رحيل
مهدي عيسى الصقر ..
نهاية
رواية المعنى وأفول الرواية الواقعية الاجتماعية في العراق
علي
بدر
"-متى يرحل، متى يرحلون!؟ قالوا إن الحرب انتهت فما الذي
يؤخرهم... أستاذ توفيق الحرب انتهت أليس كذلك؟
- نعم انتهت... اندحر هتلر وانتهت الحرب مع ألمانيا قبل
شهرين.
-إذن هؤلاء الأمريكان... لماذا هم باقون هنا؟!
- سوف يذهبون... بالتدريج.
-... أنا قصدي أقول.. تصور نفسك داخل سجن.. ولا يتركونك
تخرج منه إذا لم تأت لهم بواحد يعدمونه.. فماذا تفعل!. قل
لي بصراحة ماذا تفعل! ص107.
رواية الشاهدة
والزنجي ص57
مهدي عيسى الصقر
رحل
مهدي عيسى الصقر، الصانع البارع للرواية الواقعية
الاجتماعية، وقد بقي طوال حياته حريصا على أن يجعل من
رواياته تسجيلا للتحولات السياسية، وسجلا للمظاهر
الاجتماعية، ودرسا في المعاني الأخلاقية، وكان يدرك منذ
مجموعته القصصية الأولى "مجرمون طيبون " في العام 1954 أن
الرواية الواقعية هي ملحمة إنسانية لا تنضب، وهي الشكل
الصلد والمتماسك الذي سيدوم بعد حياته، وقد عد كل ما عداها
هو فن مبعثر وشكل زائف وميثيولوجيات لا أساس لها في
الواقع...وكان الواقع...وربما الواقع وحده هو الذي سحره
وجذبه إليه فدشن مفهوم الواقعية الاجتماعية في الرواية
العربية، حتى أصبح مارتن دو غارد الرواية العراقية بلا
منازع، وهكذا نجد في روايات وقصص الصقر جميعها ( "مجرمون
طيبون" 1954، "غضب المدينة" 1960، "حيرة سيدة عجوز" 1986،
"الشاهدة والزنجي" (1987)، "صراخ النوارس" 1988، "أجراس"
1988، "الشاطئ الثاني" 1989، "أشواق طائر الليل" 1994،
"رياح شرقية..رياح غربية" 1995، "امرأة الغائب" 1996،
"شواطئ الشوق" 1999، "شتاء بلا مطر" 2000، "حكاية مدينة"
2001، "بيت على دجلة" 2006)...نجده وقد حول ذاتية الإنسان
إلى واقع، وأصبحت الطبيعة البشرية في أعماله جميعها رهينة
للإلزام السياسي، ورهينة للإرغام الاقتصادي وللقمع
الاجتماعي أيضا، وهكذا تنازل مهدي عيسى الصقر في رواياته
عن كل ما هو ميتافيزيقي لصالح ما هو فيزيقي، وغادر كل ما
هو فو-طبيعي لصالح ما هو طبيعي، وتخلى عن كل ما هو
فو-واقعي ورحل مسحورا بكل ما هو واقعي، وحدد الطبيعة
الهائجة للإنسان والتي تسحق كل شيء أمامها بالاقتصادي،
واختزل مجابهته لمصيره بالاجتماعي-السياسي، وحدد مأساة
وجود الإنسان في حتميته التاريخية، التي نشأت طبقا إلى
الحتمية الاقتصادية كما قررتها الماركسية التي ظل أمينا
لها، فهي التي أنتجت الحتمية الاجتماعية، وهكذا يجد القارئ
نفسه مع مهدي عيسى الصقر أمام شخصيات تتحرك مسحوقة
بمصيرها، مقتولة بهواها وأخطائها، وهي تحاول جاهدة أن تغير
قدرها ومصيرها...وحين نتحدث عن قدر الإنسان ومصيره
المأساوي، فهي عند مهدي عيسى الصقر كما هي في التراجيديا
الإغريقية، ولكنه استبدل الآلهة الغاضبة عند إسكيلوس
بالقوة التي تسحق وهي الحياة الاقتصادية...أو الحتمية
الاقتصادية.
كان درس النظرية الماركسية كبيرا في الثقافة العراقية، في
الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وحتى في السبعينيات
والثمانينيات، فكرة رغم أوهامها التي لا تحصى إلا أنها
فكرة أبدية تتحرك بسرعة هائلة، تتحرك لا في فراغ إنما في
مائع...وكانت تولد جدلا دائما..وهي التي تخترع وتبتدع،
كانت فكرة لا تتوقف أبدا ولا تجف ولا تنضب، وهكذا تحولت
الطبقة إلى الانتماء الأوحد ...وتحولت الشروط الاجتماعية
إلى القدر الأبدي، وإلى المصير الكاسح، وتحول الفقر والبؤس
إلى القوة التي تدفع بالأبطال نحو الصراع مع قوى اجتماعية
أخرى، مع قوى تمتلك وحدها كنوز الثروة وصولجان السلطة، قوة
تدفع بالأبطال نحو الموت والانتحار والسجن والدمار من أجل
انتزاع الحق في الحياة والوجود.
الثورة والتحريض
في الواقعية العراقية
الثورة...هي الصرخة المدوية...هي الشيء الخارق الذي أصبح
في الثقافة العراقية الفورة التي لا تهدأ...الثورة هذا
المطلق الذي صورته الرواية العراقية بأنه الضوء الذي تسعى
إليه الحشود...حشود من الفقراء دمرت حياتهم أيام
الانتظار...وشلتهم البلاهة وقلة الحظ...الثورة في الرواية
العراقية كما هي الثورة عند مكسيم غوركي ...هي المطلق الذي
يسعى إليه صغار الموظفين في المدن والأرياف...بعيدا عن
حياتهم المعفرة، بعيدا عن حياتهم الخابية التافهة، ويسعى
إليها العاطلون والمستخدمون والعمال والصيادون في نهر دجلة
وهم يتسكعون في الطرقات بلا أمل أو حماسة للعيش وسط الخزي
والعار.
سقطت الثورات في الواقع، تحولت الثورات إلى غول هائج وأكلت
حتى أبناءها...غير أنها بقيت في الرواية الواقعية في
العراق ...هي الحركة القصوى...والفورة التي تدفع الملل عن
الفقراء وتقود المزاج غير المرتاح...حتى وإن لم تصرح به
فهي تنوه به عن طريق بيان الأثر الوحشي الذي تخلفه
الطبقات، وعن طريق التركيز على الحياة المنحطة للفقراء
إزاء بلاطات الدعارة والبذخ، والتصوير المفزع للأرستقراطية
أزاء السرد المتوحش لحياة المهمشين والمستلبين والمحرومين
والخارجين...وهكذا تعاقبت الصور الواقعية في قصص مهدي عيسى
الصقر وفي رواياته، بدءا من " مجرمون طيبون" في العام
1954، " غضب المدينة" 1961، حيث تعاقبت صور الفقراء،
والمجرمين، والمخبرين، والشرطة، والمهمشين، والقوادين،
والعاهرات، وسنجد ببساطة آثار تشيخوف وآثار شخصياته
الواضحة (تشيخوف...هو زيوس القصة العراقية بلا منازع) سنجد
النظرة النقدية للواقع، والتلميح الفذ، والتحولات
والانقلابات السريعة، ولكننا في رواياته بدءا من "الشاهدة
والزنجي" التي صدرت في العام 1987، وانتهاء في "بيت على
دجلة" التي أصدرها في العام 2006، نجد أنفسنا أمام آثار
دستيوفسكي، وملامح من شخصياته الغامضة وغير المفهومة، أمام
صور الرؤى المفجعة، وغزارة الشخصيات والأحداث، أمام تفاصيل
وقائع الفقر حتى نرتجف رعبا أمام ما يقدم من أسرار لنساء
ورجال، لقد تحول مهدي عيسى الصقر تحولا هائلا، ولا سيما
بعد تركه مدينته الأم البصرة وتحوله للعيش نهائيا في
بغداد، وقد أنتج أغلب رواياته هناك: فامتلأت رواياته بصور
الواقع في مدينة ضخمة، لقد أخذت صورة المدينة تتسع في
رواياته حتى غدت تعج بالأحداث الكبيرة: لقد أصبحت المدينة
في رواياته صاخبة متداخلة، مدينة مركبة تصل في الحياة إلى
القاع والانحطاط، فاندفع لتصويرها في رواياته، وتسجيل حياة
بغيضة لا تعاش، حياة يشلها إحساس حاد بالقلق، جوع، احتضار،
عائلات تتهدم، جرائم، وساوس، رجال يقتلهم الندم، جنود،
زنوج، بحارة، خطيئة، جنس محرم، سكر، عنف، جريمة، تمزق...
إن أبطال مهدي عيسى الصقر هم مثل أبطال دستيوفسكي: قاتلون
ملطخون بالدماء أو صغار ساذجون، أو طاهرون عاجزون، أو
عنيفون ممتزجون بالوقاحة...فالمرأة التي تتعهر مع الجنود
الأجانب وهي الشاهدة الوحيدة على جريمة القتل كانت تتعهر
من أجل لقمة الخبز...والمخبر حسن يقدم الوشاية للسلطات
لأنه يبحث عن ثمن دواء لإبنه المريض، وهكذا يقدم الإنسان
في تناقض مستمر، في مشاهد متخيلة كثيرة، في عيوب، في حقائق
تستعاد وترتد، هذا الإنسان المتناقض المشتت العاجز العنيف
...
رؤيا الواقع
وخطاب الواقعية في الرواية
لقد دشن الثلاثي
الذهبي ( غائب طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، مهدي عيسى الصقر)
مفهوم الواقعية الاجتماعية القائمة على أسس سردية وفنية
متطورة، وقد تمكن هؤلاء الثلاثي من المزج البارع بين
الخيال المجدد والتسجيلية الدقيقة لوقائع اجتماعية تتعرض
إلى هزات متكررة، وتمكنوا أيضا من أن يرسموا بشكل ملهم
الملامح السوسيولوجية للمجتمعات الفقيرة والطبقات الشعبية
والمحلات والأزقة والضياع، وأبرزوا إلى السطح الشخصيات
المقهورة والمهمشة والمعزولة والخارجة اجتماعيا وسياسيا
وطبقيا، وتمكنوا كذلك من إثارة مظاهر القسوة والعنف والبؤس
والخراب والتفكك والانهيار والتشرذم الذي أصاب المجتمع
العراقي في تحولاته من بنى اقتصادية كروكية وبدائية إلى
بنى اقتصادية مكولنة، لقد برع هذا الثلاثي في تأسيس ملامح
تقنية وسردية لرواية خاصة ومتميزة، بدءا من العمل الفذ
والفريد لرواية النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان ومرورا
برواية الوجه الآخر لفؤاد التكرلي وانتهاء برواية الشاهدة
والزنجي لمهدي عيسى الصقر.
غير أن السياسة والأحداث السياسية هي التي عمدت الرواية
الواقعية وخدرتها، النكبة السياسية -لا سيما- هذا المشروب
القاتل، هذه المرجعية الطبيعية، أو لنقل المرجعية الواقعية
في دفع الأحداث ورسم الشخصيات، والغريب أن هذه البؤرة كانت
هي المهيمن منذ أول نص سردي في العراق والمكتوب على شكل
مقامة..وأقصد (مقامات أبي الثناء الآلوسي) الصادرة عام
1856، وكذلك نص أحدث هو الرواية الايقاظية لسليمان فيضي
الصادرة في العام 1919، وأعمال محمود أحمد السيد (1903 -
1937) وبشكل خاص أعماله الروائية المبكرة، في "سبيل
الزواج" في العام 1921، و"مصير الضعفاء" في العام 1922،
و"النكبات" في العام 1922، وأخيراً رواية "جلال خالد" في
العام 1928.
غير أن الواقعية في العراق بقيت هي المحرك لكل النصوص
السردية، بدءا من الروائيين الأوائل، فمحمود أحمد السيد
كان متأثرا جدا بأعمال تولستوي، ومنذ العشرينيات كان
متأثرا بالثورة البلشفية في روسيا، وكذلك تأثر ذنون أيوب
في روايته "الدكتور ابراهيم" التي صدرت في العام 1939
بالواقعية الروسية، وربما فارق عبد الحق فاضل الذي أصدر
رواية «مجنونان» في العام نفسه (1939) هذا الاتجاه، بسبب
آثار الواقعية الفرنسية الواضحة (وهنا غي دي موبسان
تحديدا): الحبكة المؤسسة على لعبة بوليسية بارعة، لعبة
اختباء يمارسها البطلان؛ صادق شكري وهو كاتب وصحفي ومحامٍ
مشهور، وصفية سعدي وهي كاتبة متحررة، وهنالك الإبطاء
والمفارقة واللغز البوليسي، واللغة الرشيقة، والسخرية.
ومن الأربعينيات وحتى ظهور ثلاثي الرواية العراقية (غائب
طعمة فرمان، فؤاد التكرلي، مهدي عيسى الصقر) كانت الرواية
تتنقل من الرومانسية إلى الواقعية: "اليد والأرض والماء"
لذنون أيوب (1948)، "في قرى الجن" 1948 لجعفر الخليلي،
"نهاية حب" لعبد الله نيازي (1949)، "شيخ القبيلة" (1952)
لحمدي علي، "قصة من الجنوب" (1953) لمرتضى الشيخ حسين،
"الأخطبوط" (1952) لأنيس زكي حسن، "التائهة التافهة"
(1958) لحازم مراد، "سبي بابل" (1955) لعبد المسيح بلايا،
"الخالة عطية" (1958) لأدمون صبري.
ثم تطورت منذ الستينيات في ثلاثة اتجاهات واقعية متميزة،
الأول هو الواقعية الوجودية التي مثلها فؤاد التكرلي بدءا
من روايته " الوجه الآخر" في العام 1960، ثم " الرجع
البعيد" (1985)، ثم "خاتم الرمل" 1993، "الأوجاع والمسرات"
1998. الاتجاه الثاني هو اتجاه الواقعية النقدية لغائب
طعمة فرمان في جميع رواياته: (النخلة والجيران) (1966)، ثم
(خمسة أصوات) (1967)، ثم (المخاض) (1974)، و( القربان)
(1975)، و(ظلال على النافذة) (1979)، و (آلام السيد معروف)
(1982)، و (المرتجي والمؤمّل) (1986)، و(المركب) (1989)،
الاتجاه الثالث هو اتجاه الواقعية الاجتماعية التي مثلها
مهدي عيسى الصقر ولا سيما في روايته الفذة "الشاهدة
والزنجي" 1987.
لقد برع مهدي عيسى الصقر بشكل لا يضارع في وصف البيئات..
ووصف الآلية السياسية التي حكمت الموظفين والكولونياليين،
والآلية الاجتماعية التي حكمت الزنوج والعاهرات والمجرمين
الطيبين، والأبطال الطائشين، والجبناء، والمصائر المتداخلة
المعتقلة في فطرة الإنسان، وبيان ضعف الكائن البشري،
والشخصيات المنكمشة والمتناقضة، كما هي في شخصية المخبر
حسن، الفاصل السياسي للأثر السياسي على المجتمع، والموظف
المرتبك، والشخصيات الثانوية التي تدخل بيسر وتدخل بيسر هي
وأخطاؤها وأوهامها...أو في شخصية السياب الذي كان بطل
روايته "أشواق طائر الليل"، وقد استحضر أيامه الأخيرة،
وصورة تجربته المرضية القاسية في مستشفى الكويت، وقد اقترب
كثيرا من شخصية الشاعر، الضعف والوهن والحزن والأسى لدرجة
البكاء، الهذيان الذي يطغى على لغة الرواية، البحث الذي لا
يتوقف عن الحب، صورة الجسد الذي يتحرك طوال الرواية، الفم
الذي يهذي، الظلال الموحشة التي تحف بها الحجرة، واللغة
العذبة التي تحفل بها الرواية حيث تنقل لمسة الحب المرتقبة
من الممرضة اللبنانية الحسناء التي أحبها، وأسمها في
الرواية "أمل"، وكان يعتقد بأنها هي التي ستعيد إليه نبض
قلبه وحرارة جسده.
|