اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ســـــــــــراب امبراطوريــــــــــــــة
 

-العنوان: جنود الامبريالية:الجيش الامريكي على الارض
-تأليف :روبرت كابلان
-مراجعة:مايكل مندلبوم
-ترجمة: زهير رضوان

عن: نيويورك تايمز

كان روبرت كابلان احد القليلين الذين لم ينتبهم الشعور بغبطة الانتصار الذي صاحب نهاية الحرب الباردة. ففي مقاله الموسوم "الفوضى القادمة" الذي نشره في شباط عام 1994، حدد كابلان احتمالاً مختلفاً تماماً عن ذلك الذي توقعه معظم المراقبين الآخرين. لقد رأى عالماً تنهار فيه دول أو تتآكل، تاركة سكانها يتدافعون من اجل البقاء، بينما تتصرف الدول القوية على نحو قاسٍٍ لا يرحم من اجل ضمان سيطرتها على مصادر العالم الآخذة بالتضاؤل. كتب كابلان انه في العديد من الدول، ستكثف النزاعات الدينية والاثنية من الصراع على الموارد الطبيعية، وان الديماغوجيين القوميين ورسل الاصولية الدينية سيستولون على السلطة، معرضين للخطر ما تبقى من النظام والامن في المنظومة الدولية.
ان رؤية كابلان للفوضى القادمة رفضت على نحو واسع كونها مبالغة في التشاؤم، مع ان نذره المظلمة كانت اقرب إلى نمط الاحداث المتصاعدة منها إلى الرأي الشائع حينها. مضى كابلان في تطوير تحليله الواقعي في مجموعة من الكتب الناجمة. ومن المحتمل ان دراسته عن النزاع الاثني في جنوب شرق اوربا (أشباح البلقان 1993) قد اثرت في طريقة معالجة الرئيس كلنتون للصراع في البلقان، بينما في كتابه "نهايات الارض"، تصور كابلان عالماً مفككاً يشمل القفقاس وأواسط آسيا مع شبه القارة الهندية ودول الهند الصينية.
في كتابه "سياسات محارب: لماذا تتطلب القادة الروح القبائلية" ابتعد كابلان عن التقريرية وقدم عرضاً قوياً لنظرة واقعية للعلاقات الدولية. يقوا ان السلام شرط مسبق للحياة المتحضرة، لكن من دون القدرة على نشر القوة فان السلام مهدد، وبالتالي الحضارة. من وجهة نظري، يعتقد كابلان والمفكرون الواقعيون الآخرون بهذه العلاقة بين السلام وامكانية استخدام القوة لتصبح ميزة دائمة للشؤون الانسانية. مع ذلك، وعند هذه النقطة يطرح السؤال التالي: من ذا الذي يملك القدرة على استخدام القوة بفاعلية في الصراعات الدولية؟ في "سياسات محارب" يجيب كابلان بان الولايات المتحدة وحدها تمتلك هذه القدرة على امريكا ان تقبل بان التاريخ قد منحها دورها الاميريالي:
"بالرغم من تقاليدنا المعادية للامبريالية، وبالرغم من ان الامبريالية فقدت شرعيتها في النقاشات العامة، فان الواقعية الامبريالية تهيمن الآن على سياستنا الخارجية".
ليس كابلان وحده من يحاجج بان على امريكا ان تتبنى مصيرها الامبريالي، ومع انهم قد لا يتحدثون عن امبراطورية، فان العديد من المحافظين الجدد وبعض الليبراليين قدموا رؤية مماثلة للولايات المتحدة كضامن أخير للامن العالمي. لكن ما يميز كابلان هو ادعاؤه بان المهمة الاميريالية الامريكية تنتج من تحليل واقعي للعلاقات الدولية المعاصرة، ويتساءل كيف ان قطاعات الجيش الامريكي المنوط بها تطبيق هذه المهمة تدرك دورها. في كتابه "جنود الامبريالية"، يكتب كابلان عن رحلاته للقواعد الامريكية في اصقاع الارض. لقد تمتع كابلان بدرجة من حق الدخول إلى القواعد العسكرية الامريكية التي نادراً ما حظي بها صحفي معاصر. كانت النتيجة كتاب، وان اعتراه بعض الضعف، إلا انه مثير للتفكير ومحرك للعواطف ويتحدى العديد من الافكار المسبقة حول مكانة الجيش في الحياة الامريكية والعالم.
تحدث كابلان خلال رحلاته مع الضباط من المراتب الوسطى المكلفين بعمليات خطرة تتطلب براعة فائقة. يبدو ان كابلان مولعاً بشكل خاص بأولئك الذين التقاهم في الوحدات الخاصة. "وحدات صغيرة خفيفة ومميتة من الجنود والمارينز" بمقدورهم العمل بسرعة ومرونة تعجز عنها "فرق المشاة الديناصورية القادمة من العصر الصناعي".
بالنسبة لكابلان، تشكل وحدات المغاوير الخاصة التابعة لقوات المارينز الآن قلب الجيش الامريكي. هؤلاء المقاتلون النخبة، الذين يعملون في الخط الامامي في "الحرب على الارهاب" في العديد من الدول البعيدة جداً، يذكرون كابلان بالمتطوعين في سلاح الفرسان الذين قاتلوا قوات الهنود الحمر السريعي الحركة والذين قاوموا التوسع في الغرب الامريكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر:
كما تمجد اشعار وروايات روديارد كبلنغ المنعمة بالحيوية عمل الامبراطورية في اخضاع قبائل البشتون عند الحدود الشمالية الغربية للهند، فان احد معاصري كبلنغ، وهو الفنان فريدريك رمنغتون، في تماثيله البرونزية ولوحاته الزيتية، كان يفعل الشيء ذاته في فتح براري الغرب الامريكي".
هذه الاشارة إلى الغرب الامريكي ليست تفصيلاً من دون دلالة، انها التفصيل الرئيس في صورة كابلان للامبراطورية الامريكية. يكتب كابلان "كانت اللازمة التي سمعتها من القوات الامريكية من كولومبيا حتى الفليبين، مروراً بافغانستان والعراق، هي: مرحباً بك في البلد الصحيح... ان الحرب على الارهاب كانت بحق حرباً حول تطويع الحدود".
ان الاقتراح بان هنالك تناظراً بين حروب الهنود الامريكيين والدور الكوني للولايات المتحدة الآن هو تناظر لافت للنظر، وكذلك المقارنة بين تلك الحروب وقيام الحكم البريطاني في الهند. في كل من هاتين الحالتين فان التشابه إما ضعيف أو غير موجود. ان الحكم البريطاني في الهند خاض العديد من الصراعات الوحشية مثل محاصرة التمرد الهندي الذي شكل تهديداً خطراً للحكم البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر، والحكم البريطاني كان يوصم دائماً بالعنصرية. وان كان الامر كذلك، فانه خلال معظم المدة الاستعمارية كان بمقدور القلة فقط من آلاف الضباط البريطانيين حكم القارة من دون استخدام واسع المدى للقوة العسكرية. ان الهدف الرئيس من الحكم البريطاني في الهند كان استغلال موارد الهند. وطالما كانت هذه العملية تسير من دون اعاقة فان السكان المحليين وحاكميهم كانوا يتركون لرغباتهم. وعلى نحو مغاير، كان هدف حروب الهنود الامريكيين هو ترحيل السكان الاصليين عن اراضيهم، الذي اسفر في بعض الحالات عن تدمير طريقتهم في الحياة. إن كان هذا يوصف بأنه ابادة بشرية أم لا (كما ادعى البعض) فان هذه الحروب كانت احتلالاً لنظام مختلف عن ذلك الذي فرضته بريطانيا على الهند. ان المقارنة بين الامبراطورية البريطانية ودور امريكا في العالم هي ايضاً مقارنة غير دقيقة. ان القواعد الامريكية تجتاز العالم، وغالباً ما تخدم اهدافاً مشابهة في طبيعتها لتلك الاهداف التي سعت اليها القوى الاستعمارية الاوربية، لكن الولايات المتحدة لم تتورط في حكم استعماري من النوع الذي أقامته بريطانيا والقوى الاوربية الاخرى في اغلب مناطق العالم. ان الامبراطوريات الاوربية قدمت التزامات طويلة المدى للمناطق التي ضمتها اليها. لقد امضى الاستعماريون الاوربيون اوقاتاً كثيرة من حياتهم منغمسين في ثقافات الدول التي استعمروها، دارسين لغاتها، مشكلين تحالفات ثابتة مع حكامها المحليين. وبالاضافة إلى إخضاع واستغلال مستعمراتهم فقد حكموا وعاشوا فيها. تورطت الامبراطوريات الاوربية في العديد من الاعمال الوحشية - الالمان في جنوب غرب أفريقيا، والبلجيك في الكونغو حيث قتل الكثيرون في ظروف لا تقل عن ظروف العبودية، وكان البريطانيون هم من بدأ استخدام القوة الجوية ضد السكان المدنيين في افغانستان والعراق في العشرينات، على سبيل المثال. الاكثر من ذلك، فان وجهات النظر التي شكلتها النخب الاستعمارية الاوربية للبلاد التي احتلتها كان يشوبها مزيج من الهوى العنصري والاساطير الشرقية. مع ذلك فان اطلاع بعض اولئك الحكام الاستعماريين على لغات وتاريخ المستعمرات وطبقاتها الحاكمة جعل من السيطرة السياسية عليها ممكنة إلى درجة ما، وذلك ما يتعدى أي شيء كان بأمكان القوة العسكرية تحقيقه بمفردها.
الحقيقية هي ان امريكا تفتقر إلى اغلب المميزات التي تجعلها قوة امبريالية. ان الولايات المتحدة لها في العديد من البلاد درجات متباينة من التأثير - بعض هذا التأثير يمارس بالتهديد باستخدام القوة، لكن اغلبه يمارس بمزيج من العقوبات الاقتصادية والترغيب. انها لا تحكم اياً من هذه البلاد وتمتلك القليل من السيطرة السياسية عليها. ملاحظاً ان "الامبراطورية الامريكية برزت اخيراً على نحو ضمني اكثر منه على نحو واضح وجلي"، يشير كابلان إلى ان "امبراطورية امريكا من دون مستعمرات" ثم يمضي لمقارنتها بالامبراطوريتين الرومانية والفارسية مع ذلك فان علاقات امريكا مع اغلب الدول التي لها فيها قوات متمركزة هي ليست علاقات طويلة - الامد من الطراز الذي رعاه الرومان والفرس.
ان الوجود الامريكي مشروط بتحول نمط المصالح الامريكية والاحتمالات المستقبلية للسياسة الامريكية. عندما يرى أي امريكي ان التورط العسكري صار وشيكاً جداً أو لا يحظى بالشعبية فمن الارجح ان ينتهي التورط على نحو مفاجئ وخطر. بناءً على هذه الحقيقة، أو نتيجة لهذه الحقيقة والتي اخذت كبديهة في كل من واشنطن والدول المعنية، فان التحالفات طويلة الامد مع الطبقات الحاكمة المحلية من النوع الذي مكن الامبراطوريات من البقاء لقرون في الماضي، هي تحالفات غير ممكنة.
ان عدم وجود أي التزام طويل المدى تجاه الدول التي تمتلك فيها الولايات المتحدة قواعد عسكرية ينعكس في الجيش. من مقومات رواية كابلان عن "جنود الامبريالية" الامريكية، احتفاليته بوطنيتهم الامريكية غير المرتبكة. يكتب كابلان "ان عناصر القوات الامريكية الذين قابلتهم يرون انفسهم بانهم ينتمون إلى بلد واحد ومجتمع واحد: ذلك هو الولايات المتحدة".
لم يخطر ببال كابلان بان هذه الحقيقة تتعارض مع المهمة الامبريالية التي يعتقد ان الولايات المتحدة قد شرعت بها. ان هذين الامرين يختلفات عند نقاط حاسمة. ان الانتماء الوطني المتقد لدى الجيش الامريكي والذي يحدده هو ويحتفي به لا يشجع أي اهتمام ثابت لدى المجتمعات الاخرى.
يكتب كابلان عن القوات الامريكية في افغانستان: "مع بضعة استثناءات فان ضباط المخابرات المضادة الذين التقيتهم بالكاد يتحدثون اللغة المحلية". في الحرب العالمية على الارهاب التي تعتمد على مخابرات جيدة، فان الافتقار إلى المهارات اللغوية قد يعد عجزاً خطراً.
يعتقد كابلان ان هذه العلة يمكن معالجتها بالتدريب والتجنيد الجيدين، لكنها تتسق مع مواقف وسياسات متأصلة في الجيش الامريكي. لنأخذ بنظر الاعتبار مبدأ "حماية القوات" الذي يجعل من تخفيض الخسائر الامريكية هدفاً بالغ الاهمية. قد تكون هذه سياسة يمكن فهمها مقابل خلفية الخسائر الامريكية في فيتنام والصومال. لكن انعكاسها على الدول التي تنخرط فيها القوات الامريكية في حرب مخابراتية مضادة هو ان السكان كمجموع ينظر إليهم كأعداد محتملين، كما قد يلاحظ في العراق الآن.
هنالك فرق كبير بين دور القوات الامريكية اليوم ودور القوات المسلحة الاوربية في العهد الاستعماري. كانت الامبريالية الاوربية ممارسة في بناء الدولة وعادة ما عملت القوات المسلحة للقوى الاستعمارية ضمن خطوط ارشادية مصاغة لتتفق مع الاهداف السياسية طويلة الامد. بالعكس من ذلك، فان القوات الامريكية تنظر إلى نفسها، وينظر إليها الآخرون، كقوات "عابرة" غالباً ما تتصرف دونما اهداف سياسية محددة جيداً. يحدثنا كابلان عن احد افراد الحرس الوطني الامريكي في افغانستان وهو يصف المدة التي يقضيها في الخدمة "عليك ان ترى الاماكن التي لم يزرها السياح قط، نحن هنا مثل سياح لكن باسلحة". ان الاعتراض هو ان القوات الامريكية مكلفة بمهمة واحدة فحسب، وعندما تتم المهمة فبأمكان القوات الانتقال أو العودة إلى الديار.
لكن احتواء الارهاب - المفترض انه من صميم الانتشار الدولي للجيش الامريكي اليوم - يتطلب مبادرات سياسية واقتصادية تطبق على مديات طويلة بالاضافة إلى الاشتباك العسكري الحالي. ان التدخل العسكري الذي قامت به الولايات المتحدة وحلفاؤها في افغانستان كان يهدف إلى تدمير نظام طالبان وهذا ما تم تحقيقه؛ لكن قوات طالبان اعيد تجميعها منذ ذلك الحين، والنخبة العسكرية التي يصفها كابلان "بالوحدات الصغيرة الخفيفة المميتة" نجحت فقط في انهاك قوى طالبان لا أعاقتها. ان الصعوبات التي واجهتها القوات الامريكية في العراق لم تتأت من أي افتقار للقوة أو للقدرة النارية، بل
متأتية من حالة انعدام ثقة اغلب السكان وحالة الفوضى التي تسود اغلب مناطق البلاد. ان التغلب على هذه العقبات - على افتراض ان هذا الشيء عملي وضروري - يتطلب عملاً قد يمتد لعقود واجيال. هنالك القليل من الدول اليوم ذات قدرة على تحمل التزام كهذا، والولايات المتحدة يعوزها هذا الالتزام على نحو جلي حيث يتعمق الشعور بنفاد الصبر بـ "بناء - الدولة".
الآن، ومن دون اشتباك عسكري قائم لا يمكن ان يكون هنالك أي نوع من "امبراطورية امريكية" فكيف تكون هنالك "امبريالية" في ظل عدم وجود "امبرياليين"؟.
ان المشكلة تتوضح على نحو صارخ في العراق. لقد بات مألوفاً ان ادارة بوش لم تكن تمتلك خطة للبلاد بعد الغزو، وان العديد ممن انتقدوا اداء الادارة في الحرب فعلوا ذلك ايماناً منهم بان الاعداد الافضل كان قد يؤدي إلى نجاح سياسة تغيير النظام. ليس هنالك من شك بان الحرب قد شنت دونما تروٍ مناسب، لكن من المشكوك فيه ان كانت اية درجة من التخطيط ستؤدي إلى تزويد القوات الامريكية بما يمكنها من التغلب على فوضى عراق ما بعد صدام. بينما اضافت الاخطاء الجسام في السياسة، مثل التسريح الفوري للجيش العراقي، إلى هذه الصعوبات فان المشكلة الاساسية نجمت عن هشاشة الدولة وعدم قدرة قوات الاحتلال الامريكية على ابقاء أي شيء في مكانه الصحيح.
في البدء عرفت البلاد باسم "ما بين النهرين" عندما جرى تجميعها بطريقة خرقاء من قبل الحاكم المدني البريطاني من مقاطعات الامبراطورية العثمانية وتأسيس مملكة هاشمية في العام 1921، كان العراق دائماً دولة مركبة مع انقسامات داخلية عميقة. نظام صدام حسين - العلماني وفق الطراز الغربي والدكتاتور وفق النموذج الستاليني والهتلري الالماني - استطاع الابقاء على تماسك العراق بينما مارس اضطهاداً قاسياً على الشيعة والاكراد وآخرين. ان ازاحة النظام حرر هذه الجماعات، وفي الوفت نفسه تركت الدولة العراقية دونما سلطة أو شرعية. واكتشفت القوات الامريكية بانها دمرت طغياناً لتخلق دولة فاشلة.
كان رد ادارة بوش هو اطلاق برنامج "الدمقرطة"، لكن من الوهم الاعتقاد بان الديمقراطية تجلب الاستقرار. عندما تنتشر الديمقراطية في بلاد تحوي سكاناً تعتريهم الفرقة العميقة منذ زمن بعيد، فان النتيجة تكون دولة متشظية. ان العراق مقسم ليس فقط بالعداوات الاثنية - الدينية التاريخية بل ايضاً بالادعاءات المتنافسة بشأن احتياطاته النفطية. في ظل هذه الظروف تكون الديمقراطية الليبرالية مشروعاً طوباوياً. قد يكون بالامكان ارساء ديمقراطية من نوع ما، لكنها ستكون ديمقراطية اسلامية وفق الطراز الايراني ونسخة من حلم جان جاك روسو غير الليبرالي.
مقابل هذه الخلفية، فان الحرب بين المجتمعات المتنافرة لا يمكن تفاديها عملياً، وفي الواقع ان عملية الانحلال قد بدأت كما يبدو. الجماعات الاصولية بدت وكأنها ضمنت سيرطتها على قطاعات رئيسة من مؤسسات الدولة مثل الشرطة والامن، وبعض المدن واقعة تحت سيطرة الميليشيات المسلحة. في ظل هذه الظروف فان بناء قوات عراقية بامكانها ان تحل محل القوات الامريكية والبريطانية في احتواء حركة التمرد - الذي يعد اساساً لاستراتيجية الخروج لدى الادارة الامريكية - يعتبر مستحيلاً.
بعض منتقدي الادارة يرون بان هذا الوضع ناشيء عن الفشل الاولي في نشر قوات كافية. رالف بيترز، ضابط المخابرات السابق والمشهور ككاتب في القضايا الستراتيجية، يلوم "موظفي البنتاغون الذين يطيعون الاوامر دون تفكير" والذين "رفضوا تخصيص قوات كافية لاقامة احتلال مقنع في جميع انحاء العراق".
ان وجهة كابلان في مهمة امريكا الامبريالية ليست اقل تفككاً. ان كابلان قارئ متحمس لجوزيف كونراد - فقد كتب مقدمة حماسية لطبعة لأثنتين من اعظم روايات كونراد - ويشاطر كونراد بصيرته في هشاشة السلطة الامبريالية. لكنه لا يظهر اية دلالة على فهم كونراد لدناءة ووحشية قوة كهذه. بالنسبة لكابلان، تعد الامبراطورية مغامرة كبيرة وبأن الارتداد عنها يعتبر جبناً وضيق افق. في مقدمة كتابه
Injun Country يصرح:
"ان تكون امريكياً في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين هي ان تكون حاضراً في لحظة عظيمة سريعة الزوال، لحظة حتى وان طالت لعقود عديدة اخرى فانها لن تشكل سوى ومضة خاطفة وسط مسيرة الهيمنات الطويلة التي عملت على تهدئة مناطق واسعة من الكون".
ان كابلان، بكتابته بهذا المزاج، يعد كاتب رثاء رومانسي عن امبراطورية امريكية يشك في انها وصلت إلى مرحلة نضوجها. انه يؤبن التقوى البسيطة والرغبة "غير الطموحة التي تموت" في "جنود الامبريالية" ويؤنب بقسوة "الطبقات الاكثر ازدهاراً" في امريكا التي يرى بانها تعمل على "تلفيق نخبة كونية كوزموبوليتانية" ويعنف بقسوة ايضاً الصحافة والتلفزيون لتوجيهها الانتقاد للجيش. لم يخطر في باله، كما يبدو، ان كان للصحافة تحفظات بشأن استغلال القوات الامريكية فأن ذلك يعود إلى ان الصحافيين على ادراك بالانفجارات التي احدثتها هذه القوات في اغلب مناطق العالم.
بعد كل هذا، فليس الصحافيون وحدهم من لديهم الشكوك بشأن الطريقة التي تنتشر بها القوات الامريكية. يبدو ان هنالك قلقاً خطراً حول حكمة شن حرب العراق في بعض الاقسام الرئيسة بالحكومة الامريكية، من ضمنها وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية، وليس اقلها كبار المسؤولين غير العسكريين في وزارة الدفاع.
يدرك كابلان ان الحرب الصناعية قديمة الطراز هي إلى درجة ما عتيقة وبالية لكنه يتعامى عن هذا المتطلب السياسي. لأكثر من مرة يحدد مع موافقة واضحة لوجهة نظر الجنرال الامريكي المتقاعد الذي اخبره بان "المحافظة على امن العالم تعني انتاج منتج ومن ثم اطلاقه سائباً" مع ذلك، ان تم اطلاق القوات الامريكية على نحو سائب دونما توجيه فان افرادها لن يعلموا ماذا يعني ما يفعلون أو لماذا. قد ينتصرون في معركة ويتعرضون إلى خسائر جسيمة، لكنهم لن يحققوا شيئاً سوى عداوة السكان المدنيين الذين بددت حياتهم ومدنهم. ان العمليات العسكرية التي تدار على هذا الاساس ستكون عبارة عن هزيمة ذاتية، كما في العراق.
ان وصف كابلان للقوات الأمريكية وهي تقاتل هو وصف كريه ومنافٍ للعقل؛ لكن حتى لو كان التناظر شرعياً فانه قاصر عن اقتناص حماقة "الحرب العالمية على الإرهاب"، حيث القوات غير الموجهة تنتشر من اجل خدمة أهداف سياسية غير محددة وطوباوية.


اصدارات جديدة: أمريكا على خطأ أم على صواب؟ تشريح الوطنية الأمريكية
 

-تأليف :اناتول ليفين
-الناشر:جامعة اكسفورد
-ترجمـــة: المدى

 

في هذا الكتاب يحلل المؤلف الطبيعة المعقدة للوطنية الأمريكية والأيديولوجية الأمريكية من أجل مساعدة الأمريكيين وغيرهم على فهم الافتراضات اللا واعية التي تنزع إلى سوق السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بردة الفعل الأمريكية لهجمات الحادي عشر من أيلول.يشرح ليفين ما وصفه بـ"العقيدة الأمريكية" أي الوطنية المدنية التي تشجع على قيم إيجابية مثل الديمقراطية والحرية وحكم القانون، ويقول إن هذه العقيدة هي أفضل ما تستطيع الولايات المتحدة تقديمه للعالم، لكن هذه القيم لا تقتصر على أمريكا وحدها، لكن المشكلة تكمن في أن تعلق الأمريكيين بالإيمان بهذه القيم هو تعلق غير عادي. وبالتالي فإن التركيز على هذه القيم سيحرفها عن مسارها مثل انحراف الكثيرين ممن يتمسكون بالإيمان على نحو عاطفي. وبالنتيجة فإن هذه "العقيدة" قد تطورت إلى نزعات (مسيحانيه) قادت إلى الشوفينية وإلى الاحتقار العدواني تجاه الذين لا يؤمنون بهذه القيم بمثل حماستهم.
يقول المؤلف أن الكثيرين يتساءلون لماذا أمريكا مكروهة في العالم وماذا يمكن عمله حيال ذلك؟، لكن سؤالاً كهذا لا يمكن الإجابة عنه إلا بمستوى معين من النقد الذاتي الذي لا يقوم به الأمريكيون الآن. المشكلة أن السؤال يطرح ضمن سياق افتراضات بأن امريكا لا تملك إلا "الخلاص" لتقدمه إلى العالم، وبأن هذا "الخلاص" سيختاره الآخرون إن توفرت لهم الفرصة.
إن "العقيدة" الأمريكية هي عقيدة إيجابية وتفاؤلية حتى وإن نزعت نحو "الاقتصادية" والتفوق" لكن ما يصفه ليفين بالوطنية الجاكسونية فهي بالأساس وطنية سلبية وتشاؤمية وبأنها نتاج المرارة والسلوكيات الدفاعية التي خلقت في الجنوب الأمريكي بعد الحرب الأهلية الأمريكية مع أن جذورها تعود إلى أبعد من ذلك. وهذه الوطنية الجاكسونية تعد السمة المركزية عند المحافظين الجدد واليمين المسيحي الذي يقول أن الشعب الأمريكي بحاجة إلى أن يعود إلى "الأمة" وليستعيد نظاماً اجتماعياً قديماً أكثر نقاءً.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة