المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

طالب غالي .. أحـــــــلام.. وآمـــــال بعيدة المنــــــــال
 

د: جمانة القروي

طالب غالي واحد من الملحنين العراقيين البارزين الذين ظهروا في نهاية الستينيات من القرن الماضي، صوت بصري ملون بنغمات آلام العراقيين وأنين عذاباتهم. أن أوتار عوده لم تضعف يوما، ولم تنكسر ريشته.. ومازالت أصابعه تداعب الأوتار بنفس الشغف والحنين الذي كان عندما كانت البصرة في أوج تألقها وبهائها، مدينته التي تسكن بين ثنايا روحه والتي لم يهجرها إلا مرغما. الآن وهو في غربته القاسية لم يتوقف يوما عن حبها، ولم يستطع تخطي الحنين إليها، يعيش على أمل اللقاء بها زاهية متألقة كما تركها منذ عقود مضت.
الملحن الأستاذ طالب غالي ولد ونشأ في محلة " المناوي باشا" وهي منطقة فلاحية تقع على نهر الخورة حيث قضى على ضفافه وفي مياهه معظم أوقاته مع أصدقاء الطفولة، لقد ترعرع في ظل عائلة فقيرة، وقد نشأ في ظل نظام أبوي تسلطي صارم إلا أن ذلك لم يمنعه من الغناء فكان لصوت والده الجميل وغنائه الحزين، أثره الكبير على عشقه للموسيقى.. ولموهبة والدته في ارتجال الشعر، في حبه وتعلقه في كتابة الشعر.
ومن هنا بدأنا الحديث، لنسأله، كيف كان تأثير البيئة.. والعائلة عليه؟أخذ نفسا عميقا قبل أن يجيب:" لقد ولدت وكبرت في محيط فقير بين ناس أهم ما يميزهم البساطة والطيبة، كان هؤلاء الناس رقيقي المشاعر ودودين متعاونين على السراء والضراء، هذا التكامل والحب الذي نشأت فيه جعلني مرتبطا ومحبا للأرض والنخلة والإنسان. حب مازال وسيبقى متغلغلا في أعماقي واليه يعود الفضل في ما أنا عليه الآن. كنت أطرب عندما أسمع والدي وهو يغني لأنه كان يتمتع بصوت جميل جدا، وكثيرا ما كنت أصغي اليه، أما الوالدة فكانت ترتجل الشعر سيما في المناسبات الدينية، وكثيراً ما كنت أسمعها أيام عاشوراء. وكنت لا ازال في الصف الخامس الابتدائي عندما بدأت اكتب لها القصائد التي كانت ترتجلها مما حببّني بالشعر.. أتذكر تلك الأيام التي قضيتها وأنا أتسلق النخيل لقطف بعض رطبه، أو في ترديد الأغاني بصوت عال دون خوف من أبي، أما الليل فكان له طعمٌ آخر وسحرٌ عجيبٌ، حين يكون القمر وسط السماء ويشدو حفيف سعف النخيل مغنيا وعازفا إلحانا لا يمكن سماعها إلا هناك..هكذا أجواء جعلت مني إنسانا رومانسيا وحالما دائما".
استمر بدراسته في "متوسطة العشار" وشاءت الصدف أن فتحت دار المعلمين الابتدائية في البصرة في العام نفسه الذي أنهى به دراسته، ولضيق الحالة المادية لعائلته واختصارا للوقت دخل الدار ليتخرج فيها بعد ذلك ويساعد في إعالة إخوانه. وفي دار المعلمين أخذت حياته منحى آخر واتجه إلى الأدب والشعر، حيث وجد في معلم اللغة العربية الأستاذ رزوق فرج رزوق التشجيع وحيث نشرت له أول قصيدة في نشرة الدار.
المحطة الرئيسية والمهمة في حياة الأستاذ طالب غالي " الموسيقى والألحان " لذلك سألناه، متى بدأ اهتمامك بالموسيقى وما هي قصتك معها؟ حاول جاهدا أن يرسم ابتسامة على شفتيه قبل أن يقول " بدأ اهتمامي بالموسيقى بعد أن تعلمت العزف على العود، كان ذلك عام 1958، أثناء دراستي في دار المعلمين حيث تلقينا دروسا في الموسيقى، أحسست بعدها بتعلقي بالعود وبدأت أعزف عليه وأغني، لا سيما أن تلك الفترة شهدت ظهور المطرب عبد الحليم حافظ الذي تأثرت به وقدمت بعض أغانيه على المسرح. أما في مجال الموسيقى فقد كان للفنان حميد البصري أثره الكبير علي حيث أفدت منه الكثير من المقامات وتفرعاتها. وواصلت التمرين والعزف ومعايشة الفرق الفنية وتعلمت الموسيقى بدافع ذاتي، وما اندم عليه لحد الآن هو أني لم اذهب إلى بغداد لدراسة الموسيقى في معاهد متخصصة".. ثم يواصل حديثه قائلا:" عندما تشكلت الفرقة البصرية عام 1964 كنت أحد أعضائها، وقد لحنت للفرقة العديد من الأغاني الجديدة التي كتبت كلماتها، وقدمت على مسارح البصرة. ثم سافرت إلى بغداد عام 1968 واشتركت في برنامج " وجوه جديدة" بأغنية " العيون النرجسية ". بعد عودتي إلى البصرة ضمّنا لقاء جمع الفنانين والأدباء لمناقشة تقديم عمل موسيقي كبير يتخطى الأغنية الفردية وقد حضر هذا اللقاء محمد سعيد الصكار، ياسين النصير، حميد البصري، قصي البصري وعلي العضب وانا وحينها انبثقت فكرة تقديم اوبريت غنائي"
لم يكن الأوبريت أو المسرحية الغنائية قد عرفت في العراق قبل ظهور"بيادر خير" هذا الأوبريت يعتبر اللبنة الأولى المهمة والمؤثرة في تاريخ المسرح الغنائي العراقي وعلامة من علاماته المميزة. ماذا تقول عن تجربتك في مجال الأوبريت؟ تلمع عيناه ببريق غريب، و كأنه يغور عميقا في الزمن البعيد حيث يستجمع ذلك الماضي الذي لاتزال تفاصيله واضحة جلية المعالم أمام عينيه.. ثم يقول " قبل أي شي احب أن أوضح بأن المسرحية الغنائية تختلف عن الأوبريت والكثير يخلط بينهما، الأوبريت يطغى فيه الجانب الغنائي على جانب الكلام أو الحوار، والعكس صحيح بالنسبة للمسرحية الغنائية، آنذاك كانت مشكلة نزوح الفلاحين من الريف إلى المدينة والعمل فيها كأجراء في حدائق البيوت أو ما يسمى " بالبستنجي" فكان لابد من طرح هذه المشكلة بأسلوب جديد، وقد لاقت هذه الفكرة استحسان المجموعة فعكف يأسين النصير على كتابة السيناريو وكتب أشعارها علي العضب، وفي عام 1969 حيث قدم هذا العمل في بغداد على مسرح قاعة الخلد. لاقى أوبريت" بيادر خير" نجاحا كبيرا جدا. ضم هذا العمل بين 60 إلى 70 مشتركاً بين فتاة وفتى ولم يكن أي منهم محترفا، عدا المخرج الذي كان قد تخرج توا من معهد الفنون الجميلة " قصي البصري". شارك الفنان فؤاد سالم بأداء بعض الأغاني كما شاركت " أم لنا " زوجتي في أغنية (اللولوّة) كما شاركت الفنانة شوقية زوجة حميد البصري في العمل أيضا. سكت لبرهة.. وأخذ يدندن بالحان ذلك الأوبريت الذي مازال عالقا في أذهان الكثيرين ممن زامنو تلك السنوات" موش آنه الجنت أزرع حنطة.. أزرع وردات..." ويستطرد الفنان طالب غالي في كلامه قائلا:" لقد شاركت في هذا العمل بدور " رويهي" الفلاح النازح من الريف إلى المدينة للأسف أن الأجيال اللاحقة لا تعرف عن هذا الأوبريت شيئا، فقد حجب النظام السابق كل شيء له مضامين ومعانٍ سامية. بعد نجاح هذا الأوبريت، فكرنا بطرح قضية العمال، الذين كانوا يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع وبدأنا بالتحضير لفكرة أوبريت " المطرقة " الذي كتب نصه شعرا علي العضب وأخرجه قصي البصري وقمت بتلحين هذا العمل. كان زمن عرض الأوبريت لا يتجاوز الساعتين، إلا أننا استغرقنا في تلحين أشعاره ليالي مضنية طويلة لعدة اشهر، وقد تم عرضه لأول مرة في 1/5/ 1970 بمناسبة عيد العمال العالمي في بغداد على مسرح قاعة الخلد وكان له صدى كبير لتناوله نضال الطبقة العاملة وحرمانها من حقوقها والتضحيات الجسيمة التي قدمتها على مر التاريخ. كان العمل مؤثرا جدا ومس مشاعر وأحاسيس الناس على اختلاف طبقاتهم، ومن هنا بدأ النظام المقبور بمحاربتنا وحاول بشتى الطرق إغراءنا، وتشتيت علاقاتنا، بعد محاولات عديدة نجح في جذب بعض عناصر الفرقة إلى صفوفه، إلا أن ذلك لم يؤثرعلينا، وكنا ننوي التحدي بأوبريت جديد بعنوان "الطريق"، الذي كتب من قبل عدد من الشعراء، منهم المرحوم الشاعر مصطفى عبد الله، وعبد الكريم كاصد، والشاعر عبد الخالق " للأسف لم اعد اذكر اسمه الكامل"، كان من المفروض أن يقدم عام 1974، ولكن السلطة الفاشية بدأت بشن هجومها على كل عمل تقدمي حينذاك، فتوقف العمل ولم يظهر للنور. ندت عنه آهة لتلك المعاناة والقسوة والبطش لأنهم كانوا يطمحون لتقديم أعمال فنية موسيقية ذات مستوى فني رفيع شكلا ومضمونا. لذلك حاولت العبور معه إلى الضفة الأخرى من الحديث إلا انه أبى ذلك وواصل حديثه بانفعال بات واضحا على نبرات صوته: " لقد عملت في تلك السنوات وواظبت على تلحين الأغاني السياسية، ليس لمطمح مادي ابتغيه وإنما كنت اعمل من اجل تقديم فن راق على صعيد الموسيقى والشعر، وان تكون لنا أجيال متذوقة وعارفة بهذا الفن. بجانب ذلك قمت أيضا بتلحين الأغاني للعديد من المسرحيات، سيما تلك التي كانت تقدم في يوم المسرح العالمي، واهم مسرحية غنائية لحنتها كانت مسرحية " العروسة بهية "، حيث كتب أشعارها علي العضب وأخرجها قصي البصري عام 1971 وعرضت على مسارح البصرة. صمت محاولا تذكر بعض من أبيات أشعار تلك المسرحية.. حاول لكن الذاكرة خانته، في بادئ الأمر، أراد إكمال حديثه لكن بعض مقاطع و كلمات المسرحية كانت تخرج من بين شفتيه، متناثرة.. إلا انه لم يتوانَ عن شحن ذاكرته.. وسرعان ما اخذ يشدو بصوته الجميل.. " ياعروسة يا بهية صارت زفتج سالوفات.. ياسين العريس الأسمر.. أتحنى بدمه بليلة عرسه وصارت وناته حجايات.. شنكلللكم يا تعبانين يا فلاحين.. كتلوا ياسين إلمِن عدكم.. كتلوا ياسين عجبا، لهذه الذاكرة التي لاتزال غضه طرية.. فبعد اكثر من ثلاثين عاما لاتزال هذه الأبيات عالقة في ذهنه لحد الآن. كما لحن أغنية للمسرحية الغنائية " ليالي الحصاد" التي اداها الفنان المرحوم رياض أحمد وكانت من اخراج قصي البصري، كذلك لحن أغنية لمسرحية " المفتاح" من إخراج الفنان لطيف صالح، كما قام بتلحين بعض المقاطع الموسيقية والغنائية لمسرحية " مؤسسة الجنون" لمحمود درويش، كل ذلك كان عام 1973. تم تسجيل بعض الأغاني لفؤاد سالم منها أغنية "عمي يا بو مركب" من كلمات كريم العراقي، بعد ذلك لحن لسعدون جابر أغنية " هللّه هللّه يا سمه" و " أم راشد" من كلمات طاهر سلمان، كما غنت الفنانة المعروفة مائدة نزهت له أغنية " طاح النده ياكصيبة" وهي من كلمات الشاعر المبدع أبو سرحان.
عندما اشتدت الهجمة على القوى الوطنية والديموقراطية، المحبة لخير ورفاه وتقدم الشعب العراقي، ولم ينجُ مبدع أو فنان أو مثقف من بطش الدكتاتورية المقبورة. غادر الملحن طالب غالي مدينته الحبيبة التي كان لا يطيق فراقها، واضطر إلى الرحيل إلى المنافي فكانت دمشق أولى محطاته، لكنه آثر الرحيل إلى الكويت لقربها من البصرة!!
وما أن استقر في الكويت حتى بدأ مشواره المفعم بالإبداع والألحان الجميلة فكانت الكويت إحدى أهم المحطات المهمة في حياة الفنان الملحن طالب غالي حيث التعاون المشترك والمثمر مع الفنان المبدع فؤاد سالم، واستمرت رحلة الإبداع هذه لأعوام عديدة، لذلك توجب سؤاله عنها. ندت ضحكة قصيرة وحزينة قبل أن يقول: " لما غادرت البصرة الحبيبة حملتها في داخلي وبين طيات وثنايا جسدي، وفي الكويت شعرت باني أتنفس ذلك العبق الطيب الذي يفوح من ثرى مدينتي القريبة البعيدة، ورغم معاناتي الشديدة لبعد عائلتي عني في ظل نظام لا يرحم إلا أن هذه الفترة تعتبر من اخصب الفترات الفنية لي والتي استمرت منذ عام 1979 ولغاية 1985 حيث لحنت حوالي خمسٍ وعشرين أغنية للفنان فؤاد سالم على مدى تلك السنوات. أهم ما قدمناه سوية رائعة بدر شاكر السياب " غريب على الخليج،" التي تم توزيعها من قبل الفنان الراحل شعبان أبو السعد. كانت أبيات هذه القصيدة تعبر تماما عن حالتي لذلك أعتقد أني أعطيتها الإحساس الحقيقي وأنا اعتز بها كثيرا واعتبرها من أهم أعمالي، وكذلك قصيدة الجواهري الكبير " دجلة الخير".
بعد أن غادرفؤاد سالم الكويت افتقدته كثيرا حيث كنت اعرف أبعاد صوته وأتحسس مواقعه القوية، كما كنا نتبادل الرأي والخبرة في اختيار الكلمات والألحان، لذلك شعرت بفراغ كبير بعد رحيله. الحقيقة أن انتاجي لم يقتصر على تلحين الاغاني الفردية فحسب إنما خضت تجربة المسرح الغنائي للأطفال، إذ لحنت ثلاث مسرحيات غنائية للأطفال أهمها مسرحية "سندريلا " التي كتب كلمات أغانيها الأديب فلاح هاشم والتي تضمنت ثلاثة عشر لحنا والتي حازت على جوائز لاحسن نص وإخراج والحان عام 1985، ثم مسرحية " الطنطل يضحك " التي كتب كلمات اغنياتها حيدر البطاط، والمسرحية الثالثة كانت باسم " سندس" وكتب كلماتها فلاح هاشم. وتعتبر هذه المسرحيات باكورة الأعمال المسرحية الغنائية للأطفال في الكويت، حيث لم يعرف هذا الفن هناك سابقا. كما قدمت ألحانا عديدة ومتفرقة لبعض المطربين ومنهم قحطان العطار الذي ترك الكويت قبل أن يتسنى له غناؤها. كما عملت مع مؤسسة " الإنتاج البرامجي " وقمت بتلحين المقدمات والنهايات الغنائية لما يزيد عن أربع مسلسلات منها على ما اذكر "الحوت الأبيض"، "جورجي" بصوت ابنتي لنا و " بومبو" بصوت ابنتي سنا.
سألناه عن مرحلة استقراره وأعماله، في المنفى الأخير " الدانمارك". نظر إلى البعيد حيث أثارت هذه الحقيقة ألما وحزنا عميقين لم يستطع إخفاءهما قبل أن يقول: " نتيجة للرحلة المريرة تلك كان لابد من التأمل فترة من الزمن، لكني آمنت بالواقع وأذعنت مرغما له، وما أن شعرت بنوع من الاستقرار حتى استعدت نشاطي الموسيقي والشعري. بدأت بترجمة حبي وحنيني إلى الوطن وبعدي عنه بالحان موسيقية وكلمات كنت اكتبها أحيانا. تحمل همومنا وتطلعاتنا للاهل والوطن وجدنا في الدعوات التي توجهها الجاليات العراقية في بلدان المنافي المتعددة بعضا من مجالات التعبير وتقديم الأغاني الجديدة، وإن لم تكن تفي بطموحاتنا. ففي الدنمارك انجزت ألحان العديد من القصائد لشعراء عراقيين سعدي يوسف، كريم كاصد، محمد سعيد الصكار، خلدون جاويد وغيرهم. من غرائب الأمور ان تمنع اغانينا في الإذاعة العراقية تحت نظام صدام وأن نجد إن الحكومة الحالية لم تلتفت إلينا ولم تنصفنا كذلك، وقد ساهمت من ضمن مجموعة ملحنين عراقيين موجودين في الخارج أيضا في صياغة نشيد وطني جديد للعراق والذي دعت إليه وزارة الثقافة العراقية قبل عامين، ولكن لم يتم اشعارنا باستلام النشيد ولا حتى ذكر اسماء الذين شاركوا بالمسابقة. قاطعته مضطرة لأساله، ما هي حكاية قصيدة أنشودة المطر التي كنت قد لحنت مقاطع منها، لكنها لم تظهر للنور؟
لقد لحن للعديد من الشعراء في البصرة أو في المنافي التي انتقل اليها أغاني لاتزال في الذاكرة. من اهم وأحلى محطات الفنان والشاعر المبدع طالب غالي الحياتية الحب الكبير الذي كان يترصده عندما ركب القطار متوجها إلى بغداد في رحلة طلابية عام 1959 حيث كانت تجلس سلمى زوجته ورفيقة حياته ودربه وام اولاده التي خطفت قلبه من أول وهلة، ولاتزال محتفظة به. فسألته عن تاثير هذا الحب على نتاجه الفني؟ مقتحمة هذا الجانب الذي ربما يكون له الكثير من الخصوصية، لكن الفنان طالب غالي وكعادته أجاب بصراحته المعهودة. وبكلمات واضحة وصوت صاف عميق، عمق الزمن الماضي وسنواته ورومانسيته التي لم ولن تغادره ابدا؛ " الحب بحد ذاته يعني العطاء والابداع، الاستمرارية في الحياة التفاؤل، العنفوان.. باعتقادي الحب هو السند القوي والمتين الذي يجعل للحياة معنى رغم كل المحن والانكسارات التي قد تصيب الانسان. كنت قد رسمت في ذهني صورة حبيبة العمر، وما ان التقيت" ام لنا" زوجتي حتى دفعني الحب نحوها، ومن اللقاء الاول احسست بشيء ما يشدني اليها. انها محرك حياتي ولها الفضل الكبير في كل ما كتبته ولحنته، فهي أول من يسمع ألحاني ويقرأ قصائدي، وبفضلها عبرنا المحن والصعاب الكبيرة التي واجهتنا. وأهم شيء في الحب الكبير الذي يربطنا هو انعكاسه على أولادنا فبصماته وآثاره واضحة عليهم جميعا، فعلاقتهم مع بعضهم شديدة الحميمية، وهذا أثمن وأجمل ما حققناه. مازلت وسأبقى ماحييت أعوم في بحر الرومانسية التي لا استطيع التخلي عنها ابدا، وهذه ايضا ألقت بظلالها على الاولاد الذين نشأوا يحبون الموسيقى والرسم والكتابة".
كيف لا ووالدهم من وضع الحانا عذبة تمس شغاف القلب وتحلق بنا إلى نخيل العراق وتحملنا لأرضنا الطيبة...
وبعد...الا يحق لمثل هكذا فنان مبدع، اعطى حياته.. وشبابه للموسيقى والشعر.. أن نحقق له حلمه المتواضع البسيط، بأن ترى قصائده والحانه النور؟


رواية (حب تشي) - شبق وحسيات ثورية أخرى
 

ميشيكو كاكوتاني
ترجمة: نجاح الجبيلي

تدور رواية " أنا مينينديث " السحرية الأولى حول مساعي امرأتين لاسترداد الماضي: مساعي امرأة كوبية شابة لاكتشاف هويتي والديها وجمع قصة هجرانهما لها؛ وجهود امرأة كوبية أخرى أكبر سناً، وهي رسامة تدعى تيريزا، قد تكون هي أم الساردة في استذكار الحب الأكبر في حياتها وعلاقتها الغرامية مع الأسطورة تشي جيفارا.
تعرض رواية " حب تشي" الكاشف نفسه الذي استعملته الكاتبة في مجموعتها القصصية المؤثرة الصادرة عام 2001 بعنوان " في كوبا كنت راعياً ألمانياً" في رواية التفاصيل العاطفية، لكن النغمة والمزاج يختلفان بلا ريب. وبينما تمزج أغلب القصص القوية للمجموعة السخرية بالشفقة بأسلوب تشيخوفي رقيق فإن لب هذه الرواية يظهر وكأنه يتخذ نموذجه من الصوت الغنائي المركّز لرواية ماركريت دورا " العاشق" التي ظهرت كأحسن رواية في عام 1985.
إنها استراتيجية سردية ذات ذروات وعوائق واضحة، وفي أحسن أحوالها تمسك قصة مينينديث بالقوة المركزة السحرية للحب الشبق وقابليته على جعل الإنسان يرى العالم بشكل جديد وأن يثير الطاقات الساكنة ويلهم الفن الفعال وأن يضيء الدنيوي بومضة من الأهمية. وفي أسوأ أحوالها تتاجر القصة بالخصوصية الصحفية والتفاصيل السايكولوجية لعمل المؤلفة الأول من أجل نثر تجريدي ثقيل لرواية رومانس (" كان حب تشي مثل زبد بحر شاحب، مثل ريح بين النجوم") وعلى الرغم من أن علاقة تيريزا الغرامية تقع خلف كواليس كوبا الثورية إلا أن هناك فقط صوراً عابرة عن الاضطرابات التي جرت في البلد: القنابل المتفجرة في أركان الشوارع وفي المدارس وخارج صالات السينما. الشوارع التي يملأها الجنود الشباب الملتحون؛ تدمير مكتب صحفي؛ مانيكانات المتاجر، بقية من عصر مضى يحمل شاهداً صامتاً على التغيرات المتشنجة.
توصف هذه الأحداث كونها لازمة مصنفة لحب تيريزا: الثورة، مثل العلاقة الزانية مع تشي، هي البركان الذي سيغير إلى الأبد مشهد الحياة اليومية. والبدايات المبتورة لكل منهما ستكشف بمرور الوقت الشعور بالخسارة والإمكانيات المهجورة.
تكتب السيدة " مينينديث" " الأحداث العنيفة مهما تكن نتيجتها هي نادرة وساحرة مثل الحب العظيم"، فالقنابل والثورات والبراكين والأعاصير
أي شخص مر بها وعاش، إن كان نزيها، سوف يخبرك بأنه حتى في أعماق خوفهم كان هناك انتعاش ولكنهم انتزعوا من حياتهم حتى ذلك الوقت".
إن قصة غرام تيريزا
وانسحابها العاطفي اللاحق بعد رحيل تشي ومولد ابنتهما تؤطرها قصة بحث الساردة عن أمها. وهي تسأل مراراً جدها الذي رباها في ميامي لكن أجوبته دائماً محيرة على نحو مؤذ: كل ما سيقوله بأن ابنته أصرت على أخذ رضيعها خارج كوبا ولم تثمر محاولاته فيما بعد للاتصال بها.
إن بحث الراوية الشبيه ببحث تيلماخوس يأخذها إلى كوبا حيث تطرق على أبواب جيران جدها القدماء باحثة عن شخص قد يكون عارفاً بأمها. وأخيراً تتوقف عن السفر إلى هافانا وتتركها الرحلات مرهقة " ليس فقط بسبب الشك بل أيضاً بسبب الحزن الذي أصبحت أفهمه بوضوح أكثر مع كل زيارة". وهي تقرر بأن هافانا " الجميلة جداً عند أول لمحة كانت في الواقع مدينة الآمال المتلاشية وفي كل مكان أمشي أتذكر أن كل ما في الحياة يميل إلى الاضمحلال والدمار".
ثم بعد أن تقرر التخلي عن بحثها تتسلم الراوية رزمة غريبة مجهولة المرسل؛ تحتوي الرزمة على بعض الصور لتشي جيفارا وبعض الكتابات: ذكريات متفرقة توجز قصة العلاقة الغرامية المحطمة لتيريزا.
وعلى الرغم من أن قصة تيريزا الشبيهة بقصة دوراس " العاشق" يمكن أن تؤول إلى استغراقات ثقيلة متكلفة إلا أن السيدة مينينديث تنسج حكايتها ببراعة كي تحرّك آليات الذاكرة المعقدة المشوهة. وبينما تدور ذكريات تيريزا مراراً حول الماضي وتفرغ أحداثاً معينة في قالب جديد بشكل مفرط بينما تطرز أخرى، فإن القارئ يقوم بالتحقيق في صحتها وحاجة الراوية للإيمان بالأسطورة التي استحضرتها حول حياتهما.
وإن ابتدأت رواية " حب تشي" كأنشودة وعي ذاتي لوحشية الحب الافتدائية فقد انتهت كتأمل دقيق إيجازي في أسرار الذاكرة والهوية، وهو العمل الذي على الرغم من زلاته العرضية، يوسّع المنطقة الروائية الموهوبة للسيدة مينينديث.


اصدارات حديثة: مجلة المأمون وانفلونزا الطيور وأمور أخرى
 

عادل العامل
شغلت انفلونزا الطيور، ولا تزال، العالم على مختلف الصعد الصحية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية، وتركت بصماتها على حياة الناس اليومية والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى. ولم يفت الاهتمام بهذا الحدث مجلة (المأمون) الصادرة عن دار المأمون بوزارة الثقافة العراقية، التي تتابع بدأب وانتباه مختلف الظواهر الثقافية وغير الثقافية في العالم، فكرست ملفاً لهذا الحدث العام في بابها الخاص بالطب والعلوم. وقدمت لملفها هذا بنظرة سريعة شاملة فيما يتعلق بانتشار المرض، وضرورة التكاتف العالمي لأجل وقفه قبل أن يتحول إلى وباء يهدد كوكب الأرض برمته، كما جاء في تصريح لأحد مسؤولي منظمة الصحة العالمية.
ويعقب هذا موضوع يعرف بانفلونزا الطيور من خلال أسئلة وأجوبة تغطي مختلف جوانبها الصحية وكيفية انتقالها وإجراءات الوقاية اللازمة والطريقة السليمة للتعامل مع لحوم الدجاج والبيض.
ويتناول الموضوع التالي الذي ترجمة خضر علي سعود ماهية هذا المرض والفيروس الذي يسببه وكيفية انتقاله والعوامل المساعدة على نشوئه. ويلي ذلك موضوع من ترجمة محمد حسن علاوي بعنوان (المراقبة العالمية
إنتاج لقاحات سنوية) وآخر من ترجمة أمان عبد الفتلاوي في الكشف عن أسرار فايروسات انفلونزا الطيور.
هذا إضافة بالطبع للأبواب الأخرى من المجلة التي يرأس تحريرها فاروق خضر الدليمي، وتتولى إدارة تحريرها مها محمد، وسكرتاريتها فوزية ناجي جاسم، مع نخبة من العاملات والعاملين في مجالات التحرير والترجمة والإدارة والتصميم والتنضيد، الذين يبذلون جهدهم لتقديم مجلة بهذا المستوى الطيب وبشكل منتظم للقراء.
وقد غطى هذا العدد، (الثالث)، جملة من النشاطات الحيوية كالسياسة والترجمة والطب والبايلوجيا والكيمياء والفيزياء والفلسفة والأدب والفنون. فنقرأ فيه، على سبيل المثال، (المسيرة الديمقراطية ومستلزمات النجاح) من ترجمة فوزية ناجي، (الاحتلال البريطاني والصحف العراقية) لهادي عبد جاسم، وهو عرض لكتاب بهذا العنوان لهادي طعمة، ودراسة حول الألفاظ الأجنبية الدخيلة في اللهجة العامية العراقية للدكتور طالب إبراهيم السعيد، والتحليل والكيمياء / ترجمة نوفل محمد فوزي، وبؤس وازدهار الترجمة / ترجمة قيس هادي، وألان روب غرييه / ترجمة مها محمد، والرواية الصعلوكية الإسبانية / ترجمة مصطفى جاسم محمد، ومشاكل النوم العامة، حيث يفيدنا لؤي بكتاش من خلال ترجمته لهذا الموضوع بأن غالبية المراهقين لا ينامون بصورة كافية، وهذا يحدث عموماً بسبب واجباتهم الكثيرة التي تحرمهم من النوم، ويمكن أن يتطور ذلك إلى عجز في النوم يؤدي بهم إلى عدم القدرة على التركيز والدراسة والعمل بفاعلية وقد يصبهم ذلك بالكآبة.
وهناك بالطبع العديد من المواضيع المهمة التي يصعب الإشارة إليها في هذا العرض السريع، ونأمل للمجلة التقدم الدائب، والاستمرار في إثراء أعدادها القادمة بالملفات المكرسة لمختلف الظواهر العلمية والصحية والأدبية والفنية وغيرها.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة