المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

في الذكرى الاولى لوفاته .. قضية آرثر ميلر
 

جون شتاينبك
ترجمة/ مصطفى بسام
في 12 شباط الماضي مرت الذكرى الاولى لوفاة واحد من اشهر كتاب المسرح في امريكا والعالم في القرن العشرين وهو (آرثر ميلر) وسبق للكاتب في منتصف القرن الماضي ان تعرض لملاحقة لجنة (مكارثي) الشهيرة بتهمة النشاط اليساري (النشاط المعادي لامريكا) اولاً ومن ثم بتهمة احتقار الكونكرس لسلوكه في المحكمة وعندما وصلت القضية الاخيرة الى المرحلة النهائية في ربيع سنة 1957 بحث محررو مجلة (اسكواير)
Esquire الادبية (مازالت تصدر حتى الان من دون هذه الصفة) عن من يستطيع التعليق على القضية كتابة وبعد موافقة ميلر وكون الموضوع يساعده في المحكمة ولا يلحق به ضرراً تم تكليف صديقه الكاتب الشهير جون شتاينبك بالمهمة ووافق الاخير وكتب هذه المقالة الشخصية كافتتاحية للمجلة وصدرت في عدد حزيران 1957.
المترجم

ان محاكمة "آرثر ميلر" بتهمة احتقار الكونكرس تجعلنا نواجه واحدة من اغرب وافظع المآزق التي واجهت شعباً وحكومته.
انها ليست المحاكمة الفريدة من نوعها ولا يمكن ان تكون الاخيرة، ولكن آرثر ميلر كاتب- واحد من افضل ما لدينا- وما يحصل له يمكن ان يحصل لأي كاتب آخر، يمكن ان يحصل لي أنا، وعليه فنحن الآن وجهاً لوجه مع مشكلة ليست سهلة على الاطلاق انها لغز شائك لا يستطيع انسان ان يخمن ما سيفعله في موقف معين، ومن المؤكد ان الكثيرين سيستغربون مما قد يفعلونه إذا كانوا في موقف آرثر ميلر انا نفسي اتعجب مما سأفعل.
فلأفترض نفسي ذاهباً للمحاكمة بتهمة احتقار الكونكرس كما فعل ميلر سأخمن بأنني سأتصرف بشكل ما كالتالي:
" مما لاشك فيه ان الكونكرس له الحق استناداً للقانون كي يسألني أي سؤال يرتئيه وان يواجه رفضي الاجابة بتوجيه تهمة التحقير لي.
وله الحق بان يفعل أي شيء يمكن تخيله عليه فقط ان يوضح ان هناك موقفاً أو عملاً فيه (خطر واضح ومحدق) على الامن والسلامة العامة أو على الاخلاق العامة أو على الصحة العامة للمجتمع.
ان بيع أو اكل شطيرة (اللحم المفروم) يمكن ان يجعل منها (إذا اراد الكونكرس) خطراً على الصحة العامة وذلك صحيح من بعض الوجوه.
ولما كان بعض اولياء الامور يربون اولادهم بشكل سيئ فمن الممكن اذاً اعتبار حب الام خطراً على الثروة الوطنية، بالتأكيد للكونكرس الحق كي يسألني عن أي شيء وعن أي موضوع ولكن السؤال الاساسي هل له حق استغلال هذا الأمر.
فلنقل ان لجنة الكونكرس شعرت بان الحزب الشيوعي الامريكي والكثير من المجموعات التي ارتبطت به (بعضها بشكل عرضي) تشكل خطراً حاضراً وواضحاً على الشعب، في هذه الحالة لا اظن ان الفضيلة أو الحكمة هي التي منعتني من الانتماء للحزب، بل انني بطبيعتي لست منتمياً فباستثناء الانتماء الى الكشافة المدرسية أو الى جوقات المنشدين فلم يكن لدي هاجس للانتماء الى أي شيء، ولنفترض جدلاً انني انتميت وانني اعترفت بالانتماء أو التعاون مع بعض تلك المجموعات التي تعتبر خطراً .. ولكنني كاتب وتتطلب هذه المهنة مني الاهتمام ومتابعة كل شيء اشعر بانه جزء من مهنتي وان اتفهم جميع انماط الناس والمجاميع، ولأنني اعترفت بتعاوني مع هذه الاوساط لذا فأنني الآن عرضة للمساءلة امام لجنة الكونكرس ومطالب بتسمية افراد قابلتهم واجتماعات هذه المجاميع وعليه فانني اشعر بان منطق الامور سيتتابع كالتالي.
الناس الذين اعرفهم لم يكونوا ولن يكونوا خونة للامة، واذا كانوا كذلك فانني سألفظهم على الفور، واذا ادليت باسماء فمن المؤكد والمنطقي ان هؤلاء الذين اعترفت باسمائهم سيتم استدعاؤهم ويساءلون وفي بعض الحالات سيفقدون عملهم وفي كل الاحوال فان سمعتهم ومركزهم الاجتماعي سيتعرضان للضرر. ولنستذكر ان هناك اشخاصاً اعتقد مخلصاً بانهم ابرياء من أي فعل خاطئ ولا اشعر بان لي الحق للاعتراف باسمائهم وذلك ليس فقط قلة اخلاص بل عمل غير اخلاقي فعلياً واللجنة ستطلب مني ارتكاب فعل لا أخلاقي باسم الاخلاق العامة.
إذا وافقت فساكون قد خرقت واحداً من اساسيات قوانين التواصل بين الناس، واذا رفضت فأنني مذنب بتهمة احتقار الكونكرس وادان واسجن واغرّم.
في الحالة الاولى اخرق احساسي الاخلاقي، وفي الحالة الاخرى ساوشم بالخيانة، وهذه التهمة لا تضمحل ابداً.
ولنفترض ان لدي اطفالاً، ممتلكات بسيطة، مركزاً اجتماعياً، ان التلويح بتهمة الاحتقار سيعرض للخطر كل شيء احبه.
ولنفترض انه نتيجة القلق أو من قبيل الجبن انني وافقت على التجاوب فسيبقى الخجل وجرح الضمير الغائر يرافقانني الى الابد .
ولا يمكنني الثقة والاعتماد على الأداء السابق لهذه اللجنة فلقد قرأت بشكل يومي ولسنين عدة شهادات اناس اعترفوا بالكذب والتبرير واستخدمت هذه الشهادات لتحطيم سلامة وسعادة اناس لا اعرفهم والكثير منهم تم تحطيمهم حتى من دون مساءلة.
أي سبيل علي ان اختار، اية طريقة اتمسك بها؟ من تجربتي اعرف بان أي انسان غير وفي لاصدقائه لا يتوقع منه ان يكون وفياً لوطنه فانت لا تستطيع تجزئة الاخلاق ففضائلنا تبدأ في التكوين في البيت وهي لا تتغير في قاعة المحكمة الا إذا استخدم الاكراه، والخوف ضدنا.
إذا كنت محتجزاً بين خيارين مرعبين فالحال كذلك مع الكونكرس فالقانون لكي يبقى ويدوم يجب ان يكون اخلاقياً فاذا فرضت على إنسان ما الأخلاقية الشخصية كي تجرح فضيلته الشخصية فانك بذلك تنسف فضيلته الاجتماعية.
إذا قامت اللجنة بتخويفي الى حد معين فسيطرأ احتمال ان احرف الأمور لكي أرضي المحققين ومن المعروف بان اموراً كهذه قد حصلت وفي هذه الحالة فان القانون الاخلاقي سيضمحل ومن الجلي بان الحكومة التي تدين أو تفرض الأخلاقية هي نفسها (خطر واضح وبين) على المجتمع.
للكونكرس كامل الحق في ان يمرر قانون منع "التحريض والنشاط المعادي" هذا القانون الذي ابطله رد فعل الجمهور، نحن نعرف من التاريخ ان قانون ملاحقة "العبيد الفارين" ابطل لأن الناس في الولايات التي اقرته وجدته غير اخلاقي، وقانون منع الكحول تحول الى مسخرة وبطريقة اضرت بالقوانين الاخرى.
لقد رأينا وصدمنا بتشجيع السوفيت للوشاية والنميمة، اطفال يبلغون السلطات عن والديهم، زوجات يبلغن عن ازواجهن، وفي المانيا الهتلرية كان يعتبر من قبيل (الوطنية) ان تبلغ عن اصدقائك واقاربك الى السلطات الامنية، ونحن في امريكا كنا نشعر بالامان والترفع عن مثل هذه الامور ولكن هل نحن فعلاً آمنون ومترفعون.
الرجال في الكونكرس يجب ان يكونوا منتبهين لاختيارهم الفظيع هذا ، ان حقهم القانوني مقرر ولا شائبة فيه ولكن عليهم ان يفكروا بمسؤوليتهم الاخلاقية ايضاً ففي محاولتهم لانقاذ الشعب من الهجوم فانهم يجرحون بعمق الكرامة الشخصية للإنسان والتي هي خط الدفاع الاخير، ان الكونكرس حقاً لفي قفص الاتهام سوية مع آرثرميلر.
مرة أخرى فلأتبادل الأدوار مع آرثر ميلر، انا رفضت ان أسمي أناساً، لذا فأنني اتهم وأدان وأرسل الى السجن لو كانت التهمة القتل أو السرقة أو الابتزاز فأنني سأواجه العقاب لانني وجميع الاخرين نعرف ان هذه الامور هي خطايا ولكنني إذا عوقبت على امور اعرف من الولادة انها فضائل فسأذهب الى السجن وانا مفعم بشعور بعدم العدالة والظلم وموجات التظلم تبدأ الانتشار كالمرض.
إذا كانت لدي الشجاعة الكاملة على المعاناة من اجل مبادئي، وبدلاً من إيذاء الآخرين لإنقاذ نفسي والذين اعرف انهم أثرياء فسيتشكل لدي احساس بان القانون يعاني ويتضرر أكثر مني وان احتقار القانون والكونكرس هو احتقار حقيقي أكثر مما هو مشكلة قانونية.
بموجب القانون قان آرثر ميلر هو مذنب ولكنه كما هو واضح شجاع ايضاً لذا فان الكونكرس يشعر بضرورة فرض القانون عليه، لكي تبقي امتيازها حياً، ولكن هل علينا ان لا نأمل بان يقوم ممثلونا في الكونكرس بان يتفحصوا مأزقهم فالقانون يبقى ويدوم إذا كان قابلاً للاحترام هناك (خطر واضح ووشيك) هنا ليس على آرثر ميلر بل على طريقة وتطور حياتنا.
لو كنت في محل آرثر ميلر لما عرفت ما سأفعله ولكنني كنت سأتمنى ان اكون شجاعاً بالدرجة الكافية كي احصن واحمي أخلاقي الشخصية كما كان سيفعل هو.
انا اشعر بفخر بان بلدنا قد خدمته الشجاعة الفردية والأخلاق أكثر من السلامة و (الوطنية) الجماهيرية التي وصفها الدكتور جونسون بانها (الملجأ الاخير للاوغاد).
كان ابي رجلاً عظيماً، كما كان يجب ان يكون والد كل رجل محظوظ، لقد علمني بعض القواعد التي لا اعتقد بان زمننا المتشنج والعصابي قد يجود بها، ولا تبطلها هذه القوانين التي تكلمنا عنها، لقد علمني: تمجيد الله، تشريف عائلتي، الولاء لاصدقائي، احترام القانون، حب الوطن، والرفض السريع الواضح للاستبداد سواء جاء من تلميذ متنمر في فناء المدرسة، أو من دكتاتور اجنبي، أو من الغوغاء المحليين.
إذا كانت هذه خيانة ايها السادة فمارسوا الكثير منها.


قصة قصيرة .. عــطــر مـــا

 

ابتسام عبد الله
داهمها ذلك الاحساس منذ الايام الاولى لاقامتها في شقة من فندق كبير، طبقاته الثلاث العليا مؤلفة من شقق تؤجر لأسابيع أو اشهر، كانت الأحاسيس التي انتابتها غامضة في بادئ الأمر اشبه بقوة خفية تهيمن عليها كلما خلت الى نفسها ليلاً، فيهب باتجاهها تيار هواء بارد يجتاحها دقائق يحمل في طياته رائحة عطر تتغلغل في ثناياها، عطر تعرفه، نسيت اسمه. وفي خلال تلك الدقائق تشعر ان هناك في العتمة عينين تتطلعان اليها أو انفاس شخص اخر تحيط بها. قالت لنفسها في الليالي الاولى، لابد من ان هذا الإحساس المثير للخوف أو بالاحرى للقلق ينبع من كونها تعيش للمرة الاولى في هذا المكان فهي في زيارتها السنوية لبغداد كانت تقيم في منزل إحدى قريباتها، لكنها في هذه المرة آثرت السكن بعيداً عن صخب اطفال العائلة وزيارات الأقارب التي لا تنتهي والتي تقضم من أيام رحلتها ساعات طويلة.
اجل انها غريبة عن المكان وهي تشعر ان كل ما موجود فيه لا يمت اليها بصلة مع انها تهتم دائماً بتفاصيل المكان والحاجيات المتناثرة فيه من أثاث وستائر ولوحات وكتب تكون بمجموعتها عناصر مهمة من أسلوب حياتها.
وهي منذ اليوم الاول لاقامتها ادركت غربتها عن المكان، موقنة بأن كافة قطع الأثاث التي تحيط بها والشراشف والاواني قد استعلمت من قبل مئات الاشخاص إضافة الى حقيبة كبيرة تركت في دولاب الملابس وقيل لها انها تخص الساكن الاخير للشقة وسيعود لتسلمها قريباً. ومن اجل ادامة صلتها بالمكان حاولت المرأة اضفاء بعض تفاصيلها الخاصة عليه ذهبت الى السوق واشترت عدداً من الشراشف بالألوان التي تفضلها ومجموعة من أقداح الشاي والقهوة ولوحة اعجبتها يغلب عليها اللون الازرق الرمادي تمثل مجموعة من بيوت قديمة عالية الاسوار تتكتل متكئة على بعض قريباً من ضفاف دجلة وزورق وحيد ينساب بليونة على صفحة مائه التي تعكس سماء ملبدة بالغيوم.
تستلقي المرأة في سريرها، خلال ساعات الراحة، مفتوحة العينين، تتخيل اشكال من ناموا قبلها في هذه الغرفة وعلى نفس السرير رجالاً أَم نساء فيبتعد النوم عن عينيها تحس بأن انفاساً باردة، تهب عليها برائحة ذلك العطر الذي تعرفه ولا تتذكر اسمه، فتقوم من مكانها، تضيء النور وتتناول كتاباً اشترته في خلال رحلتها ما ان تقرأ بضع صفحات فيه حتى تسقطه جانباً، انها الان في حدود الأربعين من عمرها تعاقبت الاعوام عليها دون ان تحس بها، تزوجت ثم طلقت لانشغال زوجها بامراة أخرى، تجربة لم تترك في نفسها اثراً كبيراً، ولم تمر بعدها باخرى فيما عدا علاقة عابرة لم تستمر ولم تكتمل، تتأمل حياتها التي مضت، لا تجد شيئاً يستحق الوقوف عنده أو محطة ما قد تكون هي الاهم. تحس بثقل وطأة الوحدة، احساس غير جديد عليها لكنه يشتد ويطغى في بعض الاوقات ليعزلها عما حولها كما يحدث في هذه الايام. لقد عادت الى بغداد لانهاء معاملات عديدة تتعلق ببيع جزء من ممتلكات اسرتها. دار واسعة في بستان كبير وعدد من الدكاكين، معاملات تستغرق جزءاً كبيراً من ساعات النهار التي لا بد من إنجازها بعد ان استقر معظم افراد العائلة في مدن أوروبية وارتبطوا بأسلوب الحياة فيها. تشعر بالضجر عند وصولها الى هذه النقطة من تفكيرها. تغادر السرير، تزيح ستارة النافذة جانباً متطلعة الى الخارج.
حركة السيارات لا تهدأ في هذا الشارع الجميل مع ان الساعة قد تجاوزت منتصف الليل والنشاط يتركز حول ثلاث نقاط بشكل خاص. مطعم صغير شهير بتقديم نوع متميز من البيتزا وآخر يعتبر افضل من يقدم الوجبات السريعة والنقطة الثالثة التي تجذب الاهتمام دائماً وفي معظم ساعات اليوم، محل ساطع بالاضواء يقدم اشهر أنواع (الايس كريم)، يأتيه الناس دون أي اهتمام بالوقت، من صوبي الكرخ والرصافة وينتظرون طويلاً في صفوف حتى يأتيهم الدور للحصول على بغيتهم ثم يتوزعون في الحديقة الامامية له أو في سياراتهم وقد يعودون بعد دقائق لطلب المزيد منه. تراقب المراة الشارع من نافذتها، تنتابها لحظات رغبة ملحة لتغيير ملابسها والنزول الى الشارع والانضمام الى الجمع الواقف الجالس في انتظار الحصول على ما تريد والاحساس بنسغ الحياة، لكنها تجمح تلك الرغبة، كما تفعل عادة، متعللة بتأخر الوقت وتعود الى فراشها.
بعد مضي عدد من الايام، تبدأ المراة في تقبل فكرة وجود انفاس ثقيلة غريبة في المكان، ترافقها غالباً في الليل وأحياناً في النهار، تزداد وطأتها، تمتزج بانفاسها تستل منها ساعات عديدة مثيرة في داخلها تساؤلات ونوازع شتى. لقد اصبح هناك شيء ما في حياتها، شيء خاص بها يطلق عنان خيالها في عالم جديد. تساءلت مع نفسها عمن سكن المكان قبلها، واي نوع من الاشخاص ترك فيه انفاسه وغادر. لقد قرأت مرة في كتاب حديث ان الاصوات لا تتبدد في الكون بل تبقى تردداتها في الفضاء ومن الممكن جمعها وتحليلها.
تتقلب في فراشها وتتمادى في افكارها، ترسم صوراً متعددة ومشاهد مختلفة لرجال ونساء وضعوا رؤوسهم على نفس وسادتها ولفوا اجسادهم بهذه البطانيات وتأملوا عين الجدران والسقف، ويتحفز خيالها كلما مر عليها يوم آخر، فتضع خطوطاً اضافية للصور كأنها تحفر في قطعة من حجر تضخ فيه الحياة، تغير وتبدل كلما توغلت الهواجس في اعماقها لتصبح جزءاً منها تجول معها صعوداً ونزولاً في الزمان والمكان وملامح رجل ما هي الطاغية على ما سواها.
وتبدأ تجوالها في الشقة الصغيرة بحثاً عن أثر أو علامة تركت فيها، تجذبها باستمرار الحقيبة الكبيرة المقفلة الموضوعة في درج في جوار الباب، تبتعد عنها الى الصالة والمطبخ، تبحث في الأدراج العديدة، تعثر على صحف ومجلات قديمة عربية وانكليزية وعندما تقلب صفحاتها يخيب أملها ولا تجد فيها اشارة ما الى خبر أو صورة لكنها بعد يومين من البحث تعثر في دولاب المخزن على قوائم دفع أجور إقامة في فندق في منتجع الحبانية وايصالات شراء مجموعة من الملابس النسائية المختلفة.. فساتين سهرة.. قمصان نوم.. بلوزات وسراويل. ولم تنم كثيراً في تلك الليلة إذ كانت قد تجمعت لديها خطوط وتفاصيل جديدة توزعها كيفما شاءت على مشاهد وحالات مختلفة في خيالها. هناك رجل محدد اشترى لامرأة معينة هذه الملابس، ولكن من ترك أثره في الغرفة ومضى! وتتعمد في اليوم التالي البقاء في الصالة وانتظار عاملة التنظيف التي تأتي صباحاً كما هي عادتها، تنهال باسئلتها عليها، من كان يشغل المكان قبلها؟ وتعرف بعد قليل ان الشقة كانت مشغولة من قبل رجل يعمل في احدى المنظمات الانسانية وقالت: تعرف على زوجته الايطالية في بغداد، كانت تعد كتاباً مصوراً عن تاريخ العراق، بقيا معاً عاماً ونصف تقريباً ورحلت، بقي وحده بضعة اشهر ثم سافر قبل اسبوع من حضورك على ان يعود في خلال شهر لتسلم حقيبة له تركها في الدولاب، وانهت عاملة التنظيف كلامها .. "كان يحب بغداد.. وكان هو ايضاً يؤلف كتاباً عنها". وتسألها عن جنسية الرجل فتجيب، "انه من اصل لبناني ولكنه يحمل الجنسية الفرنسية".
وتجيب: "لا اعلم، كانا يتشاجران في الاسابيع التي سبقت سفرها، كانت امرأة جميلة ومتوترة باستمرار تصغره بعشر سنوات في الاقل وكان هادئاً ذا صوت خفيض في حين كانت هي تزعق بصوت حاد.. هكذا كنت اراهما في بعض الاحيان عند حضوري لتنظيف الغرفة كعادتي في العاشرة صباحاً واجد ان شجاراً ما قد اخرهما عن الخروج لتمضية اعمالهما".
تعمقت الخطوط التي كانت انحفرت في ذهن المرأة بعد تلك المحادثة فاصبحت تعرف شيئا عن حياتهما، ثم اخذت تساؤلات جديدة تشغل ساعات فراغها في الامسيات المتتالية عن طباعها وشكل العلاقة بينهما والتي ساءت في الاسابيع الاخيرة التي سبقت سفرها. ربما ان المراة قد انهت كتابها ورحلت الى بلدها لطبعه هناك او قد تكون ضاقت بالعيش هنا وفضلت العودة الى ديارها على ان يلحق بها بعدئذ! حالات عدة لعلاقة انسانية بدأت تشدها تقتات من وحدتها، تعود لتناولها مساء كل يوم، بعد ساعات مضنية تمضيها في التنقل من توثيق معاملة ما او تسجيل اخرى، وعندما تأوي الى فراشها ليلاً يعمل خيالها بنشاط محاولاً رتق الثقوب التي تجدها في الحكاية وتلك الانفاس المجهولة تحوم في الغرفة وتيار من هواء بارد يحيط بها.
التساؤلات والمشاهد المختلفة التي اختلقتها تحولت بعد ايام الى حقائق ثابتة بالنسبة اليها لكثرة ما فكرت فيها حتى جاء اليوم الذي كانت تبحث فيه عن كتاب تذكرت انها وضعته في درج دولاب صغير بجوار السرير والذي عندها سحبته في حركة سريعة ارتفع معه طرف الورقة الحمراء المنقطة بدوائر بيض والتي كانت مفروشة اسفل الدرج ولامست اصابعها مظروفاً تحته. توقفت اصابعها عن الحركة برهة، وبأنفاس متسارعة رفعت الورقة الملونة وامسكت بالمظروف الذي كان يضم مجموعة من الصور وأوراق مطوية، فيجتاحها احساس عارم بعثورها على كنز. تتجمد نظراتها دقائق، يخفق قلبها بصوت تكاد تسمعه ثم تغمض عينيها كمن لا يريد مواجهة حقيقة ما. قد يكون في هذه الاوراق ما يغير الوقائع التي نسجتها في الليالي السابقات، وقد تتبدد الصور التي عملت منذ اسابيع على تشكيلها من ملامح ومواقف للشخصين المجهولين اللذين صارا جزءاً منها. تتماسك اخيراً وتتطلع الى الصور الواحدة بعد الاخرى. امراة ترتدي ملابس سباحة بلون اسود وخيوط ذهبية، شعرها مرفوع الى قمة الراس كتلة متوهجة تتدلى خصلات منها بلون اسود وخيوط غاطسة في حوض للسباحة، نخلتان باسقتان بالقرب من الحوض، مناشف زرق على سياج المنيوم، شاب جالس عند الحافة الخارجية يمد ذراعه كأنما يعدل من وضع مشبك شعرها. الصورة الثانية كانت تمثل المراة الشقراء مع ثلاثة رجال وامرأة اخرى. ثم صور للمجموعة التقطت عند ساحل بحيرة مياهها داكنة الزرقة وأخيراً الشقراء عينها مستلقية عند الشاطئ والى جوارها رجل الصورة الاولى وهو يهيل عليها الرمل من جردل في يده، ومن بعيد يبدو مبنى فندق كبير مثل سفينة جانحة في مرسى بحر محاط من جهاته الثلاث بغابة من نخيل.
تتأمل المراة الصور طويلاً، انها هي بالتأكيد، الشقراء التي تتكرر في لقطات مختلفة، والتي لم تستطع تحديد ملامحها تماماً في الخيال، وها هو الضباب يتبدد ثم يتحدد مبرزاً وجه شقراء جميلة تعيش لحظات سعيدة من عمرها، ولكن اي منهم هو زوجها الذي قيل لها انه تجاوز الخمسين. وضعت الصور جانباً وأخذت تفتح الاوراق المطوية وكانت اربعاً مع بطاقة ملونة تحمل صورة بحر تموج امواجه بحدة كأنما عاصفة هوجاء تجتاحه و نقطة بيضاء في الافق قد تكون شراع زورق بات مخذولاً تائهاً.لم تستطع قراءة الأوراق او بالاحرى الرسالة التي كانت مكتوبة باللغة الايطالية أما البطاقة البريدية فكانت تتضمن عبارة مطبوعة وهي " كل عام وانت بخير" مضافاً اليها بخط اليد" "مع حبي".
وتعود الى تأمل الصور، تفصل الوجوه عن بعضها البعض، تقار بينما، تختلق علاقات بين هذه وذاك، بين المراة والشاب الذي يبدو مماثلاً لها في السن بينما ينسحب الزوج الى زاوية بعيدة مخذولاً، وعندما أوت الى فراشها في تلك الليلة لم تجد في نفسها رغبة قوية لمتابعة الحكاية، فقد تحددت الملامح امامها ولم يعد للخيال دور في الرسم او التغيير، واستمر ذلك الحال في الايام التالية، شئ اشبه بالانفصام قد حدث بينها وبين الشخصين اللذين سيطرا عليها بضعة اسابيع ووجدت نفسها تتحرر منهما. ولتأكيد ذلك الاحساس قررت تمضية ايام في منزل قريبتها مبتعدة عن المكان وهواجسها والانفاس الباردة التي تطبق عليها.
بعد أسبوع من حالة الانفصام وبعد انهاء كافة المعاملات المتعلقة الخاصة بها عادت الى الفندق وهناك وجدت مفاجأة في انتظارها، لم تتوقعها، إذ أعلمها موظف الاستعلامات ان الرجل الذي يقطن الشقة قبلها قد عاد منذ يومين وسأل عن حقيبته مراراً وقد خرج قبل دقائق وسيعود عصراً. لم تتفوه المرأة بكلمة ما بعد ان كان الذهول قد سيطر عليها.
سارت بها قدماها نحو المصعد ثم الى الشقة، وفتحت الباب لتتمالك على اقرب كرسي تستعيد الكلمات التي سمعتها: "عاد منذ يومين.. سأل عن الحقيبة.. سيعود عصراً".
بعد ساعات قلائل سيتحول ما نسجته في الخيال الى حقيقة مجردة ويتمثل كائناً حياً وقررت اخيراً الاتصال بموظف الاستعلامات والطلب منه نقل الحقيبة قبل مجيء الرجل. رفعت سماعة الهاتف، ادارت رقماً واحداً ثم اعادتها الى مكانها، ثم كررت المحاولة مرات، تدير رقماً وتتراجع مترددة حائرة بين مواجهة الحقيقة وبين التغاضي عنها، لكنها بعد ساعة من القلق وجدت نفسها تقول وبصوت مسموع وهي تعد لنفسها القهوة في المطبخ:" لا باس، لتسر الأمور بشكلها الطبيعي". وتبدأ المرأة في تغيير ملابسها وفي اعادة ترتيب الصالة، ترفع الصحف والمجلات المتناثرة في المكان وقد عاد اليها التوتر وهي في انتظار ذلك المجهول الذي سحبها اليه منذ شهرين واصبح بؤرة اهتمامها.
ويدق جرس الباب في الخامسة عصراً، تتجاهله دقائق مع انها كانت واقفة بالقرب منه، تسحب نفساً عميقاً وتفتحه لتجد امامها الرجلين، موظف الاستعلامات وهو، أجل انه هو رجل في حدود الخمسين من عمره، حسن المظهر، شعر رمادي- بني وقامة طويلة، مدركة من النظرة الاولى انه لم يكن موجوداً في تلك الصور التي حفظت ملامح كل شخص فيها، تجلس معهما قليلاً، تنصرف لتعد القهوة، يعتذر الموظف واقفاً ليقول انه ذاهب لإرسال عامل من اجل الحقيبة. يحتسيان القهوة، يسودها الارتباك برهة، تفتعل الحيوية يقول لها:
"لم اعتقد اني سأغيب طويلاً ولكن حادثاً خارج إرادتي قد حصل وانا اسف لإثقالي عليك. ثم دب الكلام بينهما وتواصل وتعلم إن الحقيبة التي جاء من اجلها ليست له بل لزوجته. وتتذكر في تلك اللحظة الصور والاوراق التي عثرت عليها تقوم وتجلبها له . يقلب الرجل الصور ببطء ثم يقرأ الأوراق الاربع والوجوم يغطي ملامحه ويمتص من وجهه اللون ليتركه باهتاً شاحباً، يضع ما في يده على المنضدة ويبقى صامتاً دقائق طويلة، تتطلع اليه، لكم تغير ! لكنها تقطع الصمت لتقول انها بالرغم عنها قد تطلعت في الصور وأرادت ان تمضي في حديثها لتسرد عليه هواجسها عن تلك الانفاس التي لاحقتها وتلاحقها غير ان حزنه منعها من ذلك ويسودهما الصمت. يقوم من مكانه بعد قليل، يتناول الصور والاوراق ويقول ان العامل قد تأخر وان لديه موعداً مهماً ويرجو تأجيل موضوع الحقيبة الى يوم آخر ثم يغادر المكان لتبقى وحدها فيه تفكر بما حدث. لابد من ان الصور قد سببت له صدمة ما، وهو لم يكن قد رآها من قبل كما بدا واضحاً من انفعاله وشحوب وجهه. وتعود الى افكارها الحقيبة لا تعود اليه بل الى زوجته كما قال، وهي قد تكون من يلاحقها بأنفاسه، فأشياء كثيرة منها لما تزل في المكان، وروحها قد تحوم فيه تائهة مخذولة تنشد الراحة.
وفي غمرة استعدادها للسفر وانجاز اتصالاتها الاخيرة بشأن مهمتها تدرك باستمرار ان يومين قد انصرفا دون اي اتصال منه، وفي صبيحة اليوم الثالث تقع نظراتها عليه وهي تغادر المصعد وهو في طريقه الى
كافيتيريا- الفندق، يتوقف لالقاء التحية عليها ثم يدعوها لمشاركته في تناول الافطار، تعتذر بيد انها إزاء الحاحه ومن انه سيصعد بعدئذ لتسلم الحقيبة تقبل دعوته. تجلس وإياه عند مائدة معدة لاثنين قرب النافذة العريضة.
المكان جميل لم تره من قبل ولم تفكر في المرور عليه طوال مدة اقامتها في الفندق.
يتعجب عندما تقول له ذلك فتحدثه عن سبب مجيئها الى بغداد والمعاملات المطلوبة التي قضمت معظم أيامها. تتأمل ما حولها، المقاعد المتراصة بأناقة، الحركة المستمرة، النشاط والحيوية الباديتين على الوجوه ثم تتطلع اليه وتجد الحزن في عينيه على الرغم من محاولته التجاوب مع ما حوله. يصب لها القهوة، يلح في ضرورة تناولها قطعة من
الكرواسان- " لابد من تناول شيء ما في الصبح، الافطار وجبة ضرورية ولا يجب الاكتفاء بالشاي او القهوة". تحس بالراحة وبموجة من سعادة تتغلغل في نفسها، فجاة تنتبه الى مشاعرها وترقبها بحذر،" انه حقيقة وليس خيالاً اتفاعل معه وأشكله كما أشاء مثلما فعلت في الشهرين الماضيين".
الحديقة الواسعة أمامها ساحرة ولم تكن تراها بهذا الجمال من شقتها في الطبقة الخامسة من الفندق، أشجار الخوخ والمشمش التي أزهرت فجأة في اليوم الاول من آذار تضفي على المشهد مسحة رقيقة. كانت غافلة عن هذا الجمال والزهور المختلفة الالوان المتوزعة في المكان مثل تجاهلها عمداً أموراً كثيرة في الحياة. صوته يسحبها من شرودها، يطلب من النادل المزيد من القهوة، يدخن سيكارة ثانية ويقول: "جميلة هي بغداد رغم كل شيء حزينة الملامح والسمات وهناك أسى في عيون كل من أقابله فيها كأنما هو دفين فيها منذ الأزل. كانت هي أيضاً تحب هذه المدينة، تتطلع الى عينيه مستعيدة الحزن الدفين فيهما، تلتقي نظراتهما لحظة، يدير وجهه عنها متطلعاً عبر النافذة الى الحديقة وزهورها ثم يقول بشيء من التردد: "إنها حاجياتها، أعني الحقيبة، في الحقيقة أنا ملزم باستلامها فأنا ..."، ويتوقف عن الكلام فجأة متردداً في إكمال جملته، تتركه صامتاً دون ان تحاول دفعة الى الكلام، يشعل سيكارة أخرى، ويقول بعد دقائق من الصمت:"في الحقيقة كان من المفروض ان تعود هي لأخذ الحقيبة ولكن ذلك الحادث... فهي عندما قررت السفر او بالاحرى الانفصال تركتها في الشقة على ان تعود لاستلامها او ان تبعث من يقوم بذلك عوضاً عنها".
تشعر بشيء من الحيرة وتتساءل، "أي حادث.. أنا لا اعرف شيئاً".
يجيب، أسف جداً، اعتقدت انهم أخبروك بالامر، لقد كتبت الى ادارة الفندق بما حدث .. آسف مرة اخرى لأنني أسحبك معي الى أمر لا يخصك. حصل لها حادث فظيع، كانت تقود السيارة ليلاً وبسرعة شديدة، كما أعلمت، وبرفقتها صديق مقرب، اعتقد انك رأيته في تلك الصور، وبسبب الضباب والعتمة انحرفت السيارة عند أحد الجسور وسقطت في مياه عميقة. عثروا على الجثتين بعد يومين من الحادث".
يرى الحزن بادياً على وجهي وأنا أتابع كلامه بذهول، فيقول عذراً، "انا لا أجرك عمداً الى دائرة حزني وأموري الخاصة، فهذا هو موضوع الحقيبة، إضافة الى الاحساس الحاد بالوحدة".
تحاول فتح شفتيها المطبقتين تريد ان تقول انها انجرت، على الرغم منها اليه واليها منذ أسابيع وتريد الكشف عن تلك الانفاس الباردة التي تلاحقها منذ زمن، غير انها تجدهما مطبقتين باصرار. يحتسيان القطرات الاخيرة المتبقية من قهوتهما. يسودهما الصمت والهدوء بعد ان كاد المكان يخلو من النزلاء. تتذكر صورة المرأة بملابس السباحة وشعرها كتلة متوهجة فوق رأسها، مشرقة كزهرة الشمس. زهرة الشمس تلك ذبلت وأنفاسها إذن لما تزل تتردد في المكان.
يطفئ سيكارته وهو يقول: "كانت مشاركتك احساسي شيئاً رقيقاً يحاول المرء، في لحظات، التخفيف عنه بالكلام. هذا الصباح كان مختلفاً عن صباحات الايام السابقة التي قضيتها هنا، الامر يعود اليك بالتأكيد، وقد نلتقي في ظروف أفضل.. حرب أخرى تدق طبولها تستهدف مدينتكم الجميلة وسأغادر غداً، أرجو ان نتبادل ارقام الهواتف والعناوين في الخارج".
تنهض من مكانها، يقوم ويتبعها متوجهين نحو المصعد، تفتح باب الشقة، يقف في الصالة متأملاً محتوياتها قبل ان يتوجه وحده الى حيث الحقيبة، بعد دقائق تفوح وتنتشر رائحة عطر شرقي تعرفه وتتذكر انها بدورها استعملته اعواماً قبل ان تستبدله بآخر، وتسحبها قدماها اليه. كانت الحقيبة مفتوحة وهو منحن ساهماً عليها يتطلع الى محتوياتها من ملابس وأوراق وصور واداوت زينة، تمد يدها تغلقها، ويعيد هو المفتاح الصغير الذي كان بين أصابعه الى جيبه ويسحب الحقيبة، يشكرها عند الباب على أمل لقاء آخر، تغلق الباب، تقف دقائق خلفه والرائحة الزكية تحاصرها وتكبت أنفاسها بشدة ثم تتوجه ببطء نحو النافذة العريضة تفتحها قبل ان تغادر المكان بدورها كي يتسلل منه آخر نفثات ذلك العطر الشرقي ويصبح جزءاً من الماضي.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة