الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

 

بمناسبة انعقاد الدورة الستين لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة

حقوق أطفال العراق بين حروب صدام وممارسات قوات الاحتلال

ذاكرة مليئة بصور الأزمات واستغاثة تطلب جهداً ومشاركة إنسانية ودولية لإنقاذها

أياد الخالدي

قادته خطواته الغضة مع حفنة من (فرسان) الحواسم إلى أحد مخازن الأسلحة.. ليلتقط منها رمانة يدوية.. ويعود إلى منزله حاملاً معه لعبة الموت.. واختار شقيقته الصغرى لتقاسمه قدره وتعبث معه في هذه اللعبة قبل أن تعبث بجسدها أشلاء.

انهمرت دموع (أم أيمن) وهي تروي لنا فاجعتها.. وتتأمل صورة طفليها المعلقة على جدار القلب الذي نزف دماً من هول الكارثة وألم الفراق. تقول أم أيمن: لم أكن أتصور أبداً أن الموت يتربص بأطفالي في لحظة غفلة مني.. وتضيف: نحن نسكن في هذه المنطقة منذ (20) عاماً.. ودارنا كما تلاحظ قريبة من المعسكر.. وقبل الحرب كنا نشاهد الجنود وهم يخفون الأسلحة وأكداس العتاد في الشوارع.. حينها قررنا أن نغادر دارنا.. وعندما انتهت الحرب عدنا.. ولكن الموت كان ينتظرنا هنا.. ورأينا أشخاصاً يسرقون الأسلحة والأعتدة ويحفرون حتى في الساحات القريبة من دارنا بحثاً عن هذه الأسلحة.. ولا أعرف كيف تسلل ولدي الصغير وذهب إليهم.. وعاد بهذه القنبلة.. لا أعرف من المسؤول أنا.. أم هم.. أم هو القدر المكتوب؟!..

الأطفال ضحايا الحرب

الضياع - اليتم - أمراض واضطرابات نفسية.. قواسم مشتركة لأطفال عراق ما بعدالحروب.. إذ كان أطفال العراق وما زالوا يدفعون فاتورة حروب صدام المدمرة التي خلفت أطفالاً يتامى.. قتل أباؤهم في محرقة الحرب، وعانوا شتى أنواع القهر والحرمان من الرعاية والاهتمام ومن مقومات التربية الصحيحة.

تقول الدكتورة بيان الأعرجي عضو منظمة الحوار ما بين الأديان وناشطة في مجال الإغاثة الإنسانية في كلمة ألقتها في الأمم المتحدة بمناسبة الدورة الستين لحقوق الإنسان التي اختتمت في جنيف في 23 شباط 2004: لقد مضى أكثر من عام على انتهاء العمليات العسكرية ولا تزال المرأة العراقية والطفل العراقي يشاهدان يومياً المناظر الدموية الرهيبة ويكونان أولى الضحايا لها. أنا شاهدت بعيني الانفجار الإرهابي الذي حصل يوم العاشر من محرم في مدينة كربلاء المقدسة وشاهدت جثثاً محترقة وأعضاء ممزقة وجماجم نساء وأطفال أبرياء تنتشر في كل مكان.

إننا قلقون جداً من الطريقة التي تتعامل بها قوات الاحتلال مع العراقيين حيث الأطفال والنساء الذين عانوا من التبعات السلبية للحرب والحرمان من النظام السابق. هم أولى ضحايا هذه الممارسات التي يرفضها القانون الدولي.

إننا نهيب بمنظمات الأمم المتحدة والدول المانحة والجمعيات غير الحكومية أن تضع خططاً لمعرفة مدى المشاكل التي يعانينها الأطفال في هذه الظروف الصعبة وعليها أن تتعامل بخطط مدروسة مع تبعات الحرب على المرأة والطفل وتوليها اهتمامها.

أمراض نفسية

برغم مرور عام على انتهاء الحرب على العراق إلا أن أثارها وتداعياتها ستظل لفترة طويلة أبرزها ما يعانيه حالياً الأطفال العراقيون من اضطرابات نفسية وعصبية.. هذا ما أكده الدكتور قاسم حسين صالح أستاذ الصحة النفسية في جامعة بغداد مضيفاً: إن نسبة الأطفال العراقيين الذين يعانون صدمة ما بعد الحرب قد ارتفعت بشكل مخيف.. وأثرت على مجمل ترفاتهم وسلوكياتهم مما يعكس مؤشراً غير طبيعي لحالة هؤلاء الأطفال غير المستقرة.

تقول السيدة إيمان العضاض، معلمة في إحدى المدارس الابتدائية: إن سلوك الأطفال بدا لي متغيراً هذا العام بعد صور الحرب التي علقت في ذاكرتهم.. فأنا أراقبهم أثناء فترة الدرس والاستراحة. وأشاهد حركاتهم وألعابهم فهي لا تبتعد عن الطائرات والقنابل والقتال القاسي.. وتطغى روح العدوانية على الكثير من سلوكياتهم.. وكل ذلك له تأثير سلبي على نفسية الطفل وتلقيه المعلومات العلمية والأدبية.. فهو يوعز كل الأشياء إلى الحرب حتى علاقاته مع أصدقائه.

*وكيف لنا أن نخرج كل تلك الصور من ذاكرة الطفل ونعيده إلى وضعه الطبيعي؟

-يحتاج ذلك إلى وقت وإلى تضافر كل الجهود، وإلى مؤسسات علمية وتربوية وخبراء في علم النفس والاجتماع وبرامج لتوجيه الأطفال تساهم بها وسائل الإعلام وبالأخص التلفزيون.. وللأسف فإننا نفتقر إلى كل ذلك.

الألغام

تسجل الكثير من الدوائر الصحية والمستشفيات العراقية حوادث وفاة بواسطة الألغام المزروعة في الأرض ولا سيما في المدن الحدودية كالبصرة وديالى.. ويكون الأطفال أغلب ضحاياها..على الرغم من عدم وجود إحصائية رسمية تحدد عدد الأطفال الذين قتلوا بسبب انفجار ألغام أو أولئك الذين تعرضوا إلى عوق أو عاهات مستديمة..

وتشير العديد من التقارير الدولية إلى أن هناك ملايين الألغام غير المنفلقة والكثير من المتفجرات والمقذوفات تغطي مساحات شاسعة من العراق وتلتف كسياج حول الكثير من المدن بما فيها العاصمة بغداد.. ويذهب ضحيتها أطفال القرى.

ولا بد من عمل برنامج تساهم فيه مؤسسات دولية لإزالة هذه الألغام والتوعية بمخاطرها.

استغلال الأطفال

تقف هدى (11 عاماً) حافية القدمين ترتدي أسمالاً بالية ويلتف حولها مجموعة من الأطفال يستنشقون مادة مخدرة ويذرعون أزقة وشوارع منطقة الميدان وشارع الكفاح غير مبالين.

يقول خليل حسن سائق باص حكومي لنقل الركاب: منظر الأطفال هنا في منطقة الميدان وفي علاوي الحلة بات مألوفاً..

ويتعرض الأطفال هنا إلى استغلال من قبل عصابات السلب والإجرام، فهم مستعدون لعمل أي شيء مقابل الحصول على المخدرات وحبوب (الكبسلة)..

فالكثير من عصابات السرقة والإجرام تجند هؤلاء الأطفال ويتم استخدامهم كمجموعات في عمليات الاحتيال والتسول لمصلحة أشخاص بالغين..

وحتى الفتيات يتم استدراجهن إلى بيوت الدعارة وهناك يتعرضن إلى الاعتداء الجنسي ومن ثم يتم إجبارهن على امتهان الدعارة.

دور لرعاية الأطفال

في دور الدولة لرعاية الأيتام يحصل الأطفال على قدر جيد من الرعاية والاهتمام ويتوفر في هذه الدور الكثير من الوسائل التي تساعد الأطفال على الاستمرار في الحياة.

في دار النجاة لرعاية الأطفال التي تحظى برعاية إنسانية وخاصة من قبل منظمة الشيخ زايد الإنسانية التي قامت بتأثيث الدار وتوفير كامل مستلزمات عملها وكل ما تحتاج.

التقينا هنا مجموعة من الأطفال ولكل منهم قصة حزينة سبقت مقدمهم إلى الدار..

سمية.. تعاني من اضطرابات نفسية كانت تتعالج في مصحة نفسية قبل مجيئها إلى الدار.. حيث كانت تعيش إلى جانب والديها قبل إعدامهما..

هند.. قتل والدها في الحرب ثم توفيت والدتها فجاء بها أقاربها إلى الدار..

نوال.. فضلت البقاء في الدار على معاملة زوجة أبيها القاسية.

وقبل أن ننهي جولتنا أخبرتنا السيدة (أنيبة جبار) مديرة دار النجاة لرعاية الأيتام. انها تنتظر الآن استقبال طفلة قتل والدها في حادث انفجار عبوة ناسفة كان يقود سيارته في مدينة بعقوبة.

في (دار الأيتام الصغار) في الوزيرية.. التي تحولت في الحرب الأخيرة إلى مقر عسكري بديل لأزلام النظام.. حيث استخدموا الأطفال درعاً بشرياً لحمايتهم. ومنهم عبد التواب الملا حويش وزير التصنيع العسكري في النظام المباد.. حدثتنا السيدة أميرة حسن الصراف عن حالة الطفل (حسين جاسم) الذي جاء إلى الدار برفقة القوات الأمريكية التي عثرت عليه عند دخولها  إحدى القرى التابعة إلى محافظة بابل.. ولم نستطع الحصول على معلومات عن عائلته.. ولا نعرف إذا كان والداه على قيد الحياة أم لا وإذا كان هناك أحد من أقاربه يبحث عنه.

حسين جاسم 9 سنوات.. مثال آخر على الضياع.. عندما تحولت قريته إلى مسرح للعمليات العسكرية في الحرب الأخيرة.. وقتل وهرب الكثير من أفراد القرية: بينما ترك حسين وحده.. وعندما وصلت القوات الأمريكية استنجد بهم.. وطلب البقاء معهم!.. ربما من الظلم والاستغلال الذي يتعرض له هذا الطفل أو ربما هناك سبب آخر!!

محطتنا التالية وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وهناك تحدثنا مع السيدة عبير مهدي مديرة دور الدولة لرعاية الصغار: تقول السيد أميرة: إن نسبة عدد الأطفال اليتامى قد ازداد بشكل كبير في العقود الأخيرة في العراق وذلك يرجع إلى الحروب الكثيرة التي خاضها العراق..

تأتي إلينا حالات من الأطفال اليتامى.. يعانون في نفس الوقت اضطرابات نفسية ناتجة من روع الصدمة فقد قتل الكثير من الآباء والأمهات أمام أعين هؤلاء الأطفال.. وتواجه الباحثات الاجتماعيات العاملات في دورنا صعوبة في التعامل مع هذه الحالات.

*وكيف السبيل لحل هذه المشكلة؟

-تقام الآن الكثير من الدورات لإعادة تأهيل ملاكاتنا بما يتناسب وحجم المشكلات الجديدة المطروحة الآن.. ونحتاج بالطبع إلى ملاكات متدربة.. وإلى خطط جديدة.. ودعم مادي وتضافر جهود جميع مؤسسات الدولة ووزاراتها معنا.

الحكومة الجديدة يجب أن تركز على حقوق الطفل

وفي كلمتها في الدورة الستين دعت الدكتورة بيان الأعرجي الحكومة العراقية الجديدة إلى التركيز على حقوق الطفل وقالت:

-نحن ننظر إلى عراق جديد ونأمل من الحكومة الجديدة أن تؤكد حق الطفل في العيش والتقدم والنمو في ظروف صحية جيدة وهي حقيقة واقعة. تشير الإحصائيات الآنية إلى أن نصف الشعب العراقي هم تحت سن الثامنة عشرة وأغلب هؤلاء الأطفال هم عرضة للأمراض ونقص التغذية، وإن واحداً من أربعة أطفال تحت سن خمس سنوات مصاب بسوء تغذية مزمن، وواحداً من ثمانية أطفال يتوفى قبل أن يرى ميلاده الخامس، ونسبة وفيات الأطفال هي 119 بالألف للذكور و110 بالألف للإناث.

ومن الجدير بالذكر إنه خلال العقود الثلاثة الماضية أو أكثر كان ولا يزال آلاف الأطفال يعانون الفقر وعدم التمكن من الحصول على خدمات صحية وتعليم جيد؛ وعليه يجب على الحكومة الجديدة أن تركز بصورة خاصة على حقوق الطفل وأن تكون لها إرادة سياسية توضح إنها سوف تحسن الحالة الاجتماعية للطفل العراقي وتعالج احتياجاته لتأمين النمو الصحيح إذ أن أطفال العراق هم الدعائم التي يرتكز عليها العراق الجديد الذي سوف ينهض في العقد القادم..

وتبقى أبواب الأمل مشرعة

المدى تفتح ملفات هذا الموضوع في محاولة منها لدق أجراس إنذار مبكر يلفت أنظار المسؤولين في مجلس الحكم والأحزاب والحركات السياسية والجمعيات والمنظمات الإنسانية.. لتوحيد الجهود وإنقاذ الطفولة.. والبراءة.. لكي لا نسمح لكائن من يكون أن يغتال الطفولة البريئة.. ولكي تبقى ضحكات هؤلاء الأطفال ترسم مستقبل عراق حر وآمن بعيداً عن القمع والاضطهاد والحرب التي يقع الأطفال ضحية لها.. فإن الأمل كبير بأن تعيد الحرية لأطفالنا براءتهم التي غادرتهم وتفتح أبواب مستقبل يمسح كل مخلفات وأزمات وآثار الحروب من ذاكرتهم.


 

العوائل المتجاوزة .. والعوائل المشرّدة في البصرة

 

مستويات مخيفة في أوطأ درجات الفقر والبؤس!

البصرة / قاسم علوان

كأي من مدن العراق الأخرى، ظهر في البصرة وبسرعة مذهلة  السكن العشوائي وفي جميع أنحاء المحافظة ، في المركز، في الأحياء السكنية ، في الساحات الخالية والمخصصة حدائق عامة مع وقف التنفيذ ، في الضواحي ، في الأقضية والنواحي. كانت مباني الشّعب والفرق الحزبية هي الهدف رقم واحد لهذا النوع من السكن ثم شغلت مقرات جيش القدس، ومعسكرات الجيش. ثم توالت السلسلة لتشمل المباني الحكومية ومقرات المنظمات المهنية. وهكذا بدأ ذلك النوع من السكن الذي لم نألفه من قبل . أغلقت فتحات النوافذ التي خلعت وسرقت بمواد شتى مثل إطارات السيارات  ، أو قطع النايلون أو أكياس الدقيق ، أي شيء يستر الحال وكذلك اغلقت الأبواب بمثل ذلك .

       ثم تطور الأمر إذ بدأ يظهر البناء الاعتباطي ، أي البناء في أي مكان فارغ ، في الحدائق العامة أو في الساحات الخالية ، في أي مكان لا يشغله أحد أو ليس فيه ما يشير إلى أنه ملكية خاصة. بعضهم بنى بيوتا مقبولة وأخرى أكثر من مقبولة ، (دبل فاليوم)مثلا ، وللأمانة فهؤلاء قلة قليلة جدا ، ولكن تبقى أكثر أشكال ذلك البناء متواضعة جدا، وكما تبدو عليها أنها مؤقتة إذ أستعمل فيها القصب وأعمدة الخشب وبقايا الأشجار ، وبرغم ذلك فإننا لسنا في معرض الدفاع عن أولئك الذين بنوا بيوتا(جديدة) في أراضٍ ليست لهم ، كما أن هذا ليس موضوعنا ، بل أن موضوعنا هو العوائل المشرّدة ، العوائل التي تسكن تلك المباني التي كانت(حكومية) مثل المعسكرات ومباني الأجهزة القمعية للنظام السابق اضطرارا والتي تشير أغلب حالاتها الظاهرة والتي لاحظناها عن قرب إلى إنها تنتمي إلى أدنى أشكال الفقر المدقع والبؤس المخيف، إنها العوائل التي كانت تعيش على الهامش سابقا والى هذه اللحظة القائمة !  

تعرفنا إلى حيثيات تلك المشكلة ميدانيا عندما زرنا تلك المواقع أو(المجمعات السكنية)كما يطلق عليها البعض  ، حالات من البؤس الإنساني والافتقار إلى أدنى مقومات الحياة في أبسط أشكال الكفاف المفترض. وحتى لو تمكنّا من رسم خطوط لمستويات المعيشة ووضعنا الفقر في آخر درجات ذلك السلم ، فبالتأكيد نحتاج إلى خطوط أضافية أدنى لنضع ذلك المستوى من الحياة تحتها وليس بمستواها ، وهذا ليس مبالغة اطلاقا، فلم أكن أتصور هذا التردي للمستوى المعيشي لفئات من الناس موجودا البتة ، مع علمنا بما أوصله(الحصار الجائر) من مستوى واطىء جدا لحياة فئات كثيرة من شعبنا ، كل هذا بجانب طائلة التهديد المستمر من قبل المحافظة في الوقت الحاضر وسلطات الاحتلال بإخلاء تلك التي تسمى تهكما مباني أو الأراضي الفارغة التي أقاموا عليها أكواخهم ، أنها مشكلة متعددة الجوانب فلنر منها ما يمكن أن نراه.

هذه المشكلة تتضخم وتتنوع وتتفاقم باستمرار وبشكل غير طبيعي ، وتخبيء بين ثناياها بذورا لمشاكل خطرة جدا على بنية المجتمع العراقي المتهرئة أصلا وفي مستقبله القريب جدا ، وذلك بسبب زيادة أعداد تلك العوائل وبشكل مستمر ، وبسبب ما توفره تلك البيئة الفقيرة من ظرف مناسب ومناخ حيّ لنمو مختلف أوجه الحياة السلبية والتردي الأخلاقي !! مثل السرقة أو السطو المسلح والبغاء وما إلى ذلك من أشكال الجريمة ، فإضافة إلى رصيدنا الثر السابق من العوائل المسحوقة أصلا والتي تفتقر إلى سكن من أي نوع والتي سحقها النظام المقبور حيث حشرت كل ثلاث عوائل أو أكثر في مساحة 100م إلى 150م2 كما هو معروف في الأحياء الشعبية في جميع أنحاء العراق ، ربما كانت ترضخ لدفع بدلات إيجار تسددها بصعوبة وهذا ما لمسناه وبشكل واضح في زيارتنا الميدانية لثلاثة(مجمعات) في مدينة البصرة وزاد من وقع المشكلة عودة آلاف اللاجئين العراقيين الآن من دول الجوار وبالتحديد المملكة العربية السعودية وإيران وأغلبهم لم يكن يملك سكنا في السابق ، بعضهم تزوج في المنافي وصارت له أسرة ، بل إن هناك أسراً كبيرة جدا ، تضم سبعاً وعشرين نسمة .

العائدون إلى الوطن

منظمة إنسانية أجنبية(إيطالية) لا ترغب بالإعلان عن نفسها أو عملها لوسائل الأعلام المختلفة ، تعمل على استقبال اللاجئين العراقيين العائدين إلى الوطن من دول الجوار ، يقول (لاجئ) سنطلق عليه اسم (سلام) لأنه لا يرغب في الكشف عن اسمه الحقيقي خوفا من شيء ما: (أنهم يستقبلون اللاجئين وبشكل يكاد يكون يوميا . كما أن تلك المنظمة تتابع عملية وصول اللاجىء واستقراره بعد فترة من وصوله ، لذا فهم في المنظمة يعرفون أين يسكن هؤلاء)، (نسبة كبيرة من اللاجئين ليست لهم أية صلات مع الوطن في الوقت الحاضر، فمنذ 13 سنة الاقل كانوا في الغربة، وحتى الذي له أقارب فلا أعتقد هناك اليوم من هو على استعداد لأن يقدم المساعدة) كما يقول حيدر بدر العائد توا من إيران.  لذا فإن نسبة كبيرة من هؤلاء العائدين هم سكنة هذه(المجمعات) التي صار يطلق عليها بشكل شبه رسمي تسميات من نوع(مجمع القاعدة البحرية)أو(الأكاديمية)ويقصد بها بأكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية سابقا أو(مجمع المخابرات) وهكذا  . العائدون من السعودية تمنحهم الدولة المضيفة(1200 دولار)لكل شخص وبذلك يكون هذا مبلغا لا بأس به للعائلة الكبيرة التي تتكون من أكثر من عشرة أشخاص؛ بحيث تستطيع تلك العائلة أن تشتري بيتا متواضعا مثلا أو سيارة تاكسي تعيش من خلالها. ولكن العائلة الصغيرة تضطر إلى السكن في تلك(المجمعات)أحيانا وتوفر لنفسها موردا بسيطا من مشروع بسيط أيضا بالكاد يسد رمق أطفالها   ، أما العائدون من إيران فتمنحهم الدولة المضيفة (20 دولاراً فقط)لكل شخص ! إضافة إلى بعض التجهيزات البسيطة مثل موقد نفطي صغير(جولة)وبطانية عسكرية لكل واحد في العائلة وكذلك فراش بسيط !.

(سلام) لم يكشف هذا السر ولكننا تحرينا بطرقنا الخاصة فعرفنا أن هذه المنظمة تعمل لحساب الأمم المتحدة ، وكما يبدو أن عملها هذا هو عبارة عن(مقاولة)من الأمم المتحدة لغرض استقبال اللاجئين العراقيين العائدين توا إلى الوطن ، ترى ماذا تمنح أو تهيئ تلك المنظمة لأولئك عند استقبالهم  ؟ أغلب الأحيان تمنحهم وجبة غداء سنقول بعيدا عن التحامل وجبة بسيطة(سندويج)دائما وأشياء أخرى ، بعد شهر كانون الثاني حدث تبدل كبير في(سياسة)هذه المنظمة عند استقبالها أولئك، قبل ذلك التاريخ كانت تمنح كل لاجىء عائد بطانية وفراشا بسيطا وكمية محدودة من المساعدات الغذائية، كما تمنح خيمة لكل عائلة لا تملك سكناً في العراق . بعد ذلك التاريخ تقلصت تلك المنح بشكل كبير ، اقتصرت على المواد الغذائية التي تأتي من منظمات أخرى أو دول بوساطة تلك المنظمة ، وبطانية وفراش بسيط لكل من يبلغ درجة من الفقر واطئة حسب تقدير تلك المنظمة ، وأحيانا تمنح  خمس عشرة أو خمساً وعشرين خيمة إلى ما يقابلها من العوائل من مجموع مائتين وخمسين  إلى مائتي عائلة تدخل القطر !!  

(جمعية رعاية الأسر المشردة)

تشكلت جمعية من أرباب تلك الأسر والمتعاطفين معها للدفاع عنها ولتوصيل صوتها ومطالبها (المشروعة) على الأقل في الوقت الحاضر، وهي(جمعية رعاية الأسر المشرّدة) وبمساعدة بعض المثقفين المتعاطفين مع تلك الحالات ، وبدأت بتسجيل تلك الأسر وجرد أعدادها ، وحتى الآن سجلت 1784 أسرة فيها 9742 نسمة ، ويعترف المسؤولون عن هذه الجمعية بأنهم لم يشملوا بتسجيلهم هذا كل(المجمعات) السكنية من هذا النوع من السكن لظروف عديدة، منها عدم قناعتهم بحاجة تلك العوائل لهذا النوع من السكن مثلا. وهناك مجمع كبير جدا وهو(الأكاديمية) لم يصلوا اليه لأسباب(أمنية)!! كما أصدرت هذه الجمعية عددا من البيانات تدعو لتوفير سكن لائق لسكان تلك المجمعات قبل طردهم منها كما تنوي محافظة البصرة وسلطة التحالف أن تعمل على تنفيذ قرار مجلس الحكم القاضي بإخلاء المباني الحكومية من شاغليها . وقد أصيب المواطن عبد الحسين رحيم حسن بأزمة قلبية على أثر سماعه خبر ترحيلهم من سكنهم المتواضع البائس في (مجمع الحيانية أول لاين) حيث توفي بعدها ، وهو معوّق وله عائلة كبيرة كما جاء بأحد بيانات الجمعية. وقد رافقني في جولتي الميدانية تلك اثنان من قادة تلك الجمعية النشطين المتحمسين لها وهما كل من الأخ أبو عمار الذي يسكن في مجمع(المنظومة) والأخ محسن مطشر الذي يسكن مجمع (معسكر عينة البحرية) كما أن تلك الجمعية سيّرت التظاهرات السلمية وقدمت الاحتجاجات المكتوبة إلى مكتب المحافظ للدفاع عن اللاجئين ، والمطالبة بحقهم بسكن لائق، وحتى الآن لم تحصل على وعد فقط بتأجيل تنفيذ ذلك القرار، فالسيد المحافظ مصّر على تنفيذ ذلك القرار. مثلا أقترح ممثل سلطة التحالف في البصرة في أحد جولات المفاوضات مع ممثلي تلك الجمعية منحهم خياماً، وقد رفضوا ذلك قطعا . منظمة (إنقاذ الطفولة) اقترحت تخصيص قطعة أرض وستقوم بتمويل بنائها لتلك الأسر ، لم يلق هذا الاقتراح أذنا صاغية من أحد!

متنزه لبنان

المجمع الأول الذي زرناه هو (متنزه لبنان)، قبلاً كان متنزها رسميا يتلقى رعاية موسمية أو حسب مزاج المسؤولين السابقين، وبشكل عام كان مهملا . شغلت الآن بعض العوائل بعض المباني التابعة له ، إدارته ، كما أن فيه مبنى مخصصاً لأعمال المخابرات سابقا على يسار الباب الرئيس، غرفة الاستعلامات ، مبنى الكازينو ، إضافة إلى السكن العشوائي الذي شغل جزءا كبيرا منه. وبعد استطلاعنا له تبين لنا أن أغلب العوائل فيه من القادمين من الأهوار بعد تجفيفها ومطاردة السلطة السابقة لهم، كما قال لنا العم أبو رياض الذي كان يسكن في العمارة في سيد أحمد الرفاعي ، وتحديدا أهوار الميمونة، وهو يسكن الآن في بيت بناه على مساحة لابأس بها من المتنزه وما يثبت كلامه الحيوانات التي أصطحبها معه، وكذلك ما يظهر من الطابع الريفي لطريقة بنائهم بالطوب غير المفخور ولكن بطريقة رديئة ومستعجلة تداعى بسببها مع أول أمطار الشتاء المنصرم في بعض الدور. أحد الذين يسكنون في هذا المكان كان يسكن سابقا في مدرسة إضافة إلى عمله حارساً فيها ، طردوه من سكنه وعمله بعد أن أصبحت تلك المدرسة مقرا لـ(فدائيي صدام) أضطر لأن يسكن بالإيجار لمدة معينة لم يستطع بعدها دفع ذلك المبلغ المترتب على ذلك ففضل هذا النوع من السكن . كما كان هناك بيت مبني حديثا من القصب لم نستطع أن نقابل صاحبه قالوا لنا أنه من الناصرية بناه وذهب لاستقدام عائلته.

حيدر بدر الذي أشرنا اليه آنفا كان قد وصل إلى إيران قبل 13 سنة بعد مشاركته بإحداث انتفاضة عام 1991، كان وضع الكوخ الذي يسكنه مع عائلته مزرياً جدا ، السقف لا يدرأ عنهم مطرا ولا ريحا وليس هناك ثمة أي شكل من الأثاث الضروري للحياة، موقد نفطي قديم ومقلاة بائسة فقط وأسمال أخرى متناثرة، سألناه عن عمله في إيران قال: اشتغلت في البناء وهذه المهنة موسمية ، قلت له بعض الذين التقيتهم ممن عادوا مؤخرا من إيران أحوالهم جيدة وبعضهم يمتدح أشكال الحياة هناك كثيرا، قال أن ذلك حدث مع من كان يعمل مع الفيلق.. فقط .

أم فيصل امرأة متوسطة العمر ، أخذ منها الدهر مأخذه، تسكن في هذا الموقع ببناء بسيط أيضاً زوجها أنهى خمس سنين من عمره في سجون النظام السابق بتهمة سياسية، وهو الآن مقعد، كانت تسكن بيتا لا بأس به باعته اثناء فترة سجن زوجها لتسدد نفقات الرشاوى لـ(الرفاق) كي يخففوا التهمة عنه.

مجمع آخر !

انتقلنا بعد ذلك إلى مجمع (معسكر عينة البحرية) وهو معسكر تابع للقوة البحرية السابقة، محاذٍ لشارع بغداد قرب تقاطع المستشفى العسكري سابقا، تحيط به مساحة فارغة واسعة جدا ، أول من التقيناه هناك عبد الباسط جاسم، وهو من مواليد 1971 كان يعمل نائب ضابط في الجيش العراقي وشارك في انتفاضة آذار 1991 وأعتقل على أثرها في معتقل الرضوانية الرهيب، حيث أعدم شقيقه أمام عينيه وأصدقاء آخرون له في 28 / 5 /1994 ، أطلق سراحه بعد ذلك في عفو عام ، ليسكن في(شقق الكزيزة)وهي عبارة عن بناء غير متكامل تركته شركة هندية كانت تعمل به قبل الحرب مع إيران ، رمم إحدى (الشقق)وأعدها للسكن هاجم (الرفاق)ذلك البيت  بالقاذفات بعد عثورهم على أسلحة مخبأة فيه لمصلحة (حزب الله) وقد جرحت في ذلك الهجوم زوجته التي تعاني شللاً كاملاً حتى الآن ،حيث كان عبد الباسط يعمل في ذلك التنظيم في موقع القوة البحرية بالبصرة ، وألقي القبض حينها على أفراد تلك الخلية وأعدم أكثرهم منهم العقيد عزيز عسكر ، وهرب هو إلى إيران ولم يعد إلا مؤخرا ، ترى أين يسكن بعد تلك المحن ؟ لم يجد غير هذا المعسكر !! هل تريد قصصا أخرى ؟ لا تجشم نفسك عناء البحث عن المآسي في البصرة ، بل أنك تتعثر بها في كل مكان . ميثم طعمة مواليد 1969 هرب للسعودية بعد انتفاضة آذار 1991، عاد بعدها للعراق في العفو الذي أعلن عام 1992، أودع السجن عند عودته مباشرة لمدة 11 شهراً أطلق سراحه بعدها ليهرب إلى إيران ومنها إلى سوريا والى لبنان وعاد بعد الحرب ، أين ممكن أن يتوفر له سكن لائق غير هذا المعسكر ؟ حالات أخرى استطلعناها كانت لعوائل تهربت من دفع الإيجارات .

ذهبنا بعد ذلك إلى مجمع (معسكر فدائيي صدام ـ حطين) وفيه 125 عائلة توزعت بين قاعات المعسكر ، وأخرى بنت أكواخها هنا وهناك من أرض المعسكر الواسعة، أبو فاطمة الذي هو(مسؤول) المجمع يسكن إحدى غرف تلك القاعات بعد أن اشتراها بسبعمائة ألف دينار عراقي من أحدهم الذي شغلها بعد سقوط النظام ولم يكن يحتاج اليها ، أبو فاطمة كان قد شارك في انتفاضة 1999 وهدم الرفاق بيته بعد هروبه إلى أهوار العمارة بين أبناء عمومته، وقد ضاع عن أعين الرفاق هناك طوال كل تلك الفترة ، هدموا بيته تماما في محلة الجمهورية. عوائل أخرى كثيرة هربت إلى هذا المكان بسبب الإيجارات التي لم يكن باستطاعتهم دفعها.

أم عقيل مثلا مطلقة هجرها زوجها مع زوجته الجديدة إلى بغداد لديها ولدان صغيران يبيعان أكياس النايلون في الأسواق، كانت تسكن في بيت طيني على شط العرب في أرض تعود إلى بيت عائلة أصفر رحلهم النظام السابق عنها ، ليسكنوا بالإيجار فترة قصيرة قبل سقوط النظام ، لم يجدوا أرخص من هذا الكوخ في معسكر فدائيي الطاغية في الوقت الحاضر، النماذج الأخرى لها الهموم نفسها.        

(المنظومة) !!

الشيء نفسه وجدناه في مجمع (المنظومة) من ناحية دوافع السكن في هذه الأحياء ، ويقصد بهذا الاسم(منظومة استخبارات المنطقة الجنوبية) التي كان مجرد ذكرها في ظل النظام السابق يجعل الفرد يرتعد خوفا ، ليس هناك من دخلها وخرج حيا أبدا. ويطلق عليها اختصارا المنظومة فقط . الحالة المؤلمة التي وجدناها في هذا (المجمع) عائلة المواطن حسين شرجي كان هاربا من الخدمة العسكرية لفترات طويلة حتى أنه لم يسجل زواجه في المحكمة ، وبالتالي لم تكن لديه بطاقة تموينية لكل تلك الفترة من (الحصار الجائر) وضعت عائلته على مستوى متدن جدا من الفقر كما شاهدناها على الهواء مباشرة ، ولكن ليس هذا هو المهم ، المهم وضع طفلين له غيداء (10 سنوات)، عندما تشاهدها لا تعطيها أكثر من سنتين !! مقعدة بتشوه خلقي ولادي من أسفل الحزام ، كانت جالسة في ساحة (البيت) الترابية ترمقنا بعيون ذاهلة ، مستطلعة . الطفل الآخر ذكر (3 سنوات) مقعد هو الآخر بتشوه خلقي ، ممدد على بطنه طوال الوقت ، لم يستطع أن يعرضهم على طبيب كل تلك الفترة إلا مؤخرا وفي المركز الصحي (المجاني) ولم يعطوه أي جواب !! سألته عن زواجه هل هو من الأقارب لعلنا نعرف السبب كما هو شائع عن زيجات الأقارب ؟ فأجاب بالنفيّ وأن لديه أولاداً آخرين بصحة جيدة .

(مجمع)جديد قيد الإنشاء حيث مبنى مديرية الأمن المتداعي في العشّار يضم 13 عائلة عراقية قادمة من إيران تسكن في خيم عليها أختام منظمات إنسانية عالمية !! أنذرتهم المحافظة بترك المكان !!

وأخيرا هذا هو وضع العوائل المشردة !! التي يختلف وضعها كثيرا عن العوائل المتجاوزة .         

 

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة