الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الذاكرة.. المتحف الذي لم نخرج منه بعد
هل نحن مبرمجون على رفض التغيير والتجديد؟

                                                                                    أحمد السعداوي

غطت وسائل الإعلام في يوم ما في منتصف التسعينيات تظاهرة قام بها سكنة منطقة في مدينة بوسطن الأمريكية، وفي حال أمريكا. يبدو أن المظاهرات اليومية المطالبة بـ(أو الدعاية إلى) مختلف القضايا أمر عادي، وكذلك تغطية هذه النشاطات إعلامياً. ولكن اللافت في هذه التظاهرة، أن القائمين بها كانوا يطالبون الحكومة الأمريكية بعدم السماح بهدم منازلهم أو إخراجهم منها، وهؤلاء بالطبع ليسوا من المتجاوزين على أراضي الدولة. ولا من سكنة الدوائر الحكومية، وإنما هم يتحدثون عن بيوتهم (الشرعية)، ولكن ما هي القضية التي تستدعي هدم بيوت هؤلاء وإخراجهم منها؟
إنها ببساطة قضية التخطيط العمراني، وإعادة النظر بخرائط المدن استجابة للمتغيرات الاقتصادية والسكانية، إن قضية التحديث تكتسب ولاية على حق المواطن الشخصي في بيته ومنطقته السكنية كما يبدو، ولكن التفاصيل القانونية في ذلك تبدو بعيدة عن متناولنا. المهم أن هؤلاء المتظاهرين منحوا بيوتاً أخرى في مناطق أخرى وتعويضاً مادياً عن الضرر النفسي، أي إن سبب التظاهرة لم يكن الخوف من التشرد أو التهجير القسري، والدولة يبدو أنها تتعامل معهم بمنتهى (القانونية).
في تصريحات لبعض المتظاهرين، أجمعوا على جواب واحد هو سبب تظاهرهم.. أن الحكومة بهدمها لمنازلهم.. إنما تسعى لإلغاء ذاكرتهم، (لقد نشأت في هذا الحي وتعلمت وتزوجت وما زالت أسكن في الحي نفسه منذ ولادتي.. إن مجرد التفكير بأن هذه الأماكن ستختفي إلى الأبد شيء يثير الخوف) هكذا أجاب أحد المتظاهرين. لكن الشيء المحزن ربما، إن منطق التغيير هو من إنتصر في النهاية، وهذا ما يتساوق مع الحياة نفسها، فالسعي إلى استيعاب الزيادة السكانية، وتقديم أفضل الخدمات، وفتح خطوط مترو جديدة.. هو أهم في النهاية من مراعاة مشاعر مواطن ما تجاه حائط أو شجرة أو شارع.. يتمنى خلودها وثباتها خارج منطق الحياة الذي لا يقبل الثبات في شيء.
حياة فلكلورية
سأفترض إنني حزين حقاً لزوال ذلك الحي الأمريكي في مدينة بوسطن، لأنه حتماً من الجمال والنظافة ما لا يمكن أن أراه في مدننا الكالحة، المكبلة بتحالف عتيد بين فوضى الطبيعة وقسوتها وإهمال الحكومات، وثالثاً: انخفاض مستوى الوعي الحضاري لمواطننا.
لو أن الحكومة العراقية القادمة ستقرر مثلاً هدم مدينتي (من أجل تلك الأهداف السامية نفسها التي كانت رؤوس المهندسين في بوسطن) لما رف لي جف، ولشككت كثيراً باحتمالية خروج تظاهرة عراقية ضد قرارٍ كهذا. فليأخذوا بيتي وحيي السكني وشارعي ويجرفوه إلى الجحيم، ما دمت سأحظى ببديل أكثر ملاءمة وأكثر إنسانية، وما دامت استجابتي لقرار الحكومة سمتهد لنهضة عمرانية لم تغادر يوماً منطقة الحلم باتجاه الواقع.
إن علاقتي العاطفية بشارع مليء بالحفر صيفاً، وبمياه المجاري شتاءً، ومناظر شاحبة لبيوت كامدة خالية من الخضرة، وبأزقة مليئة بالأزبال وبأحياء خالية من الحدائق العامة وأماكن لعب الأطفال. تبدو علاقة مرضية شاذة.
ومن لا يعجبه هذا الكلام عليه أن يزور مثلاً الشورجة ليرى آثار الجمهور في التخطيط العمراني المضاد لمنطق الحياة، إن هذا السوق بمحاله المزروعة في أزقة ضيقة قديمة وفوضى الباعة.. وضيق الشارع الرئيس المار بالسوق، وموقع هذا السوق الكبير داخل العاصمة، كل ذلك سيحول المكان بمجمل علاقاته وتكويناته إلى متحف.. أو مكان ذي خصوصية (شرقية) تستدعي السياح والأجانب، أكثر مما تستدعي الغرض العملي من وجوده.
استناداً إلى هذا المنطق.. ستغدو كل إخفاقاتنا وتراجعاتنا الحضارية بصمة فلكلورية خاصة.. سنجد حتماً من يدافع عنها على وفق منطق سكان بوسطن.
جغرافيا الذاكرة
ما زال بيت جدي القديم ينبثق كمسرح تجري فيه أحلامي. أتذكر تفاصيله، حيطانه وأحجاره ونوع الطلاء وتشققات الجدران والرطوبة وخطوط الأرضة في السقوف. ما زلت أتذكر أن الأر{ضة كتبت بخطوطها الطينية الجافة وعلى مدى عام تقريباً. ما يشبه إسماً غريباً.. في زاوية غرفة الضيوف. ولكنها أرضة كان على سكان البيت معالجتها والتخلص منها.
وفي النهاية اختفى البيت.. هدم في منتصف الثمانينيات وبني في مكانه بيت شامخ على طراز حديث.. ثم، لم يعد بيتاً لجدي، فقد انتقلت العائلة إلى بيت آخر.
بالنسبة لي، البيت لم يختف تماماً، لقد انتقل ببساطة من خارطة ما إلى خارطة أوسع.. انتقل من المجال الجغرافي الحياتي، إلى خارطة الذاكرة، التي ربما تكرمت عليه فمنحته أمتاراً أكثر، وسعت جدرانه ورفعت سقفه، وخلصته من بعض الزوائد التي لا تلائم بهاء الذاكرة. إننا تقريباً نتحرك على جغرافيا الأبعاد الفيزيقية. هناك في الأعماق يتكفل اللاوعي وقبليات الوعي الطفولي والمجاهيل الهاربة من الحصر والتنميط بأعداد مثالياتنا وثوابتنا النفسية والروحية.
إننا بذلك مبرمجون على رفض التغيير والتجديد، كي نبقى -دون وعي ربما- في قدس أقداس الذاكرة. إن الذي حصل في الأيام الأخيرة بخصوص موضوع العلم على سبيل المثال. كان في جوهره ليس الاختلاف على قضية ألوان العلم الجديد، وشرعية إقرار علم جديد، وإنما رفض مسبق لفكرة تغيير العلم. الذاكرة هنا بصورها المؤسطرة تنتصر على اختبار صور جديدة تحتمل بالطبع الإخفاق والنجاح.
كذلك فكرة القائد الكاريزمي، إننا لا نكره سطوة صدام حسين وقوته في مسك وضبط العباد! لا نكره واحديته وانفراده بالسلطة. إننا نكرهه فقط، لأنه شرير. وما يتحرك في لا وعينا الآن هو البحث عن صدام حسين آخر، ولكن طيب!!
إننا نتحسر على (الزيتوني) وعلى يشماغ الرفاق البعثيين، لإننا لا نطيق مواجهة الخراب الذي سببه الزيتوني والرفاق البعثيون ورئيسنا الشرير. لأن الركون إلى صورة الذاكرة.. أسهل وأهون من السعي لخلق صورة جديدة.
خربة كبيرة
لي صديق قطع شوطاً بعيداً في سوداويته، فها هو بعد مرور أكثر من سنة على سقوط النظام ما زال مؤمناَ بأن أفضل وسيلة للتخص من صدام حسين ونظام صدام حسين هي بمغادرة العراق!
ويوضح موقفه قائلاً: انظر إلى هذه البناية، انظر إلى هذا الحائط. إنهما يذكراني بموقف نفسي صعب كان يتلبسني لحظة مروري بهذا المكان. كراج العلاوي يذكرني بالحرب. بائعات الشاي، الأرصفة باللونين الأبيض والأصفر، البنايات والبيوت الصفر.. تذكرني بـ(القائد الضرورة) النخل الشاحب. يذكرني بأيام التسعينيات، حين هجمت الناس على الجذوع الخاوية لها (هذه الأشجار) وسلبت الرمق الوحيد الذي تعتاش عليه من أجل حطب للطبخ. هذه السيارات العتيقة تذكرني بالثمانينيات السود، وهذه السيارات الحديثة، تذكرني بسيارات المسؤولين وسيارات المخابرات والأمن، الأراضي القاحلة في الطرق الخارجية، ومطاعم الطرق الخارجية.. تذكرني بالالتحاق إلى الجبهة. الكلاب تذكرني بساحات معسكر التدريب. هذه الشمس القاسية، هي شمس النظام السابق، وهذا الغبار، هو غباره أيضاً. إنه خربة كبيرة وليس بلدا، أما أن يبدل جلد العراق ويسلخ سلخاً. بجدرانه وشوارعه وساحاته وألوانه وأشجاره، أو إنني سأبقى محكوماً برؤية صدام حسين في كل مكان. قلت لهذا الصديق: ولكن وجوهنا في المرآة.. ما زالت أيضاً تذكرنا بالنظام السابق. علينا -وفق هذا المنطق- أن نبدل وجوهنا، علينا أن نغير أنفسنا أيضاً؟!
سجناء الذاكرة
ربما كان الشيء الأسهل جراحة في الذاكرة، ولكن ذلك غير ممكن عملياً، إلا إذا غامرنا بفقدانها نهائياً.. عندها سنفقد البوصلة، ونكون سجناء من جديد ولكن لفقدان الذاكرة، وهذا ما لا يلائمنا في هذه المرحلة، المشكلة ليست في الصور الداكنة لمرحلة لم نغادرها إلا منذ وقت قصير. ليست في نيسان هذه الصور أو معاناة تذكرها. وإنما في قدرتنا على رؤية ذلك الخط الفاصل ما بين متحف الذاكرة وممكنات الحياة. في أن لا نجعل اللحظة القديمة تستولي على لحظتنا الجديدة وتفرغها من محتواها (الجديد). قدرتنا في أن نلجم الذاكرة ونقودها، لا أن نجعلها -بوعي منا أو بدونه- فارساً أزلياً فوق ظهورنا.


إضاءة.. مواطنون حقيقيون

                                                                             محمد درويش علي
ثمة أناس بإمكانك أن تطلق عليهم صفة مواطنين حقيقيين، في كل الأزمان، وتحت أية سياسة حكومية كانت. فهؤلاء لا هم لهم سوى خدمة الآخرين، من موقع المسؤولية التي يتبوأونها، حتى وإن كانت مسؤولية دنيا. الآخرون دائماً يحتاجون إلى خدمة المسؤول، والمسؤول دائماً مطلوب منه، وفرض عليه خدمة الآخرين.
أقول كلامي هذا وأنا أتذكر عدداً من المسؤولين في الوقت الراهن، والوقت الماضي. فهذا العدد من المسؤولين يأخذ على عاتقه الخدمة، والخدمة فحسب، يدفعه لها حبه لبلده، ويهمه إعلاء شأنه!
في هذا الظرف من حياة بلدنا نحتاج إلى مثل هؤلاء لتقديم خدماتهم إلى أبناء بلدهم. إزالة حجارة صغيرة من الطريق هي خدمة، تقديم نصح هو خدمة، فكيف إذا كانت هذه الخدمة هي فتح الطريق أمام مواطن ما ليسلكه، بعيداً عن مواقع الخلل والزلل.
فالشاب الذي يقف في تقاطع الطرقاتـ ويسهل عملية السير في حضور وغياب رجل المرور، هو درجة عالية من درجات الوفاء لهذا البلد العريق، ولناسه الطيبيين والمعلم الذي يأخذ بيد طلابه ويرشدهم إلى الكلمة الطيبة، هو رقي ما بعده رقي. ومدير الدائرة الذي يحرص على ممتلكاته كحرصه على ممتلكات بيته هو الآخر مثل السمو والشرف وهكذا.
نحن الآن بحاجة إلى مثل هؤلاء المواطنين الذين كلما التقيت بهم، قرأت في وجوههم خريطة العراق بمائه وشجره وجباله ونخيله!

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة