الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

جبار ياسين : العراقيون سيعيدون بناء برج بابل الثقافي

حاوره: موسى الخميسي

امام تلكؤ العديد من المثقفين العراقيين في بلدان المنفى التي صارت مهجراً لحظة سقوط النظام العراقي. تبرز فئة جديدة تنحدر من فئات وشرائح اجتماعية مختلفة، واعني (الانتلجنسيا الجديدة)، لتضع المنفى بمثابة محطة طوارئ من اجل العودة والعمل، ذاكرتها ومستقبلها يظل متصلاً بتلك البقعة العزيزة وهي الوطن، الذي وحده يعيطها التوازن مع النفس ومع الزمان والمكان، ترى في منفاها وان كان في سماء اخرى، فضاء آخر يمكن من خلاله اطلاق الصرخة للدخول في باحة الوطن الذي تتأصل فيه وتساهم في تدارك عثراته ورسم مستقبله.
هذه الفئة من مثقفي الخارج لم تعزل ديمقراطيتها عن ديمقراطية الشارع العراقي، وحرية الكلمة التي تنقشها في منفاها، ارتبطت اولاً واخيراً بأمان ونفس الشارع العراقي ، انها الآن تحاول ترحيل ذاتها وتجرباتها نحو الداخل بعد ان كبرت في منفاها الصعب، وكبر وعيها بالديمقراطية فهي تعي بأن صورة الثقافة العراقية اليوم من الداخل، ليست كما تبدو من الخارج، كل شيء بحاجة الى مراجعة وتعاون.
والكاتب جبار ياسين نموذج لهذه الفئة، غارق بما يمكن ان يطلق عليه بثقافة التعبئة واعلام الحرية الجديدة، لأنه يرفع شعار لا وجود للأنا في الخارج اذا لم يكن متضمناً الاخر في داخل الوطن، الذي هو المكان الذي يمنحنا الاصالة والامان والحرية بعد ان فتحت منافذ الرؤيا والتعبير وهو يطلق على نفسه صفة “المثقف المشارك” رديفاً لعبارة المثقف العضوي، التي بتعبيره لم يعد لها صدى فهو يريد نقل تجربة الديمقراطية الثقافية بعد صوغها عراقياً.
التقيناه خلال زيارته الاخيرة لايطاليا على ضوء دعوة من قبل منظمة البيرتو مورفيا الادبية في روما ومنظمة جسور ثقافية في مدينة البيرو بيلو بدأ حديثه حول الوضع العراقي قائلاً: صورة العراق اليوم؟ انها حلم اخشى ان يتحول الى كابوس، وعلينا ان نمنع تحوله الى كابوس بكل الوسائل المتاحة، انه ليس حلمي فقط لكنه حلم اكثر من عشرين مليون عراقي برغم الاوضاع السيئة التي يمر بها العراق الآن الا ان العراقيين اسياد مواقعهم. هناك مثل يوناني قديم يقول بأن القلاع تؤخذ من الداخل . الامريكيون استولوا على القلعة من الخارج، وكل عراقي، في سياق تاريخي، هو قلعة ثقافية، انا لا اعرف كيف ستنتهي الامور، الا اني اعرف تماماً بأن الشعوب هي التي ستربح معاركها على الدوام.
مبادراتنا كمثقفين عراقيين نعيش في المهجر، هي مبادرات فردية نحاول اشراك اكبر عدد ممكن من المثقفين العراقيين في الداخل، فنحن بحاجة الى اخراجهم ليروا ما يحدث في العالم وليحققوا تواصلاً مطلوباً مع الآخرين، لنا عدة نشاطات ثقافية في اكثر من بلد اوربي، بعد هذا النشاط الذي قمنا به في ايطاليا، ستكون خطوتنا القادمة في باريس ثم في برلين يوم الثامن عشر من الشهر الجاري، إذ تم بالتنسيق مع وزارة الثقافة العراقية وسوف يحضر السيد مفيد الجزائري وزير الثقافة العراقي اجتماعات هذا اللقاء، كما مهدنا لجملة لقاءات مع المسؤولين الالمان في المجال الثقافي كوزير الثقافة ومدير المتحف الوطني ومدير المكتبة الوطنية ومدير دار الاوبرا. لقد دعوت في اكثر من مرة الى تنسيق بين مبادراتنا الفردية ومؤسسات الثقافة العراقية في الداخل. اشعر بالسعادة لتنامي ظاهرة التعاون والتنسيق، واعتقد ان الفترة القريبة القادمة ستشهد مؤتمراً يضم جميع النشطاء. نحن اربعة ملايين منفي يعيشون خارج العراق، هم خلاصة هذا المجتمع، اعتقد ان الظروف الامنية الصعبة حالت دون عودة الكثير منا وبشكل نهائي، لكن لنا مسؤولية ودور في عملية مساعدة شعبنا. اعتقد انه من المهمات الاخلاقية، القيام بجهد تنسيقي يسير بهذا الاتجاه ، فالزمن يمر سريعاً وكل يوم له اهمية لأن ما يحدث في العراق في الوقت الراهن هو حاسم، وسيضعنا هذا الوضع امام مسؤولية كبيرة مع الاجيال القادمة، هل سنبني ثقافة حقيقية، ثقافة علمانية منفتحة على الآخر ومبنية على مفهوم التسامح ومشاركة الجميع؟، ام اننا سنلخف مجتمعاً جديداً لكنه منغلق على نفسه ونخسر الفرصة التي وفرها لنا التاريخ .
لدينا طريقان، الاول الانغلاق على انفسنا والعودة الى حقبة من التاريخ لا تصلح للزمان الحاضر، ولدينا امكانية ان نعيد بناء برج بابل، انا متأكد من خلال الرغبة العراقية المتواجدة بأننا نستطيع بناء برج بابل ثقافياً، هذه العقول وهذه الالسن العراقية الموجودة في كل مكان، حينما تعود الى العراق لم تبلبل عقول الآخرين، كما هو شائع عن اسطورة هذا البرج، انما ستجمع العالم في العراق، فنحن موزعون على منافي لا عد لها وبلغات متعددة، وحين يعود هؤلاء الى العراق سيشاركون في عملية بناء الثقافة العراقية الجديدة، ستستطيع خلق هزة ثقافية في الشرق الاوسط، انا مؤمن ان هناك ارادة للعراقيين قوية في اتجاه خلق ثقافة في الشرق الاوسط . انا مؤمن ان هناك ارادة للعراقيين قوية في اتجاه خلق ثقافة منفتحة، بإتجاه تاريخ جديد منفتح. العراقيون يحملون قناعة بأن التاريخ لا يمنح فرصتين واكاد اقول بأنها تكاد تكون النهائية في هذا القرن لكي نعيد بناء ما حلمنا به.
العراق بحاجة الى كل جهودنا جميعاً للبناء الحديث، انه يعيش سنة صفر في تاريخه الحديث وبالتالي لكل جهد مكانه ولكل حجر اهميته الكبيرة التي ستعكس نفسها على الصعيد الروحي والمادي. بعد تاريخ طويل من سجل العنف الذي اصطفاه نظام صدام حسين وانتقاه ليتحول الى دين بعدة مذاهب، يتحتم الغاء ثقافة العنف في العراق، التي تتطلب عملية تأهيل ثقافي جديد للمجتمع، لدينا الكثير من العقبات داخل المجتمع، تفشي الامية من جديد، تفشي ظواهر غير مدنية وغير حضارية، عملية التأهيل ستساهم بالتأكيد في خلق انسان متحضر مسالم يؤمن بالمبادئ الاساسية، للمجتمع المدني في التسامح والاعتراف بالآخر، وانفتاح على الثقافات الاخرى ، اضافة الى معرفة التاريخ العراقي والانتماء اليه بكل لحظاته المشرقة والمعتمة.
الهوية العراقية تعرضت الى هزات عنيفة في العهود الماضية وهذه الهوية يجب ان تستعاد على اسس سليمة لا تحمل التشوهات الماضية التي فرضها النظام السابق. فالعراق يحمل هذا الكم الكبير من التنوع في الاجناس والثقافات والاديان وهي مسألة جوهرية في مسألة اعادة الفرد العراقي وابعاده عن العتمة وطاحونة القمع والخوف.
حاولت عرض فكرة اساسية من خلال لقاءاتي بالاوساط الثقافية الفرنسية والايطالية، بأن العراق على الرغم من كونه بلد غير متوسطي جغرافياً، لكنه ثقافياً ينتمي الى ثقافة المتوسط، كونه احد الروافد الاساسية في ثقافة المتوسط على صعيد الاسطورة والدين وعلم الفلك والتنجيم والجبر والرياضيات والمعمار.. الخ اضافة الى حضارته العربية الاسلامية اللاحقة وتأثيراتها على حضارة وثقافة المتوسط، اللقاءات التي كان يفترض حضور عدد من المثقفين العراقيين بالداخل والمشاركة فيها، هي عرض الواقع الثقافي العراقي، عملية بناء واقع الثقافي العراقي في المرحلة الحالية بعد التغيير الذي حصل في السنة الماضية، والنظر بإمكانية مساهمة الايطاليين في المساعدة بعملية البناء الثقافي، على الاقل على صعيد غير رسمي، واقصد على صعيد المنظمات والمؤسسات وبلديات المدن. استطعنا التمهيد لعدد من المشاريع، تم الاتفاق مع احدى دور النشر بطبع كتابين اولهما عن الشعر العراقي المعاصر وآخر سيكون مختارات عن القصة العراقية المعاصرة، اضافة الى اتفاقات مع اكثر من بلدية مدينة وجامعة على امكانية تبادل ثقافي واستقدام مجموعات من الطلبة العراقيين للتدرب على جملة امور منها التدرب على ادارة المكتبات والسياحة ان عملية اعادة التأهيل الثقافي في العراق تستدعي بناء كادر يكون قادراً على تأهيل الكوادر العراقية، بمعارف حديثة.
نحن مطالبون بكشف الصورة الحقيقية لما يدور داخل العراق وتفنيد ما يسمى بالمقاومة التي هي في الحقيقة، ولحد اليوم، ليست الا اعمالاً ارهابية يقوم بها امراء التكفير الارهابيين، امراء الظلام، الطامحين الى تشكيل بدائل للدكتاتوريات السابقة، هل هي فعلاً مقاومة ضمن برنامج نبيل تمهد لبناء بلد ديمقراطي ام انها تستهدف بمجازرها الرجال والنساء والاطفال الابرياء؟
العراقيون امام تحد كبير، يطمحون للديمقراطية ويطمحون لبناء دولة علمانية ويطمحون الى دولة القانون واقامة المجتمع المدني.


ملامح من خطاب ثقافي لمواجهة ما بعد الفاشية : تاريخ ثورة 14 تموز 1958


لقد مثل التزييف البعثي لوقائع وعوامل هذه الثورة ولقيادتها ومنجزاتها مثلاً غاية في السوء ووقاحة الاجتراء على الحقيقة التاريخية. وما ذلك الا بعض تجليات احتقار البعث العفلقي للعقل وللانسان العراقي بخاصة اذ ما زال جيل تلك الثورة حياً بأغلبه وهو يتحرق غيضاً إذ يرى تلك الاساءة المتوالية لذاكرتهم بل الغائها!
مع ان المنطق العلمي ومتطلبات البحث يفرضان علينا ان نفتح ملف الرؤية البعثية للتاريخ وتدوينه عبر مراحله كافة، لكننا نرى الوقوف عند خطيئة خطايا الفاشية العفلقية في تعاملها مع التاريخ التي مثلتها رؤيتها لثورة 14 تموز وقيادتها ومنجزاتها .. لندرج منها الى خطيئتها الممتدة الى قراءة تاريخ الحركة الوطنية العراقية، بل والعربية، كلها.
يمكننا القول هنا بأن تشويه الرعاية البعثية لثورة 14 تموز قيادة ومساهمين .. انجازاً ومنجزين استمراراً لمعاداتها للحركة الوطنية العراقية بفضائلها الاساسية تحت ذرائع شتى. ولذا فإن هتك الاضاليل المعادية لثورة العراق الكبرى نوع من الدفاع عن الحركة الوطنية وانجازها الاكبر بتأسيس الجمهورية العراقية ولا بد من ذلك كجزء من تحرير الجيل الشاب من تلك الاضاليل. بل ان وضع المنجزات الاقتصادية لثورة 14 تموز بين يدي هذا الجيل الشاب يمثل هتكاً لمخازي الحقبة العفلقية:
- مشاريع الاسكان الواسعة التي انجزتها الثورة الشهيدة .. تفضح تقصير البعثيين في هذا المجال وانحيازهم لإسكان الطبقة الحاكمة والمستغلين في احياء راقية وتمكينهم من تجارة العقارات.
- قانون الاصلاح الزراعي القاسمي، يفضح التراجع عنه تحت واجهة القانون 1985/35 الذي اعاد الاقطاع وحصره بالمتنفذين من رجال ونساء النظام العفلقي.
- الاستقلال السياسي الناجز الذي حققه قائد ثورة تموز يفضح المسار الصدامي الذي يفرط بالسيادة الوطنية العراقية حتى اسقاط الوطن في فك الاحتلال.
- نزاهة قائد تموز عبد الكريم قاسم كنقيض لتطاول صدام واسرته المشبوهة على كل ثروات العراق وتحويلها ملكية خاصة بها! وتواضع عبد الكريم قاسم كنقيض لغطرسة صدام.. وسماحته بل وحلمه عن خصومه في مواجهة دموية البعثيين وصدام شخصياً.
- الوزن الرصين لثقافة وخبرة وزراء ثورة تموز ونقاء تاريخهم السياسي او اغلبهم، في مواجة امية ولصوصية الحلقة العاملة مع صدام فضلاً عن اجرامهم وتهالكهم على ارضاء سيدهم ولي نعمتهم.
- محاكمة خصوم ثورة 14 تموز ورجال العهد الملكي وما اتيح من حرية الدفاع عن انفسهم في مواجهة مبدأ الاعدام بل والاخفاء تحت التعذيب حتى الموت لكل مخالف لسلطة البعث.
من هذه المؤشرات وهي مجرد امثلة لما يسمح به فتح ملف ثورة 14 تموز نرى ان مطاردة الزيف البعثي المتعلق بدراستها سيكون احدى وسائلنا لكشف فضائح الحقبة العفلقية على اكثر من صعيد واحدى وسائلنا العملية لإسقاط ثقافة مصادرة الحقيقية .. مصادرة الحرية.
وسيقودنا فتح ملف ثورة 14 تموز طبيعياً الى ملفات النضال العراقي الذي توج بتلك الثورة لنرى كم جنى البعثيون على تاريخنا ورموزه! ولنفتح باباً على جنايتهم على الحقيقة وبالتالي على ما يلحقه ذلك من تشويه للنفوس المأسورة تحت شبكة من الاكاذيب والزيف. لقد ادى الاضطهاد الدموي المستمر وملاحقة الفكر الدائمة حتى على مستوى الظن الى تدمير النفس اوتشويهها بالنسبة لكثير من العراقيين فإنتشرت روح الاستسلام او السلبية ازاء الاحداث بعد ان كانت الروح العراقية متوثبة متوهجة. وازدهرت اخلاقيات المنفعة بعد تدمير اخلاقيات الايثار والتضحية المبدأية .. فتحولت السياسة الى نفاق سياسي والسياسيون الى طبّالين منافقين او وشاة كتبة تقارير!!
على ان ذلك الخراب الذي حول السياسة والساسة الى مسوخ والمبادئ الى منافع لم يتم دون تخريب النظام التعليمي الذي بات يفخر بتحريض الابن على ابيه مع تخريب متعمد للبيئة المدرسية بناءاً واثاثاً ومستلزمات!! ولذا فإن السعي لبناء ثقافة جديدة متحررة من الخوف والتخويف لا بد ان يتكامل مع تغيير عميق في النظام التعليمي وبذر المفاهيم الجديدة في الجو المدرسي .. كتاباً ومعلمين، وهذا وحده يستحق دراسة قائمة بذاتها غير اننا لن نكون منصفين ولا حتى مجرد مستوفين للموضوع منهجياً ما لم ندعُ الى تكامل الثقافة مع التربية والتعليم! اجل، فلقد انحطت مدارسنا الى العجز عن تحبيب الكتاب لتلاميذها فضلاً عن عجز كثير من (خريجيها) عن القراءة الصحيحة والكتابة الصحيحة مما سهّل للطاغية واتباعه ان يمروا جرائمهم عبر الصمت والمداهنة واللامبالاة بمصير الوطن وشعبه !!
هذه مجرد رؤوس اقلام تفتح ملفات الثقافة الجديدة لزمن ما بعد الفاشية او الملفات الساخنة منها بكلمة ادق لتاسيس بداية صحيحة لا بد ان تكتمل مع السعي لتجديد المؤسسات الثقافية بعد تطهيرها من ادران الفاشية والظلام الاستبدادي اذ لا شك ان المؤسسات التي تنكرت بزي الثقافة كانت القطار الذي حمل سموم المصادرات وسياط الاضطهاد وداس تحت عجلاتة النفس والعقول .. ولكن للمؤسسات حديث آخر.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة