في آخر حوار مع الراحل كمال
سبتي .. ((لا أدري إنْ كنتُ حقاً قد أبقيت في العراق تلك
القصيدة ، وربما سيكون السؤال أصدقَ تراجيدياً لو سألتَ
ماذا أبقى العراق فيَّ؟ ))
أجرى الحوار: نعيم عبد مهلهل
كمال سبتي
قال كثيراً من فتنة الكلام ولكنه رحل مبكراً.
رحل كمال
سبتي في عربة الشعر والوطن. وترك إرثاً كبيراً من ضوء
الجمل التي شكلت في حدائق الكلمات بهجة لعطر الشعر وإحياء
لروحه النائمة في متاهة الإنسان وهو يبحث عن وجوده وقيمه
العظمى.
مات الشاعر
كمال سبتي، ابن أور والناصرية وهو يحمل على أكتافه جمل
بودلير الشهيرة "أنا أموت، إذن أنا عارف لسر الحياة وهذا
لا يعجبها".
هذا الموت
المغترب يعيد إلينا صحوة التفكير بالعودة إلى المهد حتى لو
ملكنا الدنيا كلها، وكم أراد كمال سبتي أن يعود، لكن عودته
المؤجلة الدائمة انتهت بموت غربته وانطفاء شمعة من شموع
حداثة الشعر العراقي الجديد
* في كتاب (بريد عاجل للموتى) حاورتك
أزمنتك بخلاصات غربة في المنفى. في الشعر، داخل هذا الكتاب
، كانت هناك مراثٍ ، وفي النثر التوثيقيّ كنتَ مطارداً..
– عندما تهرب من بلاد يحكمها دكتاتور
له قصص كثيرة في ذاكرتك فإنه يهرب معك أيضاً ليلازمك
كالهواء. لم أتحرر منه ومن قصصه إلى الآن.
النصف الثاني من السؤال رائع ، يا
ملعون يا نعيم.
أتذكر الآن تقسيماً لغوياً قديماً على
المصطلحات اللغوية التي عرفناها ودرسناها بعد الثورة
البنيوية والألسنية في العلوم اللغوية.
يقسم اللغة إلى قسمين : اللغة
الانفعالية وهي لغة الفن والأدب ، واللغة الإشارية وهي لغة
النثر والفلسفة والعلوم.
يتم تذكر الدكتاتور "الكابوس" في بريد
عاجل للموتى بمستويين : شعري وتوثيقي كما تقول ، وفي الشعر
سيكون للتراجيديا حضورها الأنقى، مراثٍ لي ولغيري وفي
النثر سيكون للتوثيق حضور. لأنني كنت أحتاج التوثيق
بالتاريخ وفي النثر عندما يكون سرداً ستجد حضور الشعري
أيضاً متداخلاً مع ماهو إشاري. وما تقوله في سؤالك هو شغل
كتابي الجديد وروحه. أترك الكلام الباقي لمن سيدرسه.
* كنت في نصك المفتوح تتفرد في الشعريّ
الوليد على الشعري السائد والمكرس وكنت تريد أن تنزل في
سوق الألواح المكتشفة بتعب الروح شغلاً تصنعه أيقونات
بجمالات مقروءة وحداثات لاتصدأ، هل تظن أن أحداً يريد أن
يسرق منك هذا الاشتغال؟
-شكراً على تلك المشاعر التي قد لا
أستحقها كلها وحدي.
أنا لا أعرف كيف أجيبك ؟
نحن نتأثر بالآخرين والآخرون يتأثرون
بنا إن كان لدينا حقاً شيء يستحق أن يشاع وألا يبقى رهين
تجربة شخصية. لذلك فالأمر لا يُسرَق. إنما يُستفاد منه
للانطلاق إلى خطوة أخرى. أما إذا سُرِقَ. وذلك يعني
بالنسبة لنا قيامة المصيبة.
* في حوارات يومية معك منذ أن نزلت أرض
العراق ، كنت تقول بصوت عال : الشعر العراقي قادم ، ماذا
تقصد؟
-أنا أظن والأرض كلها تظن معي ، أن
الشعر العراقي قد غبن كثيراً إعلامياً بسبب الحكم
الدكتاتوري وبسبب معيشتنا في المنفى مجبرين ومنعزلين.
والشعر العراقي هو الأعرق والأرقى في المساحة العامة للشعر
العربي ولست هنا لأفاخر بل هذه حقيقة فالأساليب هي أساليبه
والأسماء التي نفتخر بها روحياً هي أسماء أبنائه وفي
النهاية سيكون الشعر العربي إرثنا نحن أكثر من غيرنا بسبب
من اشتغالنا الدهري فيه. هذا لايعني أنه ليس إرثاً لغيرنا
، لا ، ولكن ستكون لنا الحمية الأشد عليه أكثر من غيرنا ،
بسبب من انجازنا التاريخي فيه.
طوال سنوات الدكتاتور وسنوات منفانا
المستمر تم إبعادنا قصداً عن خارطة الفعالية الثقافية
العربية من قبل جميع الذين يعملون في الثقافة العربية . لم
يقم أحد عربي بدعوتنا ، حتى ، إلى مهرجان أو إلى أمسية.
كأنما كانوا يتقصدون هذا حتى يثأروا من وجودنا العراقي
الطاغي شعرياً عبر التاريخ . الآن قد ولى الدكتاتور ، نعم
.. الاحتلال باق ، لكنه سيرحل حتماً. ولأن الدكتاتور قد
رحل فإن أدبنا سيكون له منبر إعلامي فخم سيعوضنا خسارة
عقود من التغييب. وسيعاد إنتاج المعلومة والمصطلح والإشارة
إلى أهمية الأسلوب الفني هذا والإتجاه الفكري ذاك،وستعاد
في العراق قراءة العملية النقدية العربية برمتها فكراً
وذائقة.
* إذا تاه الشعر العراقي في غربة جديدة
ما الذي ستفعله ؟
-هذا سؤال يحتمل أكثر من تأويل.
سأختصر طرقاً متعرجة عديدة وأسألك : هل
تقصد في سؤالك ماذا أفعل إذا تشتتنا من جديد ونفينا ثانية
في هذا العالم؟
حتى الآن ما زلنا نعيش شتاتنا في
الجهات الأربع، لكن الأمل أصبح أوسع بالعودة بعد سقوط
الدكتاتور.
أنا أريد أن أعود إلى بلدي.لي الحق
الطبيعي في أن يكون لي بيت فيه ومكتبة ومقهى ألتقي فيه
الأصدقاء، و أغلبنا متعب من المنفى لذلك لا أتمنى لأحد أن
يسألنا عن منفى جديد.
هذا عن المعنى القريب للسؤال.
أما إذا أولنا الغربة في سؤالك
بالتحولات الأسلوبية التي تجري عادة في الشعر العراقي وكل
تحول هو غربة حقاً لبعض الوقت قبل أن يشيع فأنا أمني نفسي
في أن أكون في مركز التحول حتى وإن عارضته، لأنني في
معارضتي إياه إنما أقيم حواراً معه والحوار سيجعلني أكون
موجوداً فيه والأمر ذاته ستقوله عنه في حالة معارضته إياي.
تلك هي سنة الجدل.
* الآن بعد أن استقر هاجس القصيدة
العراقية أين ستكون الريادات العربية الأخرى والتي كنت
تراهاً وهماً في جسد الأدب العربي. أنت اليوم في بلدك
وتعتقد أن مثل أولئك الرواد سيكونون مرعوبين مما حدث في
العراق ، وسع دائرة الفهم أزاء هذه الأطروحة.
جوابي عن جملة : الشعر العراقي قادم.
هو جواب عن هذا السؤال ، وأقول أيضاً : ستتغير أشياء كثيرة
في الثقافة العربية بفضل سقوط الدكتاتورية في العراق.
ستسقط أصنام ثقافيةعربية عديدة ، ستسقط مقولات كثيرة ،
سيتغير الخطاب العربي في جوهره كثيراً. الخطاب العربي
السائد أفراداً ومؤسسات يعارض العراقيين كبشر على أرضهم
ويعارض الديمقراطية العراقية القادمة باسم معارضة الاحتلال
ومعارضته هذه هي مقاومة طبيعية من قبله ضد موته . نحن
عارضنا الحرب شعراً ومقالات ونعارض الاحتلال أيضاً لكننا
لن نعارض التحول الليبرالي في العراق. إننا أزاء ولادة
خطاب عراقي جديد في الحرية وحق الاختلاف والإيمان بوجود
الآخر وعدم عده عدواً بسبب هاجس القبيلة العدائي ضد الآخر
، والإعلاء من الإنسان كقيمة عليا أغلى من الأرض ..إلخ،
وقد ولد هذا الخطاب في العقل الآن وفي حوار العراقيين
وإنتاجهم الفكري الهائل الذي يحتضنه الإنترنت الآن كعقاب
قدري على تخلي العرب عن الثقافة العراقية ، وهو ماض ليترسخ
على تلك الأرض الموعودة بالتحولات كل حين وسيؤثر حتماً في
مصير الخطاب العربي السائد. ومؤكد أن الأصنام الثقافية
مرعوبة من الخطاب العراقي الجديد لأنها هي الخطاب السائد
الماضي إلى حتفه. قلت مرة إن كثيراً من المثقفين العرب
خائف من تحسن الوضع الأمني في العراق وإن باله لايهدأ إن
سمع بيوم هدوء في بغداد.
* ترى هل وفقت معك ؟ وهل تشعر أنك
أبقيت في العراق قصيدة فيها حياة ومسرة وكشف؟
- نعم قد وفقت.
بقي أن الشق الآخر من السؤال مربك
ومحير. لا أدري إنْ كنتُ حقاً قد أبقيت في العراق تلك
القصيدة ، وربما سيكون السؤال أصدقَ تراجيدياً لو سألتَ
ماذا أبقى العراق فيَّ؟
|