Crash
- (مع سرعة
الحياة التي نحيا، علينا أن نخفف الصدام الذي يحصل بيننا)
جلال نعيم
لوس
أنجلس
لم تكن مصادفة..
قبل خمسة أعوام، حضرت حفلة عيد ميلاد صديق عراقي في لوس
انجلس، وكان الحاضرون: زوجته(أمريكية)، ثلاث مكسيكيّات،
غواتيمالي مع زوجته السالفادورية، ايراني وصديقته
الأرمنية، أفغاني وصديقته الروسية، باكستاني وصديقته
البنغالية، ومصري وزوجته السورية...
قلت لمضيفي: وكأننا في مؤتمر للأمم المتحدة!
فأجابني: أهلاً بك في لوس أنجلس!
حدث ذلك في شهري ألأول هنا، في المدينة الكبيرة المقسّمة
إداريا إلى حوالي 230 وحدة ادارية لا يفصل بينها غير ممر
شارع، رئيسيّاً كان أم فرعياً، ما أن تعبره حتى تجد نفسك
في مدينة أخرى، وتطالعك فيها أسماء مدن مثل: ارمينيا
الصغيرة، أثيوبيا الصغيرة، إضافة إلى الحي الصيني والحي
الكوري وغيرها الكثير..
لذا لم تكن مصادفة ان يصف الكباب مع الستيك، إلى جانب
الكارنيسادا والتاهاي فوود. وأن يغني عمرو دياب مع
سانتانا، وانريكة اغليسياس وسيديّات تتطاير لمطربين أرمن
وروس وعرب، بينما تصطف قناني التكيلا مع العرق والفودكا
والساكي..
و.. أهلاً بك في لوس أنجلس!
هذه المرة يجمعها عنوان عريض لفيلم سينمائي، كتبه وأخرجه
مبدع كندي، ونال عليه ألأوسكار، وأطلق عليه عنوان
(صِدام/إصطدام)(crash)،
ويقدم فيه وجهاً آخر لما شهدته في تلك الحفلة الأممية
النكهة والمذاق!
***
ربما يمكن اختصار الفيلم بقضيتين، تشكلان معاً سؤالاً
واحداً: العنصرية والعنف.. بطريقة تعيد إلى الأذهان معضلة
البيضة والدجاجة، وأيهما يولد ألآخر.. وكيف ينموان معاً،
غير معني بـ"من فيهما الأسبق!" ولذلك فهو سؤال إجتماعي،
ينأى بمسافة عن لا جدوى الطرح الفلسفي، ربما لأنه، ببساطة،
يستحضر، بشكل ما، جملة "نيرودا" الشهيرة:"انظروا.. الدم في
الشوارع!
لذا وجد في الشارع مساحة واسعة لإنطلاقه، ففي الشارع تلتقي
كل هذه الأجناس و.. تتصادم!
ففي الشارع يصل المحقق الأسود مع زميلته، وفي الوقت نفسه
عشيقته البيضاء، وفي شارع، أكثر ترفاً، يتمشى المدعي العام
بصحبة زوجته وكلاهما أبيض، ليصطدما بشابين أسودين يسرقان
منهما سيارتهما، أما صاحب المحل الايراني فيبدو قلقاً من
هذا الشارع وهو يحاول ان يحسن قفل باب محلّه، وهو ما تفعله
زوجة المدعي العام بطلبها تبديل اقفال البيت لأنها قلقة من
كون المفاتيح بيد سارقي السيارة (السود) الذين قد
يستعملونها او يبيعونها، اما مبدّل الاقفال فهو عامل
مكسيكي يعبر لها بنظرة عن رفضه لحديثها عن الملونين مع
زوجها، ثم رجل البوليس (الأبيض) الذي يضيق ذرعاً من تعامل
الموظفة (السوداء) معه حول علاج ابيه، فينتقم منها بايقاف
المخرج الاذاعي (الأسود) الذي بدا سعيداً مع زوجته
البيضاء، ولطيفاً معه، فقابله بإحتقار ثم بتفتيش مهين
لزوجته، مما خلق ازمة كبيرة بينهما... ثم تتصاعد الأحداث،
وتلتحم الشخوص الواحدة بالأخرى.. بتكثيف مميّز وترابط
محكم، فصاحب المحل الايراني يصطدم بمصلّح الأقفال
المكسيكي، بعد أن يتجاهل نصيحته بتغيير الباب، فيدخل من
يحطم أشياء المحل ويغادر بعد ان يترك ملاحظة مسيئة للعرب،
معتقداً بأن إلايرانيين هم عرب أيضاً! فيحاول الايراني
الانتقام من المكسيكي، لأنه السبب، كما يظن في تكسير
المحل، فيطلق على ابنته النار دون ان يقصد ويصعق ثم يفرح
باكتشافه بان ابنته قد وضعت طلقات خلّب في مسدسه. بينما
تكتشف زوجة المدعي العام أن لا أحد من صديقاتها إهتم بها
بعد سقوطها من السلّم وكسر رجلها، وان الوحيدة التي اهتمت
بها هي خادمتها اللاتينية، وانتهت بمعانقتها. أما رجل
البوليس (الابيض) فينقذ زوجة الاذاعي (الأسود) التي تنقلب
بها السيارة وترفض مساعدته رغم ان النار كانت على وشك ان
تلتهمها، ثم توافق بعد الحاح منه، مما يعني مسامحتها له.
أما الشابان (الأسودان) فبعد جملة حوادث ينتهي الأول ميتاً
على يد شرطي متعاطف مع السود، ظن بأنه يحاول قتله، في
اشارة ذكية إلى أن العنصرية ستظل تولّد العنف حتى لو
حاربناها في وعينا لأنها تعيد انتاج الشك على أساس العرق
واللون في كل لحظة! ثم نكتشف أن هذا القتيل (ألأسود) انما
هو أخ للمحقق ألأول والذي تتهمه امه بأنه هو مَن قتل أخاه
بسبب انشغاله الدائم، وكأنها تقول لنا أنه قتله لإنشغاله
بتصفية العنف من دون معالجة العنصرية. أما الشاب (الأسود)
الآخر فيرفض بيع مجموعة من المهاجرين المهرّبين من
كمبوديا، ويطلق سراحهم في وسط المدينة، وحالما ينطلق
بسيارته المسروقة حتى يطالعنا اصطدام آخر بين سيارتين،
تقود الأولى الموظفة السوداء بينما ينزل من الثانية رجل
بملامح صينية!
***
هكذا تنتهي أحداث الفيلم، دون أن ينتهي وقعه وتأثيره.
وأعتقد بأن اغلب المعلّقين أخطأوا في تحديدهم بأن أوسكار
هذا العام ذهبت إلى (Crash)
ولم تذهب إلى أي
فيلم سياسي، ويقصدون (سيريانا) أو (ميونخ) او(مساءاً
سعيداً.. وحظاً سعيداً!)، وذلك انما يذكرني بتعريف رأفت
الميهي في (سمك، لبن، تمرهندي!) والذي وضعه على لسان يوسف
داوود عندما يقول: وهي ايه السياسة غير الجوع والبلهارزيا
والمعيز! أما في حالتنا: فما هي السياسة غير العنصرية
والعنف والتعايش بين الناس؟ انها السياسة الداخلية، التي
تحكم الشارع وتسيّر حياة المجتمع، سياستنا انا وانت وهو
قبل ان تكون سياسة الوزراء واعضاء البرلمانات والرؤساء..
خاصة بالتزامن مع مظاهرات المهاجرين في فرنسا، والإحتجاجات
التي عمّت العالم حول الكاريكيترات الدنماركية، وعلى مستوى
الداخل الأميركي: بطء الإجراءات الحكومية بعد إعصار
كاترينا، الذي قتل أكثر من ألف من السود، وخلّف آلافاً بلا
مأوى، وقد تضمن الفيلم إشارة إلى انها الموضوعة السياسية
الحقيقية التي يتجنب السياسيون الخوض فيها ولا تظهر على
السطح إلا لأغراض إنتخابيّة!
لقد حمل الفلم أكثر من رسالة، واكثر من إشارة، ليس لما
يحدث في جوف أميركا فقط، وانما على سطح العالم ايضاً، أو
ما تواجهه في العالم، خاصة بعد 11 سبتمبر، والذي ينبئ بـ(Crash)
آخر، مازال ينمو،
رغم ظهوره على هيئة حادث بسيط، او شبه عادي، وشواهد الفيلم
بدت كثيرة، وأما شواهد الواقع اليومي فلا شك في أنها أكثر!
ولعلّ مشكلة (Crash)،
كفيلم، ليست في الأسئلة التي تبناها و أدرجها في قائمة
موضوعاته، وإنما في الأجوبة التي ضغطت على مجمل الفيلم
وشخوصه، للخروج بنهايات محددة، رسمها لها المخرج/المؤلف
(بول هاغيس)، والتي لم تجد مبرراتها الواقعية في بعض
الأحيان، رغم انه اشتغلها بإحتراف واضح مما جعل، هذه
النهايات، تبدو كإفتراض أو كأمنية، أو ربما كحلمٍ سيحتاج
إلى أكثر من معجزة لكي يتحققّ..! |