الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

 

حفلات الزفاف أيام زمان واليوم

زياد مسعود

حضرت وأنا صبي في أربعينيات القرن العشرين حفل الزفاف في كرخ بغداد حيث سرنا نحن الصبية والبنات نحمل (الصواني) التي تلألأت عليها الشموع الموقدة وسط تلال صغيرة من الحلويات وقربها الحناء وطاسات اللبن، أمامنا شباب يرقصون مع نقرات ولحن المربع البغدادي وقد أخذوا شارع الإمام موسى بالعرض، يتقدمنا جميعاً موكب العريس راجلاً ومعه (سردوجيه) وأصدقاؤه وخلفهم مجموعة شبان يتبارزون بالسيوف في رقصة (الساس).. كان العريس قد خرج مع أصدقائه من حمام شامي أو حمام حيدر متجهاً وسط موكب الزفاف إلى داره حيث سبقته العروس في موكب نسائي جميل.

موكب محمول براً

وإذا كان الناس في بغداد الكاظمية والأعظمية يقودون العريس في موكبه الراجل إلى بيت الزوجية قبل جيلين فقد شهدت محلة الدوريين مواكب العرسان من أصحاب عربات الربل (اللاندون) التي يجرها حصانان حيث تجمع أصحاب العربات في موكب طويل متصل ومشوا بالعريس والصواني والصبية والصبيات وشباب الخناجر والسيوف و(البستات) في موكب محمول براً.. إلى بيت الزوجية.

قوارب وبغال.. وطائرات!

في الأهوار يستخدم الناس المشاحيف لإحضار العروس يوم زفافها وفي قرية كردية مثل (زيوه) تزف العروس إلى (جنديان) بدبكات جماعية جميلة تنتهي بالصعود على ظهور البغال فأمام الجميع رحلة شاقة ومرحة في البصرة كان حفل الزفاف قديماً يتم بالقوارب وسط شط العرب، وفي البوادي يستخدم البدو الجمال لانتقال العروس وفي القرى كانت الخيول واسطة لنقل العروس بين قريتين... كل ذلك قد تبدد وحلت السيارات محل وسائط النقل الأخرى ليأخذ حفل الزفاف مداه الأسرع فيما استخدمت الطائرات لنقل العروسين في رحلتهما الميمونة من البصرة إلى الموصل أو إلى بغداد وبالعكس.

كان القطار ولا زال وسيلة جميلة لحفل الزفاف حيث يكون احتفال الأصدقاء والأقارب بالرقص والغناء على رصيف المحطة وسط فرح الجميع.

كل واحد حسب (كيسو)!

خلال حفل الزفاف وقبل صعود العروسين السيارات أو عربة القطار تجري حفلات الموسرين والطبقة المتوسطة في قاعات مخصصة وكل واحد حسب (كيسو) أي ما يملك من مال فهنالك حفل زفاف يكلف الملايين حيث يستقدم مطرب أو أكثر مع فرقة موسيقية وعشاء كامل، وهناك من يقوم بإحياء الحفل بمبادراته الغنائية الخاصة مع بعض الآلات الموسيقية التي يعزف عليها الهواة وهناك من يقيم (بوفيه مفتوح) وهناك من يوزع (اللفات) والبارد ومن الطبيعي أن تكثر همسات هذا وذاك وتدخلات أم العروس وانزعاج أم العريس منها. كل ذلك يتم قبل انتقال العروسين من القاعة إلى غرفة العرس في ساحة معلومة حيث تغدو ساحة القاعة صالة للرقص الشعبي المتنوع وفق الأغاني والألحان المقدمة ويختتم هذا الحفل الموسيقي الشعبي بدبكة عامة يشارك العروسان فيها.

في حفلة كهذه تتم في قاعة أو في بيت العروس ترتدي المدعوات كل ما يمتلكنه من حلي وتحرص الأمهات على إظهار بناتهن غير المتزوجات بأبهى صورة فقد تقع عين شاب أو أمه على بنتها وقد يتم التعارف وقد تتأكد آمال ويحرص الشبان أيضاً على الظهور بأحسن مظهر فقد تكون الحبيبة بين الحاضرات وقد يختار إحداهن.. ولكل حادث حديث.

بعضهم يختصر كل هذا اليوم ويأخذ عروسه (سكتاوي) إلى فندق كبير في مدينة أخرى إلا أن الكثير من أهل كركوك لا زالوا يتفاءلون بأن يسير موكب الزفاف إلى مرقد الإمام زين العابدين كما يتفاءل أهل بلد وجصان وسواهم بالزفاف في مدينة الكاظمية فيما يصل موكب الزفاف في الموصل إلى مقام النبي إدريس عليه السلام.. والكثير من أعراس الفرات الأوسط تتم في مدينتي كربلاء والنجف المقدستين.. ذلك يجعل حفل الزفاف أكثر أمناً نفسياً وأكثر بركة.. أما أنا وأنت من (المفاليس) فقد عقدنا في المحكمة الشرعية وتزوجنا في بيوتنا وسط حفل بسيط إلا أن المثل الشعبي الذي يقول (لو ضاك خلكج ذكري أيام عرسج) لا زال مثلاً تردده زوجتي المحترمة وهي تستذكر يوم عرسها.

 

 

 

بغداد، أم الإبداع

سعد محمد رحيم  

يوماً ما كانت بغداد تتبختر بروعة ليلها وأضوائها.. تختال بمنتدياتها وصروحها الحضارية.. كانت مسارحها ومعارضها وملتقياتها الفكرية والأدبية والفنية، ودور السينما التي فيها مراكز للبناء الثقافي وصنع الإنسان المتمدن، المثقف.. كانت العائلة العراقية ترتاد تلكم المراكز في الليل والنهار قبل أن تعود إلى بيتها لتتحاور حول مسرحية ذات مضمون عميق شاهدتها، أو فيلم يتضمن قيمة جمالية ودلالية عالية استمتعت بمتابعتها، أو محاضرة تتصف بقوة المعرفة استمعت إليها، أو حفلة موسيقية تتسم برصانة فنية مدهشة حضرتها.

أذكر يوم كنا طلاب جامعات، نخرج من سينما غرناطة أو سمير أميس أو الخيام، أو من عرض مسرحي لفرقة المسرح الفني الحديث عند منتصف الليل أو بعده فنختلط بالمئات والآلاف الذين غادروا المسارح ودور السينما والمنتديات الثقافية والاجتماعية تواً.. في ذلك الزمان كانت بغداد تسهر حتى الفجر من دون أن تسمع إطلاقة واحدة، ومن دون أن تخشى أشباح الموت، ومن دون أن تعكر صفوها الكوابيس. غير أن بغداد اليوم يعلوها غبار الكآبة ورماد القنابل والعبوات الناسفة، ويثقل قلبها الألم والخوف، وتخيّم على ليلها ظلمة الوحشة، وتبهظ ذاكرتها أوجاع ورعب حروب خاسرة، وفاصلة ربع قرن من الاختناق وحصار طويل قاتل.

في عدد أيار الحالي من مجلة العربي الكويتية استطلاع عن مدينة برلين يذكر فيه معدّه أشرف أبو اليزيد أن برلين التي لا يتجاوز سكانها الثلاثة ملايين وأربعمائة ألف نسمة يبلغ عدد متاحفها 170، وعدد دور السينما فيها 265، وعدد المسارح 150، وعدد مكتباتها 250، وفيها 2000 دار نشر تنشر 70 ألف عنوان جديد سنوياً، فضلاً عن 300 قاعة لعرض الفنون التشكيلية، وتشهد المدينة كل يوم ما يصل إلى 1400 حدث ثقافي وسياسي واقتصادي، ويزور متاحفها سنوياً 15 مليون شخص.

هذه الأرقام لابد أن تملأ نفوسنا بالحسرة، فتلك المدينة الألمانية التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى أطلال وخرائب، وشطرتها مصالح القوى المنتصرة في الحرب إلى نصفين عادت لتتعافى سريعاً، وتتحد مرة أخرى بعد سقوط جدار برلين لتكون مرتعاً للإبداع الفكري والثقافي والحضاري. وهذه الحقيقة تجعلنا نقارن بأسى وألم بينها وبين بغداد، الآن، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من ضعفي سكان برلين، ولها تقاليدها الحضارية العريقة ومؤسساتها الثقافية، لنتساءل عن الكيفية التي بها نستطيع أن نعيد لبغداد نضارتها وحيويتها في حقول الأدب والفن والعلم والمعرفة لتكون مجدداً عاصمة للثقافة، وأماً للإبداع.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة