تجفيـــــــف التـــــــمرد
*بقلم
/ أي . سي . غريلانغ
نشرت في 27 آذار 2006 لندن
ترجمة : نعم فؤاد
عن : النيويورك تايمز
*أي . سي .
غريلنغ : آخر إصدارات الكاتب هو كتاب ( بين المدن الميتة :
تاريخ و التراث الأخلاقي لقصف المدنيين في ألمانيا و
اليابان خلال الحرب العالمية الثانية) .
وكما
نرى في الهجوم الاخير الذي شنته القوات الأمريكية و
العراقية ضد المتمردين في سامراء، فقد اخذ المصطلح ( هجوم
جوي) معنى جديدا في التعبير العسكري، فهو يعني ألان نقل
القطعات العسكرية بواسطة الطائرات المروحية للقيام بعمليات
عسكرية عوضا عن توجيه الضربات بصورة شاملة و بدون تمييز
بواسطة القذائف و القنابل التي تسقطها الطائرات .
إن العمليات التي تشن ضد المتمردين لا تزال تقع في المناطق
السكانية و التي يتعرض سكانها لمخاطر العمليات البرية بنفس
الخطورة التي يتعرضون لها عند القصف من ارتفاعات شاهقة، و
هنا تواجه الصحافة التي تتابع هذا الموضوع سؤالا يتوجب
طرحه على القوات التي تقودها أمريكا في العراق، و هو مدى
الدقة و النجاح الذي تلتزم به هذه القوات لتطبيق ( مبدأ
التمييز) الذي نصت عليه قوانين الحرب و الذي يتطلب التمييز
بين المقاتلين عن غير المقاتلين لكي يمكن حماية الأخيرين .
هذا المبدأ و ضعته القوى العسكرية والمنظمات الدولية
بتأثير القصف المنظم للمدنيين خلال الحرب العالمية الثانية
الذي استندت إستراتجيتها عليه . هذا القصف الذي سمي حينها
( القصف الشامل) قامت به القوة الجوية للولايات المتحدة و
بريطانيا ذهب ضحيته مليون مدني . عندما تعرضت المدن
الألمانية واليابانية إلى ( قصف كاسح)، و قد تطلب عقودا من
الزمن حتى اعتبر القصف المتعمد للمدنيين جريمة حرب . و
تعود أسباب هذا التأخير في اعتبار قصف المدنيين جريمة حرب
إلى الأعمال الوحشية التي ارتكبتها دول المحور و كانت من
البشاعة بحيث غطت على كل ما حولها من جرائم . والذي تقبلته
شعوب دول الحلفاء في وقته و لم تنكره لاعتقادها بان هزيمة
النازيين تبرر إتباع كل الوسائل . و لكن مع تضاؤل ذكريات
الحرب العالمية الثانية لم يعد في الامكان إنكار العمل
اللااخلاقي للقصف المتعمد للمدنيين . في سنة1977 وضع
برتوكول الزم العسكريين التمييز بين المدنيين و المقاتلين
و الذي أضيف إلى اتفاقية جنيف . و كانت بريطانيا من
الموقعين عليه و لكن الولايات المتحدة لم تصادق عليه أبدا،
إلا إن الولايات المتحدة لا تزال تعلن إن قواتها تحاول
تجنب ( ضرر من هذا النوع) و لكن من الصعب حماية المدنيين
كما هو الحال في العراق، عندما يختفي المقاتلون بين السكان
المدنيين و يتلقون الدعم منهم .
تتسم طبيعة المتمردين الحقيقية بخلق مشاكل لا يمكن حلها
فالمثل المرعب للمناطق التي تم قصفها في الحرب العالمية
الثانية قد اظهر و بدون جدل إن مبدأ التمييز بين المقاتلين
و المدنيين يجب أخذه بنظر الاعتبار و مع ذلك فان المتمردين
يستغلونه و بشكل معيب كدرع لهم . إما الحل الذي يبدو
متناقضا ظاهريا مع هذا المبدأ ليس في التخلي عنه و لكن في
استغلاله كوسيلة للانتقام . و لمعرفة كيف يتم ذلك ما علينا
إلا النظر إلى التجربة البريطانية القيمة التي اكتسبتها
عندما هيمنت على إمبراطورية متمردة ضمت ثلث سكان العالم
عندما كانت في ذروتها . لقد تعلم البريطانيون الطريق الصعب
الذي لم يخل من أخطاء فادحة عند اجتيازه لكن كان الدرس
واضحا و هو تصريف مياه البركة التي يسبح فيها المتمردون .
فعند تطبيق هذه الاستراتيجية حرفيا يتوجب نقل السكان
المتواجدين في مناطق النزاع إلى العيش في معسكرات . و هو
ما سيفقد المتمردين الغطاء و الدعم . لقد كلف تطبيق هذه
الطريقة أثمانا عالية و بشكل أثار الجدل عندما تمت تجربتها
لأول مرة في حرب البوير، إذ فقد الكثير من الأطفال و
النساء حياتهم في المعسكرات التي جمعوا فيها . و لكن هذا
الأسلوب قد جرى تحسينه عندما قام التمرد الشيوعي في الملا
يو، و أثناء انتفاضة منظمة الماو ماو في كينيا في
الخمسينيات . لقد كانت الحياة في القرى التي هجر إليها
السكان أكثر راحة و كان التعامل فيها يسوده الرقة و اللطف
. و من الطبيعي أن يترادف فصل المدنيين عن المقاتلين مع
توجيه ضغط مستمر على الأخيرين إلى أن تضطرهم الظروف التي
يعيشون فيها للقبول بالحل السياسي . ففي الملايو تم عزل ما
يقرب نصف المليون من السكان عن مناطق المتمردين . هل يمكن
تطبيق مثل هذا الأسلوب في المنطقة الغربية في العراق ؟
سؤال يترك إلى الخبراء العسكريين . و الذي تكون الفكرة
وراءه جعل حياة هؤلاء المدنيين أفضل و إلا سيقومون بتقديم
الدعم للمتمردين بطريقة أو أخرى . فليس هنالك طريق أخر
لإنهاء التمرد .
إن استعمال هذا الأسلوب في العراق و الذي يعتمد على الخبرة
البريطانية يتمثل بضرب نطاق على أكثر المناطق اضطرابا بحيث
لا يمكن لأي شخص الدخول و الخروج إلا بعد الخضوع لتفتيش
دقيق و تصبح الحركة مسموحا بها للأغذية و الأدوية فقط .و
قد اتبع البريطانيون مثل هذه الطريقة في نيروبي و بعض
مناطق المدن في كينيا خلال الخمسينات، عندما قاموا بتفتيش
و بكل دقة لأي شيء أو شخص يدخل أو يخرج من مناطق كهذه . و
من ميزات هذه الخطة إن الأسلحة و الأشخاص قد بقيت في
أماكنها في كلا الجانبين و أصبحت حياة السكان داخل المناطق
المحجوزة أفضل لهم من الحرب التي لا تنتهي . إلا إن مساويء
هذا الحجز قد تعطي نتائج عكسية، فهي تثير الغضب و الامتعاض
بين السكان . كما يتطلب تنفيذها إعداداً كبيرة من القوى
البشرية للسيطرة على محيط هذه المناطق و مراقبتها، و لكن
في النهاية كان حل الاستعمار البريطاني للتمرد يميل إلى
استخدام أوجه من كلا الاستراتيجيتين فعزل المدنيين عن
المتمردين سيقطع الاتصال بينهما و بذلك سيتم إتباع أساليب
متناقضة في التعامل مع كليهما في آن واحد، و سيكون هنالك
إكراه للمتمردين و دعم للمدنيين و الذي يجب أن يكون بصورة
متواصلة . و قد كان الهدف من هذه الأساليب واقعيا، فقد
أدركت بريطانيا أن التمرد لا يمكن قمعه بل يمكن إخماده فقط،
و لن تكون في النتيجة نهايته إلا عن طريق التسوية السياسية
. هذه الحقيقة الصعبة يجب أن تكون المرشد للجهود التي تبذل
في العراق . و كلما كان تطبيقها أسرع كان الأفضل . و في
الوقت ذاته كلما ازدادت فعالية مبدأ التفريق بين المتمردين
و المدنيين و تم دعمه و الذي من شانه تقليل الإصابة بين
المدنيين كلما كان من الممكن التوصل إلى تسوية فعالة و
دقيقة .
|