الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

 

الرموز الأسطورية في الفن العراقي المعاصر

 

جواد سليم انموذجاً

2-3

 

 

ويرتبط الهلال / القمر، كمنظومة رمزية صاغت الخطابات الأسطورية وبلورت سلطة الالوهة المؤنثة، بنظام الخصب والانبعاث، لأن الخصوبة لا يمكن عزلها وتأشير قطيعة لها مع المرأة / الزراعة، واهتمام جواد بالخصب، يؤكد بقاء المنظومة وأن تغيرت العلامة الدالة عليها، كما في لوحة / نص الشجرة القتيلة، التي تستوعب مفهومنا لعلاقة جواد سليم ووعيه أيضاً، للعناصر الأسطورية.

إن الرجل / السلطة البطرياركية / الشمسية، تقطع الشجرة وتمارس عنفاً مادياً ورمزياً عليها، وفي المستويات الداخلية للقراءة، تعطيل كامل لوظائفها القمرية / الزراعية / الخصوبة / ولأن الأم الكبرى وسلطة الألوهة المؤنثة تعرف جيداً أسباب فعل التدمير والإزاحة، فإنها واجهت الكارثة بالبكاء والحزن، حيث المرأة الباكية، لأنها هي الوحيدة الخاسرة في الصراع مع السلطة الشمسية وانتهى صراعهما بانتصار الرجل / الشمس واقتطاعه لأغصان الشجرة، وكان جواد سليم واعياً لعلاقة ذلك بنظام الخصب في الحياة، والذي عرفته الحضارة العراقية وكل ديانات الشرق الأدنى القديم، وذلك من خلال عنونة اللوحة / النص، حيث كان عنوانها. الشجرة القتيلة.

إن الصراع قد انتهى بجريمة قتل بشعة، عطلت دور الأم الكبرى والغت، رمزياً. سلطتها في إنتاج الثقافة والفكر لذا حلت المأساة وعبرت عنها الأم الكبرى بالمشهد المأساوي والواضح الذي تشف عنه اللوحة / النص.

ولا نكاد نختلف حول أهمية العنونة ودورها الفكري في النص المعاصر، حيث تلعب دوراً موجهاً لسلطة

القراءة، وتمنح المتلقي أو منتج القراءة عدداً من المفاتيح، يتسلل عبرها إلى قراءة النص / اللوحة من أجل أن يقوم بإنتاج نص جديد، يمتد على هامش النص الاول، لذا فالشجرة القتيلة تعني حصول وتحقق صراع دموي، وتعامل جواد سليم مع العنونة تعاملاً مجازياً ومثلما هو حاصل في لغة الأسطورة التي حازت مجازها من اللغة في المراحل الحضارية الأولى - والقتيلة - تشير إلى نمط الصراع الفكري / الديني الذي حدث على اعتاب الحضارة، عندما تخلت الألوهة المؤنثة عن دورها القيادي في الحضارة / الدين.

وتظل الأم الكبرى، ملاحقة في اعمال جواد سليم، بعدما تمركزت تاريخياً لدرجة أن صارت منظومة رمزية - كما قلنا - كاملة وهذا ما تجسده تلك المنظومة في نصب الحرية، وعلاقة الخصب مع المرأة / الأم الكبرى في التاريخ وابنها / الإله الشاب القتيل، الذي يموت وينبعث ثانية لتتأكد القرائن الدلالية الموجودة في تجربة سليم، وهي / الهلال / القمر / الحضارة الزراعية / الألوهة الشابة المذكرة الثور / الأم بإعتبارها تمثل أصل الدين / هذه القرائن كلها هي التي إمتدت في تجربة مهمة لم تشهد الحركة الفنية العراقية والعربية مثيلاً لها، وعبر وعي التفاصيل وإدراك العناصر والتطورات الفكرية الحاصلة فيها وعليها عبر المراحل الحضارية والدينية والتي كثيراً ما كانت تتصارع في بؤرة تكونها وتلد ملامحها الجديدة، وكان جواد سليم واعياً لكل ذلك، لأن نمو المنظومة الرمزية منذ البدء وحتى النهاية وعبر وحدات فكرية صاغت النسق وبلورت السياق. هذا كله لا يعني بأن مثل هذه التجربة تميزت بالعفوية والفطرية، وإنما صاغت الدقة والوعي والإنسجام مع حضارة ومع تأريخ حافل بالمنجزات العظيمة.

إن خلاصة تجربة جواد الفنية وعلى غزارتها - تقدم لنا فرصة طيبة

لتأشير العلاقة بين الفنان وجينولوجيا الحضارة العراقية وديانات الشرق، وأخذه منها أهم عناصرها ذات العلاقة بالخصب وعقائد العراقيين القدماء المرتبطة بالحياة والحب والإنبعاث. لذا فإنه أكثر إلحاحاًَ على تلك المنظومة الرمزية / الفكرية، إبتداء من الآلهة / القمر / الألوهة المؤنثة / الطيور / الثور / الشجرة / الطفولة وغيرها، حيث صاغت معاً وبوحدة معرفية واحدة من أهم وأخطر التجارب الفنية في العالم. ولعل هذه التجربة، هي أكثر التجارب الفنية في حركة التشكيل العربي إثارة للإختلاف والإتفاق، وأعتقد بأن سبب ذلك هو الأسطورة حصراً، لأن اللوحة / النص تؤسس قراءتها على المعنى وليس على اللون، وذلك لأن سلطة القراءة بمستويات النص، أي بمعانيه وليس علاماته البصرية فقط. لذا أجد في تجربة جواد سليم قوة الأسطورة وحدتها، نعومة العناصر كذلك لأن الاسطورة لا تكمن في قوة سردها وإنما بهدوء اشتغالها وبما أن الاسطورة - النص - يمثل مجموعة من الشفرات / الرسائل وهي تجسد كل محمولات الإنسان الثقافية / الاجتماعية / الدينية وبعيداً عن زمانها ومكانها، فمن هنا تأتي قوتها وتتبدى فيها مجموعة من الأنساق المعرفية التي تعيد تعميم وتخطيط ملامح التجربة.

وما يؤكد تميز تجربة جواد سليم الفنية. وهو إنشغالها وبوعي هو التناظر وثنائية المقابلة وهذا هو اوسع مديات القراءة وتعددت الإختلافات الايجابية، ومن تلك النظائر، الأسطوري / الواقعي / الأنثوي / الرجولي / الموت / الحياة / القوة / الضعف / السجن / الحرية.

إن مفاهيم جواد سليم الفكرية واضحة ومعروفة، وإن لم يقدم تفاصيل لها، لكنها تكشف عن نفسها من خلال وحداتها المكونة لأنساقها الدينية / الاجتماعية / السياسية / ولهذا فإن آلهة الخصب كامنة في أعماله، إنها الألوهة

العشتارية المتجسدة من خلال الآلهة / الشجرة / الثورة / وهي الأم الكبرى، في نصب الحرية والتي مات ابنها الشاب الذي سينبعث مرة ثانية (دموزي / تموز) في دورة الحياة الجديدة.

الإبن الذي يشير إلى منظومة الألوهة الشابة الذكرية والذي يقف مجاوراً لها، تظلله علامات الخصب والأنبعاث، والأم ذات الملامح العراقية المعاصرة واقفة شامخة وببطن منتفخ، إشارة لتخصيبها.

إن الأم الكبرى هي نفسها (في لوحة / نص. الشجرة القتيلة) والتي خسرت خصبها بإقتطاع الشجرة، وأستطيع التأكيد على مجال التشاكل الجدلي والصراعي في تجربة جواد سليم، حيث التقاء العديد من الثنائيات / المتناقضة، والتي تدفع ببعضها نحو تعمق الصراع، ليؤشر نحو مساحات حيوية في تأريخ الحضارات.

إن الصراع في لوحات / نصوص جواد سليم، لم يكن متكافئاً وذلك بسبب أحادية السلطة الذكرية، التي قادت الصراع إلى نهايات، متمثلة بتدمير كامل لسلطة الألوهة المؤنثة / الشجرة القتيلة مثلاً ولهذا استكانت الأم الكبرى - متوقفة عن وظائفها - إلى حزنها ومراثيها، وتركت السلطة الشمسية في غرورها وشيوع دمارها العام. لقد إكتشف الفنان جواد سليم مستوى الصراع الذي عرفته البنية الذهنية الأسطورية العراقية القديمة، من خلال مدارات الآلهة في حركة اختلافها وتناقضها مع بعضها، إختلاف الأمومة / القمرية / الزراعية مع مرحلة الذكورة / الشمسية، وكيف تبدى هذا في لوحاته / الشجرة القتيلة. التي أضاءت لنا أهم الجوانب الفكرية في علاقات الآلهة مع بعضها، ومستوى الصراع والنتائج التي تحققت من خلال رموز كان أهمها وأسهلها في الإيصال الذي حققه جواد باتجاه المتلقي / المرسل اليه، وأعني به رمز الشجرة بإعتباره يمثل دينا في الشرق والعالم وقد درسها جيمس

فريزر في كتابه المهم (الغصن الذهبي، السحر والدين) وتعامل معها كديانة لها عناصر عديدة، تلتقي وتتشكل مع بعضها لترسم حدود منظوماتها ذات الصلة الحيوية مع الحياة بمدارها الحي والمشع وليس الانطفاء والموات. ونسق الشجرة (المنسوج من عناصر ورموز الحياة الواسعة) لم يخمد ويموت عشوائياً، وإنما حصل له تدمير قصدي كان خاتمة الصراع الذي عاشته الحضارة والديانات الشرقية، لذا كان الرجل السلطة البطرياركية هو المعلن عن الانطفاء، والمتشفي بها يجري ويحصل تحت الشجرة حيث الألوهة المؤنثة بعلاماتها الخارجية / العراقية تواجه المصير حزينة، وإن كانت مأساة الألوهة المؤنثة / بالموت الذي لحق الشجرة، (أو التدمير القصدي إن اردنا الدقة الفكرية) مأساة ذاتية في مشهد التجاوب بين المرسل اليه وبين الرسالة، لكن المتن الداخلي، يضيء مساحة أكبر واوسع كثيراً. وحزن الألوهة المؤنثة على الشجرة، هو تعبير عن بدء وبقاء واستمرار تراجيديا الموت والافتراق، الذي كثيراً ما يتكرر بين الام ووليدها / الابن / الاله الشاب... وكان جواد سليم واعياً - كذلك - لأنه ترك الشجرة ممتدة في الارض ولم تقتلع من جذورها، تعبير عن معاودة الدورة الانبعاثية مرة جديدة وثانية، لتؤكد جدلية الحياة.

إن علاقة الالوهة المؤنثة مع الحياة / الطبيعة، علاقة تخصيب وتحقق هذه العلاقة، يحدد نوعية ومستوى الهيمنة الدينية والحياتية التي تتمتع بها، وعلاقة الام / الشجرة، لم تكن ذاتية كما قلنا وإنما هي علاقة فرد / جمع مؤنث كوني مع الطبيعة، وهي الرحم الأول / متناغمة مع الأرض / الأم التاريخية، التي كانت وظلت تراقب رمزياً

-التخصيب

والانجاب

ومن ثم استكمال شروط النمو البيولوجي ومن ثم الموت والاندثار،

والعودة ثانية إلى الأرض، عودة رمزية أيضاً - إلى الرحم الاول..


 

 الموسيقي بارنبويم يتهم بمعاداة اسرائيل

ثائر صالح / بودابست

أسم دانييل بارنبويم في عالم الموسيقى أشبه بأسماء الحائزين على جائزة نوبل ساماراغو أو غراس مثلاًً في عالم الأدب، فهو من بين أهم قادة الأوركسترا أهمية في العالم اليوم، إن لم يكن أهمهم. والفنان الحقيقي أكثر حساسية تجاه القضايا الإنسانية من غيره، وبارنبويم اليهودي المولود في الأرجنتين فنان حقيقي. فقد حرص دوماً على التعبير عن أمله في الوصول إلى سلام حقيقي وعادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واعتاد تحدي الأوامر العسكرية الإسرائيلية والذهاب إلى رام الله في الضفة الغربية لتقديم حفلات موسيقية هناك. واعتاد كذلك - كفنان حقيقي - أن يتسامى على الطروحات البدائية الفجة، المليئة بالمزايدات، فهو يقدم إلى جانب بيتهوفن وموتسارت أعمال الموسيقار الألماني المبدع ريشارد فاغنر برغم تحريم الصهيونية تقديم أعماله بسبب محبة هتلر لموسيقاه. غير أن فاغنر المسكين وموسيقاه لا يتحملان وزر محبة النازيين، فقد توفي في 1883، أي قبل ظهور النازية وهتلر بعقود. وقد شبهت ذات مرة هذه الفكرة السخيفة بمثال خيالي، هو أشبه بمن يدعو إلى تحريم قراءة شعر المتنبي مثلاً بدعوى أن واحداً من دكتاتوريي العالم العربي المعاصرين، لنقل صدام حسين،  كان يحب شعره (مع أنني أشك في توفر ذائقة شعرية أو أدبية حقيقية عند أي مستبد حقيقي، فهذا وذاك نقيضان). وبارنبويم ليس ظاهرة فريدة في هذا المجال، إذ ”أكثر“ قائد الأوركسترا الكبير المرحوم جورج شولتي (سولتي أو زولتي كما يسمى عادة) من تقديم أعمال فاغنر كذلك وهو اليهودي المجري الأصل، برغم أنه لم يزر معسكرات الاعتقال النازية لحسن حظه وحظنا، فقد أمضى الحرب العالمية الثانية وهو يعمل في سويسرا فنجا من المحرقة. وتعتبر تسجيلات شولتي لفاغنر من بين أجمل تسجيلاته، منها تسجيل

دراما تريستان وإيزولدا مع فرقة فيينا الفيلهارمونية.

لكن بارنبويم بقوة فنه فرض نفسه على العالم. وقد تسلم في مبنى الكنيست يوم الأحد 9 أيار (مايو) الجاري جائزة مؤسسة ”وولف“ للموسيقى وقيمتها 50 ألف دولار، تبرع بها لتشجيع الموسيقى لدى الأولاد اليهود في إسرائيل والأولاد الفلسطينيين في رام الله. وقال بارنبويم في كلمته التي ألقاها في هذا الحفل ولاقت حسب صحيفة يديعوت أحرونوت تصفيقاً حاراً من قبل الكثير من الحضور: ”هل يمكن أن نتجاهل الهوة التي لا تحتمل بين ما تم التعهد به في وثيقة الإستقلال و[بين] مواصلة الإحتلال والسيطرة على شعب آخر؟“، وأضاف متسائلاً: ”هل يمكن للشعب اليهودي، الذي يحفل تاريخه بالمعاناة المتواصلة والملاحقات، أن يسمح لنفسه أن يكون لا مبالٍ حيال معاناة شعب آخر؟“.

كانت كلماته هذه كافية لقيام الدنيا ورفضها القعود. فقد اتهم الرئيس الإسرائيلي موشيه كاتساف ووزيرة التربية ليمور ليفنات على الفور قائد الأوركسترا الشهير دانييل بارنبويم بالتهمة الجاهزة: معاداة إسرائيل. ونهج الرئيس والوزيرة نفس النهج المعتاد في اتهام كل من ينتقد الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمعاداة إسرائيل (ومعاداة السامية بالطبع إن كان من ”الأغيار“، لكن بارنبويم لا تنطبق عليه هذه الصفة لسوء حظهم). فقد ثارت الوزيرة اليمينية، وهي رئيسة اللجنة التي قررت منح الجائزة للموسيقار، وطلبت حق الكلام، وقالت: ”بودي أن أعرب عن الأسف على قيام بارنبويم باختيار هذا المكان وهذه المنصة من أجل مهاجمة دولة إسرائيل“، وذكرت أن قرار منحه الجائزة كان محط خلاف لأنه تجاهل في السابق مشاعر الناجين من جرائم الكارثة النازية وقدم أعمال الموسيقار ريشارد فاغنر التي أحبها النازيون في مهرجان إسرائيل

حسب تعبير إيلان مارسيانو كاتب صحيفة يديعوت أحرونوت.

غير أن كاتساف مضى أبعد من ذلك في تعليقه قبيل نهاية الإحتفال، عندما قال: ”إنني أعتقد أن بارنبويم يستحق الإدانة ليس بسبب الكلمة التي ألقاها فحسب، وإنما، أيضاً، بسبب المساس بمشاعر الناجين من جرائم الكارثة النازية. إنه مساس أخطر من كلمته“. وفي هذا الكلام دس وتزوير صريحان، إذ كيف يمكن لرئيس إسرائيل أو وزيرة تربيته أن يتفوها بمثل هذا الإدعاء، ويعطيان لنفسيهما الحق في التحدث باسم الناجين من المحرقة، وهناك بين الناجين من آوشفيتس و”الشوا“، ممن يعلن صراحة عشقه لموسيقى فاغنر؟ وليس في هذا مبالغة، فالكاتب اليهودي المجري إمره كرتيس الذي حاز جائزة نوبل للآداب سنة 2002 يعشق موسيقى فاغنر، بالتحديد دراما ”الفالكيريا“، برغم مروره بآوشفيتس وبوخنفالد! إذ تحتل هذه الدراما الموسيقية (حسب تعبير فاغنر نفسه) موقعاً أساسياً في عمله المعنون ”الراية الأنكليزية“، التي يصف كرتيس فيها كيف سيطرت هذه الموسيقى على لبه وأخذت عقله، وأصبحت وسيلة من وسائله لتجاوز تأثيرات السلطة التوتاليتارية المستبدة في بداية الخمسينيات. فقد تحولت دار الأوبرا وأوبرا فاغنر هذه بمثابة جزيرة يلجأ إليها الكاتب للهروب من ”الكارثة وعصر الكارثة“.

إن الجريمة الحقيقية لبارنبويم هي دعوته لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وإلى السلام العادل وقيام الدولة الفلسطينية.


الكتاب في مواجهة السلطة

معاناة باعة الكتب في شارع المتنبي

اعتقالات ومداهمات تطال المكتبات والمخازن وحتى البيوت

لا يزال الكتاب المستنسخ يثير شهية القارئ العراقي

جلال حسن

بضاعة المتنبي المحرمة

ربما لا يعرف قراء الكتاب الممنوع في زمن الطاغية، المعاناة الحقيقية لبائعي الكتب على رصيف شارع المتنبي في كيفية إنجاز الكتاب وطريقة توزيعه بمئات النسخ المنجزة على أجهزة الاستنساخ ووصوله إلى القارئ، معاناة ممزوجة بالخوف والحذر والموت، خصوصاً حين تشتد المراقبة المداهمة في أيام الأزمات السياسية التي كانت تمر بالبلد، وتكثر عيون رجال الأمن على كل من يرتاد هذا الشارع، لأن بعض الكتب تعتبر من المحرمات التي قد تؤدي ببائعي هذه الكتب إلى الإعدام. وتدفع عائلته ثمن الرصاصات المستخدمة في القتل مشروطة بعدم إجراء مجلس العزاء. وتزداد المعاناة حين يقوم رجال الأمن بحملات تسمى (تعقيمية) تتم فيها مداهمة مخازن الكتب وتفتيش كل شيء، لذلك يضطر هؤلاء الباعة لترك الشارع حتى تنتهي هذه الحملات الاستفزازية.

ومع اشتداد الرعب وكابوس الحصار والفاقة، استطاعت مجموعة من بائعي الكتب أن تجد لها عملاً بعنوان (بائع كتب متجول) إذ حاولت أن تجد لها سيرة من حياة الموت والعذاب باستنساخ هذه الكتب المحظورة التي تصل إلى بغداد عن طريق التهريب أو عن طريق بعض الأصدقاء العائدين من المنفى.

هؤلاء الباعة يروجون لتلك الكتب بالسر وتحديداً يوم الجمعة حين يكتظ الشارع بالمثقفين والأدباء والفنانين. أما نوعية هذه الكتب فمعظمها سياسية تفضح دور النظام وأساليبه الإرهابية في تعذيب العراقيين وكتب فكرية ودينية ومجاميع شعرية وروايات وكتب نقدية يصدرها أدباء عراقيون في المنفى خصوصاً الأدباء الذين هربوا من بطش

النظام لذلك أصبح شارع المتنبي رئة العراق الثقافية وأكبر موزع للكتب والمرجع لجميع التيارات، كونه مصدراً للثقافة (الممنوعة) التي تتخفى سراً خوفاً من أن يكتشفها المخبر ويحدث ما لا تحمد عقباه، وطبعت كتب كثيرة داخل العراق بعيداً عن عين الرقيب الحزبي في وزارة الإعلام سابقاً، دراسات وبيانات ومجاميع شعرية وغيرها، فظهرت حرة في خطابها المعرفي وتحليلها الصريح للكارثة العراقية.

ولا يزال حتى الآن الكتاب المستنسخ يثير شهية القارئ العراقي ويحقق مبيعات جيدة.

معتقلون وكتب ممنوعة

الآن وبعد مضي أكثر من عام على الخلاص من نظام صدام الدموي وبالرجوع إلى تلك الأيام المخيفة والمرة في الذاكرة الثقافية، أغبط بائعي الكتب المستنسخة. على قدرتهم على الصمود وامتلاكهم ذوات نبيلة وعراقية صادقة، ليس لأنهم كانوا يمدون القارئ المثقف في محنته وحصاراته بكتاب أو منشور جديد ممنوع بما يتيح إمكانية ممارسة القراءة وما يستجد في ثقافة العالم من معطيات ما وراء جهل وأمية النظام الظلامي، بل التواصل المعرفي مع نتاجات فكرية حديثة في زمن خنق الأنفاس.

هؤلاء الباعة كانوا الخلاص، لأنهم ابتكروا بوسائلهم البسيطة من أجهزة الاستنساخ بفتح آفاق ومنافذ لترويج الفكر الحي في زحمة الثقافة الرديئة. فكانوا يحملون حياتهم وحياة عوائلهم على راحاتهم من أجل كتاب ربما لا يساوي ربحه قطرة دم متحملين خطورة كبيرة، ليس لأنهم اتخذوا موقفاً إنسانياً مع شعبهم فحسب بل لم يقعوا في فخ النظام واساليبه القذرة، فظلوا أوفياء وشرفاء برغم إغراءات النظام المباد، ولأن نصيب الكثير منهم كانوا في السجون والمعتقلات... لذلك يستحقون الاحترام والإشارة.

سعد خيون بكالوريوس إدارة واقتصاد، اعتقل بسبب بيع كتب ممنوعة

تحدثت معه عن سبب اعتقاله في سجون النظام السابق فقال:

- تعرضت إلى الاعتقال بتاريخ 1992 بتهمة ترويج الكتب الدينية قضيت 9 أشهر بالتعذيب في مديرية الأمن العامة وحاكمية المخابرات وكان يشرف على عمليات التعذيب والتحقيق العقيد عبد العزيز. بعدها أصدر الحكم علي وفق المادة 208 سبعة أعوام سجن، قضيت ثلاث سنوات مع بائع الكتب السيد ضياء خالد بنفس التهمة. وحين كنت أقضي مدة السجن تعرضت عائلتي إلى مضايقات من رجال الأمن وثم حجز أخوتي ولم تنته المضايقات حتى بعد خروجي من السجن بل امتدت إلى المراقبة اليومية وتفتيش المخزن العائد لي. لكني اكتسبت خبرة في التخفي منهم بشراء أكثر من مخزن. وعن طبيعة الكتب التي كان يقوم باستساخها؟ تحدث سعد هيون:

- هناك عناوين كثيرة منها كتب السد محمد باقر الصدر.. فلسفتنا... واقتصادنا، موسوعة السيد محمد صادق الصدر الكاملة، الشيعة والدولة القومية للمؤلف حسن علوي، مذكرات الجواهري، العراق البيرية المسلحة حركة حسن سريع وقطار الموت 1963 للمؤلف الدكتور علي كريم سعيد.

أما علي طالب خريج معهد هندسي تحدث عن تجربة الاعتقال بنفس التهمة:

كنت أعمل في بيع الكتب الممنوعة أيضاً وتعرضت إلى موقف مخيف مع رجال الأمن من خلال مدير مكتب وزير الداخلية سابقاً على ترويج كتاب العراق بأجزائه الثلاث للمؤلف حنا بطاطو لكن هذا المدير أخذ مني كتباً بقيمة خمسة وعشرون ألف دينار طمعاً بها. وحكم علي بسبعة أعوام سجن وفق المادة 157 قضيتها في سجن ابو غريب.

ثقافة الاستنساخ.. ثقافة مواجهة

سالنا علي الأميري بكالوريوس قانون عن كيفية تعامله مع الكتاب المستنسخ فقال:

لقد شكلت ظاهر الكتب المستنسخة نوعاً من المواجهة وأسست لثقافة

معارضة قام بها مجموعة من المثقفين الباعة وحول كيفية التعامل مع الكتاب: تعاملت مع نوعين من الكتب المستنسخة.. النوع الأول هو الكتاب المنهجي المقرر في الكليات والمعاهد والذي يدرس وفق المناهج التدريسية للطلبة وكذلك المعاجم والقواميس، وبكل صراحة أقول: لقد ساهمت مع بعض زملائي باعة الكتب بتهيئة الكتاب العلمي للطلبة في أحلك الظروف الاقتصادية في زمن الحصار وبأسعار رمزية للتخلص من جشع التجار المستوردين.. فمثلاً قاموس المورد لمنير البعلبكي والذي يحتاجه الطالب، سعر الأصل يباع بـ60 ألف دينار عراقي. فقمت باستنساخه وبيعه بـ 13 ألف دينار هذا الفارق كان ضربة قاصمة لهؤلاء التجار الأشرار الذين يعلمون جيداً بدخل العائلة العراقية وما يعانيه الآباء من عوز وفاقة.

أما النوع الثاني من الكتب فهي السياسية والفكرية والثقافية العامة التي كنت أروج لها وأبيعها بطريقة التوزيع الشخصي - لاني كنت استنسخ منها أعداداً قليلة لكن بمرور الوقت أصبح كل صديق يأتي بصديق آخر للتبضع من هذه العناوين فكنت حذراً جداً ومرة حين علمت بمداهمات رجال الأمن للبيوت أحرقت كل كتبي في البيت بأن وضعتها بالتنور وكان قلبي يحترق قبل أن تشب النار فيها.

سالناه عن العناوين التي كانت رائجة في البيع آنذاك فأجاب:

هناك كتب كثيرة أذكر منها: العراق هل سيقوى على البقاء حتى 2002 كراهام فولر، القسوة والصمت.. الحرب.. الطغيان،الانتفاضة. للمؤلف كنعان مكية، تجربتي مع حزب البعث / للمؤلف خالد علي صالح، تاريخ العنف الدموي في العراق، الوقائع - الدوافع - الحلول تأليف باقر ياسين.

أما السيد كريم حنش / ماجستير تاريخ فله أكثر من حكاية حول المضايقات التي تعرض إليها، فقال:

تعرضت إلى ثلاث حالات من هذا النوع - الأولى: مرة اشتريت كتاباً مستنسخاً بعنوان (العراق دولة المنظمة السرية) للمؤلف حسن

علوي وقد أعطيته لأحد الأصدقاء استعارة وأثناء تفتيش محل صديقي عثروا على هذا الكتاب، وحين جاءوا إلى محل عملي كنت ولحسن المصادفة غير موجود في ذلك اليوم مما دفع أحد الأصدقاء لإخباري عن الموضوع - تلك المضايقة اجبرتني على ترك السوق لمدة ستة أشهر مطارداً ومتابعاً من قبل ملازم عمر ولولا الرشوة والوساطة لكنت دخلت السجن.

أما المحاولة الثانية في أثناء عبوري شارع المتنبي استدعاني اثنان من رجال الأمن وقاما بتفتيش حقيبتي، فوجدا فيها كتاب (الريل وحمد) للشاعر مظفر النواب، وبعد عدة تبريرات ومبلغ 25 ألف دينار أطلقوا سراحي.

والمحاولة الثالثة، كانت قبل سقوط النظام السابق بأشهر فقد بلغ استهتار رجال الأمن لأبسط الأشياء من أجل المصادرة وأخذ الرشوة علناً فقد بلغ بأحد المفوضين الأمر أن يكون سيد الشارع في يوم ما يأمر وينهي واستدعاني لمنع بعض الكتب العلمية بحجة أنها غير مرخصة من الجهات المعنية، مما حدا بي إلى دفع الرشوة بدلاً من الاعتقال وأمام الملأ.

مثقفون.. باعة وكتب محرمة

يطول الحديث عن هذه الشجون الحزينة التي عانها المثقف العراقي في محنته التي استمرت أكثر من ربع قرن من العذاب والتهميش والفقر والخوف، لكنها أصبحت ذكريات يفتخر بها الآن أمام الأجيال الجديدة في عراق جديد ديمقراطي.

التقينا أحد أشهر باعة الكتب الإنكليزية السيد سعدون هليل المنشد وهو بائع الكتب العتيد المعروف والذي شوهد مرة في صيف 2002 في شهر آب يسير وسط رجال الأمن وقد ضبط متلبساً بجريمة الكتاب الممنوع في منتصف نهار شارع المتنبي. سألته: عن طبيعة الكتب التي كان يتعامل بها والترويج لها فتحدث عن تجربته:

يمكن القول أن طبيعة الكتب هي السياسية والثقافية والأدبية التي تعري النظام البعثي الفاشي، وأغلب هذه الكتب يسارية الفكر والتي

تتضمن المذكرات لبعض الكتاب المتنورين مثل د- فالح عبد الجبار وعصام الخفاجي وفاضل العزاوي وسعدي يوسف وغيرهم، وهؤلاء مفكرون واجتماعيون مثل مذكرات زكي خيري وبهاء الدين نوري ورحيم عجينة ومذكرات المناضل سلام عادل التي كتبتها عنه زوجته المناضلة (ثمينة) ود-كاظم حبيب.

وإن من أهم الكتب التي كنت أروج لها كتب الباحث الاجتماعي المعروف د- فالح عبد الجبار الذي كتب عن تركيبة المجتمع العراقي وبالذات عشيرة صدام وكيف تسلقت هذه العائلة سلم السلطة وأمسكت برقاب الشعب العراقي وجرائم أسرته وأشقائه وابناء عمومته - وهناك كثير من الكتب المهمة لسلام عبود (ذبابة القيامة) ونجم والي وزهير الجزائري وغيرهم الكثير وجمهورية الخوف عراق صدام للمؤلف كنعان مكية. وكتاب الذات الجريحة للكاتب سليم مطر والذي أدخل ضمن منهاج كلية العلوم السياسية وغيرها. أما عن المصادفات الغريبة في هذا الصدد في وقت كان فيه الفرد مليء بالرعب والخوف حتى وإن لم يعمل أي شيء تحدث سعدون هليل قائلاً: تعرضت لموقف لم أحسد عليه ذات يوم حين كنت أحمل حقيبة مليئة بالكتب الممنوعة مثل جمهورية الخوف والحزب الهاشمي لسيد محمود القمني وأوكار الهزيمة وتجربتي مع حزب البعث العراقي للمؤلف هاني الفكيكي وفندق السعادة / حكايات من عراق صدام حسين للمؤلف جليل العطية. وحرب الخليج لمحمد حسنين هيكل وغيرها من الكتب. ومتجهاً إلى مكان تجمع السيارات فوجدت سيارة واقفة بالقرب من هذه السيارات فيها عناصر الأمن للنظام البعثي فصاح بي أحدهم صيحة وحشية لا تحمل من الأخلاق شيئاً سحبت نفسي بكل هدوء لكنهم سلبوني وهذه الحقيقة يعرفها رواد شارع المتنبي، ناهيك عن التعهدات الكثيرة في دائرة الأمن والتي كنت أوقع فيها لآخر مرة لكن هدفي كان أكبر من ذلك بكثير.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة