الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

المسرحيون في إجازة : هل أحيل المسرح العراقي على التقاعد؟
                                                                                       عبد الكريم العبيدي
في طغيان الواقع تتحلل الذات وتنفصل كرهاً عن منابتها الحرة.. واللحظة التي لن تتوقف، تبدو كمثل الريح، كتلة متحركة في وقوفها الأزلي!.. هي واقفة في حركتها ولكنها في وقوفها تبدو متحركة أيضاً!.. هذا الخلط المتحرر من تصورنا يبدو متعقلاً في أقصى مكامنه الفاسدة، خصوصاً ونحن نجهل أقرب أقواس وعينا الذي نراه سماوياً في لحظات الضعف.
حالتنا إذن التي فقدت شرعيتها بلا خطيئة، تتحرك الآن في أمكنة شبه فاسدة.. تبدو لنا نحن “الحالة” مثل شرنقة قميئة افنصلت عنا كثيراً ولكنها تركتنا في روائحها، وأودعت في مخزن ذاكرتنا بصمتها الأخيرة.. نحن نتنفس بها ونجري في قبتها الضيقة دون أن ندري ولو للحظة أن نصلها الغليظ هوى على يافوخ الحلم وجز حواف المخيال الجمعي وأحالنا، قسراً، بعد أعوام الرعب إلى شبحية حية في طور الأميبيا!
لماذا توقفت اللحظة في ذاكرة ناقد كجبار خماط؟ وتحولت أطراف مشهد كاظم النصار إلى حواف حذرة؟.. وما الذي جعل أحمد حسن موسى في عزلة يتيمة، وسعد عزيز يفكر في عبور جداره الأمني؟ وهل سيتجاوز باسل الشبيب رفضه لعبور الأزمنة؟
مشهدهم/ مشهدنا.. هو طغيان الواقع وحالة الخلط المشحون في محنة أريد لها أن تتسع، وأن تفقد أضوائها، وأن لا تغرب!؟
الشكل والشكل الآخر
يقول الناقد المسرحي جبار خماط:
-لا وجود لمبدأ التقاعد الاختياري أو القسري في المسرح، لأننا بذلك نفقد نكهة التواصل بكل ما هو كائن أو ما ينبغي أن يكون.
الآن، علينا أن نعين حالة التصعيد المسرحي من أجل ذاكرة مسرحية تخاطب ما هو جمالي بعد الحروب والحصار وحكم الطغيان، إضافة إلى أحداث ظهرت ونعيشها سوية ضمن بيئة مسرحية اختلطت فيها الرغبات والأهواء لشخصيات تواكب حالة الأزمة التراجيدية. ولهذا من الطبيعي أن يغيب المسرح الآن من الصالات، على الرغم من شكله الآخر ضمن موجودات الحياة الجديدة التي نعيشها يومياً بإيقاع متجدد، من أجل آت يفتح الستار ليبدأ العرض المسرحي الذي ننتظره.
شعلة برومثيوس
المخرج المبدع كاظم النصار بدأ أكثر انحيازاً للمشروع التحديثي في المسرح العراقي.. قال:
لا أعتقد أن هزة عنيفة كالتي حدثت أو بالأحرى هزات عنيفة استطاعت أن تحيل المسرح على التقاعد، فلا الحروب ولا الحصارات ولا الجهل ولا الأمية ولا المسرح الاستهلاكي ولا المؤسسات الأيديولوجية كلها قد أطفأت الشعلة البرومثيوسية، ولا جذوة المشروع التحديثي في المسرح العراقي وهذه حقيقة نلمسها وخاصة في عقدين مضطربين كالثمانينيات والتسعينيات، بل بالعكس فعود المسرح قد اشتد واشتدت معه روح التصدي.. والآن وضمن مساحة الحافات الحذرة التي تلوح في المشهد السياسي المضطرب أيضاً ثمة أمل حقيقي في التمخضات الواعية لإقامة مجتمع دستوري ونظام يحفل بالثقافة وبالتعاطي معها بالضرورة.. وعلينا أن نبني مقدمات صحية لكي نجني نتائج صحية.. وهذا أيضاً من أدوار مثقفي المسرح ثمة نوافذ مضيئة وأولها الإصرار والوعي والاستفادة من دروس التاريخ السياسي الثقافي.
الثقافة في عزلة
المخرج المتألق أحمد حسن موسى خلع ثياب حداده قبل غيره فاتسعت أمام عينيه خريطة حريته الخارجة عن سلطة إقطاع الفن وشرطة الرقيب الرخيصة.. قال:
-أعتقد جازماً أن المسرح العراقي أكبر من أن يحال على التقاعد، فبعد الحروب البعثية والحصار الداخلي وكل المؤسسات القمعية التي شيدها الدكتاتور لم تستطع أن تغير مشروع العراق الثقافي.. بل اتحد مبدعوه والذين اتخذوا من المسرح رسالتهم الثقافية وأوصلوا ثقافة وحضارة العراق إلى العمق العربي..
ما أعتقده هنا هو أن المسرح والثقافة تعاني حالة من العزلة، ولا بد لنا من أن نجد فضاءات أخرى لتقديم ورقتنا الثقافية وذلك إيماناً منا بأن الثقافة العراقية هي مسؤوليتنا، وليست مسؤولية الجهات المسؤولة..
لذا فإنني أحاول أن أعيد الأمل إلى نفسي بأن مسرحنا سيخرج بعد هذه العزلة أكثر بهاءاً.. فهو لا يزال ينتظر أن يستبدل ثياب الحداد بثياب أخرى أكثر حرفاً وزهواً بعد أن تحرر من سلطة إقطاعي الفن وشرطة الرقيب القاسية.
منفى إجباري
الفنان سعد عزيز عبد الصاحب يريد أن يقتحم الأسلاك والجدارات الأمنية في واقع ما بعد الحرب بروحية متمردة واعية وحكيمة يقول:
أرى أن الواقع الفني عموماً والمسرحي خصوصاً يرتبط بالمناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلد.. حيث يستقر المسرح وينمو ويطرد بوجود هذه المستقرات الثلاثة.. والمسرح الآن والثقافة عموماً تعيش في منفى إجباري نتيجة للظروف الأمنية التي يعيشها البلد. إضافة لهشاشة النظر إلى المسرح وتأخرها في العراق من قبل المنظومة الاجتماعية الأغلب.. وتأجيل مجلس الحكم للمشاريع الثقافية باعتبارها حاجة كمالية تزيينية وضغط المصروفات السنوية ومحاولة تحول المؤسسات الثقافية إلى مؤسسات ذات طابع تمويلي ذاتي.. وهذا كله يؤجل دوران عجلة الثقافة التي تقدمت في البلدان الأخرى كثيراً..
أرى أن الحل الأمثل هو في بقاء مؤسسة المسرح والسينما ولو مؤقتاً تعمل في ظل الدولة ورعايتها.. وعلينا نحن صناع العرض المسرحي والسينما اختراق الواقع الأمني الشائك.. علينا الذهاب للجامعات والمعمل والساحات والمقاهي وبأدوات ليست بسيطة طبعاً.. علينا أن نأتي بالممثل راسخ القدم والسنوغرافي الذكي اللماح والفكرة الحية النابعة من الهم الاجتماعي أو السياسي العراقي الآن.. وبلا خوف أو وجل.
ضبابية قبل النضج
يرفض الفنان باسل الشبيب خصخصة المحنة وعبور أزمنتها ويرى الأشياء من خلال واقعيتها.. يقول:
المسرح ليس ظاهرة كي نحكم عليه بالأفول.. وإنما هو هوية، والهوية لا يتغير عنوانها مهما تغير الزمان والمكان، وهو لا يشيخ كي نضع له عمراً محدداً ونحفر له قبراً.. إن اللغة التي نتحدث فيها في هذه المرحلة وهي الشاغل الوحيد الذي يملأ رؤوسنا هي لحظة الراهن، أي “الآن”.. نحن ندرك تماماً إن الآن هي لحظة متحركة إلى الخلف، ويمكن أن نسمي الآن بـ(الأمس) وغداً بالآن.
إن التجربة الثقافية في بلدنا مرت بعدة مخاضات في العصر الحديث، حيث التحولات السياسية السريعة وتعدد الأيديولوجيات، حتى بات لكل جيل خصوصية في الطرح الثقافي، ويشمل هذا الحركة المسرحية التي تبنتها أجيال عديدة ابتدأت بالرواد وانتهت بالشباب، وما يحصل الآن، هو فقدان عملية التبني لأسباب أولها ذو طابع فكري، حيث تتسم هذه الفترة بعدم الوضوح والضبابية ولا يمكن بالطبع أن تتبنى ثقافة في مرحلة ليست فيها ملامح على الإطلاق. لذا نقول، إن المسرح أسدل ستاره إلى حين نضوج المرحلة سياسياً واجتماعياً، وستفتح أبوابه ونوافذه لينطلق من جديد.
المسرحيون قطعوا أجازتهم ورفضوا الإحالة على التقاعد. ولكن “الدنيا.. مسرحهم الكبير” رفضهم أيضاً، وحجب ألقه “القديم بستارة العنف والضياع والتدهور الأمني.. وبات بلا ممثل ولا مخرج ولا متفرج.. “الفراغ وحده يتكئ على الكرسي”.


حين تجيء الشهادة متأخرة .. ذكريات... أحلام... تأملات
                                                                                                   د.فاضل خليل
عام 1968 يذكره كل من أحب المسرح منا. كانت أعمارنا لم تتخط الثلاثين. وكانت لنا في ذلك العام بدايات لتجربة ما نزال نعتبرها رصيد طموحاتنا. في ذلك العام كانت لنا أعمال:
*موت دانتون - لبوشنر - إخراج فاضل السوداني.
*المسيح يصلب من جديد - لكازانتزاكي - إخراج عوني كرومي.
*أويسك - لبوشنر - إخراج فاضل خليل.
ثم توالت الأعمال لتعمق التجربة، أو بالأحرى لتطبع أقدامنا على خشبة المسرح.. إنها، كانت البداية التي حفزت الكثيرين إلى القول بأن هناك بديلاً جديداً للمسرح التقليدي (الفكر، السلوك، المنطق) وإن وراء ظاهرته شبان يستفيدون من قراءاتهم الخاصة ومن متابعاتهم وتعبهم، مضافاً إلى ذلك كله جهد بعض الأساتذة الكفوئين الذين علموهم شيئاً واستمروا إلى الآن.
كنا شباباً نبني تجربة. تجاوزنا الكثير من الأخطاء، وكان للتسكع في حياتنا حيزه الكبير. اتهمه البعض أنه تسكع غير منتج، في حين إنهم لم يبحثوا عن الأسباب التي خلقت هذا التسكع، فضلاً عن إنهم كانوا يجافون الحقيقة، إذ إننا كنا نلتقي ونتحاور لندرس تجربتنا في المسرح من أجل تجاوز الأخطاء وما يتسرب في أنفسنا من متاعب ذاتية. ونجح البعض منا في تحقيق ذلك وفشل البعض الآخر.
عشنا هذا التسكع متجمعين، لكننا مارسنا التجربة والوعي متفرقين.. فوجئنا بأن البعض منا يطمح في أن تكون بدايته (مخرجاً) وإذا لم أكن مخطئاً فإن أكثرنا بما فيهم نحن الذين كنا نقود حركة الشباب على المسرح، نضع شرط (المخرج) عندما نصوغ طموحنا مع أنفسنا، ولا بأس من أن نكون (ممثلين) عند الضرورة. هكذا كنا نفكر، ثم بدأنا نعمل فرادى، كل يعمل حسب فكره الخاص واجتهاده. وبرغم ذلك كنا نلتقي عند العمل الناجح في تجربة مسرحنا. كنا على اختلاف دائم ولكننا سرعان ما نتوحد في المساء عندما يعرض مسرحنا موضوعاً ناجحاً. حاولنا ثانية أن نجتمع حول منهج واضح للمسرح وفكر موحد، ففشلنا وفشلت المحاولة.
تخرجنا في الأكاديمية والمعهد ومعاهدنا الدراسية الأخرى، واتجهنا إلى الفرق المحترفة ذات الشأن على المسرح ففوجئنا بلائحة من الأفكار، تقول:
-(الويلاد بعدهم زغار على المسرح، رجلهم ما ماخذه على المسرح كممثلين، شلون انخليهم يخرجون؟!).. هؤلاء المتسكعون يطمحون إلى ما يسمى بـ(المسرح البديل) كيف نقبل منهم هذه الآراء؟ ونحن (نعرفهم) نحن الذين علمناهم ألف باء المسرح، يأتوننا الآن ليعلموننا ياء المسرح. عجيب!!
وبالتالي أفلح البعض (بعض الرواد) في إبعادنا عن المسرح. كانوا سيندون أدواراً صغيرة لنا وما تجود به إيمانهم..! واستفادوا من الثغرات الفكرية في سلوكنا المسرحي، ومنا من استنكر وضع المسرح وبقي إلى الآن (يتسكع) كما يقولون، ومنا من وافق على آراء بعض الرواد من أجل أن يصل للمسرح ويمارس حرفته فدخل الفرق الأهلية وتمكن من النجاح، إلا إنني أريد أن أثبت حقيقة معينة للتاريخ ولأجل أن لا تضيع هذه الحقيقة بين مناقشات شخوص المسرح التقليدي الذين سعوا لإبعاد أفكار الشباب آنذاك، أقول:
(إن العديد من الأساتذة استثمروا رؤى هؤلاء الشباب واستغلوا الكثير من أفكارهم التي كانت تطرح في المعاهد والمنتديات ومقرات الفرق وثبتوها في مسرحياتهم وأعمالهم المسرحية، وبدلاً من أن يجري هناك إقرار لحقيقة مصدرها (الشباب) تم تثبيتها لمستثمريها وأصبحت وثائق سجلت بأسمائهم في الصحف والمجلات واحتفظ بها أرشيف المسرح).
بعد هذه الرحلة البعيدة نسبياً عن زمننا الحالي، أقول لشباب المسرح خاتمة لحديثي: … أيها الشباب، لتكن لتجربتكم الاستمرارية وفق منهج واضح يحدده المنطق الوطني وتدعمه كفاءاتكم.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة