الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

العمران الديمقراطي في العراق الدولة الشرعية - البحث عن الأوزان الداخلية

ميثم الجنابي

 

إن الأساس الضروري للعمران الشامل في العراق يفترض أولا وقبل كل شيء تحديد ماهية الدولة الشرعية أو الدولة البديلة. فهي المقدمة الضرورية والضمانة الفعلية لطبيعة ومجرى التطور اللاحق. وعليها يتوقف بصورة حاسمة مضمون وآفاق ووتائر التقدم المنشود في العراق. لاسيما أنها المعضلة الجوهرية لتاريخه المعاصر، وأسّ أزمته البنيوية الشاملة.

إن ظهور الدولة العراقية (الجديدة) في عشرينيات القرن العشرين لم يكن فعلا أصيلا وتلقائيا، من هنا كثرة عقدها المتناثرة فيما يسمى بفسيفساء مكوناته القومية والطائفية والدينية. وهي فسيفساء لا قيمة لها ولا وزن بالنسبة لتاريخ العراق ككل. وذلك لأنها كانت ولا تزال النتاج الملازم لانحطاطه التاريخي الطويل بعد سقوط بغداد في القرن الثالث عشر وما تبعه بعد ذلك من مرحلة (القرون المظلمة)، أي كل ما أعطى لعناصر التخلف قوتها الخاصة في ظل السيطرة البريطانية والحكم الملكي.

فقد كان الانتداب البريطاني والحكم الملكي النتاج المركب للضعف البنيوي الهائل للعراق عند مشارف الربع الأول من القرن العشرين. وهو واقع وجد انعكاسه في شكل ومضمون الدولة العراقية الحديثة، باعتبارها دولة بلا نموذج. من هنا نهايتها الفاجعة عام 1958 واستمرارها الأكثر تخريبا بعد ذلك في سلسلة (الجمهوريات) التي انتهت بصورة مخزية عام 2003. بعبارة أخرى، إن معاناة القرن العشرين وويلاته القاسية في مختلف الميادين لم تترك غير رواسب لا قيمة لها بالنسبة لبناء الدولة العصرية. بمعنى أن العراق قد عاش قرنا من الزمن بلا تاريخ، أي بلا تراكم حقيقي بالنسبة لبنية الدولة. وهو واقع يشير إلى فقدان الزمن الحديث للعراق من مضمونه التاريخي. وهو الأمر الذي جعل من (تجاربه) السياسية المتنوعة في بناء الدولة أفعالاً لا قيمة لها. لأنها (تجارب) كانت تنسخ وتمسخ حقيقة الدولة العصرية. مما يعطي لنا إمكانية القول، ان العراق لم يعش بعد منذ ظهوره الأخير في القرن العشرين، حقيقة الدولة ومؤسساتها.

وإذا كانت الأحداث التي رافقت سقوط الدكتاتورية الصدامية قد أغلقت فصلا كاملا  من تجارب الجمهوريات، كما سبق وان أغلقت الجمهورية قبل ذلك فصل الملكية، فان المهمة الآن تقوم في تجاوز تجارب الملكية والجمهوريات، باعتبارها تجارب فاشلة ولا قيمة لها بالنسبة لبناء مؤسسات الدولة العصرية. وهي حقيقة تضع أمامنا السؤال الجوهري المتعلق بآفاق وكيفية بناء الدولة العراقية.

فإذا كانت الملكية والجمهوريات الأربع السابقة كيانات بلا مؤسسات دولتية، وزمناً بلا تاريخ، وتجارب هي اقرب إلى رواسب لا قيمة لها بالنسبة لوعي الذات القومي والثقافي، فان البديل الواقعي والعقلاني يفترض نفيها الشامل. ولا يحتوي هذا الموقف على نظرة عدمية أو تأسيس جديد للذهنية الراديكالية. على العكس! إذ أن التمعن الدقيق والعميق بتجارب العراق المعاصر في بناء الدولة تبرهن على ضرورة وضع حد للخروج على تاريخ بناء الدولة في العراق منذ ظهوره الجديد في القرن العشرين. بعبارة أخرى، إن المهمة تقوم في وضع أسس جديدة لتاريخ فعلي للدولة العراقية العصرية. وهي أسس ينبغي أن تنطلق من مهمة التحرر من تراث الملكية والجمهوريات الأربع السابقة. والشروع في بناء الدولة الشرعية. ذلك يعني إن الجدل لا ينبغي أن يدور حول الملكية والجمهورية والنظام الرئاسي والبرلماني وما شابه ذلك، بل حول كيفية بناء الدولة الشرعية ومؤسساتها العاملة من اجل ترسيخ  قواعد النظام الديمقراطي وأسس المجتمع المدني. وبالتالي، فإن المهمة الكبرى التي تقف أمامنا بهذا الصدد هي العمل من اجل وضع مقدمات تاريخ الدولة الحديثة بشكل عام وتاريخ الدولة العراقية الحديثة بشكل خاص. بمعنى التفكير في وضع أسس المشروع الجديد للدولة.

فمن الناحية النظرية والعلمية لا يمكن لأي مشروع أن يتجرد من الواقع وتاريخ الإشكاليات القائمة فيه. وهي حقيقة تنطبق على واقع العراق وتاريخ إشكالياته المختلفة. الا أن تاريخ العراق في مجال الدولة لا تاريخ حقيقي فيه. إذ انه يخلو من فكرة التراكم في مكوناتها الشرعية والحقوقية والديمقراطية. بينما أدت سياسة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية إلى سحق كل البراعم الأولية في مؤسساتها. وأصبحت (دولة بلا مؤسسات) أي مجرد جغرافية هشة يحرسها (حرس جمهوري) و(قوات خاصة) و(فدائيين) و(شرطة سرية) وما شابه ذلك من أدوات قمعية، سرعان ما انحلت وتلاشت كما لو انها لم تكن. وهي حقيقة اكثر مما هي واقع. مما يفترض بدوره الانطلاق من واقعية البناء العقلاني للدولة. وذلك لأننا لا نقف أمام قضية فكرية جدلية، بل أمام واقع بناء تاريخ للدولة الحديثة في العراق. وهي مهمة ليست صعبة جدا، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تاريخ العراق المعاصر لا معاصرة فيه بالمعنى الدقيق للكلمة.

إن التعقيد الأكبر في بناء الدولة الحقيقية في العراق يقوم في كيفية التوليف بين بناء الدولة الشرعية ومعاصرة المستقبل فيها. وهي مهمة يمكن إنجازها من خلال مشروع (البحث عن الأوزان الداخلية للدولة الشرعية في العراق). وليس المقصود بالأوزان الداخلية بشكل عام سوى التأسيس الواقعي لفكرة الاعتدال العقلاني في مشروع بناء الدولة الحديثة في ظروف العراق الملموسة وخصوصيته الذاتية. وذلك لأننا نقف أمام تركة هائلة من الخراب المادي والمعنوي لفكرة الدولة الشرعية وفكرة المؤسسات الضرورية لآلية فعلها المستقل. فمن الناحية الواقعية لم يكن الضعف البنيوي في هذا الميدان سوى النتيجة الحتمية للخلل التاريخي في الأوزان الداخلية للدولة العراقية المعاصرة. وهو خلل ميز مكوناتها الأساسية المتعلقة بفصل السلطات والدستور الثابت وسيادة القانون والنظام الديمقراطي واستقلالية المجتمع المدني وتحكمه بإدارة شؤون الدولة. وهو خلل دفعه الصعود الراديكالي للقوى الهامشية إلى الحضيض.

بينما يفترض التأسيس العقلاني لهذه الأوزان تحقيق فكرة الاعتدال بوصفها منظومة في جميع مكونات الدولة العصرية في العراق. إذ ليست فكرة الأوزان في الواقع سوى فكرة الاعتدال. وبالتالي، فإن البديل الواقعي والعقلاني لهذا التاريخ يفترض إرساء منظومة بديلة جديدة هي منظومة الاعتدال الديناميكي، أي منظومة الأوزان الداخلية. وهي منظومة ينبغي تأسيسها استنادا إلى ظروف العراق الحالية وخصوصيته الذاتية.

إن الخصوصية الذاتية للعراق بهذا الصدد تقوم في كونه منظومة تاريخية ثقافية سياسية وجدت تعبيرها المتجانس في الهوية العراقية بوصفها هوية ثقافية وليست تجمع أعراق، أي انها هوية ثقافية وليست عرقية أو طائفية. وهي هوية تحتوي من حيث الجوهر على النماذج المتجانسة لفكرة الاعتدال، أي لأوزانه الداخلية. فهي الإطار الذي يضمن للعراق إمكانية العمل الموحد انطلاقا من أن الأبعاد المتنوعة فيه لا ينبغي أن تتعارض مع فكرة الهوية العراقية. ومن ثم فان كل الخلافات الممكنة فيه ينبغي أن تخدم ديناميكية تكامله الداخلي من اجل تجاوز الخلل البنيوي المشار إليه في تاريخ وآلية الدولة العراقية الحديثة.

 فقد كونت هذه الأوزان العراق، ومن ثم فهي قدره ومقداره في الوجود التاريخي. أما الإخلال بها فانه يؤدي بالضرورة إلى الخراب والاندثار. وفيما يتعلق بفكرة الدولة العصرية البديلة، فهو الميدان الذي لا بديل فيه لغير الدولة الشرعية. انها الخيار الأكبر والمسار الأوسع لتنوع الاحتمالات الواقعية والعقلانية للبناء الدولتي. إذ ليست الدولة الشرعية البديلة كيانا جاهزا أو نموذجا معداً مسبقا للبناء، بل فكرة ينبغي أن تحتوي على حقيقة الدولة وشرعيتها الدائمة.

وهي فكرة تفترض في ظروف العراق الحالية تأسيس منظومتها على ثلاثة مبادئ ملزمة. الأول منها هو ضرورة تمثل الدولة لتاريخها الكلي، والثاني هو ضرورة تجسيد حقائق تاريخها الكلي، والثالث هو تكاملها التلقائي من وحدة أوزانها الضرورية.

والمقصود بتمثل التاريخ الكلي للدولة في العراق، هو تمّثل فكرتين أساسيتين فيه. الأولى، انه تاريخ واحد وموحد، والثانية انه تاريخ أقوامه وشعوبه جميعا. ومن هاتين الفكرتين ينبغي صياغة المبدأ العام القائل بضرورة تحويل تمّثل التاريخ الكلي للدولة إلى عنصر جوهري في تربية فكرة الدولة الشرعية وتاريخها الحقيقي في الوعي الاجتماعي والوطني والقومي.

والمقصود بضرورة تجسيد الدولة لحقائق تاريخها الكلي في العراق، هو تجسيد خمس حقائق كبرى فيه. الأولى، هي حقيقة الوحدة التي لا تقبل التجزئة في تاريخه. والثانية، إن العراق وحدة لا تقبل التجزئة الثقافية والجغرافية (بوصفه بلاد الرافدين). والثالثة، إن الهوية العراقية هي هوية تاريخية ثقافية وليس عرقية أو طائفية. والرابعة، إن مضمون هويته الوطنية هو توليف لمكوناته الرافدية والعربية والإسلامية. والخامسة، إن العراق هو مسرح وجود وعيش الأقوام، ومن ثم فان الانتشار الجغرافي على أراضيه من جانب أي كان هو مجرد تمثيل لدور جزئي على أراضيه. ومن هذه الحقائق الخمس ينبغي صياغة المبدأ العام القائل، بأن قيمة الدور الذي تلعبه هذه القوة أو تلك فيه، تتوقف على مدى قدرته توليف ما أسميته بتمثل التاريخ الكلي للعراق وتجسيد حقائقه الكلية في عملية البناء الذاتي للدولة الشرعية العصرية.

أما التكامل التلقائي للدولة الشرعية العراقية من وحدة أوزانها الداخلية، فيفترض تحقيق ثمانية مرتكزات عامة وهي:

*أن تكون حركة البناء تلقائية المبدأ والغاية.

*أن يكون منطلقها ومستندها في التخطيط والرؤية حقائق الهوية الوطنية العراقية (الاستعراق).

*أن يجري بناء الدولة على أساس الهوية الثقافية القومية وليس العرقية.

*إن الدولة البديلة هي الدولة الشرعية، أي الدولة التي تبني مرتكزاتها المادية والروحية حسب قواعد القانون ومتطلباته.

إن هذه المرتكزات هي الصيغة العملية والمرحلية لحقيقة الأوزان الداخلية. وهي ثمانية تتضمن توازن السلطة والمجتمع، وتوازن الحرية والنظام، وتوازن الاقتصاد والعلم، وتوازن التربية والتعليم، وتوازن الثقافة والإبداع، وتوازن الصحة والرياضة، وتوازن التقاليد والمعاصرة، وتوازن الوطني والقومي والعالمي.

*إن هذه الأوزان العملية ثابتة في أبعادها الاستراتيجية.

*إن هذه الأوزان العملية متغيرة في أبعادها المرحلية من حيث الأولية والنسبة في مكوناتها.

*إن هذه الأوزان منظومة مترابطة ومتكاملة.

وسوف أتناول هنا فقط المرتكز الخامس باعتباره محور البديل الفعلي للدولة الشرعية في ظروف العراق الحالية. إذ فيه يمكن اختبار الصيغة العملية لحقيقة الأوزان الداخلية للدولة الشرعية البديلة، ومن ثم تحقيق تكامله الذاتي باعتبارها الغاية الكبرى من مهمة (العمران الديمقراطي) في العراق.

فمن الناحية الاستراتيجية سيبقى العراق لعقود عديدة بحاجة إلى ثبات نسبي في ترتيب أولوية المرتكزات والأوزان الداخلية، وذلك لحاجته الماسة إلى الاستقرار في بناء مؤسسات الدولة من جهة، ومن اجل إضعاف الذهنية الراديكالية ونفسيتها الاجتماعية من جهة أخرى. وبالتالي فان التوازنات الثمانية المشار إليها أعلاه هي أوزان بناء الاستقرار والتكامل المتجانس للدولة الشرعية، وبالتالي للنظام الديمقراطي والمجتمع المدني وثقافته الحرة. 

أما نموذجها العملي وترتيب أولوياتها، فإن الصيغة المثلى لها في ظروف العراق الحالية هي كالتالي:

أولا: توازن السلطة والمجتمع

 ثانيا: توازن التربية والتعليم.

ثالثا: توازن الصحة والرياضة

رابعا: توازن الاقتصاد والعلم

خامسا: توازن الثقافة والإبداع

سادسا: توازن الحرية والنظام

سابعا: توازن التقاليد والمعاصرة

ثامنا: توازن الوطنية (العراقية) والقومية (العربية والقوميات الأخرى) والإسلامي والعالمي.

وهو ترتيب للأولويات يأخذ بنظر الاعتبار كلاً من مستوى وحجم الخراب الذي أحدثته التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية في العراق من جهة، والبديل الواقعي والعقلاني للعمران الديمقراطي الشامل من جهة أخرى. وهو المقصود بالطابع المتغير للأبعاد المرحلية في الأوزان ونسبها الداخلية. بمعنى انه ليس فقط ترتيب للأولويات، بل ترتيب للنسبة التي ينبغي أن يأخذها كل (توازن) من جانب السلطة والخزينة (المالية) واهتمام القوى السياسية والاجتماعية في النظرية والتطبيق.

أولا: توازن السلطة والمجتمع.  وهي علاقة ينبغي أن يشكل التوازن فيها، أو الاعتدال العقلاني أسّ البديل الشرعي للدولة. إذ عليها يتوقف من الناحية العملية المسار اللاحق لتحقيق التوازنات الضرورية الأخرى. وفي ظروف العراق الحالية ينبغي أن يتوجه الاهتمام السياسي في بناء هذا التوازن على فكرة الشرعية. فهي الأكثر جوهرية بالنسبة للاستقرار والازدهار في المرحلة الانتقالية التي يواجهها العراق. كما انها لا تفقد أهميتها بالنسبة للرؤية البعيدة المدى. ذلك يعني إن الاهتمام الفكري والعملي ينبغي أن يتوجه ليس صوب الجدل حول طبيعة وشكل النظام السياسي - رئاسي أم برلماني، مع أهميته البالغة، بل حول حدود ومضمون الشرعية في بنية الدولة ومؤسساتها. فهو الأسلوب الذي يحدد بدوره مضمون الصيغة العملية لإدارة شؤون الدولة والمجتمع والإشكاليات السياسية القائمة أمام العراق بصدد قضايا المركزية واللامركزية - دولة مركزية ديمقراطية يحكمها القانون أم فيدرالية قومية أو مناطقية أم حكم ذاتي للاقليات القومية جميعا.

إن تغليب المكونات الجزئية للدولة (شكلها) على الجوهري والثابت فيها (محتواها) هو السقوط مرة أخرى في وحل المغامرات السياسية التي مزقت العراق منذ ظهوره الأخير على حلبة التاريخ الدولي. وهو أمر ينبغي أن يدفع إلى الأمام فكرة بناء الدولة الشرعية. واعتبار الخروج عليها خروجا على الشرعية. مع ما يترتب على ذلك من مواقف عملية تتضمن كل الاحتمالات الضرورية لحلها بالطريقة التي تبقي على مسار بناء الدولة الشرعية، أي المحافظة على وحدة العراق التاريخية  والثقافية والجغرافية بوصفه بلاد الرافدين.

فهي العملية الوحيدة القادرة على إرساء أسس المجتمع المدني، بوصفه القاعدة الأساسية للدولة الشرعية. وهي قاعدة يمكن إرساؤها فقط على أسس التفتيت العقلاني للبنية الاجتماعية والسياسية التقليدية، واستكمالها عبر غرس فكرة الوطنية العراقية. وهي مهمة ممكنة التحقيق من خلال الارتقاء من مستوى العرق إلى مستوى العراق، أي من خلال الارتقاء إلى مستوى القومية الثقافية. أما مضمونها العملي والشرعي في العراق فيقوم في تحقيق فكرة (إن العراق بحاجة إلى عراقيين وليس عرقيين).

ثانيا: توازن التربية والتعليم. وهي الأولوية الثانية بالنسبة لإرساء أسس الاعتدال العقلاني في بناء الدولة الشرعية في العراق. فهو الأساس المادي والروحي للدولة العصرية، كما انه مؤشر على مدى اقتراب السلطة فيها من إدراك مهمتها بوصفها أجير عند المجتمع المدني. ومقصود التوازن بين التربية والتعليم في الدولة الشرعية هو بناء منظومة متجانسة لتربية العلم وتعليم التربية. ومهمتها الأساسية هو تربية وتعليم الأجيال اللاحقة بقيم العقلانية والشرعية والانفتاح والحرية، عبر تحريرها من ثقل وبقايا التوتاليتارية والدكتاتورية. وهو الأمر الذي يفترض بدوره تخصيص الحصة الكبرى لها من ميزانية الدولة في الأقل للعقدين القادمين.

ثالثا: توازن الصحة والرياضة. وينطبق ما قيل على التربية والتعليم على الصحة والرياضة. فقد عانى الشعب العراقي وسوف يعاني لعقود ليست قليلة من أثار التوتاليتارية والدكتاتورية واضطهادها المركب المادي والمعنوي، دع عنك آثار التدمير الشامل في البنية التحتية للخدمات بشكل عام والصحية بشكل خاص، وكذلك آثار الحروب المحتملة، التي سوف يكشف عنها المستقبل القريب. وبما أن العقل السليم في الجسم السليم، من هنا أولوية الصحة المفترضة في استراتيجية الدولة. إذ عليها يتوقف نشاط الأمة وقدرتها على تحصيل العلم والمعرفة وتوظيفه اللاحق في الإنتاج المادي والروحي. أما توازن الصحة والرياضة فيقوم في أهميته بالنسبة لتربية ثقافة الجسد والحرية. وهي شرط ضروري له أهميته القصوى بالنسبة لبناء الرؤية العقلانية والإنسانية والحقوقية في مختلف جوانب الحياة. 

رابعا: توازن الاقتصاد والعلم. بمعنى بناء أسس السياسة الاقتصادية التي تتجه صوب  الاعتماد الأساسي على العلوم وإنجازاتها والتكنولوجيا المتطورة. وهي مهمة ممكنة التنفيذ من خلال ربط الاقتصاد المنتج بالعلم المنتج. وهي مهمة يمكن تحقيقها من خلال الاهتمام الجدي بالعلوم والعلماء المبدعين في جميع المجالات وتوفير افضل السبل والإمكانات لتجسيد مشاريعهم العلمية. وهي مهمة تفترض صياغة برامج متكاملة ومتخصصة في مختلف ميادين العلوم من جهة، وعلى المستوى الوطني من جهة أخرى.

خامسا: توازن الثقافة والإبداع. إن مضمون التوازن في هذه العلاقة يقوم في كيفية صنع الأسس الضرورية لتطور الثقافة العامة وقواها المبدعة. إذ ليست الثقافة المتوازنة في الواقع سوى ثقافة الإبداع الأصيل. وهذه بدورها يستحيل تحقيقها دون سيادة الرؤية العقلانية والإنسانية فيهما. فهي الرؤية التي تكفل إمكانية تغلغل ثقافة الالتزام والواجب الأخلاقي تجاه إشكاليات المجتمع والدولة. مما يفترض بدوره المساهمة الفعالة والدائمة والمتعددة الجوانب للدولة في دعم الإبداع الحر، انطلاقا من أن الإبداع هو حرية، وأن الإبداع الأصيل هو حرية بلا ضفاف. فهي السلسلة الوحيدة القادرة على تأسيس توازن فعلي بين الثقافة والإبداع يخدم المجرى العام لبناء الدولة الشرعية ومؤسساتها في ذهنية ونفسية الفرد والمجتمع.

سادسا: توازن الحرية والنظام. ويشكل توازن الحرية والنظام الحلقة المكملة لما سبقها فيما يتعلق ببناء وترسيخ العقلانية في مختلف جوانب ومستويات بناء الدولة والمجتمع والثقافة. فالحرية بناء عقلاني. وبالتالي، فإن شعار (حرية بلا ضفاف) لا يتعارض مع النظام، كما لا تتعارض الحرية مع النظام. إذ الحرية الحقيقة هي نظام متجانس بين الحقوق والواجبات. ومن ثم فان توازنهما في الرؤية الاجتماعية والسياسية للفرد والمجتمع والدولة يساهم في صنع الاعتدال الضروري لتراكم المؤسسات وتقاليدها. وبالتالي يساهم في صنع العلاقة الديناميكية بين التقاليد والمعاصرة.

سابعا: توازن التقاليد والمعاصرة. وهو التوازن الذي ينبغي أن يوضع في توجه الدولة وقواها الاجتماعية والسياسية والفكرية بوصفه الحلقة المكملة لتوازن الحرية والنظام. وذلك لما فيه من اثر حساس وغير مباشر بالنسبة لبناء الأسس الاجتماعية والنفسية لفكرة الشرعية والتراكم الطبيعي في تطورها الضروري. فمن الواضح للعيان الأثر التاريخي التخريبي الهائل للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية بهذا المجال. فقد حولت التوتاليتارية المجتمع العراقي إلى كتلة تقليدية. وغرست في اعماقها نفسية الانزواء من هجماتها الدكتاتورية. مما أدى إلى صيرورة ما يمكن دعوته بتقاليد الانزواء. بحيث أدى ذلك في نهاية المطاف إلى ظهور سبيكة متخلفة من التقاليد والتقليد في البنية الاجتماعية للعراق. إذ جعلت من المجتمع كيانا هشا، لكنه (متماسكا) في العشائرية والقبلية والعائلية والجهوية والطائفية. وهي سبيكة معرقلة ومضادة للمعاصرة. مما يفترض بالضرورة مهمة العمل من اجل كسرها وتفتيتها بطريقة عقلانية لكي يجري دمج مكوناتها في عملية البناء العقلاني للمجتمع المدني. بمعنى إدخالها من خلال سن القوانين والتربية والتعليم والصحة والرياضة والاقتصاد المنتج وإشاعة الثقافة والحرية، في فلك المعاصرة. وليس هنا من فلك واقعي وضروري في نفس الوقت للمعاصرة في العراق الآن غير بناء الدولة الشرعية ومؤسساتها.

ثامنا: توازن الوطنية (العراقية) والقومية (العربية والقوميات الأخرى) والإسلامي والعالمي. يعاني العراق في حل هذه الإشكالية مشاكل مركبة. فبغض النظر عن أن المشكلة القومية داخله جزئية وصغيرة، بفعل النسبة السائدة شبه المطلقة للقومية العربية فيه، الا أن سياسة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية وضعف تطور المجتمع المدني وتقاليد الديمقراطية الاجتماعية والسياسية، أدى إلى استفحال بعض جوانبها. إضافة لذلك أن الأحزاب القومية في العراق جميعا هي أحزاب تقليدية ومتخلفة من حيث بنيتها السياسية ووعيها الثقافي. وهو الأمر الذي يعطي لهذا التوازن أهميته الهائلة بالنسبة للحفاظ على الاستقرار فيه من اجل حل المشاكل الجوهرية والأساسية المتعلقة بإرساء أسس الدولة الشرعية. ولعل الأحداث الأخيرة التي أثارتها القوى القومية الكردية حول ما يسمى بمهمة (ضم) كركوك إلى (المنطقة الكردية) هو دليل على مستوى التخلف السياسي والوطني في رؤيتها بهذا الصدد. فالقضية هنا ليست فقط في أن كركوك أو أية منطقة أخرى هي ليست ملكا للأكراد أو غيرهم، بل هي جزء من العراق التاريخي والثقافي والجغرافي، بل لحماقة الموقف وآثاره السلبية الهائلة بالنسبة لإرساء أسس الدولة الشرعية وحل المشاكل فيها استنادا إلى القانون. وهو الأمر الذي يتطلب ضرورة ارتقاء الجميع إلى مصاف الرؤية الوطنية العراقية. مع الاحتفاظ بالطابع القومي. الا أن القومي ينبغي أن يكون ثقافيا وليس عرقيا. بمعنى الإجماع الفعلي، من حيث النية والغاية، على ضرورة الاستعراق، أي على ضرورة جعل الهوية الوطنية العراقية منتهى وغاية الفكرة القومية الثقافية في العراق. لاسيما ان هذه الفكرة تعطي للقومية الثقافية، أيا كانت، حق وحرية العمل المبدع للتكامل الذاتي والانفتاح الديمقراطي على الآخرين. بمعنى إمكانية الانفتاح حسب النوابض الداخلية للقومية: العرب للقومية العربية، والسريان للسريانية، والأكراد للقومية الكردية والتركمان للتركية. مع الإدراك الواقعي والضروري بجوهرية الاستعراق. إذ الخروج عليه في ظروف العراق الحالية هو خروج على المعنى الثقافي في الفكرة القومية، مع ما يترتب عليه من خروج على الشرعية ومآس وخراب.

إن إدراك النسبة الواقعية والضرورية بين القومية الثقافية والاستعراق هو سبيل الوصول إلى بلوغ النسبة الواقعية والضرورية بين الأبعاد الوطنية والقومية من جهة، والإسلامية من جهة أخرى. وهي نفس الآلية التي تضمن النجاح في رسم العلاقة الفاعلة بين هذه المكونات والعالم ككل.

 

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة