الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الفن العراقي القديم : تطور العناصر الفنية في الأختام الإسطوانية

                                                                                       ناجح المعموري

عرفت الحضارة العراقية أشكالاً عديدة من الفنون وعبر مختلف وسائل التنفيذ، ومن هنا جاء تميز هذه الحضارة وتفردها، ولعل أهم ما يميزها فنياً -في بدايتها- عن الحضارات في الشرق هو الأختام الإسطوانية. ولذا لم تستطع الحضارات المجاورة الصمود أمام قوة تأثيره فانفتحت أمامه وتناغمت مع المتحقق منه في العراق. وكان للفن العراقي القديم تأثير واضح على المجاور وتبدى هذا من خلال الأختام والفخار والحفر على الطين والحجر وسنحاول قراءة الأختام الإسطوانية بوصفها منجزاً فنياً لا يمكن إغفاله أو التقليل من أهميته، كما إن للأختام فاعلية مؤثرة على تطورات الفن العراقي اللاحقة.
ما هو الختم الإسطواني؟
الختم الإسطواني، عبارة عن إسطوانة حجرية أو طينية يوفر سطحها الخارجي مسافة للنقش أوسع وبشكل ملموس من الختم المنبسط وتكون مساحة الصورة فيه عبارة عن شريط يعود فيلتقي مع بدايته وحتى يتدحرج على الطين تنتج أفريزاً متصلاً، واخترع هذا الختم عن وعي، وهو يعكس الصفة السومرية إلى حد كبير، وظل على الدوام الطابع المميز للحضارة السومرية وبالطريقة التي لا توازيها سوى الكتابة المسمارية(1) ويكون الختم في أحيان كثيرة خرزة إسطوانية الشكل، تعمل من الأحجار الهشة أو الصلبة، ويتراوح طولها بين 2سم إلى 7 سم وقطرها 2سم إلى بضعة ملمترات.
وتكون مثقوبة طولياً يسمح بتمرير خيط كي يعلق برقبة الشخص باعتباره من المقتنيات الشخصية اللازمة لمعظم الأفراد لاستخدامه بمثابة التوقيع وهي من ابتكارات العصر الشبيه بالتاريخي(2).
وتعتبر الأختام من الإنجازات الحضارية المهمة، التي أبدع فيها الإنسان العراقي القديم ومنذ 3500 ق. م ولم تكن الأختام والمحفورات مكتفية بالحفر فوق الطين، وإنما وجدت نماذج عديدة محفورة على الحجر والمعادن النفيسة مثل الذهب والفضة، ويعني العمل على تلك المعادن وجود اقتران واضح بين العمل الفني والمنظومة الثقافية (الدينية) أو السياسية، من أجل إيضاح القيمة الفكرية.
ومن يود الإلمام بجوهر العمارة والفن في بلاد ما بين النهرين ووحدتهما، ينبغي له أن يحاول استيعاب فكرة الإله التي كانت مقبولة آنذاك، وما يرتبط من مفاهيم عن الملكية بصفة مباشرة.. والوحدة التقليدية التي تجمع بين الأعمال الفنية هذه، متأتية من الرابطة العضوية لمفاهيم الإله والملك ومن تعقد هذه المفاهيم وتباينها الظاهري(3).
لم يكن اهتمام الإنسان العراقي بالأختام اهتماماً ذاتياً خالصاً، وإنما يعتبر شكلاً من أشكال تبديات الثقافة والدين، وهي حاجة موضوعية وتدوينية في مرحلة شيوع اللغة الصورية/ العلاماتية. وشيوع الأختام ينطوي على كشوف لطبيعة المرحلة السياسية السائدة وظلت -الأختام- محكومة بالشروط الموضوعية المتطورة باستمرار، ولذا خضعت الأختام للتطور والتنوع والاتساع، ارتباطاً بالمجال الثقافي/ الدين، لأن الفن في العراق القديم والحضارات الشرقية الأخرى يمثل وجهاً تمثيلياً للديانة السائدة ولا يمكن للقراءة أن تقترح عزلاً بين الفن السائد ومستوى الديانة ونسق الألوهة المهيمنة ولذا كانت أكثر الأختام خاصة بالآلهة والملوك ومعبرة عن العقائد والشعائر السحرية، حيث كانت للأختام مثل هذه الوظائف.
إن الفن العراقي القديم بشكل عام والأختام الإسطوانية حصراً، ما كان له أن يتطور ويتنوع لولا الوظائف الدينية والعقائد المقدسة، وحصراً وجود نظام الألوهة المتمركزة. وبالإمكان الإشارة إلى الصفة الدينية الطاغية على الفن العراقي القديم - الأختام الإسطوانية - وخصوصاً في المراحل المبكرة، حيث صورت الأختام مشاهد تقديم القرابين/ ومخلوقات إسطورية مركبة بشكل رمزي وذلك لأن الموضوع يصور بجلاء عظيم الأهمية العبادة التي يؤديها السومريون لآلهتهم ولحكامهم باعتبارهم قادة الحروب والكهنة إضافة إلى الحيوانات الوحشية والداجنة التي احتلت مكانة مهمة لعناصر ورموز للقوى التي تعزز حياة الإنسان(4).
وهذا ما تفسره مشاهد الأختام الإسطوانية وبروز عناصر عمارية عديدة يمكن تميزها بوضوح مثل واجهات المعابد التي ظهرت في عصر الوركاء وجمدة نصر، وظهرت أشكال مختلفة لأبواب المعابد، كما ظهرت مشاهد تمثل حظائر المعبد ومواشيه. وهناك مشاهد نلاحظ فيها أنواعاً متعددة في الد\كاك والمذابح، التي كانت موجودة في المعابد، كما ظهرت الزقورات أيضاًُ... وظهرت في الأختام أنواع متعددة من المقاعد والكراسي وهي مختلفة باختلاف الفترات الزمنية، ومشاهد عروش الآلهة ومقاعدها التي تكون أحياناً بأشكال رامزة للآلهة الجالس فوقها(5) وإن الفن العراقي القديم كان فناً ملتزماً، خاضعاً إلى متطلبات الدين والسياسة، أي للدولة ولذلك كان بوجه عام فناً رسمياً وليس فناً فردياً وكذلك ألقى على الأختام الإسطوانية على الرغم من أنها شخصية وسبب اختراعها هو لتحديد الملكية الفردية وتعيين الهوية الشخصية(6).
إن وفرة الأختام واستمرار استعمالها في العصور التاريخية القديمة وانتشارها في جميع مناطق وادي الرافدين وفي مراكز الشرق القديم، جعل منها أهم المصادر التي توضح فن وادي الرافدين، وقد وفرت معلومات فنية وحضارية لم يستطع أن يوفرها أي مركز حضاري قديم آخر.
وأكد مالرو الوظائف الدينية للفن في العراق قائلاً:
الفن السومري مثلما هو حال الفن المكسيكي والمصري مهتم بالقداسة والتي تمثل بصفة بارزة عالم الوهم وعن طريق الفن وحده اتخذ هذا العالم الوهمي شكله. إن الأختام الإسطوانية التي اهتمت بالإنسان ولأسباب سياسية/ ودينية مثل جلجامش، ولم يحاول الفنان العراقي القديم تجسيدها من خلال عناصر بشرية واضحة الملامح لقربه من الحياة الإنسانية وقربه أكثر من الأشكال الإلهية باعتبارها ذات صفات دينية/ سياسية وذات صفة مقدسة. وبذلك حاز الإنسان صفات دينية لم تكن له من قبل.
خصائص الأختام في المراحل الحضارية
تميزت أختام عصر فجر السلالات بالبساطة والاتقان للشكل. واستطاع الفنان التوفيق بين النسب بشكل جيد مع بساطة في التعبير.. ومن مواضيعها الولائم المقدسة وتصوير الآلهة، الزوارق الإسطورية المحاطة بشخصيات إسطورية مع تصوير الحيوانات(7) المفترسة كالإسود وحماية الأبطال الإسطوريين للحيوانات الأليفة. وقد تكرست -في هذه الأختام- فكرة البطل الإسطوري المدافع عن الحيوانات بدون مقابل.. وأولى نقاش الأختام السومري عناية في تهيئة سطح الختم وصقله وإعداده، واهتم بإبراز التفاصيل الدقيقة، وكان سطح الختم يقسم إلى حقلين إفقيين ويوزع مشهده داخلهما(8).
لقد تطور الختم الإسطواني في المرحلة الأكدية متناظراً مع الاتساع الإمبراطوري وانعكاس دلالة ذلك على الفن وخصوصاً التماثيل والأختام المعبرة بدقة عن طبيعة النظام وعناصره الدينية /السياسية/ الاقتصادية، كما أكد تطورات المرحلة عما كانت عليه في المرحلة السومرية وتميز الأختام الأكدية لا يعني وجود قطيعة مع النسق السومري، بل كان تطويراً لسماته التي كانت سائدة قبلاً. ويثير هذا ملاحظة عن الروابط الثقافية، والصلات الدينية التي ظلت ممتدة نحو المجال الأكدي. لأن الأكديين لم يشعروا بعقدة التواصل مع ما سبق، بل تعاملوا معه بوعي وبوصفهم مساهمين كعرق ضمن المرحلة السومرية وهذا يمكن تشخيصه بوضوح تام من خلال ملحمة جلجامش التي كانت أصلاً خمس أساطير سومرية تعاملت معها البنية الذهنية الأكدية تعاملاً جديداً واقترحت لها نسقاً أدبياً استطاع استيعاب الطموح السياسي بعداً عن التحفظات التي من الممكن أن تثيرها شخصية الملك السومري/ جلجامش المستعاد من حاضنته الحضارية وقدم بشكل جديد ومستوعباً عناصر البطولة الأكدية الصاعدة والمتجسدة بالتوسع الإمبراطوري المعروف. وانتشرت البطولة. في المرحلة الأكدية ممثلاً لها بمعارك البطل العاري مع الوحوش ويعتقد بأنها مصورات لمعارك البطل جلجامش وصراعه مع الحيوانات المتوحشة.
كانت أختام المرحلة الآشورية متميزة على الرغم من قلتها، واتسمت ببروز النقش عليها واختفت المشاهد الدينية وحلت بديلاً لها المناظر الطبيعية وصور الحيوانات، ودللت الدقة الفنية على وجود طبقة من العمال المهرة. وعاودت الوظائف الدينية في الأختام خلال المرحلة البابلية. إن الحضارات الرئيسة الأربع، السومرية/ الأكدية/ الآشورية/ البابلية متصلة ببعضها البعض بنسيج تاريخي ومكونة سلسلة متصلة الحلقات ومع هذا كان هناك تميز لبعضها عن الآخر نتيجة للظروف الموضوعية التي سادت تلك الحضارات(9).
وأشار الفنان رافع الناصري إلى أن عناصر الأختام الإسطوانية لا تختلف كثيراً عن فن الغرافيك، حيث نجد الرسم والحفر والطباعة على الطين تمثل أساسيات العمل الغرافيكي. وتبدت مهارة الفنان العراقي القديم في اختيار المساحة التي يشتغل عليها فوق الطين، وهي مساحة صغيرة جداً، وتمكن من ضبط الأشكال وتحقيق الإنسجام فيها وهذا ما يتضح في أشكال الإنسان والحيوان والأشجار والتكوينات المختلفة التي لم تكن مجردة، بل ذات وظيفة أو مجموعة وظائف دينية/ سياسية/ اجتماعية، ولعلنا نتذكر الأختام الخاصة بالملك/ البطل جلجامش.
وكثيراً ما تشير المنحوتات والأختام بوجودها داخل المعابد وفي الأماكن الخاصة إلى ممارسة الطقوس الدينية وعلاقتها الوظيفية مع المكان. وقد أكد مالرو إلى أن الصفة الأساسية للفنون القديمة تعود إلى محاولات الإنسان القديمة للتعبير عن ذاتيته بواسائل لا يملكها الإنسان، لذا كان الفن البوذي والمسيحي قد اهتما بالجانب الروحي/ العاطفي المختلف بوسائله التعبيرية اختلافاً كلياً عن الوسائل الخاصة بالتعبير الروحي المقدس والذي عرف في فن العراق القديم.
المصادر
1- د. شمس الدين فارس ود. سلمان عيسى الخطاط/ تاريخ الفن القديم/ دار المعرفة/ بغداد/ 1980/ ص39.
2- زهير صاحب ود. سلمان الخطاط/ تاريخ الفن القديم في بلاد وادي الرافدين/ التعليم العالي/ بغداد/ 1987/ ص73.
3- أنطوان مورتكات/ الفن في العراق القديم/ ت: د. عيسى سلمان وسليم طه التكريتي/ وزارة الإعلام/ ص15.
4- تاريخ الفن القديم/ ص39.
5- ريا محسن عبد الرزاق/ رسالة ماجستير آداب في الآثار/ الكتابة على الأختام الإسطوانية غير المنشورة في المتحف العراقي/ 1987/ ص34.
6- ن... م/ ص34.
7- تاريخ الفن القديم/ ص39.
8- تاريخ الفن في بلاد وادي الرافدين/ ص106.
9- تاريخ الفن القديم/ ص81.


المشروع النقدي في قراءة التراث

قاسم محمد عباس

إن مشروع تقديم قراءات جديدة للتراث العربي بنصوصه المختلفة كان الهاجس الأكبر لمفكري النزعة النقدية طوال القرن الماضي، إلاّ أن المشاريع التي اهتمت بإحداث قطيعة جذرية مع الدراسات التقليدية التي تطبعها الرؤية السكونية معدودة ونادرة، بسبب أن مجمل المشاريع قد انتهت إلى نقطة عدم التقاطع مع بنية هذا التراث . لذا لم تنجح في الوصول إلى مستوى التفاعل مع أسئلة العقل النقدي ، واستقرت على آليات البحث الكلاسيكية متجاوزة الثورة المنهجية التي تعرضت لها بقية التراثات التي قام مشروعها النقدي على مجموعة من المناهج والأدوات المنتجة في إطار التطور الذي عرفته العلوم الإنسانية على المستوى العالمي. ومنها على سبيل المثال الإنجاز المنهجي الذي قدَّمته التفكيكية بنزعتها الحفرية ، فضلاً عن مجموعة العلوم الإنسانية الأخرى التي من الممكن أن توفر نظرة جديدة في التعامل مع التراث تنهض على نقد بنيته التكوينية وآلياته المعيارية، أو التعامل مع مقوماته الأصيلة عن طريق إخضاعه للنموذجية المنهجية في التفكير، والاندفاع في تتبع مساحات كبيرة من هذا التراث ظلت في منطقة اللامفكر فيه طوال الحقب المنصرمة التي هيمنت فيها المناهج القديمة التي تسببت في ترك مساحة كبيرة من هذا التراث خارج السؤال النقدي . لكن الهاجس النقدي بمفهومه العام بقي يؤشر على إمكانية نشوء قراءات جديدة من الممكن أن تؤسس مفاهيم القراءة النقدية للتراث وتصوغ طروحاته في شكل أسئلة ربما تؤدي إجابات واضحة ومحددة.
لقد كانت مجموعة العصور والحقب الزمنية المتراكمة والمتلاحقة. ذات طبيعة تراتبية بعضها فوق البعض الآخر كطبقات الأرض ، وللتوصل إلى البنى العميقة فيها تستلزم الحاجة إلى اختراق طبقاتها العليا للوصول إلى نصوص التأسيس الأولى ، وذلك أن نوعا من التراكم تشكل عبر قرون طويلة بالنسبة لمدونات هذا التراث وتكونت مفاصله من مزيج من المعارف والعلوم المتداخلة بطريقة لا يفصل فيها بين اللاهوتي والبشري، وهو ما أعطى هذا التراث مضموناً ثبوتياً يتطلب تأسيس قراءة ذات نزعة حفرية لمكوناته الداخلية؛ وعلى ذلك فإن المنهج يتحدد انطلاقاً من التصور الأركيولوجي للمعرفة؛ باعتبار أن سمة التراكم التي ميزت التراث فرضت منطق التعاطي مع منتجاته المعرفية بشكلها المتداخل والأفقي في حدود معطيات هذا التصور والمنهج الذي ينتجه.
لذا كانت نزعة القراءة النقدية تستلزم اقتراح آليات منهجية محددة يمكن من خلالها الوصول إلى نتائج وخلاصات معينة ، لكن حتى هذه القراءات النقدية التي اندرجت في هذا الإطار بقيت حريصة على الاتجاه المنهجي أكثر من حرصها على الوصول إلى نتائج وخلاصات محددة ، أي أن هذه المشاريع النقدية تضمنت مسارات في البحث بما قدمته من خطابات أكثر مما تعطي من إجابات عن الأسئلة التي تطرحها، مع النزعة النقدية التي بقيت هي المهيمنة في معظم هذه القراءات وسيطرت بشكل كبير على سيرورة خطاب القراءة النقدية للتراث ، ونتج عن ذلك ما يمكن اعتباره توتراً نقدياً كبيرا تم التعامل معه بوصفه نزوعاً مجردا ومواجهة صريحة لأساسيات العقل العربي والإسلامي وكل ما أنتجه من تراث فكري؛ فالمطالبة بإعادة تشكيل مناهج النظر والقراءة بالآلية التي تتلاءم ومنتجات فكر الآخر المعاصر ، جوبهت بالرد من قبل القراءة الارثوذكسية لهذا الموقف باعتبار انها تشير إلى نوع من الهزيمة الفكرية والاستلاب الثقافي فضلا عن اسهامها في تأكيد الصورة الثبوتية والمنغلقة للعرب وتراثهم؛ بفهم ان هذا التراث يحتاج إلى أدوات خارجية مفصولة عنه حتى يمكن التفكير فيه بطريقة علمية أي أنه لا يملك أدواته الخاصة المنتجة ذاتياً انطلاقاً من تفاعل عناصره الداخلية بالشكل الذي يفجر القوى الكامنة فيه ويبرزها، في سبيل صياغة منهج إسلامي وعربي متكامل وواضح المعالم، ينطلق من النص كفاعلية ويجعل من قاعدة الاجتهاد منطلقاً لتفعيل حركية الوعي بأشكاله المختلفة، ليرتقي بالفكر إلى درجة من العقلانية تسقط فيها الحدود بين المثال والواقع، وتزول التقسيمات المفتعلة بين العقل والنقل، وبين المادة والروح، وبين الظاهر والباطن.. وهو الشيء الذي يرفضه أصحاب المشروع النقدي عبر كلامهم عن العقل الإسلامي وتركيبته الداخلية وكيفية نشأته وطرائق اشتغاله في التاريخ والمجتمع من خلاصات قدمت عن العقل الإسلامي الكلاسيكي الذي تفرع إلى عقول إسلامية متعددة ومتنافسة، ليتحول فيما بعد إلى عقل أرثوذكسي صلب منكمش على ذاته طبقا لمقولة أصحاب القراءة النقدية.
ربما يؤشر لنا هذا إبعاد صفة العقلانية عن هذا العقل ومنتجاته الفكرية انطلاقاً من انغلاقه الأرثوذكسي وتشبعه بمفاهيم وقيم موروثة عن عصور سيادة اللاهوت والتصورات الميثولوجية ، وبروز مجموعة من المعوقات تعيق إندارج هذا الفكر في العقلانية على نحو عملي دون تفكيك مفاصل دوغمائيته ،وما دام الإيمان الأرثوذكسي ينشد لمقولات الميثولوجية القروسطية، وغير قادر على فتح ثغرة على الخارج، أي على العقلانية العلمية والفكر التاريخي، فسوف يراوح مكانه، طبقاً لدعوى المشروع النقدي وهكذا فإن هذه الممايزة بين شكلين من أشكال المعرفة التي يتقاطع فيها الأسطوري بالعقلاني بطريقة تنافسية، يسوغ أي انزياح نقدي في اتجاه تحطيم أحد الشكلين لمصلحة الآخر.. وما دامت العقلانية تبقى هي الخيار الوحيد أمام الفكر الإسلامي لتحقيق انطلاقته، فلا بديل سوى استبدال أساسيات المعرفة الأسطورية داخل بنيته.
أما العقلانية فلا ريب أنها تعني عقلانية الآخر كما اتضحت معالمها منذ عصر الأنوار، وهي تقوم على استبعاد سلطة الخطاب التراثي وبناء على ذلك فإن الفكر الذي تحكمه الرؤية الأسطورية القروسطية ـ كما يرى أصحاب القراءة النقدية ـ مدعو للدخول في الحداثة الفكرية بكل أبعادها انطلاقاً من الانفتاح على العقلانية المعاصرة من جهة، وتحديث الموروث من جهة أخرى! وإنه نفس الخطاب الذي أنتجته الصدمة الأولى مع الغرب، يتكرر في ثوب جديد، بلغة أكثر حداثة لا تميزها سوى اصطلاحاتها الجديدة وتعبيراتها المفخمة مع ذلك الركام من المفاهيم والمصطلحات العسيرة الهضم.. فالطريق إلى “الحداثة” يمر عبر التحرر من الثوابت التي تشكلت منها بنية النظام المعرفي داخل بناء الثقافة العربية.
بتصور أن مدونة هذا التراث ليس أكثر من نص تشكَّل تاريخياً ضمن شروط معينة كغيره من النصوص التي يحفل بها الموروث الفكري للحضارة العربية من منتجات الفكر الإنساني عبر العصور المختلفة.. وهو ما يعني نزع القداسة عن هذا التراث باعتباره نصّاً وضعياً له خصوصيته؛ من حيث إخضاعه للنقد التفكيكي والقراءة الحفرية عن طريق توظيف كل المناهج الممكنة من أجل قراءة تاريخية.

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة