المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

نص في المكان .. (مقهى عبّو قديح)... مشاهد حياتية! (1-2)
 

أنور عبد العزيز

مقهى صغير لا يتسع لاكثر من خمسة عشر تختاً خشبياً متاكلا كالح الالوان. تداخل مع بعضه ليضّم ويتسع لاكبر عدد من الرواد وليعطي مجالا ضيقاً يمر من خلاله الزبون داخلا او خارجاً.. يقع في زاوية على شارعين: نينوى والنجفي.. اكثر رواد المقهى من الشيوخ وممن تجاوزا الستين من اعمارهم.. لغة التخاطب بين هؤلاء الشيوخ لغة خاصة لها عراقتها وعراقيتها وقيمها وتقاليدها. لغة رزينة وقورة لا تخاطب المقابل بأسمه مجرداً.. سيّد حجّي ابو كريم. اغاتي. جنابك. شرواك.. وان وجدت شاباً أو مجموعة شباب فظاهرة تبدو شاذة او غريبة على هذا المكان.. هذا شاب دفعه وألجأه المطر او لفح الحر فتراه يلتجئ للجلوس. اخر يكتب وعلى عجل عريضة. ثالث ينتظر انتهاء معاملة بعد ساعة في الدائرة القريبة... ازياء الشيوخ مختلفة. خاصة ما يتصل بغطاء الرأس. صحيح ان الغطاء يلف أغلب الرؤوس او كلها. لكنه يختلف في لونه وطريقة هندسته. اما العقال (الموصلي) فهو وسط في سمكه بين العقال البدوي والجنوبي ولن تفتقد في هذه المقهى زيا قديما يتمثل بأن يعتمر البعض (بيشماغين) يلفهما على بعضهما (بلا عقال). وربما صادفك الحاج الذي تلتمع (غترته) الصفراء المطرزة بخيوط حريرية. وقد تجد (الفيس) او الطربوش الذي تنتصفه وإلى جهة الخلف (بسكوله) من حرير اسود.. جمهور المقهى خليط حضري وبدوي. من اعماق دروب المدينة وازقتها. ومن العشائر المحيطة بالمدينة.. المقهى قديم في جدرانه واثاثه شواهد على ذلك. وساعة الحائط العجوز التي تئن من ثقل الزمن ومن ثقل الحركة الدائمة لرقصها. حركة استمرت لنصف قرن واكثر.. المقهى غرفة واسعة. حجرة واسعة معقودة السقف مبنية بالجص. تدخل اليه من ثلاثة ابواب. كل الاشياء والمرئيات فيه قديمة متجانسة متآلفة الا ان اللافت للنظر غرابة بعض (المناظر) الموزعة على جدران المقهى والتي تصور أجمل المناطق والحدائق واحلى الاماكن السياحية في مدن اوربية مختلفة: لندن. باريس. فينا. جنيف لكنك وانت تسرح بنظرك وخيالك في هذه المرابع تسمع صوت (الغرامافون) بعلامة الكلب والف (قوان) بجانبه. وسيد ذنون عبّو قديح يسحب بين آونة واخرى اسطوانة يضعها على الغرامافون.. ذنون يؤدي ثلاثة اعمال ومهمات في وقت واحد: يقدم الشاي والماء لزبائنه، يغير الوجه الواحد من الاسطوانة كل خمس دقائق وبلا ملل وكأنه قد تحول إلى آلة يتحرك بلا وعي. ثم هو لا يغفل عن حركة الداخلين والخارجين.. المقهى لا يحوي غير الغرامافون وجهاز راديو قديم استفاد من (سماعته) في رفع صوت القوان المتهالك بصوت مطرب مريض لولا مساعدة السماعة.. قديح لا يعرف من عمره غير انه تجاوز السبعين. وان عمر مقهاه أربعون سنة واكثر. يقول عن المقهى انه كان من قبل مركزاً للشرطة. وعندما انتقل المركز. احتلت (مديرية المعارف) الطابق العلوي من المبنى. أما بالنسبة له فقد كان يعمل قبلها في مقهي يقع في شارع الثورة (شارع غازي سابقاً). وقبلها ايضاً كان يعمل (جايجي دوار). وهو يتذكر انه انتقل لهذا المقهى (سنة 1930).. وتسأله عن (قواناته) التي يعتز بها ويخشى عليها ويمسحها بخرقة بحذر واناة رغم ان اكثرها قد تخرم او انفطر او انثلمت منه اجزاء. وانت لا تستطيع الطعن او السخرية من (ابرة) جهازه المثلومة التي تقدم لك ضجيجاً لا تفهم منه الا مقاطع مبتورة. وان كان اللحن واعتماداً على سماعة الراديو يفعل سحره العجيب في نفوس الحاضرين. الصمت والهدوء سمتان بارزتان، فهؤلاء الشيوخ يرتبطون بهذه الاصوات بأكثر من احساس وأعمق من مشاعر عادية. هذه اصوات تعيد إليهم ذكريات لاصدقاء قدماء ماتوا ورحلوا، وهم لا يزالون يعيشون ويسعون على هذه الأرض. وربما تمثلت هذه الاحاسيس بالوفاء لأولئك الاصدقاء المطربين الذين كانوا اعلاماً بارزة في المدينة والذين جمعتهم مناسبات فرح ترفرف بأطيافها الحالمة لتعيد لذاكرتهم اجواء قديمة عاشوها. وان باتت ذكرى تلك الافراح شاحبة هزيلة مكلومة لقدمها فذاكرتهم الآن لا تستطيع ان تحتفظ بكل اسماء المقاهي والمطربات التي مرت عبر عمرهم المديد.. ننتقل إلى الأسطوانات (الف قوان)، اغلبها (مقامات) والرجل سيد ذنون وان كان يتعصب لمدينته ويضع (سيد احمد عبد القادر الموصلي) الملقب (ابن الكفغ) بفتح الكاف وقلب الراء غيناً تبعاً للهجة الموصلية وكذلك ابن عم سيد احمد (سيّد سليمان) ثم سليمان بن داوود يضع هؤلاء على رأس القائمة لمن يحبهم ويعشق اصواتهم وهو يقول: ان عظمة هؤلاء وخاصة سيد احمد ترجع إلى تأثره بطريقة النابغة الضرير المقرئ والشاعر والصوفي والملحن المبدع: ملا عثمان الموصلي. وسيد ذنون عبو قديح يفخر بان (سيد درويش) قد تتلمذ في دمشق على الملا عثمان في طريقة الغناء والتلحين وكما وجهه وأفاده.


عن الصعلكة وتجارب المثقف

نصيف الناصري
شاعر من العراق يقيم في السويد.
Nasif_nasiry@hotmial.com

تطالعنا بين اونة واخرى كتابات صحفية سريعة شأنها شأن الثقافة العراقية في الداخل، لصحفيين هواة وبعض الكتاب تتحدث عن الصعلكة والصعاليك من دون تمييز بين من اختاروا الصعلكة اختيارا واعيا كموقف من العالم والمجتمع والسلطة والعائلة، وبين بعض الناس اللطفاء ممن ابتلوا بالادمان المفرط في احتساء الكحول. ويعتقد اغلب اصحاب هذه الكتابات انهم في عملهم هذا يحققون فتحا او يكشفون عن طرافة عبر التحدث عن بؤس وفقر ونبل الصعلوك، لكن الحقيقة المرة هي انهم يقدمون اساءة بالغة لمفهوم وشرف الصعلكة الذي نعرفه، وللتمييز بين الصعلوك وبين الكحولي هو ان الاول ينتج ابداعة دائما ويكرس له حياة كاملة ويتصف بطباع وشخصية لطيفة ومرحة، تمتزج احيانا بفذلكات سوريالية محببة يفتقدها اولئك الذين يحيطون به والذين يهربون من دفء بيوتهم وصرخات زوجاتهم واولادهم ومحيطعم الاجتماعي المعادي للحرية التي يحملها الصعلوك. بغض النظر عن حبه للكحول وعدم وجود وظيفة رسمية ثابتة له في مؤسسة ما تمنحه الراتب الوظيفي ومعيشته شبه الدائمة على عطايا الاصدقاء والجوقة التي تحيط به اينما حل وارتحل، اما الكحولي فهو ذلك الانسان الذي اصيب بمرض الادمان ولا يستطيع التخلص منه إلا بخضوعه لاشراف وعناية طبية في مراكز معالجة الادمان، ومعلوم ان الانسان الكحولي ينسلخ بمرور الايام عن محيطه العائلي والاجتماعي ويعيش على الهامش من خلال نمط حياته الذي يؤدي به الى اناس هم على شاكلته تماما. حسب المعلومات الطبية لدى اهل الاختصاص، ان السكير الكحولي، يصاب بالادمان ونسبة الذين يصابون به تتراوح بين 12% و15 % والكحولي هو الوحيد الذي يستطيع ان يحتسي الكحول بمفرده، اما الانسان غير الكحولي فلا يستطيع الشراب وحده سواء كان في البيت او في غابة او في اي مكان اخر.
يعيش الصعلوك في البيت او في الفندق اذا كان قادما الى بغداد من محافظة اخرى ويقضي جل اوقاته مع الناس العاديين والاصدقاء في المقهى او المكتبة ويذهب الى السينما والمسرح، ويرتاد الحانة في اوقات معينة لان جسمه غير مشبع بالكحول وجهازه العصبي هادئ تماما، وافضل الاوقات عنده تكون المساءات. النقود ليست مهمة بالنسبة للصعلوك اذا اراد الكتب او الشراب او الطعام او الملابس او بقية الاشياء الاخرى طالما انه ينتج ابداعه ويحيا حياته حسب الانماط التي اختارها هو. تاتي النقود بسهولة من المحيطين به. لا يستجدي الصعلوك احدا وحين يكون عنده المال يوزعه ولا يحتفظ به ابدا مهما كان حجمه وشكله ولونه. لا مال للصعلوك إلا عطور وورود الصداقة والصحبة الكريمة، اما الكحولي العاطل عن الفعل والمريض والعصبي والشتام، فيكون وجوده في مكان ما نكبة وحالة بائسة، اذ يتوجب على المرء عدا منحه النقود بشكل يومي ومستمر، ان ينصت لشتائمه وثرثرته غير المجدية وشكواه المستمرة وبكائه واساءاته البالغة للمكان والحضور.
في الثمانينيات كان الوسط الثقافي الموبوء ببغداد قد اطلق تسمية مربع الصعلكة علينا انا وجان دمو وحسن النواب وكزار حنتوش لا لشيء سوى اننا كانت تجمعنا ظروف معينة غير طبيعية في تفكيرنا وطيبتنا ونمط حيواتنا ورؤيتنا للعالم والمجتمع والاشياء. جان دمو من كركوك ويعيش في بغداد بفنادق رخيصة او مع اصدقاء ولا يأبه بأية وظيفة او عمل، يكتب الشعر ويترجم عن الانكليزية في فترات متباعدة جدا، القي القبض عليه في اوائل الثمانينيات من قبل عناصر الجيش الشعبي وتم سوقه الى احد القواطع. كنا قد افتقدناه كثيرا لكنه عاد بعد أشهر بعافية عالية وقال: "لقد اشبعوني الدجاج واللحم وكانت عندي قريولة وفراش وانام بالمجان. كلاب دمروني بالتدريب بس ما تعلمت شلون ارمي بالبندقية. كزار حنتوش خريج معهد الهندسة العالي، ياتي الى بغداد مرة او مرتين في كل شهر من اجل استلام مكافات قصائده ولقاء الاصدقاء والتصعلك في الحانات وشراء الكتب تم سوقه الى الخدمة العسكرية الالزامية جندي احتياط لمدة سنتين في احدى جبهات الحرب. هرب في الشهر السادس وسيق الى محكمة عسكرية قضت بسجنه فترة معينة، حين تم تسريحه بعد ان امضى سنتين في جبهة الحرب وذهب الى تجنيد الديوانية لاكمال معاملة تسريحه، قال له ضابط التجنيد: "يا بعير ابن بعير لبسك احتياط ووداك للجبهة؟ ليش انت حمار ما تدري انت مشمول بامر الريس؟ الخريج من معهد الهندسة العالي والمهندس ما تروح مواليده للحرب ولا مشمول بالخدمة" اما حسن النواب سائق الدبابة في احدى جبهات القتال والذي كان دائم الهروبات من الخدمة العسكرية ويقضي اكثرايامه ببغداد بعيدا عن بيت اهله في كربلاء خوفا من القاء القبض عليه من قبل المفارز الامنية والجيش الشعبي، فقد كان مثلي يتسكع بنماذج اجازة مزورة ويتجنب المرور بالمناطق والساحات المزدحمة وكان يذهب الى الحانة والى نادي اتحاد الادباء سيرا على الاقدام حتى لا توقفه سيطرة استخبارات او انضباط عسكري او جيش شعبي، في تلك الفترة التي اتحدث عنها لم يكن بيننا من هو كحولي. كنا نشرب في الليل فقط واحيانا نذهب الى حانة ونشرب البيرة من اجل التبريد في الصيف بعد ان نمضي ساعات طويلة في جو مقهى حسن عجمي الخانق بفعل الثرثرة المعتادة ودخان النرجيلات وصياح الرواد وهم خليط لا متجانس من العاطلين والمحامين والمتقاعدين والبقالين والرسامين والتجار والشعراء والكتاب والطلبة والجنود.
في بعض بلدان العالم ومنها السويد، لا يجوز دخول الكحولي إلى الحانات ولا يجوز بيع الشراب الثقيل إلى الكحوليين. تباع لهم البيرة الخفيفة 2/28 فوليم أو 3/5 فوليم ويمنع عليهم شراء الفودكا والويسكي والبراندي والعرق 40 فوليم والبيرة 5 فوليم والبيرة الثقيلة 7 و8 فوليم والنبيذ 12 و14 فوليم. عندما وصلت إلى هنا قبل 8 سنوات كان يحلو لي أن أشتري البيرة الثقيلة أو الفودكا قبل أن أجبر على الذهاب اليومي لدراسة اللغة السويدية، وأذهب لأشرب على المصاطب في الشوارع وفي الحدائق العامة. كنت مزهواً بفعلي هذا. كنت أود أن أذهب وأجلس مع الكحوليين السويديين حتى أتعلم منهم اللغة. كان الجيران حين يشاهدوني أشرب على مصطبة ما، يمتعضون جداً ولا يلقون علي التحية وكنت حين أحييهم يتجاهلون تحيتي ولم أكن أعرف السبب، لكن حين بدأت أفهم قليلاً في اللغة اكتشفت من خلال المدرسة وبعض الناس ويا للهول أن الشخص الكحولي شبه منبوذ من المجتمع بسبب صراخه وعدم استحمامه وإزعاجه للجيران وعدم دفعه إيجار البيت وشحذه المهين للنقود من الناس بشكل دائم مع أنه يتسلم النقود من دائرة الضمان الاجتماعي أكثر مما يتسلمها الشخص الطبيعي. بعض الكحوليين ممن يطردون من بيوتهم بسبب عدم دفع الإيجار يذهبون إلى فنادق البلدية المزودة بغرف فاخرة ومطاعم بالمجان. تركت هذه المهمة السخيفة وبعد أكثر من سنة اكتشف جيراني أنني لست كحولياً. لا يجوز هنا ضرب الشخص السكران مهما أبدى من عدوانية وإزعاج لأي شخص، وحين تعثر الشرطة على سكران ما في الطريق، تأخذه للمبيت في المخفر وفي الصباح يذهب إلى بيته بعد أن يستعيد صحوه. في بعض بلدان أوروبا تقوم الشرطة بأخذ غرامة معينة من الشخص السكران، أما في السويد فلا يأخذون غرامة لكن تبقى نقطة سوداء لكون هذا الشخص السكران نام في يوم ما عند البوليس بسبب الإفراط في السكر، ولقد نمت مرة عند البوليس عندما أفرطت في السكر حد الثمالة أثناء حفلة عراقية. طبعاً هذا هو عكس ما يحدث في بلداننا العربية، إذ نشاهد الناس السكارى في الشوارع يعربدون ويغنون ويصرخون ويتحرشون بالنساء حسب أمزجتهم ولا اعتراض من أحد على تصرفاتهم المسيئة، وفي حال قام أحد هؤلاء بالعربدة على شخص ما أو استفزازه بكلام لا يعول عليه يقوم هذا الشخص بضرب السكران والثأر منه بقوة.
كانت هنا تقاليد غير حميدة بالعراق في نقابة الفنانين ونادي الإعلام واتحاد الأدباء وبقية النقابات المهنية، حيث تقوم كل مؤسسة من هذه المؤسسات بفتح حانة للأعضاء وتقدم لهم المشروبات، وبمرور السنوات يسقط المئات من الناس صرعى داء الإدمان القاتل، وكم فقدنا من المبدعين بسبب الإدمان في حانات هذه المؤسسات التي تقدم السموم والميول إلى الانتحار البطيء، والمصيبة الكبرى أن هذه الحانات التي يجب أن تكون غاياتها وأهدافها اجتماعية وترفيهية صرفة لكل الأعضاء، كانت ذات مناخ كحولي سيئ وثقافة ذكورية تبعد المرأة عن هذا المناخ الملطخ بالنميمة والصخب والعدوانية التي يمارسها البعض ممن لم يتشكل وعيه الحضاري بصورة حقيقية وظل يحمل ثقافة وتقاليد القرية التي جاء منها.


شريط كراب والبرتين 5 .. المتاهة
 

حميد عبد المجيد مال الله
 

(1)
المتاهة الكونية للانسان، ثيمة رابطة لنصين مسرحيين متباعدين زمنيا، متجاورين في اطروحتيهما.
اولاهما (شريط كراب الاخير) مسرحية صاموئيل بيكت المثيرة، كتبت بعد عام من (لعبة النهاية)، وهي طبقا لألين ستون وجورج سافونا (مثال اخر على تمثيل مختزل كئيب للوضع الانساني).
يقتصر (الفصل) على الانصات الى تسجيل (لمذكرات) كراب سجل قبل تسع وثلاثين عاماً. ان كراب بعيد عن (ذاته الشابة) يمكن قراءة حالته النفسية بوصفها (رفضا لقبول انحطاطه الجنسي والبدني والعقلي).
المسرحية في فصل واحد، تفتتح بمشهد (ميم) يضع شروط اللعبة التي ستدور. عالم النص (الراديكالي يقلب التقاليد المسرحية للتمهيد البرجوازي) الذي يحسس، ويعرف على المكان والزمان. بدايات الفعل: كراب في (صومعته) الى مائدة في (الليل المتاخر في المستقبل!) محاط بتأثيث مشاهد فوضوية تميز الافتتاح، وتستمر الى النهاية.
الحوار منولوغ داخلي متغير بين انا الحاضر
كراب في سن التاسعة والستين و(انا) الماضي كراب في التاسعة و الثلاثين على الشريط التفاعل الوحيد بين الصوتين يستكشف في (تنصله اليائس من ذاته الشابة) ويقوض النص عن عمد قدرة المتلقي على استنباط (شخصية متسقة ومترابطة) من (الكرابين). عزل (انا) الحاضر عن (انا) الماضي يمثل نقدا (لتاريخ شخصية متسق!).
المكان غير محدد (يمثل عالم العبث) في عرض باتريك ماجي لـ (فرقة رويال كورت) عام 1958 المقوسات اقتباسية من كتاب المسرح والعلامات للناقدين السيميائيين ستون وسافونا
الصومعة اكتسبت طابعا يشبه (المتاهة) منظور الممر الذي يخلفه سير الشخصية الطويل المتكرر والمتعثر الى الابواب والغرف والظلام، كذلك تشكيلات ظل الرجل الضخم توحي بمتاهة لامفر منها. (مع كل هذه الظلمة من حولي اشعر باني اقل وحدة "وقفة" احب ان انهض واتحرك فيها ثم اعود هنا إلى.. "يتردد".. الى "وقفة") يقوم بثلاث رحلات متعجلة بشكل اخرق، لاحضار الشرائط والدفتر والمسجل استعدادا (لفعالية الاستماع.) وعندما يستمع للشريط يستجيب بايماءات متكررة هي اشارات على الموافقة والاشمئزاز، والذهول من علاقته بذاته الماضية. في الاستعادة المتكررة لمشهد الحب.
كراب/ استلقي واقفا! ووجهي في (...) ويدي فوق.. يصاحبه وضع كراب لرأسه على المسجل! واحتضانه الآلة بين يديه، مجسدا تذكر الحب الذي ولى.
استخدام صوت المتكلم الان: كراب الحاضر، عجوز متهالك، وصوت كراب الشاب، يقدم ثنائية من (علامات) سمعية يولدها الممثل.
وعلى مستوى دلالي، هناك (كاميرا سينمائية) مسلطة على الفضاء المسرحي، وحسب (ماكسويل) "تكشف شخصيات بيكيت من آن لآخر عن وعي ما بعد حداثي، بوضعها كبنى درامية او سردية، ومن ثم تحطم شروط العلاقة التقليدية بين الشخصية والمتلقي".
ان هذا التدمير يتعقد بالتوجه الى (الكاميرا) ان المتفرج المسرحي معتاد على التوجه المباشر له من خلال (الجوقة والمناجيات والاسايد، والخروج عن الدور) اما المتفرج السينمائي فعلى العكس معتاد على تقليد مشابه (للحائط الرابع) اللقطات السينمائية تواشجت في (اخراج كل من ماجي / ماكوي
وشنايدر / ماكوران لتحديد فضاء العالم المتخيل، ولقطات مكبرة لكراب) بعد وضع صورة بانورامية لشريط كراب الاخير، نتحول الى المتاهة الكونية.
في ثانيا: مونودراما (البرتين × 5)
2
نص (في الاتجاه العكسي للمونودراما) وهذه اشارة من المؤلفة الكندية ميشيل ترومبان التي نشرته باللغتين الفرنسية والانكليزية عام 1992 ترجمت نورا امين النص ونشرفي مجلة (المسرح) المصرية، العدد 82 سبتمبر 1995 (34 صفحة) عرضت المسرحية عام 1993 باللغة الانكليزية، انتاج الجامعة الامريكية في مصر اخراج انجي الصلح.
يقدم النص شخصية واحدة (البرتين) الى جانب اختها بوصفها شخصية مساعدة باداء ميم. تقدم البرتين بخمس شخصيات! وحسب الارشادات الاخراجية (هناك خمس ممثلات يؤدين الدور الممثلة الاولى بدور البرتين في الثلاثين، والثانية في الاربعين، الثالثة في الخمسين، والرابعة في الستين، والخامسة في السبعين) الحوار منلوكي بصفتين داخلي وخارجي، ودايلوكي اطرافه الممثلات الامكنة ماثلة متجاورة، وهذا تحطيم لوحدتي الزمان والمكان التقليديتين الحركة بينهما تبعا لانثيالات الذاكرة اي تيار الوعي او اللاوعي!
ترابية المكان المسرحي على المنصة (بيت ريفي في دور هاميل، تجلس في شرفته الفتاة وشقيقتها مادلين، بجواره بيت في شارع لافاير باحدى المدن، تجلس الفتاة في شرفة الى جانبه بيت تظهر منضدة والبرتين في الحديقة، اختها تعمل سندويشات للرواد المكان الرابع غرفة ضيقة ترقد فيها المرأة وحيدة على فراش حقير بجانب منضدة عليها اقراص دواء. الى جانبها غرفة باهتة في بيت صحي للمسنين تجلس البرتين في (السبعين) وحيدة على كرسي هزاز. وذلك يعني التجاور بدل التعاقب، تجاور الفضاءات الازمنة والمراحل العمرية وتداخلها وفق عوالم فانتازية!
تسرد الامرأة الأربعينية منلوكا، ثم تواجه البرتين، تخبرها عما سيؤول اليه حالها خلال العقد القادم
هي الان في الثلاثين، وتتدخل وهي في السبعين ساردة للاثنتين امورا لم يتبينها، كاشقة عن تعقد وتشابك النفس وغموضها والتيه الذي تعيش فيه الان.
من الذرى الفائقة الجمال (البرتين في الثلاثين تتقدم الى شرفة منزل والدتها، تبدو ممتلئة، لكنها جميلة جدا ترتدي فستانا صيفيا موديل 1940 تجلس على كرسي هزاز، وتهتز به على ايقاع البرتين في السبعين، تلحظها الاخيرة، وتتوقف عن الاهتزاز في الوقت الذي تصدر فيه صرخة خفيفة تنم عن المفاجأة، تنظران الى بعضهما وتبتسمان، البرتين في الثلاثين تلوح الى الاخرى في رقة، البرتين في السبعين تعطي الكرسي دفعة قوية وتبدأ في الاهتزاز به من جديد) وتلقي منلوكا.
افترض ان الاتجاه العكسي لايتوافر على هيكلة البناء فحسب، والذي ابتكرته الكاتبة بكسر التقعيد المونودرامي التقليدي، بل يمكن اسقاطه على مسار حياة الشخصية الذي يبدو الى الامام، إلا انه معاكس بسبب اتجاهه الى متاهة الانحطاط، ومن علاماته: الوحدة والغرفة الضيقة، والغرفة الباهتة، والرقود الاجباري على سرير حقير الفراش والبيت الصحي للمسنين وعلب الدواء وانتظار المجهول على كرسي هزاز توحي حركة الشخصية عليه برفض الانحطاط البدني والنفسي والمتاهة في تجاور مع رفض كراب لقبول انحطاطه الجنسي والعقلي.


قصيدتان
 

حميد حداد

"إرهاب"

في آخر الحديث,
كان ثمة شيء لم نتفق عليه
يتعلق بشخص,
احدنا على الأرجح,
لم نتفق عليه خشية المواجهة
اذكر إننا كنا نتهرب من
النظر إلى بعضنا
رغبة في التواطؤ
.......

لا باس في الأمر
لنترك الحديث والنظر معا
لنفكر بالسيدة التي
تتهمنا بالإرهاب بنظراتها المتشككة
لنفكر بأمر إرهابنا
لأنفسنا,
بالمطلق الهش الذي
يدفع بالفكرة إلى التفجر
في فراغ الآخرين..
لنفكر بالصمت ,
ولو رغبة,
في التواطؤ.


"قصيدة هجاء"

أن تعرف
بأنك فارس
تعرف أيضا
بأنك مقتول لا محالة
........
قتيل, وهذا مجده الناقص
يرقد إلى جانبه
مثقلاً بستة آلاف عام
.......
أبي
أيها الوطن
أنت تربكنا
......
منذ متى وأنا احبك؟
لا اذكر
لا اذكر أيضا
متى خرجت
عن طاعتك.
......
الشعب يحتمل التأويل
لم أنا قلق إذن؟
......


الحكاية تبدأ..
عندما يتهدم جدار الطين,
عندما يدرك الحبل
قصر قامته.
يواصل السيارة رحلتهم,
ويصمون آذانهم
عن صراخ البئر

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة