تحقيقات

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ذاكرة الحرب من محافظة صلاح الدين: قـادة عسكريون يتخلون عن ملابسهم وفدائيــون انهـــزموا في أول مواجهـة
 

تكريت/عبد الزهرة المنشداوي

محافظة صلاح الدين في مثل هذه الأيام لم يكن لها سوى الاستماع إلى الأخبار عبر شاشات التلفزة. ما أشيع أن المعركة الكبرى سوف تقع في تكريت مسقط رأس صدام. لم يكن صحيحاً. الاستعدادات في المحافظة اقتصرت على نشر قواعد صواريخ في تكريت وقضاء الدور وسامراء.
الفرق الحزبية قامت بتوزيع أسلحة خفيفة على أعضاء الحزب الذين بدوا متيقنين من سقوط النظام. أما المؤتمرات الصحفية التي كان يديرها وزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف فوجدت من يسخر منها.
لقد كان الجميع في حالة استسلام. البعض أراد شحذ الهمم بين الناس من خلال الإدعاء بما قام به فدائيو صدام في معركة المطار. لكن الملاحظ أن البدلة الكاكية التي يتميز بها أعضاء الحزب كادت تختفي تماماً ولا تجد من يرتديها باستثناء ضباط من رتب عالية كان عملهم ينصب على قيادة الحزبيين من البعثيين.
هجرة عوائل
شهدت سامراء سيلاً من العوائل المتجهة إليها من بغداد وتكريت. كنت أحد الذين ضيفوا عائلتين من تكريت. لقد دفعتهم الأخبار التي قالت أن معركة طاحنة سوف تحدث فيها. إلى الفرار من المدينة. قالوا عنها بأن فدائيي صدام ينتشرون في شوارعها. وفي سامراء كانت الأخبار تتحدث عن وجود أحد قادة النظام فيها يطالب العشائر بتجنيد مئة من الشباب من كل عشيرة لكنه لا يجابه بالقبول.
تبكي فرحاً
رأيت إحدى جاراتنا (وهي من أهالي الموصل)، تبكي. وعندما سألتها أجابت بأنها تبكي فرحاً. قالت: صدام سقط أحمد الله أنني عشت إلى هذا اليوم الذي أرى فيه كيف يقتص من قاتل شقيقي الوحيد. على العكس منها كانت هناك امرأة أخرى تبكي من أجل صدام.
ورأيت أحد المهندسين من العاملين في شركات هيئة التصنيع العسكري في قضاء الدور منتشياً بعد أن تأكد من أن صدام خاسر للمعركة لا محال.
المتحمسون
انتقلت مراكز الحزب بعد تطور الأوضاع إلى المساجد والجوامع في الدور وسامراء وتكريت. اقتصر عملهم على الوقوف أمام باب الجامع وأوكلوا مهمة القيادة والتوجيه إلى خطباء الجوامع أثناء الصلاة. كان إمام جامع لديه بندقية يستند إليها أثناء خطبته ويدعو لمقاتلة الغزاة. وعند الظهيرة وبعد انقضاء وقت الصلاة يتفرق الجميع. (المعركة محسومة نتائجها) كان ذلك شعوراً سائداً لدى الجميع باستثناء خطباء الجوامع الذين كانوا يلقون خطباً نارية سرعان ما يخبو أوارها.
بدا الجميع مستسلماً. في سامراء والدور جنوب تكريت العديد من القادة العسكريين شوهدوا في هذه المناطق وهم يعودون إلى منازلهم بلباس مدني مما ساهم في أن يتخلى أغلبية سكان هذه المناطق عن فكرة المقاومة أو التصدي وركنوا إلى بيوتهم بانتظار نتيجة محسومة مسبقاً.
عائدون
عاد الجنود الذين كانوا بأمرة (الدوري) على جبهة الموصل متعبين عن طريق تكريت
الدور.
لقد منعوا في نقاط التفتيش من المرور عبر تكريت وفي آخر الأمر سمح لهم بعد أن أخذت منهم أسلحتهم كان سيل الهجوم العارم الذي شنه الأمريكيون على جبهات القتال أقوى من أن يتصدى له جنود عانوا من الظلم والاضطهاد والعوز على يد قيادة لم تعرهم أدنى اهتمام. الأغلبية منهم اتجهت نحو سامراء، وكان بينهم من باع سلاحه ثمناً لأجرة النقل.
بدأت حرب محافظة صلاح الدين بظهور طائرات أمريكية في سماء المحافظة خلال النهار لم تواجه بأية نيران مضادة.
النهار في الليل
بعد ما يزيد على الأسبوعين من الحرب كانت صلاح الدين تعيش نهاراً متصلاً لمدة أربع وعشرين ساعة إذ استهدفت الطائرات المغيرة مخازن الاعتدة على جوانب تكريت فأشعلت فيها نيراناً مبهرة وانبعثت أصوات مدوية طوال الليل من مناطق (مكيشفة) غرب تكريت و(الصينية) وغيرها من المناطق التي توجد فيها مخازن ضخمة للأسلحة. في تلك الليلة لا اعتقد بأن هناك من استطاع أن ينام ليلته. كانت أشبه بنهار ساطع من فعل انفجارات شكلت هلالاً مضيئاً حول تكريت.
واستمرت طوال الليل.
انزال جوي
وتناهت الأخبار أن مجموعة من الجنود الأمريكيين وبواسطة إنزال جوي تمركزوا في حي القادسية شرق تكريت واتخذوا من جامعة صلاح الدين نقطة للانطلاق. وكذلك تحدثت الأخبار عن عناصر من فدائيي صدام تصدوا لهم لكنهم سرعان ما انهزموا أمامهم في سامراء والدور وناحية العلم وغيرها من المناطق باستثناء تكريت التي لم تنطلق طلقة واحدة منها. وعند دخول القوات الأمريكية مدينة سامراء لم تستقبل استقبالاً عدائياً. بل أن عدداً من اِلأطفال صار يجري وراء دباباتهم ويصفق لهم بينما خرج الجميع ليرى منظر دخول هذه القوات.
تهاني حارة
خرج أحدهم من مقهى قريب من مرقد الإمام علي الهادي واندفع نحوي ليحتضني ويهمس في أذني فرحاً لقد سقط النظام هذا الرجل كان من مدينة سامراء ومن عائلة معروفة كان يسرني القول: أن لا أمل يحلم به غير رؤية تهاوي النظام. كان في العقد السادس من العمر وحظي بنصيب وافر من اضطهاد السلطة له. كان الفرح حينذاك يكاد يشع من وجهه.
في أحد المطاعم القريبة من المقهى كان مجموعة من الجنود الأمريكيين يتناولون طعامهم بعد أن ركنوا آلياتهم جانباً.


مذكــــرات مترجم بعـــد سقــــوط الطاغية .. مجانين في شوارع بغـداد
 

بغداد/مفيد الصافي
تصوير نهاد االعزاوي

توقف المترجم احمد برهة محاولا استعادة ذكرياته القديمة، تذكر كيف كانت قرية الأطفال في العامرية وكيف أصبحت الان، كان الوضع مختلفا تماما هذه المرة، فالبوابة لم يكن يحرسها احد، سوى شاب صغير السن يحمل بندقية في يده. دخلا على حذر، توقفا قرب جامع القرية،وبعد التحية قالا لشيخ الجامع ماذا حدث هنا وأين ذهب الاطفال؟، فقال لهم، ان الاطفال هجروا المكان وان عوائل من الغجر والسراق استولت على كل شيء!!
ثم دار جدل بين الحضور، لم ينته الا عندما أخذه احدهم جانبا وقال"هل أنت صحفي مستعد لنشر أي شيء؟ سوف اريك شيئا لم تره في حياتك "دخلا إلى نفس المكان الذي كان يضم مكتب المدير السابق، حولهم بعض الأشخاص يحملون بنادق، قالوا انهم يحمون انفسهم من رجال شيخ الجامع! وكانهم كانوا في ساحة حرب، قالوا ان شيخ الجامع يريد ان يستولي على الملفات التي تركت ولم يتسن احراقها!!. اخذوه مع (كيم) الصحفية الكورية إلى حيث الملفات حاول ان يركز على ما يقرأه في الملفات.
احد الملفات وجميعها صادرة من ديوان الرئاسة يبين ان راتب معلمة هناك يزيد على مليون وثلاثمائة الف دينار في الشهر!، أي نوع من المعلمات تتقاضى مثل هذا المرتب؟ وجدا صورة مستنسخة عن جنسية شيخ الجامع الذي قابلاه اول مرة تبين انه كان موظفا هنا.ثم عثرا على صور فوتوغرافية عديدة لعلي الكيمياوي وهو يقيم (حفلة خاصة) حضرها كثير من الفتيات.. توجه مع بعض المواطنين إلى داخل الغرف التي يعيشون فيها. عرض عليه شيخ كبير في السن صورة خاصة لعلي الكيمياوي، هذه المرة صورة مختلفة، يظهر فيها الكيمياوي وهو جالس على اريكة مرتديا دشداشة رمادية اللون،كان يبتسم ابتسامة بلهاء، وهو يضع يده على فتاة أمامه لا تتجاوز العاشرة من العمر، كانت الفتاة شبه عارية، وقد لطخت وجهها بمساحيق التجميل!! لم يقبل الشيخ ان يعطيه تلك الصورة، والتي شاهدها ثانية بعد عدة اشهر على شاشة قناة العراقية، انتابه حزن شديد لان الصحفية الأجنبية هي التي صورت كل شيء، أي خيبة واي فساد كنا غارقين فيه إلى حد التخمة؟لقد بكى في تلك اللحظة من أعماقه.
الشماعية
أشار إلى انه في اليوم التالي لعمله مع الصحفية، قررا الذهاب إلى مدينة الصدر، وفي الطريق كانت (كيم) لا تمل من إعادة قصة تعرضها للاعتداء قبل أسبوع، وكيف إنها وجدت في بغداد مصرفا يتعرض للسرقة، فأرادت ان تصوره، أغراها احدهم بالدخول إلى البناية، وعندما دخلت هناك حاول احدهم ان يسرق كاميرتها التلفزيونية، والاعتداء عليها، قالت ان المترجم السابق الذي عمل معها اخذ ينظر اليها ضاحكا ولم يحاول ان ينجدها، وهرب سائقها، ولكن بعد قليل جاء شخص لا تعرف من اين ومعه مسدس، وأنقذها من براثن اولئك اللصوص.
في الطريق اوقفهما احدهم قائلا ان هنالك جثة مرمية في نهر دجلة قرب شارع ابي نؤاس، وعندما وصلا إلى هنالك تبين انها جثة رجل، بدت ملامحه غير عراقية، والمغدور تلقى طعنة في جسده ولف في بطانية. صورت (كيم) كل ما دار هناك. في الطريق أزعجه السائق الذي يصحبهم والذي كان كلما شاهد شخصا يحمل شيئاً في يده، يردد"علي بابا". فمنعه من تكرار ذلك. وصلا إلى منطقة قريبة من الشماعية، في البوابة لم يكن هنالك أي حرس، فكل شيء كان سالكا. وبعد ان دخلا هناك وجدا رجلاً يقولون له "السيد" يرتدي القميص والبنطال، هو المشرف على إطعام نزلاء المصحة تلك، كان رجال الدين هم الذين يديرون المستشفيات واماكن عديدة ويحافظون عليها من العبث في ذلك الوقت العصيب. لم يكن هنالك اي طبيب في تلك المصحة بعد ان تركها اغلب العاملين فيها. قيل لهم، ان الاميركان، قاموا بفتح ابواب المصحة، ربما ظنوا انهم من سجناء النظام السابق! فاطلقوهم في الشوارع، وكان منظرا مأساويا. عاد قسم كبير منهم إلى نفس المكان، وهرب بعضهم في الطرقات. تعرف على احد النزلاء، كان رساما وشاعرا، قرأ لهما قصيدة جميلة، وحين سأله عمن ادخله ذكر ان ألحكومة وضعته هنا وانه لا يريد ان يخرج، لم يصدق ان النظام سقط من دون رجعة!!.
وفي قسم النساء كانت الأوضاع اكثر سوءا، فلا عناية ولا اطباء .كان من الواضح ان بعضهن يمتهن التسول، وكن جائعات. أثناء خروجهما شاهدا احد رجال الدين، قال موجها كلامه لـ(كيم)، لماذا لا ترتدي هذه المرأة الحجاب، أجابه المترجم "مولانا ان هذه امرأة أجنبية واننا لم نكن نعرف اصول الدخول إلى المكان" وبلباقة استطاع ان يتجاوز الاشكال!!
بعدها قابلا عائلة نزلت من احدى الحافلات القادمة من سوريا، رب الأسرة كان طبيبا، يسكن في شقة قرب شارع حيفا،تذكر حديثه معه، فيما قال "عندما وصلنا إلى الحدود العراقية"،كان يظن انه سوف يتحدث ضد الاميركان!! ولكنه أكمل قائلا " لم نتوقف ساعات طويلة للتفتيش من اجل الدخول إلى بلدنا،بل كان اسرع دخول لنا من قبل".
الحرائق في الوزارت
في ذلك الوقت سرت شائعة كبيرة في الشارع، انطلقت من بعض الاماكن، كانوا يقولون ان مواطنين من دولة عربية.. هم الذين قاموا بإحراق الوزارات،ولكن من عرف ظلم النظام السابق يدرك انه يمكن ان يقوم بكل هذه الأعمال ببساطة، بطريقة مباشرة او غير مباشرة. سرت إشاعة رددها الصداميون، في السيارات العامة وفي الشوارع،ورددها البسطاء من خلفهم، تذكر ان الاميركان عندما احتلوا افغانستان، أمروا بفتح مخازن السيارات والأطعمة، والمعامل التي كانت تكثر فيها!! وان الافغان امتنعوا عنها.... كانت اشاعة مفضوحة!! ورغم كل ذلك فقد مرت فترات طويلة من دون ان تحدث اية أعمال عنف،في اغلب المدن،حتى رتب الصداميون أوضاعهم واخذوا يتحركون في الشارع بشكل قوي، يؤكد ذلك نوعية الإشاعات التي كانت تتحرك في الشارع، وهو فن تميزوا به كثيرا. برغم كل ما حدث أعاد بعض المواطنين الكثير من الأجهزة والمعدات التي نهبت وسط الفوضى العارمة، ووضعوها في الجوامع. في اليوم التالي قررا زيارة مستشفى الإسكان للأطفال، تأكد لهما وجود نقص خطر في الأدوية فيها وكذلك نقص في عدد الأطباء. من التزم من العاملين كان متعبا ومن دون راتب. تحدث المترجم كيف إنهم توجهوا مرة إلى منطقة الراشدية وعملوا فيها مستشفى ليوم واحد بصحبة أربعة او خمسة من الأطباء الكوريين. تذكر حينما قال إلى (كم) انه لن ياخذ منها اجرا عن العمل في ذلك اليوم لأنهم يعالجون أبناء وطنه. فكان يوما لن ينساه أبدا.
في الزعفرانية
توجها في اليوم التالي إلى مدينة الزعفرانية، قيل ان بعض الصواريخ المجهولة سقطت على منازل فيها!! بعد ان وصلا هناك، شاهدا صاروخا بحجم كبير سقط على سطح احد المنازل، ولكن الكارثة كانت في مكان قريب، اذ سقطت صواريخ اخرى بشكل مباشر على منزل، قتل فيه أربعة من أفراد العائلة. تجمع عدد كبير من الصحفيين الأجانب يريدون تصوير رب الأسرة بعد ان عاد من المستشفى، كان منظرا حزينا،ولكن احد أقارب الضحايا لم يستطع ان يتمالك نفسه فقام بتكسير بعض الكاميرات التي حملها الصحفيون. بدأ يتساءل مع نفسه من يمكنه ان يطلق تلك الصواريخ؟ اتجها إلى معسكر قريب، وسألا جنديا اميركيا واقفا هناك عما حدث فقال، "ان احد الأشخاص قام بإطلاق نار على كدس للأسلحة والصواريخ الموجودة والاعتدة لا تزال تنفلق" لم يفهم ما حدث!! الا ان الشيء الذي فهمه ان تلك العائلات خسرت الكثير. نعم لقد كانت هنالك أكداس كبيرة وشظايا من ذلك الانفجار قد انتشرت في الطرقات. وجد احد العراقيين في سيارته،كان يحمل لافتة في يده،اعتقد انه كتب عبارة تندد بالاحتلال، وكان يراقب كل شيء. لا ادري ثمة شعور غريب خالجه بانه رجل امن، شعر بأنهم ينتشرون في كل مكان وخاصة في التقاطعات. ربما كانت تلك أول عملية إرهابية تعرض لها العراقيون بعد سقوط النظام.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة