الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

منهم من قطع كفه.. ومنهم من هشّم قدمه برصاصة  العوق .. مقابل النجاة من حروب صدام !

عبد الكريم العبيدي

دعوني ازعم الآن اننا نجونا نحن جنود الالف هجوم وهجوم من الموت .. نجونا لأن آجالنا فقط هي التي لم تأتِ ! .. غيرنا من المعفوين والمستثنين والمنتدبين نجوا قبلنا، اولئك لم يشموا نفحة من روائح الحروب والجثث، غيرنا  وغيرهم ايضاً نجوا من مهالك الحروب، ليس بمرسوم او قرار او (واسطة) وانما بارادتهم (غير الحرة) .. قطعوا اكفهم او هشموا اقدامهم برصاصة (ظالمة) فتخلصوا من اهوال الحجابات والسواتر الاولى وربما من العسكرية المسلحة وغير المسلحة ايضاً!

الحرب والنجاة منها ، هما حالة واحدة .. يضع المرء فيها اساسيات افتراضية لحياة ما بعد الموت .. ليست الحياة (الآخرة)، ولا الموت الذي ينتظره، وانما حياة الميت، وموت الاحياء المتعدد واللانهائي . . انه يقاد اليهما كرها بعد ان يثاقل الى الارض، فيدخلها من باب اعتقادي شرط ان يكونا قد وصلا الى مرتبة القداسة .. او من باب العرف والتقليد عند استحضار رجولته .. او هروباً من (موت رسمي) في ميادين الاعدام الى (موت مستحدث) في فاعلية الحرب.. هكذا تتعدد الاسباب في حركة الساق الملتفة بالساق عند صعود (جلجلة الرعب) في مطاحن الهلاك الجماعي.. فتبدو الحرب كنهاية خاسرة من نهايات الاستهلاك التنازلي لحياة مابعد (الحياة والموت) معاً .. تلك التي تذكرنا بكل خسائرنا واحباطاتنا لأنها (مسك) هزائمنا الخفية، ولأنها هزيمة هي الاخرى!.

الحرب/ الحروب التي انفصلت عن كل (مقدساتها) في ثلاثة عقود مضت، وتحولت إلى حماقات وشرور فردية زادت من لا شرعيتها ومن دمارها، أصبحت قاسية وعقيمة، واضحى التعامل معها كارثة (عينية) مفروضة او ضريبة مميتة تشبه احشاء (اليعسوب) المقذوفة في لذة قاتلة ! فأنت مجبر على دخولها، مجبر على الموت فيها، مجبر على النجاة، ان صحّت منها ايضاُ .. هذه الجبرية الصدامية ذات المقاس (الستاندر) غير المألوف ، فرضت علينا التباساً آخر غير الالتباسات الكثيرة في (قانون اللابد مما ليس منه بد)..

التباساً هدم كل ابواب الحروب والنجاة منها، وفتح ثقباُ صغيراً في ضنك الحياة الحصارية، وبات لابد من اقتحامه عنوة بـ(كَرَتَه): صدامية تشتغل بأزّة شيطان وعصا جلاد ماهر وشهقة غريق يحتضر !..

هل ثمة ما هو اقسى من حروب صدام. ومن العيش فيها ومن النجاة منها ان صحّت !؟

يبقى القرار سياسياً

الناجي من حرب صدّامية واحدة يعادل الناجين من الحربين الكونيتين!.. هذه ليست مبالغة مسلية .. صدقوني، فكل الحروب الكونية والقارية والاقليمية لم تنفصل احكامها وطقوسها قط عن آلية انسانية وعاطفية، بل ظلت على الدوام ترتبط بفاعلية العلوم العسكرية الاكاديمية، وبقوة المنطق ودلالاته وشروطه واحكامه.. وكانت القرارات القيادية والميدانية تخضع لجدلية حوارية مبنية اساساً على قوة الانتصار العسكري المقرون بقيمة الهدف والخسائر الناجمة وعلاقتها بديناميكية عمل الوحدات الأخر وارتباطها بصدى الشارع وحياة السكان ومدنهم والتأثيرات السياسية اقليمياً ودولياً..

 

ومعنى كل هذا ان القرار العسكري يبقى قراراً سياسياً وجماعياً وارادياً.. يخضع لمناقشات مكثفة وعسيرة، ويضع ارادة ومستقبل الشعب غاية اولى واخيرة في خريطة القرار الرسمي، قبل الخوض في تفاصيل الخطط والافتراضات والمفاجآت والردود .. وهذه التقاليد الواعية والراقية لم تأتي من (طفرة حضارية) او تنظير فردي او مؤسساتي، وانما من ركام طويل من الدراسات والبحوث والحوارات التي تأسست على مثابات حرة وديمقراطية، اتخذت لها سبلاً قصيرة وسريعة للنهوض والرقي والتطور.

 

لواء (صدام)!

حروب صدام، خسائرها 100% !.. تضحياتها ومآسيها ونكباتها بلا حدود منظورة او غير منظورة !ّ.. الـ(يجب واللابد والـ حتما) هي صكوك صدامية لا سبيل من تنفيذها فوراً بلا نقاش او التماس اومداخلة !.. الطغيان لا يعالج ابداً بالقول اللّين، بل يدلل على حجمه واتساعه، ويتحوّل الى آية بيّنة بوجوب محوه بفعل رباني مباشر او غير مباشر .. انه فرعنة الحكم الذي يبدأ هكذا دائماً من اهواء فرد وحش، ايقن انه الاعلى والاوحد والفريد، وان شعبه وشعوب العالم اجمع انما هم حاشية بليدة من العبيد الصغار الذي خلقوا لخدمته وخدمة امثاله من الطغاة، ولطاعته طاعة آلية تامة بلا حدود! .. اليس هو القائد/ الواجب الذي وقف يوماً امام حشد من المتطوعين في احد القواطع التي هُزمت في الحرب مع ايران، وانشأ بإشارة واحدة منه لواءاً كاملاً (فورياً) اسماه لواء صدام!؟. الم يخاطبهم وكأنه يتلو عليهم قراراً رسمياً، فرض عليهم الانصياع التام لتنفيذ رغبته؟ .. لنطّلع معاً على آلية حروبه في هذا المثال الصغير .. (كعادته، صعد صدام على احدى السيارات المرسيدس الرئاسية، وسط حشد كبير من رجال (الجيش الشعبي) في قاطع مهزوم جنوبي العراق اثناء الحرب العراقية الايرانية .. قال صدام مخاطباً الجموع : (هساع اريد لواء اطلق عليه اسمي .. انه لواء صدام، وكل من سيشترك به يقف الى جهة اليمين، ها ... وبعد ثوان (طبعاً) التفت صدام الى جهة اليسار فلم يجد (مجنوناً) واحداً هناك .. عندها قهقه (القائد) وتهلل جهه فرحاً، وقال : (الآن تهجمون بإسمي .. باسم صدام حسين ها.. ولن اسمح لأحد منكم بالرجوع الاّ (وشاربه ) مخضب بالدم.. ها .. عجل توكلو على الله!!! وتذكروا ان هزيمتكم تعني هزيمة صدام ها.. وفشل لواء صدام، بعد  ان ابيد تماماً .. مثلما فشلت الكثير من الوحدات النظامية في استعادة الهدف برغم الخسائر الكبيرة التي قدمتها والتي لا تتناسب ابداً مع حجم الهدف واهميته الستراتيجية والميدانية .. ولكن صدام عاد الى بغداد (فرحاً) وزار محطة تلفزيون بغداد، ليظهر في سهرة تلفزيونية طويلة تحدثت عن (مآثر القائد)  والايام الكثيرة التي امضاها في جبهات القتال، وكيف صنع (النصر) وحوّل الهزيمة الى بطولات وقصص واساطير، وانه لم يعد الى بغداد الاّ بعد ان استقر الموقف لصالحه!

الضحايا.. اوراق تتساقط!

ولكن لماذا اراني منغمساً في وقائع حروب صدام الكارثية؟... وهل اسهبت، حتى الآن بشروحات (مؤلمة) لتفاصيل شاخت وباتت (كالعرجون القديم) ؟ .. ربما، ولكن كل من سيطّلع على ميلودارمية (فواصل العوق الرهيبة) التي حصلت امامي في الخنادق والسواتر والحجابات والملاجئ، اثناء الهجومات والمعارك وبعدها، سيدرك فعلاُ انه من غير الممكن على الاطلاق تعقّل وحشية وغرائبية الفواصل تلك، وتصديقها، الاّ بعد ان ينغمس معي قليلاً ببعض مآسي حروب صدام (غير المعلنة) التي تسارعت في عقود ظلامية طوال، لم تدع من الوقت لأي منا ان يحك شعر رأسه لمعالجة آلام القمل في السواتر المرعبة!

تلك الحروب كانت بحسب صدام، وحتى لحظة استسلامه المهين في جحره، ليست سوى رياح هزت (الشجرة) فتساقطت اوراقها، ولكنها لم تمت، بل سرعان ما ستجدد اوراقها وتنمو! .

وهي بنظره (انتصار الارادة في الشمال ) حرب 1973، وقادسية العرب وصدام الثانية حرب 1981.. ويوم النداء .. كارثة 1991.. واخيراً كارثة الحواسم التي حسمت رعونته الى الابد، وتحولت الى مفردة سوقية مقيتة للتنّدر، وفصل (الحلال عن الحرام) بقانون الشارع والسوق وداخل سيارات (الكيّا)!!

اذن تلك هي (حروب صدام الدموية).. حروب فاقت كل مآسي الحروب التقليدية، وخرجت على المعاجم اللغوية بمديات جديدة وفضاءات واسعة، لمفردة الحرب (القديمة ) .. وكان لا بد للنجاة منها، تبعاً لذلك ان تلبس اخباراً ومحتويات (فائقة القسوة)، كي يطمئن الناجي على وصول انفاسه الواهنة الى رئتيه ولو متقطعة، او قصيرة، لتفي بربع اغراضها في الاقل!

ولكن من نجا من تلك الحروب؟.. ومن خرج منها سويا وصحيحاً بنفسه وبدنه؟..

قطعاً لا احد على الاطلاق .. اللهم الاّ (الويلاد ، الفئة أ) التي ظلت في قصورها وعطوها وحفلاتها وسياراتها الفارهة .. اولئك يشبهون (او يذكروننا حتماً) ببعض مشجعي فرق كرة القدم، الذين يديرون ظهورهم لمجرى المباراة طوال الـ(90) دقيقة، ليصفقوا ويهتفوا، ويغنوا، وبعد خروجهم من الملعب عقب انتهاء المباراة يسأل احدها الآخر (اشكد بشكد) ؟ أي ما هي نتيجة المباراة؟!

وثمة فئة ثانية، الفئة (ب) .. وهي الفئة (الكهفية) التي نامت في القصور الرئاسية ومباني القيادات العليا ومقرات الوزارات طوال فترة الحروب... وهؤلاء، والحق يقال، لامست البدلات الزيتونية نعومة اجسادهم، وتركوا بيوتهم لمدة (6) ساعات يومياً!!

بعدها تأتي فئة ثالثة، الفئة (جـ)التي تنازل افرادها كثيراً، فأرتبطوا بمقرات القيادات العسكرية والفيالق والفرق .. وهؤلاء تمتعوا بنظام (العوائل)، أي الدوام الرسمي في المقرات المكيّفة لمدة (ثلاثة ايام بلياليها) ثم النزول الى بيوتهم يوم الاثنين ظهراً من كل اسبوع، اضافة الى تمتعهم بالاجازات الدورية (الطويلة دائماً)!!

ثمة فئة اخرى، الفئة (د) والتي ارتبطت بمقرات الالوية والكتائب والمصانع العسكرية واكداس العتاد والافواج على اقصى تقدير.. وهذه الفئة المدللة كان (تأمر وتنهي) وكانت القوة المسلطة على رقاب (الرعراع) والمنفذة لأوامر اسيادها و(الناجية) بانضباطها وسلوكها الصارم.

هل انتهت قائمة الفئات؟... كلا.. هناك فئة المتبرعين برواتبهم الشهرية، والحاملين الهدايا (الاجبارية) والمتبرعين ببناء المقرات وتحديثها وتأثيثها على نفقتهم الخاصة، مقابل النجاة من الموت ومتاعب العسكرية وآلامها!! وثمة فئة الحرفيين الذين شيّدوا واثثوا ارقى البيوت لكبار الضباط وصغارهم مقابل الابتعاد عن اهوال الجبهات ومصائبها.

هل نسينا فئة اخرى من القائمة (السْبِشل)؟ ربما!!

خيارات ما قبل العَوَق

كل هذه الآلام غير المطروقة في الحروب القديمة، كان الجندي العراقي يراقبها ميدانياً. ويعيش قسوة اوجاعها عن كثب، قبل ان يقدم على احد خيارين، اما البقاء في جحيم الجبهات والتسليم للقدر، او الهروب من الجيش.

الهاربون، وهم الفئة الكبيرة من الجيش، كان بعضهم يهرب قبيل اندلاع المعارك ليعود بعفو صدامي (حتمي) بعد كل هجوم.. وبعضهم كان يقع في قبضة رجال الانضباط العسكري فيعدم او يودع في السجن ويكون بذلك قد (نجا) ايضاً .. اما الذين مكثوا في جبهات القتال طوال فترة الحروب فقد ضاقت بهم الخيارات، وهلك الكثير منهم، الى الحد الذي اوشكت بعض مواليدهم على الانقراض! .. بعضهم وهم قلة قليلة، انجاهم الله بأبدانهم فقط ليكونوا شهوداً على جرائم الفترة المظلمة، بعد ان امتلأت ذاكرتهم بصور سريالية صدئة، غير قابلة للنسيان!!.

ولكن بعضهم لم يصمد طويلاً، فإختار التظاهر بالجنون او جن (فيما بعد) فأطلق شعر رأسه ولحيته، ورمى الخوذة والنطاق والبسطال، واغتنم اول فرصة مشاجرة مع الضباط وضباط الصف، بعد ان ادمن بالفعل تناول المخدرات والكحول، وتحول الى متمرد شرس لا مكان له في الحجابات والسواتر الاولى بسبب خطورته (المفتعلة) وعندها يوصي الطبيب العسكري او امر اللواء او الفوج بتركه في المقرات الخلفية او نقله الى احدى الوحدات الثابتة التابعة للفيلق. امتلأت الوحدات الخلفية بعشرات الآلاف من المتروكين نصف المجانين الذين اختاروا طريق التمرد والصعلكة لينجوا من نيران المعارك.

فواصل العوق .. اخيراً

الآن، وقد اتضح لكم المشهد، ليس بكل اجزائه حتماً، ولكنه سيساعدكم على اية حال على فهم فواصل العوق المأساوية، التي شهدتها جبهات القتال في ثمانينيات القرن الماضي، وقام (ببطولتها) الكثير من الضباط والجنود تحت وطأة الهجومات والمعارك اللانهائية التي كانت تغلق كل آفاق الحياة وتجعل الحرب الضروس وكآنها ولدت لتبقى الى الابد.

(1)

النقيب (...) قرر بعد اسابيع كثيرة من الحوار معي ومع نفسه ان يطلق النار على ساقه لينجو من الموت .. لم تنفع معه تحذيراتي وبغضي لهذا النوع من الاعمال، وفي احدى ظهيرات تموز الحارة، لف ساقه بأحد اكياس الرمل الفارغة وامر (مراسله) أمامي بإطلاق النار عليها.. تردد الجندي البائس قليلاً، ولكن صرخة النقيب الزاجرة جعلته يحسم أمره سريعاً ويطلق النار باتجاه الساق الملفوفة.

بعد شهور عديدة، عاد الضابط من آخر إجازاته المرضية الكثيرة، وأخبرني بأنه قضى (أجمل) أيام حياته بعيداًَ عن الموت والقلق وأيام الملاجئ المليئة باللاجدوى.. ولم يمض على بقائه طويلاً حتى كرر فعلته مرة أخرى بقرار سريع ومفاجئ، وأمامي أيضاً، بين ركام الجثث وعلى أحد التلول الرملية أثناء معارك الفكة الرهيبة في عام 1983.

(2)

نائب العريف (و. ش. ع)، أخبرنا نحن أفراد حفيدته عن نيته بإطلاق النار على يده.. قال: لقد استشهد شقيقي، ورحل أهلي عن البيت إثر القصف المدفعي على مدينتي.. ولست مستعداً لجعل أسرتي المرتحلة تفقد فرداً آخر.. وأضاف: ستبرأ المحكمة العسكرية ساحتي، خاصة وأنا ملاكم، ولدي وثائق ومستندات تثبت فوزي بالعديد من النزالات المحلية، وسيقتنع القاضي بصحة إفادتي وبعدم تفريطي بمستقبلي الرياضي.. ولكنه طلب منا في نهاية حديثه أن نشهد له في المحكمة على صحة أقواله، وبأن الرصاصة انطلقت من بندقيته أثناء التنظيف والإدامة.. وافق إثنان من أفراد الحضيرة على أداء شهادة الزور، ونجح (فاصل العوق).. أطلق أحد أفراد الحضيرة النار على كف نائب العريف، بعد أن أغمض عينيه ثم تظاهر الجميع بالمفاجأة بعد أن أحيل نائب العريف على الخدمة غير المسلحة، أقام وليمة فاخرة في بيته لجميع أفراد الحضيرة بمناسبة نجاته من الموت!

(3)

في ساعات عصيبة من ليلة 6/ 7 شباط عام 1983، وأثناء معركة الشيب الأولى، كانت الحياة شبه مستحيلة، خاصة وإن الجنود الإيرانيين قد تمكنوا من الإحاطة بنا، وأطلق قائدهم الميداني إطلاقة احتلال الهدف إثر سقوط مخفر (وهب) العراقي المقابل لمخفر (شرش) الإيراني.. لم يكن بيننا وبين النجاة سوى خيط واهن يتمثل بسيارة الايفا الوحيدة التي كانت محملة بالخشب والجينكو.

سائق العربة الماكر حث بعض الجنود المرعوبين على تبادل إطلاق النار فيما بينهم، وأخبرهم إنه سيقوم بإنقاذهم فوراً لامتلاكه حجة مشروعة بالفرار بهم إلى الصفوف الخلفية.

وبالفعل لف أربعة جنود أياديهم وسيقانهم بأكياس الرمل الفارغة لتفادي حدوث وشم بارودي وسرعان ما تبادلوا إطلاق النار بطريقة (1 - 2 - 3 سر).. حصل ذلك أمامي في خندق الرمي، بالساعة الرابعة فجراً، وعلى تصاعد صيحات التكبير المخيفة التي كان يطلقها الجنود الإيرانيون، تم إتقاذ (الجنود الجرحى) ورميهم في سيارة الإيفا مع الخشب والجينكو، والانطلاق بهم صوب وحدة الميدان الطبية، في طريق ترابي وعر، اختلط فيها الظلام مع البارود والغبار وأصوات الانفجارات الصاخبة!

(4)

في قاطع بنجوين، وبعيد انتهاء المعارك الطاحنة التي دارت على جباله، اتفق المخابر (أ. ح. ك) مع أحد المخابرين العاملين في بدالة فوجنا على أخبار آمر الفوج عن سقوط جرحى من مجموعة الدورية والكمين العائدة لإحدى سرايا فوجنا، حال سماعه لصوت انفجار لغم أرضي كان (صاحبنا) قد قرر أن يضع عليه قدمه!

قبيل الغروب تحركت المجموعة باتجاه الأرض الحرام.. ودعني المخابر وهمس في أذني قائلاً: (دير بالك علي)!.. كان وجهه مليئاً بالأسى، وكان الرعب قد استحوذ على جسده تماماً.. وبعد نصف ساعة على مغادرتهم سمعنا صوت انفجار هائل.. وسرعان ما نفذ مخابر البدالة الوصية، فأخبر آمر الفوج عن تلقيه مكالمة هاتفية تفيد بسقوط جرحى في مجموعة الدورية والكمين.

آمر الفوج أمر بإرسال مجموعة من الجنود إلى موقع الانفجار لإنقاذ الجرحى.. وبالفعل ذهبنا على الفور.. وبرغم الظلام الحالك استطعنا عبور الأسلاك والألغام والجسور الخشبية على ضوء قنابل التنوير العراقية والإيرانية، وهناك وجدنا المخابر ساقطاً على الأرض، مضرجاً لدمه.. رفعت فخذه وشاهدت ركبته وقد تحولت إلى ما يشبه رأس نخلة ميتة.. زوائد لحمية كثيرة ورؤوس أخطبوطية بشعة.. أما ساقه فلم نعثر لها على أي أثر.. حملناه ببطانية قديمة وسرنا به بين الألغام والأسلاك والفتحة الضيقة المتيسرة لنا.. كان يستجير بي، ويعصر يدي بقوة، وكنت أسمع صوتاً مخنوقاً يخرج من صدره، فيملأني الرعب!!

(5)

رئيس العرفاء (ن. ض. ك) آمر حضيرة هاون في إحدى سرايا وحدتنا، كان يعمل نجاراً قبل التحاقه إلى الجيش، وظل يمارس تلك المهنة أثناء إجازاته الدورية طوال بقائه في الجبهة.

وفي آخر إجازة له، قرر أن لا يعود إلى (مدفعه الهاون)، ولا إلى أفراد حضيرته.. حيث أفرط، ذات نهار بتناول الخمرة داخل محله، وقبل أن تغرب الشمس، شغل المنشار الكهربائي المثبت على منضدة حديدية، ومد يده اليمنى باتجاه القرص الحاد الذي كان يدور بسرعة فائقة، فقطع أصابع كفه الأربعة فيما ظلت إبهامه معلقة، لتشير إلى عوق قسري حدث في ذلك النهار داخل محل النجارة!

(6)

ن ض (م. ع) كان محبوساً في موضعه لمدة أربعين يوماً بسبب قربه من المواضع الإيرانية، وانتشار القناصة هناك.. لم يكن يخرج إلا ليلاً لقضاء حاجته، وفي لحظة خروج من تلك الشرنقة المقيتة قرر أن يلوح بيده اليمنى للقناصين، في محاولة منه (للعثور) على رصاصة!.. وبعد عدة محاولات فاشلة (نجح) أخيراً، وأصيبت يده اليمنى برصاصة اخترقت الساعد وحددت حركتها إلى الأبد..

(7)

المواطن (ع ع) من أهالي مدينة الثورة، وضع حفنة من الحبوب المخدرة في كؤوس الخمرة التي راح يكرعها بسرعة للوصول إلى أقصى حالة سكر.. وبعدها وضع كفه اليمنى على (بلوكة) ثم رفع قنينة غاز مملوءة وهوى بها بقوة على كفه فتهشمت بالكامل، وتخلص بعدها من الجيش (بعوق كحولي)، وكان ذلك هو حلمه الوحيد!

لا للشفاء التام!

أبطال فواصل العوق الذين نجوا من مآسي خنادق القتال، كخطوة أولى، لا زالوا في قلق دائم.. فالكثير منهم لم يطمئن على بقائه في ذلك (البعد المريح).. الشفاء من الإصابات تحول إلى شبح يهددهم بالعودة.. ولذلك عمدوا إلى حيل ومكائد عديدة لطرد ذلك الشبح.. بعضهم أغدق على أطباء المستشفيات العسكرية بالهدايا الفاخرة، لمنحهم المزيد من الإجازات المرضية، أو المصادقة على شدة إصابتهم لغرض إعفائهم من الجيش.

وبعضهم، وخاصة من المعدمين والفقراء، استخدم أقذر الطرق لحماية نفسه من العودة.. وهي فرك إصابته بشحم فاسد، وغسلها بمياه المجاري والأنهر الآسنة لغرض إحداث التهاب حاد وأورام مختلفة في يده أو ساقه تؤدي فيما بعد إلى تلفها ومن ثم بترها!!

آخرون أحيلوا إلى شعبة العلاج الطبيعي. فأصيبوا بخيبة أمل، وانتابهم الرعب من إمكانية حصول اكتساب الشفاء التام، فدفعوا (رشاوى العمر) ورفضوا التعاون مع المشرفين وربطوا سيقانهم وأيديهم بألواح في بيوتهم بدل إجراء التمارين، ما أدى إلى تحديد الحركة في أعضائهم المصابة ومن ثم موتها إلى الأبد!

دراسة

عن حالات العوق هذه، وعن حالات أخر عديدة انتشرت في صفوف الجنود والمدنيين، كتب السيد هاتف فرحان، أحد الناشطين في مجال حقوق الإنسان دراسة مطولة شملت عدة أنواع من حالات العوق ومسبباته ومعدلاتها الكبيرة..

وقد تحدث عن فصل مهم في دراسته يتعلق (بابطال العوق المستحدث) فقال: يبدو أن هاجس الكثير من الجنود والمدنيين الشباب في العهد المباد كان البحث عن النجاة من ويلات الحروب والهلاك الجماعي.. وقد تبلور ذلك التصور الخطر، ونتيجة لعدة مؤثرات أسرية واجتماعية وخارجية، إلى القيام بتصرف غريب وطارئ وهو إحداث حالة عوق دائم في أحد أعضائهم، تمكنهم من البقاء بعيداً عن الجيش وعن جبهات القتال.

وبرغم صعوبة إحصاء مثل هذا الكم الهائل من الحالات التي حصلت، فقد استطعت أن أشخص عدة حالات منها؛ قطع سبابة اليد اليمنى أو الكف اليمنى بآلة حادة، وضرب الكف اليمنى بجسم ثقيل يؤدي على تهشم السلامية والأصابع، وضرب القدم اليمنى بجسم ثقيل، أو قطع الأوردة الخلفية للقدم اليمنى.

أما بالنسبة لحالات العوق التي أحدثها الجنود في الجبهات فغالبها ما تمثلت بإطلاق الرصاص على اليد أو الساق اليمنى!

إن ما لا يعرفه الكثير هو أن نسبة المعاقين بدنياً من أصل مجموع المعاقين وصلت إلى 61% والصم والبكم 27% والعوق الكلي 7% والمكفوفين 5% ونسبة الذكور المعاقين 91% والإناث 9% وإن أغلبية المعاقين من الفئات العمرية 15-45 بلغت نسبتهم 70%!

النجاة بلا عوق

بعد عدة محاولات فاشلة لإحداث حالة عوق دائمية في أحد أعضاء جسده، قرر جندي الحجابات (الرسمي) ق. ع. هـ من أهالي البصرة أن ينجو من الموت على طريقته الخاصة.

ففي ظهيرة تموزية ساخنة من عام 1985 تسلل من تلول الحجابات، ونجح بعبور الألغام الفاصلة بين القوات العراقية والإيرانية في قاطع الطيب، ومن بعيد شاهدنا بالناظور النهاري رفيقنا (الخطير) وهو يهرول باتجاه الحجابات الإيرانية، رافعاً يديه ومعلناً عن نجاة قسرية كبيرة كتبت له بعناد غريب!

في اليوم الثاني أدرج اسمه في موقف اللواء بصفة (مفقود) ليس عن (يطقه) وحاجاته في الحجاب، بل عن وطنه أيضاً!


  

نفطنا مقابل غذائها

أحمد السعداوي

خلال الأيام القليلة الماضية جرى في أروقة الأمم المتحدة جدل واسع، تناقلته وسائل الإعلام المختلفة، حول اتهامات الموظفين الدوليين في برنامج النفط مقابل الغذاء، بكونهم تلقوا رشاوى من قبل النظام السابق من أجل التغاضي عن الخروقات التي حصلت في هذا البرنامج الذي وضعته الأمم المتحدة في وقتها.. خصيصاً.. لإنقاذ الشعب العراقي، ومعاقبة نظام صدام حسين في الوقت نفسه.

ولعل (الفضيحة) التي انفجرت في هذا الوقت بالذات.. أثبتت للكثيرين في العراق، ما كان يتناقله ويصرح به حتى الناس البسطاء، من أن برنامج العقوبات الاقتصادية، والتعديل الذي لحقه في عام 1997 بطرح برنامج النفط مقابل الغذاء. لم (يخدش) من النظام شيئاً.. بل إنه استطاع الولوج من منافذ معينة للالتفاف على الأمم المتحدة. والاستمرار في شراء كل ما يلزمه (لإعمار) قصوره وتقوية نظامه إلى الحدود التي بدأ فيها المرمر الإيطالي يدخل العراق (عيني عينك) بدلاً من الغذاء.. دون أن تنتبه الأمم المتحدة لذلك، أو دون أن تكترث.

العراقيون هذه الأيام مولعون بصيغة (فيما لو)، ويستخدمونها أثناء الكلام بكثرة، ماذا يحدث فيما لو خرجت أمريكا؟ فيما لو لم تنته حرب التحالف الداخلية؟ فيما لو لم تأت شركات الإعمار والتبليط والماء والصرف الصحي والكهرباء؟

ولقد سمعت أكثر من شخص يردد.. ماذا سيحدث لنا فيما لو ألغت الأمم المتحدة البطاقة التموينية، وأوقفت برنامج النفط مقابل الغذاء؟

شخصياً لا أريد أن أتخيل النتيجة، ويكفيني ما أراه حولي من مثبطات، ولكن، لماذا يفترض إنسان ما أن الأمم المتحدة ستوقف (النفط مقابل الغذاء)؟

ربما ما يشجع على إطلاق سؤال هكذا هو غلبة حس التشاؤم، أو اتقاد غريزة استدعاء الكوارث المدربة لدينا جيداَ. ولكن الشيء الحسن أنها - أي الأمم المتحدة - لم تفكر بذلك حتى الآن. وأقول واثقاً.. إنها لم تفكر بذلك حتى لو توقف تدفق النفط العراقي (لا سمح الله) لأي سبب من الأسباب.

هناك من يعتبر أن الحصة التموينية، هي صلته الوحيدة بالحياة، ولن نحتاج لدراسة ميدانية لنعرف أن عوائل كثيرة تعتمد اعتماداً أساسياً على الحصة التموينية.. وسيتذكر القارئ - مثلاً - جاراً أو قريباً له يضطر لبيع بعض مواد الحصة التموينية من أجل تلبية بعض احتياجاته الأخرى. وهذا السلوك غدا من الأمور الطبيعية في العراق خلال السنوات الماضية، ولن نثقل ميزان المآسي العراقية حين نضيفه إليها.

وفي الوقت الذي تلجأ فيه دول كمصر مثلاً إلى نظام البطاقة التموينية لدعم غذاء المواطن.. يبدو لزاماً علينا أن نفكر بهذا النظام خارج ظرف العقوبات الاقتصادية، فالمواطن العراقي سيبقى حتى أمد غير منظور بحاجة إلى نظام البطاقة التموينية، فضلاً عن السعي إلى تطويره وإغنائه في ظل الظرف الحالي بما يؤدي إلى جعل المواطن أكثر أماناً، وأبعد عن التهديد بلقمة الخبز. وإذا كانت رياح الخصخصة قد هبت على اقتصاد العراق وبدأت بتغيير دفته - وإن كانت ببطء كما يبدو - فجل ما يتمناه المواطن البسيط أن لا يطول هذا التغيير لقمة عيشه، ونظام البطاقة التموينية يمكن أن يمثل ضماناً حقيقاً لهذا المواطن. بأن تتبنى الحكومة العراقية القادمة هذا النظام كجزء من برامجها أو مسؤولياتها الاقتصادية. والأمر في النهاية غير محصور بالأمم المتحدة وسياساتها الخاصة.

شيء أخير تثيره قضية البطاقة التموينية.. هو الفكرة التي تقول: أن حسنة صدام حسين الوحيدة.. هي شبكة التوزيع الهائلة للحصة التموينية.. عن طريق الوكلاء فهي الشيء الوحيد الذي لم ينهر بسقوط النظام. ولكن هذا الكلام يبدو مبسطاً جداً. فما الذي سيتغير من سياسات النظام السابق في كلا الحالتين. في حال وجود (النفظ مقابل الغذاء) أو عدم وجوده؟ ماذا كان سيفعل هذا النظام بالمواطنين لتخفيف مآسيهم، التي هو من جلبها، لو أن الأمم المتحدة لم (تتكرم) على الشعب العراقي بالنفط مقابل الغذاء؟

الأرجح أن الرقم الإحصائي للكوارث العراقية سيتغير في أجندة المديونية الأخلاقية والقانونية للنظام السابق.. وليس أكثر.. قضية زيادة في الأرقام، وهذا ما ليس له عند النظام السابق أي وزن أو قيمة. وتبقى الأمم المتحدة في ذاكرة العراقيين أنها ساعدتهم في ظرف ما ووقت ما للتخفيف من مآسيهم بـ(نفطنا مقابل غذائها) وإن لم يكن ذلك بشكل مثالي، كما تثبت الفضيحة التي ظهرت حول هذا البرنامج مؤخراً، والتي يبدو أن سقوط النظام وحده هو من أعطى (المشروعية) في كشف النقاب عنها.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة