الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الثقافة العراقية وتصحيح المسارات

مهدي النجار

ربما سنرتكب زلات فنتازية إذا جلسنا مع السياسي العراقي المعاصر، المتدين أو الليبرالي العلماني على السواء، المشغول في هموم تنظيمه بل في هموم الناس التي تفاقمت في هذه المناخات المتشابكة، الغامضة، العسيرة، وسألناه من وجهة نظر ثقافية: هل نحن رفضنا ثقافة النظام الدكتاتوري السابق أم رفضنا الدكتاتور نفسه وماذا بعد الدكتاتور؟! في الحقيقة نحن ندين في عرض مثل هذا السؤال لحوارية ساخنة بين الباحث العراقي الأستاذ سرمد الطائي وأحد زعماء بعض الأحزاب (مجلة الوعي المعاصر ع12 بيروت 2003) يقول فيها: (كنت أتحدث مع زعيم بعض الأحزاب العراقية قبل بضعة أشهر حول حرية التعبير عن الرأي، ولم استغرب حين قال: إننا مسؤولون شرعياً عن الجام كل الأفواه التي تنطق بما لا ينسجم مع أيديولوجيتنا. قلت له: إذن فأنت لا تعترض على سياسية الصوت الواحد التي اعتمدها نظام صدام، بل تعترض على لون الايديولوجيا التي يتبناها صدام وحسب. فقال نعم، ولكن صدام مع الباطل ونحن مع الحق! ........هذا الرجل موجود في العراق يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في المؤسسات (الدستورية) الموعودة!) نترك هذه الحوارية التي يقشعر لها العقل ونعود إلى سؤالنا الثقافي وسنعتبر إن السياسي الذي نحاوره أكثر ثقافة من ذلك السياسي الإجباري كما ورد في الحوارية ونتكهن بأن جواب سيكون كالآتي: إننا رفضناهما معاً ثقافة النظام ورأس النظام وهذا الجواب ينبغي أن يؤسس لثقافة جديدة لا ترجح أنتظار زعيم آخر جديد فيه مواصفات (البطل الأسطوري) وهو يأتي على فرس أبيض ليحقق يوتيبيا طفولية نلهث وراءها لنجدد له الولاء المطلق والحب الخاشع والبيعة السرمدية بمعنى أن الثقافة الجديدة تتطلب تخريب النظم المعرفية وشبكات المفاهيم المنصرمة وإلغاءها لا التسوية معها أو استثمارها بشكل آخر خال من الطقوس الدكتاتورية، تلك الشبكات والنظم التي ألغت بجدارة فاعلية العقل وأوجدت الفاشية بلا تردد كحل أفضل فهي، كما يشير عبد الكريم سروش (قضايا أسلامية معاصرة ع 26 سنة 2004) لا تشتري العقل حتى بفلس أحمر. والأنكى من ذلك إنها لم تضح بالعقل والعلم من أجل الحب، بل من أجل الكراهية. وهذا أسوأ مسلخ يؤخذ اليه العقل ليقطعوا رأسه ويسلخوا جلده. إن هذه الثقافة إلا كراهية والاستبدادية:

أولاً: شملت كل عالمنا العربي والإسلامي بلا استثناء وإن تحسنت في بعض الاصقاع شكلياً إلا أنها تفاقمت وبشكل مفزع من أطرافها الأكثر خطورة حيث كنا نمني أنفسنا في الجمهوريات (التقدمية) بحكاية الانتخابات وإذا بها تبدع صيغة تنظيمية مهجنة تظهر للمرة الأولى في الاجتماع السياسي العالمي أسمها: (الانتخابات الوراثية) فكل زعيم يضع تحت أبطه ولده البار ليستخلفه (انتخابياً) من أجل سوق الرعية إلى الغد المشرق والمستقبل السعيد لأن ما حصل في زمن الأب القائد من انتكاسات وارتكاسات ونكبات واختناقات كانت بسبب المؤامرات التي تحيكها الصهيونية وتغذيها الإمبريالية ويدبرها الخونة والعملاء، هذه الشماعة الوحيدة التي اهترأت وأثقلتها معاطف تبرير الفشل السياسي. ولا تقتصر هذه الثقافة الاكراهية الاستبدادية على مستوى زعامة السلطة فحسب إنما تصدر عبر قنوات عديدة إلى المدرسة والحزب والنقابة والاتحاد والصحافة.. الخ لتهضم وتمارس على نطاق واسع كأنها حقيقة وحق.

ثانياً: والآن نعود لأصل سؤالنا الذي طرحناه آنفاً على السياسي العراقي: وماذا بعد الدكتاتورية؟ من الصعب توقع السنوات التي سيمكثها أي (زعيم) جديد في رأس السلطة، إذا قدر وحظي بها، بعد أن تمرن جيداً على طريقة المكوث على رأس حزبه أو منظمته أقل أو أكثر من ربع قرن مثلاً من خلال ثقافة الحب اللا محدود والولاء المطلق، ألا نتخوف من أن ينتقل هذا التقليد (الدكتاتوري) إلى سلطة الدولة الدستورية حال ترشيحه أو فوزه بالانتخابات؟! حبذا لو أدخلت الأحزاب السياسية والتنظيمات الدينية، والاجتماعية في أنظمتها الداخلية فقرة نراها واحدة من الأعمدة المهمة في الثقافة الديمقراطية وهى الوسيلة الضامنة لرفع الشعب إلى مرتبة المشاركة في صنع القرار أن لا ينتخب رئيسها أكثر من دروتين متتاليتين ولا تزيد الدورة الواحدة عن (4-6) سنوات ولا يحق له الترشيح إلا في دورة منفصلة عن تلك الدورتين وإذا لم ينتخب يظل مستشاراً مرموقاً في الحزب أو التنظيم ويمارس هواياته المفضلة خارج القيادة.

ثالثاً: حين نتصفح بطون التاريخ نجد أن هذه الظاهرة (الدكتاتورية) منسجمة تماماً مع تاريخنا السياسي ومبررة ومستساغة في الاجتماع العراقي كأن يستحيل علينا تصور (رعية) بدون (راعًٍ) مطلق، هي هذه العلاقة الصعبة التي يصح أن نطلق عليها المعادلة (الرعوية) تسكن في قلب وعقل ثقافتنا الوطنية بل في الاجتماع العربي الاسلامي عموماً أما الثقافة البديلة، ثقافة العقل والاعتدال والحوار وتداول السلطة بالانتخابات، الثقافة الديمقراطية فهي تبدو ثقافة بدع وثقافة نظم أجنبية (كافرة) طارئة ودخيلة على تقاليدنا وأعرافنا، ثقافة ليس من السهل إحلالها في ليلة وضحاها في نسيج الثقافة الرعوية (الراعي - الرعية) ثقافة العصا لمن عصى.

إن العراق ينتمي إلى واحدة من أعرق حضارات العالم القديم، وهي حضارة وادي الرافدين كما ينتمي إلى محيط آسيوي عرف غالبية الحضارات العظمى في التاريخ: والحضارات (الدينية) الكبرى من اليهودية إلى المسيحية إلى الأسلام ولم تكن علاقة العراق بغيره من الحضارات هامشية بل علاقة صميمة تتبادل التأثير والتأثر، ويؤدي التفاعل الجدلي إلى مركب جديد، من هذا نحن لسنا آيسين من أن تصحح مسارات ثقافتنا الوطنية باتجاه الثقافة الديمقراطية والتي معناها أولاً وأخيراً امتلاك (حقوق الإنسان) وعكسها بين المجتمع والقيم والعقائد، إن الثقافة الديمقراطية رافعتنا الحضارية وليست مجرد استبدالات بأسماء السلطة أو زعمائها بل هي أعادة ترتيب ثقافة يصبح فيها المجتمع والسلطة في نسق يسمح للتطور بالانطلاق ونموذجاً يوقظ الاجتماع العربي الأسلامي من سحر ثقافة الرئيس الملهم أو الملك المفدى أو القائد الضرورة أو الزعيم الاوحد أو المستبد العادل وبهذه الرافعة نندفع إلى مقدمة المشهد الدولي المعاصر بمؤسسات مدينة عصرية تنتخب رئيسها عبر صناديق اقتراع (رقراقة) وتنحيه عبر التصويت ليترك واجبه القيادي ويعيش بين الناس كأي واحد منهم لا ينظرون اليه بريبة من لطخ نفسه بالدم وأغرقها بالفساد من رأسه حتى أخمص قدميه وبهذا المسار الثقافي نتخلص نهائياً من منطق عدوانيات النقد المتبادل ومنطق مصادرة والغاء ولجم آراء وأفواه الآخرين ومن أي ضرب من ضروب القسوة والحقد التاريخي أو مركب النقص الحضاري.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة