الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

مئة عام من الفكر النقدي للناقد سعيد الغانمي: قراءة موجزة لكنها متميزة وربما متحيزة !

 

دمشق ـ ابراهيم حاج عبدي

للوهلة الأولى ولدى قراءة العنوان (مئة عام من الفكر النقدي ) يقع القارئ في الحيرة والارتباك، ويلح عليه سؤال هو: كيف لكتاب مؤلف من أكثر من مئتي صفحة بقليل ،القدرة على اختصار مشهد نقدي بالغ الثراء في بلد مثل العراق خلال قرن شهد، النصف الثاني منه خصوصا،حركة نقدية دؤوبة وفاعلة وحافلة بالجديد بما لا يمكن الإحاطة بها في صفحات قليلة، بيد أن الحيرة تتلاشى منذ السطور الأولى في الكتاب حين يوضح مؤلف الكتاب سعيد الغانمي قائلا (لا يزعم هذا الكتاب بانه تاريخ للكتابة النقدية في العراق، بل يزعم انه حكاية بطلها النقد نفسه، وككل حكاية فانها تنطوي على مفاصل مهمة هي اللحظات التي اخترناها شواهد تمثيلية لكتابة هذه الحكاية، وعسى أن يكون في هذا عذر كاف عن تقصير الكتاب عن الإلمام بجميع الأسماء النقدية في العراق فهناك بالتأكيد نقاد آخرون لم تستطع هذه القراءات أن تتفحص أعمالهم لان وظيفتها ليست تاريخية).

وقد اخذ هذا الكتاب، رغم الإقرار بهذا التواضع، جهدا من المؤلف لا يستهان به يؤكده ثبت المراجع الطويل في نهاية الكتاب فقد استعان الباحث بكم كبير من المصادر العربية منها والمترجمة إضافة إلى مصادر في لغتها الأصلية، فضلا عن مجموعة من المجلات والمطبوعات والمخطوطات ذات الصلة، ويتجلى هذا التوجه الشامل في ثنايا الكتاب عبر رؤية الباحث المعمقة تجاه مختلف القضايا والمفاهيم والمواضيع والمقولات المطروحة، فالغانمي ناقد متمرس يتكئ على تجربة غنية، وقد اصدر، من قبل، كتبا عدة منها (المعنى والكلمات) 1989 و (أقنعة النص) 1991 و (منطق الكشف الشعري) 1998 وغيرها.. كما قام بترجمة كتب قيمة منها (كتاب الرمل) لبورخس 1990 و(السيمياء والتأويل) لروبرت شولز 1993 و (العمى والبصيرة) لبول دي مان 1995

ينصب اهتمام الغانمي في كتابه الجديد (مئة عام من الفكر النقدي) الصادر عن دار المدى (دمشق ـ 2001 )على اختيار محطات يراها مهمة وجوهرية في مسيرة النقد العراقي محاولا تقديم صورة بانورامية شاملة تسجيلية (بلغة السينما ) لا روائية كما وعدنا في المقدمة، إذ تتوسع وتتوضح ملامح هذه الصورة بشكل تدريجي، ويزداد وهج الصورة، وزخمها كلما اقتربنا زمنيا من نهاية المئة عام الأمر الذي يحيلنا وبسهولة إلى رأي للناقد فاضل ثامر يقول فيه : (على الرغم من وجود كتابات نقدية متفرقة خلال النصف الأول من هذا القرن ـ القرن العشرون ـ إلا أنها لم ترق إلى مستوى حركة نقدية منهجية متكاملة في الأدب العراقي، ولذا فان الحركة النقدية لم تبدأ بالاتضاح إلا في الخمسينيات وبالتحديد مع ظهور الملامح الحداثية لحركة الشعر الحر والقصة الفنية الحديثة ). .و لم يصبح هذا النقد واضح القسمات إلا في النصف الثاني من الستينيات أي مع نازك الملائكة وعلي جواد الطاهر كما يعلق الغانمي على رأي فاضل ثامر.

يبدأ الباحث باعتقاد مفاده )ان متوالية السرد النقدي قد مرت منذ بدايات تشكيلها في أوائل القرن العشرين في أثناء بحثها الدائب عن صوتها الخاص بمجموعة من الفضاءات التي كان لها تأثير مفصلي حاسم ( منوها بان ) مفهوم الفضاء الإتصالي لا يقتصر دوره على كونه ناقلا ووسيطا لخطاب ما وحسب، وان تظاهر بذلك، بل هو ناقل ووسيط يغير كثيرا ويعدل من مضمون هذا الخطاب ومادته (.

وفي هذا السياق يرى الباحث ان إعلان الدستور العثماني عام 1908 تمكن من إيقاد ثورة صحفية هائلة في العراق ما أحدثت قطيعة مع نظم الاتصال الشفاهية السابقة التي كانت سائدة في فضاء المسجد والمجلس والمقهى والديوان حيث كان النقد يتصف بانه خطرات محصورة بالشعر دون ان تعتمد على نظرية أدبية توصل إليها منتج النقد بالبحث والدراسة.

وظهرت اثر تلك الثورة الصحفية طبقة (الانتلجنسيا) الثقافية التي سميت حينها بطبقة (الأفندية) وراحت تنشر في الصحافة آراء مفرطة في الذم أو مبالغة في المدح دون ان تعرف الحلول الوسط، وأسهمت الإذاعة كفضاء اتصالي في عام 1936 في تنشيط الممارسة النقدية قليلا غير أنها لم تستطع ان تبلور حركة نقدية ذات ملامح واضحة إلى ان جاء معروف الرصافي الذي استطاع ان يثير إشكاليات لا قبل للوسط المثقف بها، فرغم نشأة الرصافي الدينية إلا انه سرعان ما تحول إلى الاهتمام بالتيارات الفكرية الحديثة في منابعها المختلفة والمتصارعة، فطرح نظرية )الفن للفن( ومسائل تتعلق بالتراث وأخرى بقضايا الاستشراق، وقد جلبت له هذه الآراء والطروحات تهما شتى لكنه مع ذلك ظل وفيا لأفكاره.

في البحثين الأخيرين يدرس الباحث التيارات والمناهج النقدية الحديثة التي ظهرت في العراق اثر ترجمة كتب المنظرين الغربيين، ولعلها بدأت بكتاب )قضية المضمون والمادة الأولية والشكل( ولم تهدأ حركة الترجمة إلى الآن، وفي رأي الباحث ان من أهم مزايا النقد الحواري ـ على حد وصفه للنقد في العقدين الأخيرين ـ انه يسمح بان تتكامل فيه المناهج النقدية الحديثة جميعا الداخلية منها والخارجية في تفاعل وتداخل منهجي منسجم : الشكلانية ،البنيوية ،السيميائية ،التفكيك ،التأويل، شعرية العمل المفتوح من جهة، والمناهج الاجتماعية والتاريخية والتطورية والأدب المقارن والواقعية ونظرية الدفاع عن المؤلف من جهة أخرى في تلاقح حواري فذ.

وفي إشارة إلى ما قاله الناقد فاضل ثامر قد نعثر على الملمح الأساس للنقد في هذه المرحلة إذ يوضح ثامر ان مصادره المعرفية تصب في اتجاهين متناقضين )هناك من جهة المقاربات الاجتماعية والتاريخية والأيديولوجية المتمثلة في كتابات لوسيان غولدمان ، وباختين، وايغلتون، والتوسير، وماشيري ... (وهناك من جهة أخرى المقاربات الألسنية والسيميائية المتمثلة في كتابات ) دي سوسير ،و رولان بارت ،و تيودوروف، و غريماس، و بياجيه، و فوكو ...( وكان يخشى السقوط في نوع من التوفيقية والمصالحة بين المتضادات في الرؤية النقدية .

ويخلص الغانمي إلى ان هناك اتجاهات نقدية مساندة في العراق منها النقد الاجتماعي والنقد الانطباعي والاتجاه النصي وغيرها من الاتجاهات ،المشفوعة في الكتاب بما يشبه بيبلوغرافيا للكتب النقدية التي تناصر هذا الاتجاه أو ذاك.     

 

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة