا قياسيا وتساميه في الفضاء الخارجي وجعله زمانيا مطلقا، شريطة ان يبقى خطابا بصرية (جسدا وروحا)، يحمل سمات ذلك التحول ويحافظ على المسودة الداخلية للشكل المتحقق، بوصفه طبقة تسكن اللوحة، وتمنحه فرصة للخروج من ضوابطه التقليدية عن طريق كسر الاطار وجعل اللوحة شكلا يسكن المحيط الخارجي، وهذا ما عمل عليه كثير من الفنانين في العالم منهم (كلود مونيه) و(سورا) و(مونج) و (بيكاسو) وعلى الصعيد العربي الفنان المغربي (لقويدر التريكي) والمصري (احمد نوار) ومن الفنانين العراقيين (شاكر حسن ال سعيد) و (جواد سليم) و(ضياء العزاوي) و(محمد مهر الدين) والفنان فاخر محمد الذي هو موضوعنا في هذا المقال.
في الاعوام (1992-1993-1994-1995) اشتغل الفنان فاخر محمد على الاستفادة من تحطيم الشكل الثابت عندما خرج بتكويناته وعناصره الى الفضاء الخارجي مباشرة، وعمل على احداث نوع من التراكيب مغايرة لمفهوم الانشاء والرؤية التقليدية، واعتمد في ذلك على خطوات مهمة ونافذة متمثلة بالنقاط التالية: اولا: الاشتغال على مبدأ المركز والاطراف.
يقول فاخر محمد :"ان موضوعة المركز والاطراف كموضوعة الروح والجسد، فعملية التناقل بينهما اثيرية، ولا محدودة، وغير مقيدة بابعاد كلاسيكية او افكار ثابتة فهي تعتمد على الهروب المتعاكس خارج وداخل البعد المكاني".
ان اللامتحقق في عملية الطرق على المركز والاطراف هو القيمة الجديدة للشكل المتخيل والذي لم يكتشف بعد، وهنا قد يشترك الغيب في دفع الصورة من المخيلة الى البؤرة التي ستجسدها علىالخامة، لتدخل وتخرج من والى الفضاءات المتماسة برؤية خلاقة وجديدة لوحدة البناء الجوهري بين الطرف والمركز، باعتبارها لا تستند الا على عقيدة تفرض واقعا صوفيا، يرى د. فاخر محمد ان الانسان (ساكن كون) وان موضوعة اللامتناهي تدركه وتعنيه مثلما يدركها ويعنيها، ويتحتم عليه تمثيل انتماءاته الكونية سواء في الواقع الحسي أم الغيبي، وهو قادر على حمل مستجدات هذا الانتقال الى مدارات ومديات ابعد واشمل مما هي متجسدة على نطاق الحسي والمرئي.
وهنالك تجاذب خفي بين المكوث في الكون الجمالي باعتباره (طرفا) وبين المكوث في درة الكون باعتباها (مركزا) وهذه وظيفة الانتماء المغاير الذي يوحد بين اللامتناهي والمحدود المتحول دائما وكان المحور الاساس الذي اعتمده فاخر محمد في هذا التحول من (المتخيل الغيبي الى المبنى الشكلي) هو القاء النظرة على المحيط الخارجي للنص التصويري، والعمل على تغييب الفواصل المصطنعة (الاطر) ودمج الرؤيا بين قيمة الفراغ المتحقق من المحيط الخارجي ومكوناته باعتباره (طرفا) وبين (قيمة الشكل البصري) المتحقق على الخامة بوصفه (مركزا) وصولا الى القيمة الكلية للشكل كوحدة ابداعية متسلسلة تحمل مدلولات ذلك التحول من خلال تنافذ التراكيب الشكلانية (راسيا وافقيا) وفي اتجاهات اخرى لتامين استمرارية حركة التشكيل (بصريا ورؤيويا) تجاه الخروج من اللوحة الى المحيط والدخول من المحيط الى اللوحة.
ثانيا: التحول في السطح التصويري
يقول فاخر محمد: "لا يمكن للشكل ان يبقى معزولا عن الوجود الخارجي وكيفية الجمع بينهما تشكيليا تعتمد على تحولات متعددة، اهمها اعادة الصياغات المتكررة للاساليب والتقنيات والمعالجات حتى يكتسب الشكل شرعيته في الوجود".
ان موضوعة التحول من شأنها ان تثير اسئلة تتعلق بجدوى العملية الابداعية، وجدية الكيفية التي تشتغل على معاييرها ويقينا ان فاخر محمد يشكل اعماله على اساس اللعب على متغيرين اساسيين هما:
اولا: التحول المستمر من الثابت والساكن الى الديمومة الجمالية المتحولة دوما.
ثانيا: الارتقاء بهذا التحول الجمالي الى اثير الامتناهي لوضع الشكل في حلته الجديدة. وهنا يرى فاخر محمد رؤيته ويجند كل شيء لعملية التحول من الثابت الى المتحرك، فالخامة والتقنيات والمواد البنائية لا ترتقي بالعمل الفني الى مستوى الفعل الجمالي الخلاق بدون عملية ابداعية ترتكز اولا على تهميش فعالية الجسد واطلاق فعالية الروح لانها تستوعب سرعا اكبر بمقدورها ان تصبح زمانية ولا متناهية، وهذا ما يؤكد عدم جدوى حصر الاشكال داخل الاطر على عكس الاعتقاد السائد ان الاطار نصف لوحة.
ويعتقد فاخر محمد ان مصداقية هذه الدعوة تكمن في ان جميع الاشكال المطلقة والمحصورة بما فيها الاشكال الموضوعة على الخامة تسكن الكون او ربما الكون يسكنها، إلا ان الاخيرة هذه تخضع الى عملية تحول تشترك فيها العملية الابداعية برمتها، حتى يكتسب الشكل شرعيته الجمالية وتتوقف هذه العملية على جملة من القدرات والمعالجات تتلخص في اعادة صياغة الاشكال وتراكيبها بالتجريب المستمر وضرورة معاينة العناصر والتكوينات باعتبارها كواكب سيارة في فضاء كون اللوحة يجب ان نخشى من تصادمها حد التهميش او تباعدها الى حد اللافائدة ويجب ان لا نفرط بالطاقة الكامنة في عناصرها المشكلة كقوة شد طبيعية اضافة الى ما تشكله من القيمة الفراغية الاخرى ومنها (سطح اللون) و(فرض الظل) و(التراكيب الانشائية) والتي لا تحمل ابعادا مجسمة، وان التحول الجمالي هو الذي ابدعها وركبها وتركها على هذا الشكل اثيرية تتسامى كما الروح مع الافاق نحو مصيرها الحسي غير المحدد باطار، وليس محبوسا في جو ما ، فاللوحة تسبح في حقيقة اللامتناهي واللامحدود وستبقى كذلك.
ثالثا: علاقة الفراغ بالفضاء المحيط
يقول فاخر محمد : "في الرسم الحديث هنالك تقارب كبير يصل الى درجة الانضمام بين الفراغ الضمني الذي يحققه العمل الفني (فضاء اللوحة) وبين الفراغ الكوني الذي يحيط باللوحة (الفضاء المحيط) واصبح الان من الشائع الخلط بينهما من الناحية التكوينية بمعنى اخر يمكن ان ترسم لوحة خشبية بدون ان تعلقها على حائط ومن الممكن ان تجعلها ترى من زوايا اربعة متنافذة مع المحيط الخارجي".
في السبعينيات من القرن المنصرم كان للفنان الكبير (جان دبوفيه) تجربة مهمة فيما اشار اليه د. فاخر محمد فقد خرق خامته المكونة من كتلة صخرية بشقوق ملونة بالاسود وتركزت معالجاته على تلك الكتلة في ايجاد رؤية خلاقة لموضوعة الفضاء التصويري عن طريق الغاء مفهوم الفضاء التقليدي فقد استطاع ان يجمع بين الكتلة الحجر وبين الرسم المجرد في فضاء متجانس واحد محققا بذلك تصويراً بصريا منفتحا على جوانب روحية تجسد مهمتين رئيسيتين هما: تنشيط ابعاد الرؤية الحسية وتحولاتها، وتشكيل الحدس المخيالي على بنية المسطح التصويري، وكانت تجربة فاخر محمد سنة 1992-1993 وان تبنت بعض سياقات وافكار تجربة (جان دبونية) إلا انها تميزت بخصوصيات تجريب فاخر محمد التي سبغتها بالطابع التراثي والفلوكلوري العراقي سواء باللون او بالخط او بالشكل فضلا عن ان خامته لم تكن كتلة صخرية وان شروحاته وشروخاته على الكتلة هي من الخطوط الغائرة والبارزة على السواء في التشكيل الواحد، كما انه تفرد في معالجة موضوعة الفراغ المحيط اذ انه اعتبره (الضمير الثاني) الذي يجمعنا بالصورة السطحية كطبقة تعي ما فوقها وتجعلنا جزءا من مكوناتها ، بل تدعونا الى لعب دور مع بنية عناصرها المكونة للشكل.
ان اعمال فاخر محمد تدعونا للاتصال الروحي والتنافذ وفض الفراغ بين اللوحة والمشاهد بوصفهما هدفا مشتركا لتذويب الفراغ بالفضاء والفضاء بالفراغ فالاشكال المرسومة والمجردة هي المكمل الوصفي للاشكال المحيطة لو كانت مكونة من فراغ فقد يشكل مع اللامتناهي واللامحدود علاقات على هيئة تساؤلات وردود افعال تتسامى مع التحول بكل ادواته ورموزه ورؤاه المتصلة بالمخيالية بابعادها المتحققة وغير المتحققة باعتبارها مشروعا يبقى قائما ينمو في بعض الاحيان ويتكاسل ويتخامل في احيان اخرى وهنا نستطيع ان ندرك مدى جدية محاولات الفنان فاخر محمد للتوصل الى اقامة علاقة وجدانية متوحدة مع اشاراته التشكيلية لفعل شيء مؤسس على وجود افتراضات كثيرة لرده الى اصول او الى جذور اعمق تتصل باخلاقيات حضارية مبنية على تحليل الواقع ووضع بدائل حسية لنواقصه وشده الى الممكنات التي تجعل منه مؤهلا لخطوات قادمة تلحق بما هو دارج وميسور ومفهوم على انه يسير على سكه امينة للوصول الى الهدف.
رابعا: اللون بعد زماني لا مكاني
يقول فاخر محمد : "ان وظيفة اللون في الرسم الحديث هي تذويب ثقالة المادة الحسية وتفتيت كثافة الصبغة اللونية تقنيا ورؤيويا والارتقاء بهيئتها الجديدة الى مصاف المشكال الجمالي والانضمام الى افاق البعد الزماني".
يحتفظ اللون بطاقة جمالية عالية، كما ان للون اداء ايقاعياً في اقامة علاقات ارضية (مكانية) تتمثل في طبيعة تراكيبه وتفاعلاته المادية، غير ان فاخر محمد يعول على هذا النوع من الترابط ويقيم على تداعياته فلسفة الرؤية وهي (التحول) من مجرد مادة او طريقة مادية لها خصائص المكان الى موسيقى (زمانية) تحمل صفات اللامحدود واللامتناهي لتصبح تراكيب وتفاعلات روحية لها شرعية الولادة الجديدة وبابعاد تكشف واقعا جماليا مغايراً ومعبراً ليس له وظيفة التطابق كما لو كان مادة او رقما حسابيا انما يصبح تكوينا اخر وظيفيته التعلق بالجوهري الحامل للجمال المتجدد وهنا تكمن زمنيته وهو يحاول ان يستقدم زمنا اخر او علاقة متصلة بذات التحول كمشروع للتغاضي عن ضوابط الحس المكاني وجعله اثيريا كعقارب الساعة في اعمال سلفادور دالي، او الكرسي الوحيد القريب من سرير فان كوخ، فبالرغم من وجود اللون وهو مسمى مؤثر إلا ان هناك زمنا كلاهما يشيران الى الزوال الباقي فلون الساعة عند سلفادور دالي ينتقل من كتلة ملقية على الارض الى الساعة المنشورة كالغسيل على غصن شجرة، ثم الى الفضاء بروحية التسامي الهادي وهكذا يصبح اللون بعدا زمانيا لامكانيا ويرى فاخر محمد ان لا قانون يلزم هذا التحول سوى التجريب، والتجريب الذي تقف وراءه الخبرة التي تستطيع ان تحتمل كل المتغيرات وكل المتناقضات بل المضاربات التي تعطي النتيجة الشعورية التي تحاكي دواخل الفنان وتمكينه من تطويع مادة اللون والخامات المتاحة والتقنيات المتوفرة الى اشارات ودلالات ورموز متحولة.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة