المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

قصيدة ... و تعليقان ...!!
 

في زمن الارهاب يطرح، بالنسبة لمن يحذرون الكتابة العارية و المباشرة، سؤال: كيف يُحَثُّ الشعر -في قصيدة النثر خاصة -على وقع القنابل و مسلسلات التفجير، و هل بالامكان ان يبقى جمالياً و أخلاقياً معاً؟ و قد يكون الجواب العام هو: لا قوة تتغلب على قوة الاقناع المُغترَف من لبن المرضعة التي هي الارض و الزمن و المكان و الواقع. و لكن ماذا عن التفاصيل؟
هنا قصيدة من هذا النوع لصادق الصائغ يعلق عليها ناقدان (هل نقول قارئان متذوقان، كما اصّرا): كامل شياع و عبد العظيم فنجان.

هُنــَا بَغْـدَاد
 

صادق الصائغ
 

الى مالك المطلبي


هَذِهِ المَدِيـْنـَة ٌعـَجيْبـَة
ضُربَتْ بالقَنابل
سٌحقَتْ تَحتَ الاقدَام
كَما تُسحَقٌ سَاعَة ٌمُعَطَلَة
لَكنـّها
كَمَا لَو وًلدَت للتَو
سُمعَتْ تَحتَ الانقاض تَتك
مُتَحَسسَةٌ قَلبَها
وَأوصَالَهَا المَفقودِة


مَدينَة ٌعَجيبَة
ٌفي حَالَة ٍمِن الحُلمِ والهِذيَان
يَحفُظ اشعَارَها التَاريخ عَن ظـَهْرِ قَـَلـْب
بُيُوتُها مُهَدمَة ٌ
ومَيَادينهَا مَهجورَة
لَكنَ اعلامَهَا المُلونَة
المُستَسلمة لِمٌلامَسَاتِ ريْح نِيسَان
المُثَبتَةَ فوق السُطوُحِ والصَواري
المُخَاطَة بالخِرَقِ البَاليِة
لكن المُصَممَة بأحَاسيسَ فنيةٍ بَسيْطـَة
لا تَتَجاوَز حُدودَ اللَوعَةِ وَالخِسرَان
تَخـْفقَُ تَحتَ الشَمس وتـَلتـَمِع
مُلـَـوِِّنـَة ًاوجُهَ الـفـُُقَـَراء والشَوارع
بألوَانِ السَمَاءَِ والمَلائِك

مَدينَة ٌمُصَابَة ٌبأحلامِ الزَمَن القاَدِم
جِسمُهَا مُلتَهبٌ
وَحَرارَتُها عَاليَة
في أعـْماقِها غَضَبٌ
وجُوعٌ
وبكاء
وصَريرُ اسنَان
مَدينَة ٌيُفَتـِّش ُعَنهَا التَاريخُ
القَناصَة ُوالعُشاقُ واالشُعَرَاء
الغُزَاة ُوالبَرابِرَةُ وَلصُوصُ النِفط
فَي كُلِ مَرَةٍ يُظَنُ أنهََا انتهَت
تُطلِق ُمِن اعمَاقِ الرُوحِ
صَرخَة ًطَويلَة
تَسري في الأثـْير مِثلَ مَوجٍ مُتَكَسِر:
"أموُتُ أو لا أموُت
أعيش ُأو لا أعيش
أكوُنُ أو لا أكوُن
تِلكَ هي المَسألَة "!!!


يَومَ أمس
تَلاميذُ المَدرَسَةِ الأبتدَائِيةِ
الذين لِتَوِِّهِم نَجوا مِن قَصْفٍ كَأنَه ُالجَحيم
خَرَجوا مِن صُفُوفِهم الى الزُقاقِ المُجَاوِر
هَلَلوا لِضَربَة ِجَزاء
شَقَت الفَضَاء مِثلَ صَحنٍ طَائِر
عبَرَت السُطُوحَ وَالالوَاحَ الخَشَبيَة
عَبَرَت الحِبَالَ المُحَمَلَة َبالغَسيل
لِتُنزِلَ أخيرَاً
كَارثَة جَديدَة
ًفي نَافِذَة الجِيرَان !!


وَِعِندَ مَقهى أبو إبرَاهيم
الشَهيرِ بِِمَقهى "المُعَقَدِين "
الغَاصِ بِعُشاقِ الكُتُبِ والشُعَراءِ والعَاطِلين
إشتَبَكَت قَصَباتٌ بَشَريَّة ٌفي نِقَاشٍ صَاخِب
وهذِهِ المَرَة
مِن أجلِ قَصيدَة ِنَثر
صَاحبُها المُستَعدُ لِكلِ عِرِاك
أصَرََّ عَلى أنهَا مُفَصَلَة ٌعَلى مَقاسٍ "دادا"
فعَلَق آخَر
مُعَبَأ بِمِيرَاثِ عَدم الثِقَة ِبالفـَنِ الحَديث
- بعْدَ أنْ ألقى مِنْ يدِهِ حُمولـَةَ َالدُوشَــش- :
لِهَذا هِي مُصَابَة ٌبفَايروس إنفلَوَنزا الطُيُور
ناهِيكَ عَنْ أنَها
تَحمِلُ عَلامَة "سُوق مريدِي"
وبَينِمِا اختـَلَفَ آخَرون
حَولَ مَسرَحِيَة ٍجَديْدَة وُصِفَت بأنَهَا شَعبَويَة
وآخَروُن بأنها خُلاصَة الفِهمِ السِيئ لـ
نَظـَريَة"البوب" والـْفَن البـَصَري
بَعدَ الحَرْب ِالعَالَميَة الثـَانيَة
هَـبََّتْ من الصَفِ المُقابـِل
مَوجة نِقاشٍ حَاد
حَولَ مُكَونَاتِ البُعدِ الرَابِع للسطح
وإبْراهيْم الجِعـْفِري
وفوكايَامَا
ونِهَايَة ِالتَاريْخ


ولَيَس َبَعيدا ًعَن
فِندِقِ الحَاج حَمُودي الدُوري
الشَهيرِ بـ "نزْلُ العُـظماء"
سَيارَات ٌمَارقـَة ٌعَـبَرَت الجـِسر
بَأمِ عـَيني رَأيتـُها تــَطيْر
تـَنْهَب ُالطـَريقَ الاسْفـَلتيَ وكـَأنها نَـيزَك
وَبـِداخِلـِها عَـروسٌ
سَتـَفـقِـدُ بَكارَتَـهَا هَـذهِ اللَـيلة
عـَلى صَخَبِ موسيقى الفـَنَان الشَهيْرِ
الكَابْتن حَجي رزوقي
وَهـُتَافـَاتِ الجُمهُورِ الكَـرِيْم


وَفي دُكـانِ الحَاج جبوري
بالقـُربِ مَن شَارِعِ ِ المـُتـَنبي
غـَنى رَاديو قـَديْم بـِأسْنانٍ مـَنْخـُورَة
أغـْنيِة ًعـَاطِفـِية ٍلِـزُهُور حْسين
أطـَلَ بَعْـدِهِا مُذيعٌ مُسْتَجـِد
لِيَعْـتـَذِرَعَـن خَلـَل ٍفي البَثِ
بـِسَبَبِ انـْقِطـَاع ِالتَيَار الكَهرَبَائي طـَبْعاً
وعـَنْ تـَغْيـير ٍبَسيْط ٍ
في مَوْعِدِ نِشـْرَةِ الاخـْبـِار
حِسِبَ تـَوقـِيتِ غـْريْنـِتش


وَفي السَاعـَة ِالثـَالِثـَة
وبالضَبـْط بَعـْدِ تـَوَقـُف الغـَارَةٍ الأخيْرة
غـَنى بالعـَرَبِيـَة
بَـبَغـَاءٌ هِـنـْدِيٌ ذو عـرْفٍ مـُمَشـَط
أمَامَ جَمـْع ِاطـْفَال ٍتَجـَمْهَروا حَـوْلـَه
أغنية "محمد بوية محمد" لالهام المدْفـَعي
تَسلق بَعْـدَهَا بـِغـَنج ٍوغرور
غـُصْنهِ الاخضر الاصْطِـناعِي
مُتـَبَاهِيَاً بـِذَيْلـِه ِالمـُقـَوَس ِالطـَويْل


مَدِيـْنـَة ٌ، كـَمَا أسْلـَفـْت ُ، عـَجيْبـَة
يَبْحَث ُعـَنْها القـَنَاصُونَ وَالأنـْبـِيَاءُ وَالقـَتـَلَة
المَلائِك ُوالشُعَراءُ والقـِديْسون
الشَرْق ُوالغـَرْب
الشَمَالُ والجـَنُوب
مَدِيـْنِة ٌمِن أجـْمَل ِمـُدُن ِالعـَالَم
تـَهْـَتـَزُ أعـْمَاقـُهَا يَومِياً لِلـقـَصْف
دُوْنَ أنْ تـَفـْقدَ التـَوازُن
وبِالرٍغـْمِ مِنْ أن نِساءََها
يَهْمسْنَ لِرجَالـِهن بـِصَوتٍ خِافِتٍ في اللْيل
خوفاً من أن يستيقـِظ الأطـْفال
فأن الرجَالَ لا يــَسَْمَعُون
ويَسْتِمرونِ في التـَناسُل


مـَديـْنَة ٌعَجيبَة
أهِـلـَتـُها دائِمَاً ثَـَمِلـَة
ونُجـُومُهَا دائـِمَا ًسَكـْرانـَة
ومَعَ انَها ضُربَت بالقـَنابل
وسُحِقَت تـَحتَ الاقـْدام
كَمَا تـُسْحَق ُسَاعَة ٌمُعـَطلَة
فـَقـَد ظـَلَت تـَتك
وكأنَها وُلدَت لِلتـَو
مُرسِلَة ًمِن الانـْقاض
وعـَلى اجـْنحَة ِضَوءٍ مُتـَكَسِر
شـَفـْرَة ًللأجْيال ِالقـَادمَة
ومَا يَفـْتأ قـَلبُها يَخْفـِق ُويَخـْفق
مُتـَضَامِنا ً
مَع اشَارَةِ بُلبـُل الاذاعَة ِالمُغـَرد
بـِكـُل ِما يَمْلك ُمِن عـَزْم ٍوقـُوة
بِكـُل ِمِا تـَبَقى لـَه ُمِن كـَلِمَات :
هـُنا بـَغـْداد
هُنا بـَغـْداد
هـُنا بَغـْداد


لُقى الباحثِ عن بغداد
 

كامل شياع
هذا نصّ عارٍ، استلّ من الحياة كما هي، دون تزويق او إسقاط او إدعاء. لا مجازات تسنده و لا رموز. نصّ يستلهم نثر الواقع، يُسمي الاشياء بأسمائها، و يستعرض يوميات مدينة يعتبرها من اجمل المدن ...
نصّ نطلّ منه على بغداد، فتأخذنا دهشة الشاعر من مدينة ميتافيزيقية في حضورها المتعيّن، لا في ماهيتها المجردة، تجرفها اذرع موت عبثي، و يثقل عليها خراب كاسح .. لكنها لا تنفكّ ترسل "شفرة للأجيال القادمة". لنتأمل هذه الإشارة! لنقارنها بالعراق الذي يذخر الرعود في "انشودة المطر"، و لنقرأها في دلالتها المخالفة، الضمنية، و غير المقصودة على الارجح، لارض ت. س. أليوت اليباب. في هذا النص يجمع الشاعر صادق الصادق لقى بحث حميم و متأن في عالم مدينته بغداد و عنه، و يوردها في خمسة مشاهد: تلاميذ المدرسة الابتدائية، مقهى ابو ابراهيم، سيارات الزفاف المارقة عبر الجسر، دكان الحاج حمودي الدوري و استعراض الببغاء الهندي ذي العرف الممشط. تبدو المدينة من خلالها منسجمة مع نفسها تمام الانسجام، لا تكترث لتعاسة وضعها و لا تتأهب لتحدي نوائب الدهر، بل تمضي مستقرة في مدارها، تكرر نفسها و تصنع فرادتها بعفوية او بصخب احتفالي. كل شيء في هذه المدينة العجيبة عابر، و كل شيء فيها باق للأبد.
هكذا هي بغداد التي تحتفظ بها الذاكرة، بعد ان يلتقط التاريخ اخبارها، ساهياً عن سرِّها المودع في احوالها المتقلبة.
و هكذا ينبغي لها ان تكون في نهاية رحلتها عبر متاهة التاريخ، او في بدايتها الاولى التي يعلنها بلبل الصباح.
الشعر في "هنا بغداد" بلغ قراره الذي هو الحياة ذاتها، حيث يأتلف الخراب مع الامل و الوضاعة مع السمو.


هنـــا بغـــداد لصادق الصائغ .. شعـــــــر الســــتينيات ... و ثمــــــاره
 

عبد العظيم فنجان
قبل ايام من التقائي بالصديق الكبير صادق الصائغ، كنت اسأل الشاعر زعيم نصار، تحت سماء بغداد المكتظة بالدخان و الانفجارات، "اذا كانت بذرة قصيدة النثر قد غُرستْ في تربته الصحية على ايدي الستينيين، فمن المفروض انها الان شجرة، و من المفروض انها اعطت ثمارها: يا زعيم اين تلك الثمار؟" ليس ثمة استنكار في السؤال، انه استفهام طبيعي، و مشاكس في آن واحد: اين تلك الثمار التي اعنيها، و ليست هي تلك المعروضة في سوق الاستهلاك اليومي السهل، و المندرج تحت يافطة "تجريب" فاقد حرارة الروح و الحياة، قبل فقدانه حرارة التجربة.
قد يبدو سؤالي ترفا، في مدينة "عجيبة / ضُربتْ بالقنابل / سُحقتْ تحت الاقدام / كما تسحق ساعة معطلة" .. لكنها بغداد، و قبل ذلك هي العراقي: صانع الحياة و الحضارة، و بعد ذلك هي الثمار التي يريد ان ينوش سلتها سؤالي، و قد وجدت بعضها
الثمار في هذه القصيدة التي اجدني في محنة التقديم لها فلست مفوّهاً كبيراً في الادب: تركت الكلام عن الشعر مذ ان فهمته، و اكتفيت بكتابته وفق فهمي البسيط له، نائياً بنفسي كل النأي عن ان اقول ما لا افعل، و لكنها بغداد ايضاً: "مدينة مصابة بأحلام الزمن القادم / جسمها ملتهب / و حرارتها عالية / في اعماقها غضب / و جوع / و صرير اسنان" و هي اعراض تعتريني، انا العراقي المصاب حتى اعمق اعماقي بحمى البحث عن الامان و الابتكار معاً، فقبل يوم واحد من تسلمي عصر الثلاثاء الماضي قصيدة الصائغ انفجرت سيارة مفخخة في ساحة الطيران، قريباً من جدارية فائق حسن، على حشد من العمال، و بالضبط حيث كان الشاعران صلاح حسن و نوري ابورغيف يبيعان البيض المسلوق و الصمون ليلاً، في مجاعة الحصار، على حشد من الادباء العائدين مشياً من ساحة الاندلس، و هم سكارى بخمر مغشوش احتسوه في نادي اتحاد الادباء شتاء عام 1990، و قبل يوم ايضاً كنت عائداً من وزارة الهجرة و المهجرين، قريب العصر، عندما فجّر انتحاري نفسه في وسط موكب للعمال العائدين من العمل، و بقيت اثار دمائهم لحد الان تنعم بدفء الشمس على اسفلت جسر الجمهورية و اسيجته، فيما تدوس اطارات العجلات المارة بقايا من احشاء، لم تعد لها ثمة فائدة في ترقيع اجساد القتلى المنسوفين، بدون أي جريرة ... مررت من جانبها انا و حسين الصعلوك، في صباح اليوم التالي، فلم اقطع كلامي المسترسل عن مخطوطة روايته "فن تعذيب الحثالة" و لم يتوقف هو عن لومي، كوني اصر على ان مفهوم الاجيال الشعرية خاطئ ... و لا بد من اجتراح مفهوم اخر لحل الالتباس و التداخل بين المنطقين التاريخي و الفني اللذين كونا منظومة الاجيال:
"هنا بغداد ..." يقول الصائغ، ليفسّر ما لا يُفسّر، ليعطي لعدم اكتراثنا معنى الاكتراث، او المعنى المخفي فيه، كاشفاً وجه الحياة المخفية في الازقة و الدرابين، تلك التي لن تراها الا العين المدرّبة على التقاط ما هو غائب: المتواري بين الاشياء المنسية، التي لم تنسها
يا للعجب اقدام الموت و اصابعه الديناميتية، المغروسة في المزابل و الخرائب و الانقاض، و مع ذلك فكل هذا الحشد المرعب لم يتمكن من صد الرغبة بمواصلة العيش و التناسل و الغناء، عند هذا الانسان العراق، واهب الموت حقه و العيش حقه، و ما بينهما ممر سحري، تجري فيه مياه نهر الشعر: مدينة عجيبة، ام حياة عجيبة؟: "و بالرغم من ان نساءها / يهمسن لرجالهن بصوت خافت في الليل، خوفاً من ان يستيقظ الاطفال / فان الرجال لا يسمعون / و يستمرون في التناسل"
سخرية حزينة، كما قلت للصائغ، تراوحت بين الحياة و الموت، بين التلويح و الشرح، او بين التعبير و التجريد، كما يحلو للمتأدبين ان يقولوا، حشّد لها الشاعر رموزاً ستينية، عبثاً حاولت السلطات الفاشية ان تمحوها من الذاكرة: "مقهى المعقدين" "نزل الزعماء" "شارع المتنبي" "الحاج حمودي الدوري" ... الخ، ليبعثها حية
الرموز مع شواهد اليوم "سوق مريدي" "ابراهيم الجعفري" ... الخ، لتصبح بغداد هي اللحظة العراقية المكثفة في تاريخ الزمن، و في تاريخ العالم، و اقصد به (مقتطف من مقدمة طويلة ستنشر في وقت لاحق).

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة