في
الذكرى الاولى لوفاته .. قضية آرثر ميلر
جون
شتاينبك
ترجمة/ مصطفى بسام
في 12 شباط الماضي مرت الذكرى الاولى لوفاة واحد من اشهر
كتاب المسرح في امريكا والعالم في القرن العشرين وهو (آرثر
ميلر) وسبق للكاتب في منتصف القرن الماضي ان تعرض لملاحقة
لجنة (مكارثي) الشهيرة بتهمة النشاط اليساري (النشاط
المعادي لامريكا) اولاً ومن ثم بتهمة احتقار الكونكرس
لسلوكه في المحكمة وعندما وصلت القضية الاخيرة الى المرحلة
النهائية في ربيع سنة 1957 بحث محررو مجلة (اسكواير)
Esquire
الادبية (مازالت تصدر حتى
الان من دون هذه الصفة) عن من يستطيع التعليق على القضية
كتابة وبعد موافقة ميلر وكون الموضوع يساعده في المحكمة
ولا يلحق به ضرراً تم تكليف صديقه الكاتب الشهير جون
شتاينبك بالمهمة ووافق الاخير وكتب هذه المقالة الشخصية
كافتتاحية للمجلة وصدرت في عدد حزيران 1957.
المترجم
ان محاكمة "آرثر
ميلر" بتهمة احتقار الكونكرس تجعلنا نواجه واحدة من اغرب
وافظع المآزق التي واجهت شعباً وحكومته.
انها ليست المحاكمة الفريدة من نوعها ولا يمكن ان تكون
الاخيرة، ولكن آرثر ميلر كاتب- واحد من افضل ما لدينا- وما
يحصل له يمكن ان يحصل لأي كاتب آخر، يمكن ان يحصل لي أنا،
وعليه فنحن الآن وجهاً لوجه مع مشكلة ليست سهلة على
الاطلاق انها لغز شائك لا يستطيع انسان ان يخمن ما سيفعله
في موقف معين، ومن المؤكد ان الكثيرين سيستغربون مما قد
يفعلونه إذا كانوا في موقف آرثر ميلر انا نفسي اتعجب مما
سأفعل.
فلأفترض نفسي ذاهباً للمحاكمة بتهمة احتقار الكونكرس كما
فعل ميلر سأخمن بأنني سأتصرف بشكل ما كالتالي:
" مما لاشك فيه ان الكونكرس له الحق استناداً للقانون كي
يسألني أي سؤال يرتئيه وان يواجه رفضي الاجابة بتوجيه تهمة
التحقير لي.
وله الحق بان يفعل أي شيء يمكن تخيله عليه فقط ان يوضح ان
هناك موقفاً أو عملاً فيه (خطر واضح ومحدق) على الامن
والسلامة العامة أو على الاخلاق العامة أو على الصحة
العامة للمجتمع.
ان بيع أو اكل شطيرة (اللحم المفروم) يمكن ان يجعل منها (إذا
اراد الكونكرس) خطراً على الصحة العامة وذلك صحيح من بعض
الوجوه.
ولما كان بعض اولياء الامور يربون اولادهم بشكل سيئ فمن
الممكن اذاً اعتبار حب الام خطراً على الثروة الوطنية،
بالتأكيد للكونكرس الحق كي يسألني عن أي شيء وعن أي موضوع
ولكن السؤال الاساسي هل له حق استغلال هذا الأمر.
فلنقل ان لجنة الكونكرس شعرت بان الحزب الشيوعي الامريكي
والكثير من المجموعات التي ارتبطت به (بعضها بشكل عرضي)
تشكل خطراً حاضراً وواضحاً على الشعب، في هذه الحالة لا
اظن ان الفضيلة أو الحكمة هي التي منعتني من الانتماء
للحزب، بل انني بطبيعتي لست منتمياً فباستثناء الانتماء
الى الكشافة المدرسية أو الى جوقات المنشدين فلم يكن لدي
هاجس للانتماء الى أي شيء، ولنفترض جدلاً انني انتميت
وانني اعترفت بالانتماء أو التعاون مع بعض تلك المجموعات
التي تعتبر خطراً .. ولكنني كاتب وتتطلب هذه المهنة مني
الاهتمام ومتابعة كل شيء اشعر بانه جزء من مهنتي وان اتفهم
جميع انماط الناس والمجاميع، ولأنني اعترفت بتعاوني مع هذه
الاوساط لذا فأنني الآن عرضة للمساءلة امام لجنة الكونكرس
ومطالب بتسمية افراد قابلتهم واجتماعات هذه المجاميع وعليه
فانني اشعر بان منطق الامور سيتتابع كالتالي.
الناس الذين اعرفهم لم يكونوا ولن يكونوا خونة للامة، واذا
كانوا كذلك فانني سألفظهم على الفور، واذا ادليت باسماء
فمن المؤكد والمنطقي ان هؤلاء الذين اعترفت باسمائهم سيتم
استدعاؤهم ويساءلون وفي بعض الحالات سيفقدون عملهم وفي كل
الاحوال فان سمعتهم ومركزهم الاجتماعي سيتعرضان للضرر.
ولنستذكر ان هناك اشخاصاً اعتقد مخلصاً بانهم ابرياء من أي
فعل خاطئ ولا اشعر بان لي الحق للاعتراف باسمائهم وذلك ليس
فقط قلة اخلاص بل عمل غير اخلاقي فعلياً واللجنة ستطلب مني
ارتكاب فعل لا أخلاقي باسم الاخلاق العامة.
إذا وافقت فساكون قد خرقت واحداً من اساسيات قوانين
التواصل بين الناس، واذا رفضت فأنني مذنب بتهمة احتقار
الكونكرس وادان واسجن واغرّم.
في الحالة الاولى اخرق احساسي الاخلاقي، وفي الحالة الاخرى
ساوشم بالخيانة، وهذه التهمة لا تضمحل ابداً.
ولنفترض ان لدي اطفالاً، ممتلكات بسيطة، مركزاً اجتماعياً،
ان التلويح بتهمة الاحتقار سيعرض للخطر كل شيء احبه.
ولنفترض انه نتيجة القلق أو من قبيل الجبن انني وافقت على
التجاوب فسيبقى الخجل وجرح الضمير الغائر يرافقانني الى
الابد .
ولا يمكنني الثقة والاعتماد على الأداء السابق لهذه اللجنة
فلقد قرأت بشكل يومي ولسنين عدة شهادات اناس اعترفوا
بالكذب والتبرير واستخدمت هذه الشهادات لتحطيم سلامة
وسعادة اناس لا اعرفهم والكثير منهم تم تحطيمهم حتى من دون
مساءلة.
أي سبيل علي ان اختار، اية طريقة اتمسك بها؟ من تجربتي
اعرف بان أي انسان غير وفي لاصدقائه لا يتوقع منه ان يكون
وفياً لوطنه فانت لا تستطيع تجزئة الاخلاق ففضائلنا تبدأ
في التكوين في البيت وهي لا تتغير في قاعة المحكمة الا إذا
استخدم الاكراه، والخوف ضدنا.
إذا كنت محتجزاً بين خيارين مرعبين فالحال كذلك مع
الكونكرس فالقانون لكي يبقى ويدوم يجب ان يكون اخلاقياً
فاذا فرضت على إنسان ما الأخلاقية الشخصية كي تجرح فضيلته
الشخصية فانك بذلك تنسف فضيلته الاجتماعية.
إذا قامت اللجنة بتخويفي الى حد معين فسيطرأ احتمال ان
احرف الأمور لكي أرضي المحققين ومن المعروف بان اموراً
كهذه قد حصلت وفي هذه الحالة فان القانون الاخلاقي سيضمحل
ومن الجلي بان الحكومة التي تدين أو تفرض الأخلاقية هي
نفسها (خطر واضح وبين) على المجتمع.
للكونكرس كامل الحق في ان يمرر قانون منع "التحريض والنشاط
المعادي" هذا القانون الذي ابطله رد فعل الجمهور، نحن نعرف
من التاريخ ان قانون ملاحقة "العبيد الفارين" ابطل لأن
الناس في الولايات التي اقرته وجدته غير اخلاقي، وقانون
منع الكحول تحول الى مسخرة وبطريقة اضرت بالقوانين الاخرى.
لقد رأينا وصدمنا بتشجيع السوفيت للوشاية والنميمة، اطفال
يبلغون السلطات عن والديهم، زوجات يبلغن عن ازواجهن، وفي
المانيا الهتلرية كان يعتبر من قبيل (الوطنية) ان تبلغ عن
اصدقائك واقاربك الى السلطات الامنية، ونحن في امريكا كنا
نشعر بالامان والترفع عن مثل هذه الامور ولكن هل نحن فعلاً
آمنون ومترفعون.
الرجال في الكونكرس يجب ان يكونوا منتبهين لاختيارهم
الفظيع هذا ، ان حقهم القانوني مقرر ولا شائبة فيه ولكن
عليهم ان يفكروا بمسؤوليتهم الاخلاقية ايضاً ففي محاولتهم
لانقاذ الشعب من الهجوم فانهم يجرحون بعمق الكرامة الشخصية
للإنسان والتي هي خط الدفاع الاخير، ان الكونكرس حقاً لفي
قفص الاتهام سوية مع آرثرميلر.
مرة أخرى فلأتبادل الأدوار مع آرثر ميلر، انا رفضت ان أسمي
أناساً، لذا فأنني اتهم وأدان وأرسل الى السجن لو كانت
التهمة القتل أو السرقة أو الابتزاز فأنني سأواجه العقاب
لانني وجميع الاخرين نعرف ان هذه الامور هي خطايا ولكنني
إذا عوقبت على امور اعرف من الولادة انها فضائل فسأذهب الى
السجن وانا مفعم بشعور بعدم العدالة والظلم وموجات التظلم
تبدأ الانتشار كالمرض.
إذا كانت لدي الشجاعة الكاملة على المعاناة من اجل مبادئي،
وبدلاً من إيذاء الآخرين لإنقاذ نفسي والذين اعرف انهم
أثرياء فسيتشكل لدي احساس بان القانون يعاني ويتضرر أكثر
مني وان احتقار القانون والكونكرس هو احتقار حقيقي أكثر
مما هو مشكلة قانونية.
بموجب القانون قان آرثر ميلر هو مذنب ولكنه كما هو واضح
شجاع ايضاً لذا فان الكونكرس يشعر بضرورة فرض القانون عليه،
لكي تبقي امتيازها حياً، ولكن هل علينا ان لا نأمل بان
يقوم ممثلونا في الكونكرس بان يتفحصوا مأزقهم فالقانون
يبقى ويدوم إذا كان قابلاً للاحترام هناك (خطر واضح ووشيك)
هنا ليس على آرثر ميلر بل على طريقة وتطور حياتنا.
لو كنت في محل آرثر ميلر لما عرفت ما سأفعله ولكنني كنت
سأتمنى ان اكون شجاعاً بالدرجة الكافية كي احصن واحمي
أخلاقي الشخصية كما كان سيفعل هو.
انا اشعر بفخر بان بلدنا قد خدمته الشجاعة الفردية
والأخلاق أكثر من السلامة و (الوطنية) الجماهيرية التي
وصفها الدكتور جونسون بانها (الملجأ الاخير للاوغاد).
كان ابي رجلاً عظيماً، كما كان يجب ان يكون والد كل رجل
محظوظ، لقد علمني بعض القواعد التي لا اعتقد بان زمننا
المتشنج والعصابي قد يجود بها، ولا تبطلها هذه القوانين
التي تكلمنا عنها، لقد علمني: تمجيد الله، تشريف عائلتي،
الولاء لاصدقائي، احترام القانون، حب الوطن، والرفض السريع
الواضح للاستبداد سواء جاء من تلميذ متنمر في فناء المدرسة،
أو من دكتاتور اجنبي، أو من الغوغاء المحليين.
إذا كانت هذه خيانة ايها السادة فمارسوا الكثير منها.
|