المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

المكتمل و اللا مكتمل في قصيدة النثر .. هل يمكن اعادة الاعتبار للمشكلة الايقاعية؟

شاكر لعيبي

"كوني، ايتها الكواكب، القوافي الملتقطة عند تخوم مصائرنا"        ريلكه (النوافذ)
 

كثر الحديث و طال حول قصيدة النثر. و ما عدا القلة الساعية الى موقف بصير يرى الى النسبية الممنوحة، في تاريخ الشعرية، للاشكال و الاوزان و القوافي و القواعد مقارنة بكيفيات استخدامها و وظائفها. قلة ثمينة تنحني جدياً على المصطلح ثم لا ترفض كيفما اتفق من لا يُعالج نمطاً خاصاً من الشعر، او من لا يتابع نسقها الشعري.
لا تشهد الثقافة الشعرية العربية اليوم سوى تلك القلة من المتأملين بالاشكال و الايقاعات ممن يثمنون القواعد او ممن يرفضونها، لكن غير المسحورين بها و لا المتجاهلين لها و لا المتمردين بالمجان عليها. قلتهم تدلّ على ان مشكلة قصيدة النثر حقيقية و راهنة، و تستلزم رؤية من طبيعة هادئة للفصل بين ما هو متوهِّم كعنصر اصلي فيها و ما هو شعري اصيل.

ان تفعيل السجال يستجيب لضرورات الوقوف امام هذا الكلام الباهت المسمى نقداً ادبياً، خاصة ذاك المقال بصدد قصيدة النثر المكتوبة الان في العالم العربي و التي نقترح وصفها (بالمحلية) لاسباب لعل اهمها تقليدها و تطبيقها لقصيدة النثر العالمية في شروط ثقافية ومعرفية و سيوسيولوجية و نفسية خاصة، الامر الذي يمنحها نكهة فوّاحة بجميع مشكلات الثقافة في بلداننا و مذاقاً نابعاً من وعي كتابها و شروطهم الثقافية و من طبيعة الترجمات التي تأثروا بها. و هنا يتوجب القول ان كتاب سوزان برنار الذي سحر الكثيرين يحتاج اللحظة الى اعادة تقديم، خاصة و انه ليس كتاباً مقدساً، و يطلع من الشعريات الفرنسية على وجه الخصوص. لم تكن المشكلة الايقاعية هماً بارزاً لها و تحدثت عنها قليلاً، و في سياق شعر اوربي تمتلك لغاته ضوابط نغمية مختلفة عن ايقاعات اللغة العربية.
غالبية الخطابات المطروحة بشأن قصيدة النثر هي مناسبة صالحة لمناقشة البداهات الشعرية و طبيعة الشعر نفسه و عناصره المنوعة. ان نزوع اغلب شعراء قصيدة النثر اعتبار تصفية الحساب قد انتهى مع القواعد الشعرية المعروفة لا يبدو صائباً. فالوزن الخليلي التقليدي ما زال قائماً بعنفوان بدليل اغتراف جلّ الشعراء العرب المعروفين من نبعه. و في استخدامهم لهذا الوزن ما زالت القافية الصدّاحة تتناوب الحضور في ثنايا قصائدهم. بل ان هذه القافية نفسها، المستبعدة، الممجوجة، المكروهة، المستنكرة بشكل ملتبس في خطاب لا يرى سوى مسعاه، ستعاود الحضور لدى متحمس لقصيدة النثر (هو كاتب هذه السطور) في قصيدة النثر نفسها انطلاقاً من منطق الحداثة كما نتعلمها في مكان آخر. او تقعيد قصيدة النثر بشكلها الحالي بوصفها الشكل الارقى للشعر لا يمتلك الدقة المعرفية. و ان الخطاب الواثق سيرتبك حالما تُثار في وجهه بعض البداهات التاريخية و النقدية. سنرى كيف يشتغل هذا الخطاب اثناء معالجته، على سبيل المثال، استدراج (القافية في قصيدة نثر عربية) يتفق الجميع تقريباً على افقها الحداثي. هذا المثال يمكن أن يُحَمَّل معنى الترويج لتلك التجربة التي
و يجب قول ذلك جهاراً جرى تجاهلها في الصحافة الادبية اللبنانية خاصة، المعنية بكل نزعة تجديدية، طرفوية، مثيرة للجدل، كما وقع الاستهانة بها بقسوة مريبة في نقود كثيرة لا تعبّر، في حقيقة الامر، عن موقف من الشاعر، بل تكشف مأزق قصيدة النثر كما تُمارس في العالم العربي حالياً، و من هنا بالضبط تستأهل ان تكون مثالاً على الالتباس النقدي العام. و هو ما يهمّ هذه المداخلة قبل أي هم ذاتيّ يائس.
و كما يعلمنا درس المنطق الفلسفي الإغريقي، سنعالج قضايا عامة بمناسبة مخصوصة:
اولاً: اكبر المشكلات تقع في ان التنظيرات اليقينية المتماسكة ظاهرياً المتعلقة بقصيدة النثر، تظل من دون صلة واضحة بالنصوص الملموسة: القصائد. هكذا مثلاً رأت الالماحات النقدية بشأن عمل القافية في النص النثري الحديث قطيعة افتراضية بين (قافيةٍ) تنتمي الى شيخوخة الشعر العربي بل رمزاً لموته و (قصيدة نثرٍ) افتراضيةٍ هي الاخرى تنتمي لشباب العالم و حيوية الشعر العربي المعاصر بل رمزاً لحياته المتجددة. ستدور الإشكالية الشعرية عموماً في نطاق متخيِّل يستبعد منذ البدء، واعياً او من دون وعي، المنطق الداخلي لنص من النصوص. كان بإمكان النقد التذكير إذن (بالسجع) ضارب الاطناب في القدم، و ليس بالمشكل الايقاعي الحديث، لان السجع اقرب و اسهل المقاربات عندما يقترن النثر بالتقفية. و قد تكون عجالة الكلام النقدي عن حضور سجّع ميّت في تجربة كهذه دليلاً عن التصورات البرانية المستجلبة، ذهنياً، و المطبقة تعسّفاً على مشاريع شعرية لا علاقة لها من قريب او بعيد بالمراجع الافتراضية لأنصار قصيدة النثر المحلية العربية. و لكي يوطّن النقد اليقيني في ذهن قارئه الاسوأ فهو يستذكر امامه الاسوأ فحسب من انواع ذلك السجع المقرون بنص حديث، و احياناً من دون قراءةٍ للنصّ المعنيّ. قصيدة النثر المحلية اكيدة ان كل تجربة لا تستهدي بها، اكاد اقول بموتها، محكومة بالموت منذ البدء.
ثانياً: على الرغم من انها أسٌّ من الاساسات التاريخية للثقافة الشعرية العربية، فإن دلالة التقفية و الحديث العام عن القافية
المتحولة طاعوناً فيما يُخفي ذاك الكلام تنقصه الى حد بعيد الدقة الاصطلاحية، و بعبارة اخرى كأن النقد الحالي يحتاج من جديد الى تعريفات واضحة للمواد التي يشتغل عليها. فإذا تعلق الامر بهذه القافية مثلاً يبدو في مظهر من لم يعالجها في السابق و لم يدرس مصادرها و اسباب حضورها و عللها و مساوئها. في العشرين سنة الاخيرة من الكتابة النقدية الحداثوية ثمة سهو عن العناصر الشعرية الاساسية، الصغيرة و الكبيرة. القافية هنا مثال استدلالي لا غير، حيث لا وجود لتعريف اجرائي محايث و لا لفحص حاذق لوضعيتها، و حيث تغيب بشأنها المراجع التراثية و الدرس النقدي الاوربي المعاصر. الشجب المبدئي الاصلي لها يدفع للظن ان الشعرية العربية الحديثة متأكدة من الضرر الفظيع، المعروف من دون نقاش، الذي سيتخلل نصاً حديثاً جراء ايقاع صريح. ستُرفض تحت الحجج جميعاً. و آخرها ما يذكره الشاعر التونسي نزار شقرون: "لا يعقل ان تكون قصيدة النثر مناوئة للقيود الإيقاعية و تلتزم في الان نفسه بقيد ايقاعي قديم فرضه نسق الحياة العربية الصحراوية"، و هو يقصد القافية انطلاقاً من بداهة تُناقش. و يحق للوعي ان يتساءل فيما إذا كانت هذه القافية بمراجع اشعار الشعوب الاخرى غير العربية صادرة عن نسق صحراوي (و صياغة القضية الايقاعية بربط القافية بمراجع صحراوية لا يبدو لي جاداً و اراه يتابع استشراق القرن التاسع عشر، و لم يجرؤ حتى ابن خلدون على طرحه على هذه الشاكلة)؟ ام ان لهذا القيد الايقاعي سبباً و علة اخرى؟ و لِمَ تحضر هذه القافية في جميع اغاني الشعوب و عند جميع شعراء العالم تقريباً و ان بدرجات متفاوتة و نسب مختلفة؟ يا للدرس البسيط المنسيّ في ثقافتنا الشعرية الراهنة.
هل لان غنائيتها في تعارض وجودي مع لا غنائية قصيدة النثر؟ ليبرهن لنا احد إذن ان قصيدة النثر العربية في قطيعة نهائية مع الغنائية؟ ألا يمكن خلق مزاوجات خلاقة بين النثر و نزعة غنائية ما؟ و ما هي الغنائية يا ترى في نهاية المطاف؟ و لأي سبب تتحوّل الى ضرر في الشعر الحديث؟ هذه الاسئلة هي مشروع لبحث نقدي ننتظره.
ثالثاً: هنا مناسبة لقول كلمة عن القيود التي تزعم قصيدة نثرنا المحلية التملص منها بضربة واحدة. من الصعب بمكان التخلص في الشعر، من جميع القيود بدفعةٍ سحريةٍ فتانةٍ. يجب التخلص من مبدأ الشعر نفسه و الحالة هذه. ان الحديث عن ايقاع داخلي تفترضه غالبية النقود، هو احالة غير صريحة لمشكلة الايقاع الذي هو على أي حال التزام بقيد نغمي و ان كان تلقائياً. ان جميع الجناسات والطباقات و ما اليها ليست سوى وضع للمعصم، طواعية، في قيود قديمة معروفة، و انّ صياغات النحو نفسه و قوانينه و النَبْر في اللغات هي القيد الاكبر الذي لا فكاك منه، و منه تطلع من دون شك ايقاعات محددة للغةٍ من اللغات. لا مكان عند استخدام اللغة نفسها لانفلاتٍ مطلق من القيود. في مكان ما ثمة قيد ما تتوجب مراعاته بعناية. غير ان الاهم من ذلك كله ان التحرر من القيود لا يُستهدف لذاته بل لمزيد من العفوية في قول الجوهر الشعري للعالم. و نغامر بالقول ان الالتزام بالقيود الشعرية يصير، مراتٍ، متعة ما بعدها من متعةٍ و تحدياً دالاً على قدرات الشاعر في البقاء، في آن واحد، في نطاق الحرية الشعرية الضرورية، و الالتزام بالحدود المسموح بها قواعدياً و لغوياً في الاقل. لا تقدر القوانين على كبح سجية الشاعر و لجم استعاراته، لانه يلعب عليها بالمعنى الذي يلعب فيه عازف البيانو على مفاتيح آلته، و يتلاعب بها و يخضعها في النهاية، على ما يبدو، لهندسة عمله الداخلية.
رابعاً: واحد من المنطلقات الاساسية المستترة للفن الشعري الحديث تقوم، في تقديراتنا، على رفض المنجز النهائي المستتب، محدد الملامح نهائياً و المكتمل
Acheve، و البقاء قدر الإمكان في اللا مكتمل inachve. و في هذه العملية تبقى لغة الشاعر و خصوصياته الاسلوبية حاضرة بيقين و دهاء. هذه المفهومة صارت بداهة في فني الرسم و النحت الحديثين. من الواضح ان البقاء في اطار قانون واحد و لغة موحَّدة في كتابة قصيدة النثر العربية هذه يقود مرة اخرى الى (اقامة عمود شعري ثابت)، لا تختلف نزعته المحافظة عن أي عمود معياري ثابت آخر، و في ذلك نفي لفكرة الحديث و الحداثة التي لا تقبل بطبعها الثابت على نسق واحد معياري. و على ما يقول بودريار "ليس للحداثة قوانين و لكن لها وجهات فحسب، انها ليست نظرية و لكن يوجد منطق للحداثة". يوجد منطق داخلي للحداثة فحسب. غير ان كتبة و نقاد قصيدة النثر المحلية الحالية يريدون صياغة نظرية نهائية لها. و هو امر لا نلتقي به في الشعر العربي و العالمي الحديث الذي يتناوب في استخدام جميع الممكنات القادرة على خلق نص فريد، لا هجر بعضها نهائياً و لا الإصرار على البعض الآخر نهائياً، حتى فيما يتعلق بالوزن نفسه: القيد الاكبر في الشعر العربي اليوم. قد يكون الشعر العربي القديم قد خضع بدوره لمنطق حداثته الزمنية، فأشعار المتنبي تغترف، من اجل خصوصيتها، من كل ما كان يهيئه لها الشعر في وقته، و لم يبق المتنبي البتة جامداً في اطار العمود المعياري المتفق عليه من طرف نقاده الذين لم يتركوا عاراً و سرقة الا نسبوها اليه. كان شعراً غير مكتمل بمعنى من المعاني. و كان شعراً منفتحاً على كل افق، تقنياً و لغوياً و معنوياً. كان شعراً حراً إذا شئنا. و مثله كان شعر ابي نواس المتهم بدوره بالخروج على العمود الجليل النهائي ذاك.
في اللغة الفرنسية يطلق التعبير (غير مكتمل او غير منجز
inacheve) على الجملة التي لم يجر التعبير عن احد عناصرها، و يطلق ايضاً اسم الاهليلجية elliptique (الشكل البيضوي الناقص أي ليس الدائرة الكاملة)، و قد استعيرت المفردة في النقد التشكيلي الاوربي للتعبير عن فضيلة لوحة او منحوتة توقف الفنان عن انجازها قبل اكتمالها، كأن عدم اكتمالها يشي بانفتاح على امكانيات اخرى متجددة قابعة في لا اكتمالها ذاته.
و يبدو لنا ان الاكتمال يصيب النص الشعري بالمقتلة، و يجعل منه مراوحة في فضاء ثابت و تكرار مقيم لنصٍّ واحدٍ وحيدٍ بتنويعاتٍ عدة. اللا مكتمل هو اعادة تذكير بجميع العناصر الممكنة في انبثاق النص و توظيفها من دون اعطاء مفاضلة نهائية لبُنية منضبطة رياضياً و ابدية او لعنصر منفلت بالمطلق. في صيغة اللا مكتمل نكاد نترك الابواب مفتوحة لجميع العناصر المنقادة انقياداً طالما يمكنها إثراء النص. من حينها سيكون ممكناً ادخال انواع ادبية اخرى بل العناصر البصرية المحض في صلب النسيج اللغوي الشعري. و في هذا السياق نعرف ان ابيات القصيدة العربية الحديثة غير المتساوية في الطول تمنح العين مشهداً بصرياً منذ الوهلة الاولى و قبل قراءتها.انها صفحة بصرية، مرئية بطبيعتها، مراوغة و من دون قوانين محسوبة. بل ان اختلاف طول الابيات و ترتيب الكلمات يمنحان العين، وحدهما، معاني داخلية بصفتهما وحدات بصرية مستقلة. من هنا انطلق البعض، في سبعينيات القرن الماضي مستهدين بتجارب الشعر الفرنسي، بالحديث عن اهمية البياض في قراءة سواد احرف القصيدة.
انطلاقاً من الشكلي، الضروري منه فحسب لعمل القصيدة، ذهاباً الى الجوهر المضموني و الاستعاري، يمكن الوقوف على عمل اللا مكتمل الادبي في مبدأ الاستعارة المنفتحة على التخوم المتعددة و اغترابها عن المعنى اليتيم الواحد. انها تذهب الى الجوهري، و قد يقع هنا سبب من اسباب اهمية الشعر في الحياة الانسانية. مع اللا مكتمل يمكن الذهاب في جميع الاتجاهات. لقد كان اثبات (الوزن) او (القافية) في الخطاب الكلاسيكي نوعاً من (مكتمل) صريح لكن رفضهما خبط عشواء ليس سوى مكتمل من نوع آخر، لان كليهما يلتقيان في تشريع قانون نهائي للقصيدة. لا ينضبط النص الشعري إلا بقوانينه و ليس بأي قانون آخر و إنْ استخدمه فهو يستخدمه لصالح اهدافه. هذا الجدل يغيب عن ذهن المولعين بالقواعد او المولعين بقاعدة تحطيم القواعد.
خامساً: ان مأزق بعض مُقعِّدِيْ قصيدة النثر الراهنة كامن في تعبئتهم كل نقد متناقض، ملفق ضد العناصر الشعرية التاريخية المحايدة الطبع، كالأوزان و الإيقاعات. يقع الدليل على مأزقهم النقدي في الحضور الباهر لنصوص معاصرة متقيدة تماماً بالوزن، و بالتوازي مع ذلك غياب الادلة النظرية و الجمالية لديهم في البرهنة على استخدام الوزن او القافية على وجه الخصوص، مُصاب بعلل لا شفاء منها في اشعار ادونيس و نزار قباني و محمود درويش و سعدي يوسف على سبيل المثال. بصدد هؤلاء الشعراء لا تقدم البراهين، و يظل النقاد انصار قصيدة النثر الباهتة الراهنة، شبه المترجمة، في مراوحة حذرة بين القبول الضمني بجميع اشكال الشعر الحقيقي و الرفض الظاهري الحداثوي الشرس النبرة لكل التقنيات القديمة. بين القبول المبدئي بالشعر الحقيقي و الامل بقصيدة من دون أي قيود ثمة مفارقات ظاهرة لا يُحسد عليها احد.
من جهة اخرى، يغدو الاستناد الى مرجعيات محايدة كالقافية موضع نقد متناقض، تُحشد له كل الحجج الحداثية. ففي شأن (قصيدة نثر بقافية) التي حاولناها قرأنا انها سجع (ادونيس و غيره) و هي عود غير حميد لفترة تسبق اختراع قصيدة النثر العربية (امجد ناصر) و هي من دون مستندات نظرية ايقاعية مقبولة و تجسدات نصية (حاتم الصكر) و هي من دون مرجعيات عربية مؤصلة (شاعر من جيلي) و هي تنويع على تجارب الرياحنة (هاشم شفيق) و هي مستجلبة استجلاباً من دون دواع عضوية (نزار شقرون و غيره) و هي كذلك شكل من اشكال الانحطاط الشعري (د. محمد حسين الاعرجي) و يتوجب اخيراً رميها من النافذة بأسرع وقت ممكن (باسم المرعبي). لقد قيلت غالبية هذه الافكار على عجل و بسطور قلائل. و لكي لا يأخذ السجال إلا المنحى الموضوعي غير الشخصي، نسارع الى القول ان تلك النقود تكشف ان مشكلة الايقاع الشعري ليست من اولويات الراهن الشعري العربي.
لا اولويات على أي حال في الثقافة العربية بتاتاً.
و بعيداً عن الاسماء الواردة اعلاه فإن الحالة الشعرية السائدة تعلن استهانة بمشكلة الايقاع و مروراً سريعاً عليها و عدم تدقيق بمفهومات كبيرة، ليست القافية إلا مثالاً لها فحسب، و فيها عدم كفاية اطلاع على تجارب الشعراء المحايثين المعنيين بممارسة التجارب الجديدة و لا بمتابعة التطورات التي خضعوا لها. و ثمة في منطق الكاتبين في مديح قصيدة النثر المحلية الناقدين لمن يخرج عن عمودها منطق (الموظة) سواءً في الركون الى مفهومات غير محددة، مكررة، او في استخدام المصطلحات الغائمة المتمردة على نفسها، او في اتخاذ المواقف القلقة.
ثمة كذلك تفاؤل مفرط بقصيدة نثر محلية مُقعَّدةٍ عبر ممارسات نقدية و نصية ليست جادة احياناً كثيرة. ممارسات تسعى لتجذير قصيدة نثر مثقلة، بشهادة الوسط الشعري برمته، بأخطاء و هفوات، يقف على رأسها هجران اصول الفن الشعري لصالح الجهالة، و نبذ الموسيقى الداخلية و الخارجية لصالح النشاز، من بين إشكالات اخرى.


محاولة خلق الحياة .. (شجرة) معرض الفنان فاضل الدباغ في جاليري دار الاندى  

رسالة عمان-محيي المسعودي

شكلت العاصمة الاردنية عمان على مدار عقدين من الزمن مركز جذب للفنانين التشكيليين العراقيين من داخل العراق و خارجه اضافة لعدد كبير منهم اقام في المدينة و اتخذ منها مسكناً و منطلقاً له نحو الامكنة الاخرى.
و تعود هذه العلاقة بين الفنان العراقي و مدينة عمان لاسباب عديدة (جغرافية و سياسية و طبغرافية) فقد شكلت المدينة طوال الثلاثة عقود الاخيرة البوابة الوحيدة للعراقيين على العالم فاقام الفنانون القادمون من العراق و من دول العالم المختلفة معارضهم الفنية في جاليريهات عمان الكبرى و لكن تجارب الشباب و حضورهم كان الاقوى على الساحة يدعمه حضور اساتذتهم
نقداً و دليلاً قياسياً حتى اصبحوا ظاهرة فنية عمانية الملامح.
و تأتي تجربة الفنان الشاب فاضل الدباغ لتصب في هذا الحضور الفني و تغنيه و قد اقام معرضه في جاليري دار الاندى احد الجاليريهات الكائنة في وسط المدينة
القديمة عمان –.
حمل الدباغ تجربته و رؤيته الشخصية المفعمة بالارادة و البحث عن كل جديد و اذا كان ملزماً بشروط الفن العراقي و ماهيته و طابعه العام و الخاص بحكم تكوينه الجغرافي و الانساني فإنه عمد الى تميز نفسه من خلال رؤية و اسلوب خاصين به. و يلعب هاجس الفنان تجاه فنه عاملاً رئيسياً في صياغة لوحته فالدباغ مشغول بهمه الفني الساعي الى تقديم موضوعات و صور جديدة حرص على ان تكون من اكتشافاته و ان تقدم رؤيته دون ان يسبقه احد فيها او اليها. و تشكل لوحاته الاولى في المعرض دليلاً على ذلك حيث يشكل سطح اللوحة قاعدة الفكرة و مادتها الخام لان جذع الشجرة بما يحمل من دلالات الحياة و الاثمار اصبح ساحة لممارسة الحياة و طرح قضاياها و قد اختار الدباغ سيقان نبات القصب لتعلو سطح اللوحة بما يشبه الريليف و ظهرت سيقان القصب الانبوبية الشكل مفتوحة من الاعلى .. و نلتقط هنا الاشارة الكامنة في القصب كونه نباتاً و مادة لصناعة المزمار أي الموسيقى و اللغة ناهيك عن دلالاته في الموروث المثيولوجي العراقي القديم و الاقدم .. و قد ترك الفنان اشكاله الفنية التشخيصية و مضامين تلك الاشكال مفتوحة على التأويل البصري و الدلالي مما يمنحها فرصة حقيقية لدخول عالم التجريد لاحقاً.
و تظل اعمال الفنان تقدم موضوعات عديدة بين، الفكري و الحسي، اذ تطغى الصنعة على الاعمال ذات الطابع الفكري و تكون محكمة و قريبة جداً بل منضبطة بالقواعد الفنية التشكيلية الصارمة التي تقود المتلقي، المثقف بصرياً، الى كشف دلالاتها و الوصول بها الى تبين رؤية الفنان .. و الى جانب هذه اللوحات ذات القيم الفكرية الطاغية تقف لوحات نفذت باسلوب تجريدي و استخدام اللون لغة لها .. و تمثل اقتباساً من الحالات الانفعالية التي مر و يمر بها الفنان او هي المناخ و المزاج النفسي و الفني له بعيداً عن الصنعة و تتبع القواعد و الشروط الفنية .. و اتت الوانها متماثلة مع نسبة الانفعال و قوته و نوعه، لتقود المتلقي باتجاه مزاج فني خاص مادته الواقع العراقي الراهن و لكنه مطروح من خلال ذوات لا تراه كما يراه الكثيرون ربما لتميز علاقة هذه الذوات مع الواقع او لتفرد هذه الذوات بمكوناتها النفسية و الفكرية و التربوية المختلفة .. و قد تؤشر اعمال فاضل الدباغ الى جانب البعض من مجايليه نزعة جديدة في الفن التشكيلي العراقي يتبناها جيل يختلف بالضرورة عن الاجيال التي سبقته و ذلك بسبب المستجدات الاجتماعية و السياسية المحلية و الاقليمية و العالمية التي رافقت الحال العراقية منذ مطلع الثمانينيات و حتى اليوم و قد اصبحت هذه الفترة الحرجة من التاريخ العراقي عمراً انسانياً و فنياً لجيل من الشباب و هو منقطع
الا من خلال الرواية عن الحياة ما قبل وعيه و ادراكه لتلك الحياة .. و لا شك في ان تمسك الشباب بالحياة اصبح هاجسهم الاول في البحث عن سبل او اساليب للتعامل مع الواقع الحياتي و بالتالي خلق حياة يأملون من خلالها تحقيق ما يريدون و من هنا اعتقد، ان الفنان الشاب فاضل الدباغ و هو واحد من هؤلاء الشباب قد اختار الشجرة موضوعاً لمعرضه الاخير كإشارة الى الحياة الكامنة في الجذع العتيق و المتدفقة من الاغصان و البراعم الطرية واهبة حياة جديدة من حياة قديمة و اخرى اقدم.


المعدن و الخشب في معرض الفنان احمد غريب

 

اقام الفنان احمد كاظم غريب معرضاً شخصياً له في المركز الثقافي الفرنسي في العاصمة الاردنية عمان و قدم من خلاله تنوعاً تشكيلياً مثل رحلته الفنية التي بدأت بالنحت لتصل إلى عمل فني آخر مترع بالالوان و التقنيات المختلفة في صياغة اللوحة بانواعها المختلفة و مع التجوال في عوالم الفنان و تأملها يستطيع المتلقي استظهار تلك الرموز التاريخية التي ينتهي اليها الفنان و يتخذ منها منطلقاً فنياً و فكرياً دون ان تأسره او يظل دائراً في فلكها و بدت حضارة العراق القديم جلية على تلك الاقنعة او الوجوه المستطيلة المنحوتة من مواد مختلفة مبدية اشكالاً هندسية لا تقف عند الشكل الهندسي المنضبط كالدائرة و المربع و المستطيل بل انزاحت الدائرة للشكل البيضوي و هكذا الحال مع الاشكال الاخرى .. كما انها و بالقدر الذي التزمته من الموروث طرحت الواقع الراهن بصياغة الفنان و رؤيته الفنية و الثقافية مبلورة خصوصيته الفنية و تفرده في التعامل مع الموضوعات باختلافها و اختلاف مصادرها و لكنها مع كل هذا حملت بصمات الفن العراقي المعاصر والاسلوب الذي طرحه الرواد و خاصة الجيل الثاني منهم على وجه الخصوص .. فبعضها حمل اناقة و ترف لوحة رافع الناصري و البعض الآخر جاء متناغماً مع اسلوب شاكر حسن ال سعيد لينتهي البعض منها متماهياً مع اساليب الفنانين الشباب الثمانينيات و في كل التنوع و الاشتراك حافظ الفنان على خصوصيته الفنية الفردية ذلك لانه لم يكن مقلداً او متأثراً بشكل كبير و لكنه مشترك و متورط بواقع مشترك واحد و تاريخ واحد مما جعل مصادره المعرفية و الحسية تخضع لهذه الحقيقة .. و اذا كان الفنان ملزماً بالتشخيص مع منحوتاته اسلوبه الاول و لم يستطع الخروج بها الى عالم التجريد فانه على العكس من ذلك نجده في اعماله غير النحتية او الريليف فيصبح العمل شكلاً و مضموناً في قلب التجريد و لا تبقى ملامح للتشخيص مطروحة كتشخيص بذاتها الا في ذائقة الفنان و مناخه النفسي و الفني الذي تُطرح به الالوان و الخطوط و التكوينات غير التشخيصية طبعاً و يتفرد احمد كاظم غريب في تقنيته الاخيرة و التي يزاوج فيها بين فن النحت و الرسم الريليف و لكن الملفت للنظر انه يستخدم مواد مختلفة على سطح اللوحة الخشبي .. اذ نجد المعدن يقف على السطح الخشبي معشقاً فيه الى الحد الذي يرى فيه المتلقي ذلك المعدن و كأنه عشب او نبات خارج من السطح الخشبي و ليس ملصقاً عليه .. و هنا تظهر براعة الفنان في الاشكال التكوينية لذلك المعدن و هي في الغالب بالغة الصعوبة لانها بعيدة عن التشخيص جداً في شكلها و منعتقة من عقاله و لكنها قاسية بانضباطها و شروطها في عمل الفنان و لا يمكنه الخروج عنها .. وهكذا هي الحال مع الفن التجريدي اذ نجد فيه حرية بلا حدود مع المتلقي و لا حرية ابداً لدى الفنان المنجز ذلك فقط لانه ملتزم بعدم السقوط في عالم التشخيص و واقع في عالم منفلت من الشروط و لا ملامح تحده .. الا ملامح ذاته .. لقد اشتغل الفنان على ثلاثة محاور رئيسة .. الاول النحت و الثاني الرسم و الثالث الجمع بينهما في عمل واحد و لكل نوع من هذه الانواع رؤية و تقنية و اسلوب و مواد و الوان خاصة فعندما يكون الرسم على سطح اللوحة بالالوان ليس كما هو في المنحوتة و لا كما في "الريليف" لكل نوع شروطه الخاصة و لكن ثمة خيط ينسج هذه الانواع الفنية او الاساليب و الخيط هو .. الفنان نفسه .. فكره مزاجه رؤيته قدراته ثقافته كل هذه الاشياء و غيرها تظل شاخصة في أي عمل ينجزه و لا تتغير الا بقدر تغيرها في ذات الفنان او ذات الموضوع لذلك نجد الالوان مثلاً في تنوعها و احتلالها المساحات منسجمة و تعمل في سياق واحد لا يؤثر عليها مؤثر غير مزاج الفنان او طبيعة وظائف تلك الالوان التي تقع هي ايضاَ في مدار ذلك المزاج الفني و قد نلاحظ اللون الاحمر بكل درجاته و الالوان المجاورة له سائدة في جميع الاعمال تقريباً و يعكس هذا حقائق واقع الفنان النفسي و الاجتماعي فهو شاب في ذروة العطاء و القوة فلا يعبر عن ذلك غير الاحمر .. كما انه في بيئة تحترق بنار حمراء حروب، تفجيرات، حرائق ..
و لذلك هو في مجتمع تراق فيه الدماء الحمراء الساخنة يومياً منذ فتح عينيه على الحياة.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة