تحقيقات

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

صديقنــا صــدام .. أيام كانت الولايات المتحدة وفرنسا حليفتين للدكتاتورية

 

ترجمة المدى عن الفرنسية

بينما تتواصل وتيرة العنف في العراق، تقفز إلى الواجهة قضية محاكمة الدكتاتور صدام بين الحين والآخر. بيد أن المحكمة وقضاتها لن يمارسوا سلطاتهم باستقلالية، وسيتحفظون على تجريم عدد من المتواطئين الأجانب. ولن يكون بوسعهم اتهام عواصم ضلعت في الجرم، خصوصاً واشنطن وباريس، اللتين ساعدتا النظام البعثي على البقاء، على امتداد أكثر من عقدين من الزمان، ووفرتا له الوسائل الكفيلة بسحق معارضيه.

ميشيل ديبرا
في مقهى يقع في حي قديم من أحياء بغداد، تغضنت وجوه الموجودين فيه لمّا سئلوا عن موقفهم من قضية رئيسهم السابق صدام حسين، فقد ذكرهم السؤال بجرائم الدكتاتور فاحتاروا في حكم يصدر بحقه. كان جميع الحضور ينطقون ببضع جمل، ويتبسمون، ثم يشيحوا بنظراتهم إلى مكان آخر، كما لو أن تلك القضية لن تأتي لهم بشيء جاد. فالجميع مقتنعون بأن الولايات المتحدة تسيّر المحكمة التي سيمثل أمامها الدكتاتور السابق، وبأن الاتهام لن يوجه إلى أي أجنبي. "لو جرت هذه المحاكمة يوما ما، وأنا اشك في هذا، فلن تتعرض لمسألة علاقات صدام بالبلدان الأجنبية"، هذا ما يقوله احد الأساتذة. ويضيف شخص يعمل مهندسا:"لربما ستخاطر تلك القضية بكشف أمور كثيرة جدا لا تصب في مصلحة الغرب".
يوضح الخبير القانوني الأميركي شريف بسيوني، الذي استشير من جهات عالية من مكتب الدولة:"جرى ترتيب كل شيء لتنصيب محكمة لن ينعم القضاة فيها بالاستقلالية، بل على النقيض من ذلك، هم يخضعون لرقابة صارمة؛ وبمناسبة الحديث عن الرقابة، أريد أن أقول إن على منظمي هذه المحكمة أن يتأكدوا أن الاتهام لن يوجه لا إلى الولايات المتحدة ولا إلى القوى الغربية الكبرى. بل أن هيئات المحكمة ستشتغل بنحو يستبعد تماما الولايات المتحدة والبلدان الأخرى من أي اتهام. وهذا ما سيجعل من القضية قضية ناقصة وغير عادلة. انه ثأر الغالب".
بالفعل، قرر منظمو المحكمة الأميركان والعراقيون أن المحكمة الخاصة التي ستنظر بجرائم صدام حسين لن تنظر في توجيه اتهام بالتواطؤ ضد أي أجنبي. والحال، أن تاريخا أمده أربعين عاما مضت يطفح بالأمثلة عن تورط أشخاص غير عراقيين، منهم خمسة رؤوساء أميركان، وفي الأقل ثلاثة رؤوساء فرنسيين، وعدد من رؤوساء الحكومة البريطانيين، وزمرة من المقاولين الغربيين، كلهم كانوا متواطئين مع الدكتاتور، بل هم أحيانا شركاء في جرائم ارتكبها النظام البعثي.
تحت رئاسة جون ف. كينيدي ابتدأت واشنطن بمساندة المذابح في العراق. ففي العام 1963، انتاب الولايات المتحدة القلق من الرئيس عبد الكريم قاسم لمّا اقترب من موسكو وهدد بتأميم نفط العراق، فقررت الولايات المتحدة عندئذ التصرف حيال ذلك. وفي 8 من شباط من العام 1963، دعمت الانقلاب الذي نفذه حزب مناوئ للشيوعية، ألا وهو حزب البعث. وبهذا الصدد، يؤكد السيد جيمس اكنز، وكان حينها مستشارا سياسيا في سفارة الولايات المتحدة ببغداد بُعيد الانقلاب:"كنا نعطي البعثيين المال، مالاً كثيراً، ونزودهم كذلك بالتجهيزات. ولم نكن نعلن عن ذلك صراحة، إنما كان الكثير منا يعلم بذلك."
بعد إعدام الرئيس قاسم، شرع البعثيون بتعذيب وقتل آلاف الشيوعيين والمتعاطفين مع اليسار: من أطباء، وقضاة، وعمال."لم نكن نتلق إلا أمراً واحداً: إقصاء الشيوعيين!"، هذا ما يصرح به احد الفاعلين في المجزرة، الذي يعمل الآن مديراً لمدرسة ابتدائية في بغداد، يدعى السيد عبد الله هاتف." كان الشاب صدام حسين مؤهلاً جدا لهذا العمل. فقد كان مسؤولاً عن تعذيب العمال، وكان التعذيب يتضمن ملء أجسادهم بالماء، أو تكسير عظامهم، أو صعقهم بالكهرباء." ولطالما أنكرت واشنطن ذلك، لكن عددا من منظمي الانقلاب كشفوا أن السي آي إي لعبت دوراً فاعلاً في المذبحة، وبخاصة بتزويدها البعثيين قوائم بأسماء الشيوعيين. وفي العام 2003، وجهت إحدى وكالات الإنباء سؤالاً لمسؤول سابق في الدبلوماسية الأميركية، فطلب عدم الكشف عن اسمه قبل أن يجيب قائلا:"بصراحة كنا سعداء جدا في التخلص من الشيوعيين!هل تعتقدون بأنهم كانوا يستحقون عدالة أكثر إنصافا مما فعلناه؟ انتم تمزحون طبعا. فالقضية كانت بالغة الخطورة علينا!".
ثمة تقرير لم يكشف عنه حتى ذلك الحين يخص اجتماعاً عُقد ببغداد في 9 من حزيران من العام 1963 بين الأميركان والبعثيين يؤكد الرغبة "المشتركة لاحتواء الشيوعية في المنطقة". كان العدو المستهدف يشمل أيضا الأكراد الذين كانوا يقاومون السلطة البعثية في شمال البلاد. إذ أكد صبحي عبد الحميد، الذي كان يقود عمليات الجيش العراقي في ذلك الوقت ضد الأكراد، انه تفاوض شخصيا مع الملحق الأميركي على تسلم خمسة آلاف قنبرة بغية تحطيم المقاومة. " ثم أهدى الأميركان لنا ألف قنبرة نابالم لقصف القرى الكردية، من دون أن يقدموا لنا فاتورة حسابها." وحسبما يفيد الأكراد الذين عايشوا عمليات القصف هذه، حرق النابالم قطعان ماشية وقرى برمتها. لكنهم في ذلك الوقت كانوا يتصورون أن هذا النابالم من عمل السوفييت.

1980 الحرب ضد إيران
سيوجه الاتهام إلى صدام لشنه حربا على إيران في أيلول من العام 1980، تلك الحرب التي أزهقت أرواح مليون شخص ما بين رجل وامرأة. بيد أن عدداً من الشهود يؤكدون أن واشنطن شجعته على افتعال هذا الصراع. فقد فعل الغرب كل ما بوسعه ليدفع صدام إلى مهاجمة الثورة الإسلامية التي قام بها آية الله خميني، بعدما وجد فيها خطراً محدقاً. إذ تكشف وثيقة حكومية أميركية شديدة السرية، مؤرخة في العام 1984، أن: "الرئيس كارتر أعطى لصدام الضوء الأخضر لشن الحرب على إيران". لكن، لمّا أعطت الولايات المتحدة ضوءها الأخضر هذا، فهل شاركت أيضا في وضع خطة المعركة ضد إيران؟ هذا ما يؤكده السيد أبو الحسن بني صدر، وكان حينئذ يترأس الجمهورية الإسلامية في إيران. ذلك أن مخابراته كانت قد اشترت نسخة من هذه الخطة، التي حررتها أياد عراقية أميركية، حسب مصادره، في فندق باريسي. "فما يجيز لي تأكيد صحة الوثيقة، هو أن الحرب العراقية سارت بالضبط وفقا لخطة المعركة هذه! وبفضل وضع يدنا عليها، تمكنا من الصمود بوجه الهجومات العراقية". في الصعيد الرسمي، كانت واشنطن تتخذ موقفا محايداً إزاء الصراع الإيراني ـ العراقي. بيد أن لجنة تقصي أميركية كشفت أن البيت الأبيض والسي آي إي أوصلوا لصدام سراً أسلحة من الصنوف جميعا، ومنها القنابر العنقودية. وساعدت معلومات أقمارهم الصناعية العراقيين على رصد القطعات الإيرانية رصدا دقيقاً، في حين كانت واشنطن على علم باستخدام القوات العراقية للأسلحة الكيماوية. فقد أفاد السيد ريك فرانكونا، وهو ضابط في الاستخبارات العسكرية الأميركية، والذي كان ينقل في العام 1988 إلى بغداد قوائم بالأهداف الإيرانية التي يتعين قصفها، وهذه المعلومات هي التي أهدت للعراق النصر النهائي على إيران.

1988 ضرب حلبجة بالغازات
واحدة من الجرائم التي على صدام الإجابة عليها أمام المحكمة الخاصة هي استخدامه الغاز، في العام 1988، الذي خطف حياة خمسة آلاف مدني في قرية حلبجة الكردية. كانت بغداد تتهم أهلها بالتعاون مع الإيرانيين. وفي وقتها، فعلت الولايات المتحدة وفرنسا كل شيء من اجل منع إدانة صدام بهذه الجريمة. واستخدم الرئيس الأميركي رونالد ريغان الفيتو الخاص به ضد قانون مكرس لقطع التجارة الأميركية مع العراق، ناهيك عن إرسال واشنطن برقية وجهتها لسفاراتها المختلفة في أنحاء العالم تطلب فيها التأكيد على أن أكراد حلبجة قتلوا بالغاز على يد...الإيرانيين.
و"نست" فرنسا أيضا إدانة السيد صدام حسين. إذ في اليوم الذي أعقب المأساة، نشرت حكومة السيد ميشيل روكار بياناً يشهر بالهجومات الكيماوية "أياً كان مصدرها"، لكن من دون أيراد أي ذكر للرئيس العراقي. وبهذا الخصوص، يُفسر لنا السيد رولان دوما, وكان حينها يشغل منصب وزير الخارجية, هذا الموقف بقوله: "صحيح أن الغرب كان يغض الطرف قليلاً عما كان يجري, لأننا رأينا في العراق بلداً ضرورياً في توازن المنطقة." أما السيد جان ـ بيير شوفينمان وكان في ذلك العهد وزيراً للدفاع, فقد صرّح لنا بقوله: "لو أردنا الحكم على قضية حلبجة برمتها, فينبغي علينا أن نضع نصب أعيننا الأهمية الحاسمة لهذه المنطقة في تموين العالم بالنفط: فمن يمسك بهذه المنطقة فهو يمسك بالتوازن المالي لهذه الأرض. وعليه, ليس لدينا الخيار بين الخير والشر: لدينا الخيار بينما هو مرعب وبينما هو بشع." وفي ما وراء حاجات فرنسا من البترول, كانت فرنسا أيضاً أول مجهز عسكري للعراق. كان السيد بيير ماريون يترأس الإدارة العامة للأمن الداخلي (
DGSE) في العام 1981، وكان يعرب عن قلقه حيال الدعم العسكري الذي كانت تقدمه فرنسا فرانسوا ميتران إلى صدام حسين. وها هو يؤكد اليوم أن تجار السلاح كانوا يغذون هذا الدعم, ما دامت لديهم المصلحة كلها في إدامة الحرب الإيرانية ـ العراقية. ويقول لنا السيد ماريون: "إن شركة داسو هي بائع السلاح الذي انتفع كثيراً من هذه الحرب, -وكانت من اشد المندفعين في هذا المجال. وكانت تتوفر على وسائل ضغط غاية في الشدة والتأثير على قادة فرنسا." وفي العام 1992 قامت جمعية أوربية صغيرة, هي "قضاة ضد داعي المصلحة العليا", باستدعاء باعة السلاح الفرنسيين إلى القضاء وهم شركة داسو, وشركة تومسون, وشركة ايروسباسيال. وتوصلت المحاكم الفرنسية حينئذ إلى استنتاج مفاده, إن الشركات الفرنسية لمّا تبيع السلاح إلى بلدٍ يستخدمه لقصف المدنيين, فهي تعرض نفسها إلى خطر إلزامها ذا يوم بتقديم كشفٍ عن أفعالها إلى العدالة.
ولم يعد الأمر سراً: فما كان بوسع السيد صدام حسين أبداً مهاجمة جيرانه، ولا اقتراف جرائمه تلك، من دون مساعدة شركات وحكومات غربية. فالغاز القاتل كان يأتيه من ألمانيا, ومصانع التصنيع العراقية تجهزها فرنسا والولايات المتحدة. وإلى الآن، لم يُكشف عن قائمة شاملة بهذه الشركات المتواطئة في الجرم. وفي كانون الأول من العام 2002 استولت السي آي أي في جوف الليل على تقريرٍ من 12000 صفحة يخص تسليح صدام وكان معروضاً لأنظار الأمم المتحدة. وأعادت التقرير بعد 48 ساعة منقوصاً منه نحو 100 صفحة. لكن تسريباً حكومياً ساعد السيد غاري ملهولن, الخبير الأميركي بأسواق التسليح، باستعادة الصفحات المرفوعة من التقرير. وتهيأت لنا الفرصة لتفحصها، فوجدنا أنها: تكشف أن مختبر باستور باع العراق جراثيم بايولوجية، وان مؤسسة برتيك الالزاسيه جهزت مصنعاً لغاز الحروب في سامراء، بل أيضا أن شركة بيكتيل الأميركية العملاقة، التي تمول حملات عائلة بوش الانتخابية، قد زودت العراق بمصنع كيماوي. وثمة وثائق أخرى قد تضم شركات غربية، لمّا تزل نائمة بمقر الأمم المتحدة في نيويورك، حيث تصطف ملفات مفتشي الأمم المتحدة في العراق. "تناقشت مع موظفين في الأمم المتحدة في نيويورك، وأكدوا لي وجوب الإبقاء على هذه المعلومات طي الكتمان"، هذا ما قاله السيد ميلهولن متأسفاً.

1990 اجتياح الكويت

سيتهم صدام حسين باجتياح الكويت بوحشية في آب من العام1990. فما بين ليلة وضحاها، صار الحليف السابق أسوأ الطغاة: "إننا نتعامل مع هتلر جديد"، هذا ما يؤكده جورج بوش الأب وكان حينها رئيساً للولايات المتحدة. لكن عددا من الفاعلين العراقيين والأميركان يتهمون الرئيس بوش بعدم التصرف مسبقا لمنع هذه المأساة. فبعد حربه ضد إيران، التمس العراق المحطّم من جيرانه إعادة بناء اقتصاده. وطلب صدام من الكويت إرجاء ديونه، لكن الإمارة الصغيرة، التي تلقى دعماً من الولايات المتحدة، أبانت عن موقف غريب برفضها كل تفاوض بهذا الشأن. من جهة أخرى، رفعت الكويت إنتاجها من النفط بغتة فحطمت الأسعار، وقوضت ازدهار الاقتصاد العراقي. ظن صدام انه سقط ضحية مؤامرة تستهدف تحطيم بلاده. إذ حسبما يقول السيد اريك رولو، سفير فرنسا السابق، والمتخصص بشؤون الشرق الأدنى: "رأى صدام انه أمام قضية حياة أو موت. ولمّا لم تأتِ تهديداته بشيء، أرسل قطعاته إلى الحدود الكويتية". وحينما كانت أقمار التجسس الأميركية ترصد تحركات الدروع العراقية، أشار عدد من المستشارين على البيت الأبيض بإرسال إنذار شديد وواضح إلى الرئيس العراقي. لكن السيد جورج بوش كان يعد صدام شريكاً تجارياً كبيراً قبل كل شيء. فرأى أن يتبع مشورة مستشارين آخرين من الذين كانوا يظنون أنها حيلة من صدام. ولم يصدر من أميركا أي إنذار. بل على العكس. قبل ثمانية أيام من اجتياح الكويت، استدعى صدام حسين إلى بغداد السفيرة الأميركية السيدة ابرل غلاسبي، ليقول لها إن الموقف الكويتي يعد بمثابة إعلان حرب. فأجابته السيدة غلاسبي أن الولايات المتحدة لن تتخذ "أي موقف إزاء صراع بشأن الحدود بين العراق والكويت". وبعد يومين، تكررت تصريحات السيدة غلاسبي علناً في واشنطن على لسان مسؤولها، سكرتير الدولة المساعد، جون كيلي. ورداً على سؤال لمعرفة ما ستفعله بلاده إن شن العراق هجوماً على الكويت، رد المسؤول الأميركي بالآتي: "ليست لدينا معاهدة دفاع مع أي بلد من بلدان الخليج." وبعد بضعة أسابيع من ذلك، ألقى احد أعضاء الكونغرس، هو السيد توم لانتوس، خطاباً مترعاً بانتقادات شديدة للسياسة الأميركية: " انه موقف خانع أمام صدام حسين، وهذا الموقف البادي في أعلى مستويات الحكومة الأميركية، هو الذي شجعه على الدخول إلى الكويت. ولا يمكننا التنصل من هذه المسؤولية في كل حال من الأحوال". بعد الاجتياح، بدا جلياً أن الولايات المتحدة ستستخدم القوة. فقد نقل لنا احد قادة حزب البعث الكبار، هو عبد المجيد الرفاعي، أن صدام حسين أعلم حزبه، في اليوم الخامس من الاجتياح، أن التحضيرات جارية للانسحاب من الكويت. بيد أن كل المحاولات من أجل التفاوض كانت سائرة في طريق مسدود، على حد سواء بسبب تكتيكات صدام المضللة، وبسبب مواقف المسؤولين الأميركان الراسخة. وكان الحال كما ألفت إليه السفير الأميركي في العربية السعودية، السيد جم اكنز: "ما إن بدأ جورج بوش بتعبئة قواته، كان من المستبعد أن يترك هو ومستشاروه الدكتاتور العراقي يفلت منهم. وكان طموحهم حينها شن حرب خاطفة ومظفرة." أما الأسباب الحقيقة من وراء هذه الحرب فيذكرها السيد جيمس بيكر، الذي كان حينها سكرتير الدولة الأميركية: " لقد جرى تبني السياسة التي تقوم في تأمين مدخل إلى خزانات الطاقة في الخليج الفارسي لأن من دون هذا المدخل، وفي وقت الشح، سيتأثر الاقتصاد الأميركي سلباً. وهذا ما قد يدل على أن الناس سيفقدون أعمالهم، وسيستاؤون، وستخسرون دعمكم السياسي. انه احد الدواعي التي من اجلها قمنا بحرب الخليج. فلو كنا تركنا صدام يهيمن على مصادر الطاقة في الخليج الفارسي، لأثر ذلك سلباً في اقتصاد الولايات المتحدة. وهذا يصدق أيضاً على حرب اليوم."

1991 مذبحة الشيعة
في العام 1991، وإثر عملية "عاصفة الصحراء"، سحق صدام انتفاضة قام بها الشيعة أُزهقت فيها عشرات الآلاف من الأرواح، بل قُل مئات الآلاف. وهذه أشد جريمة يتهم بها، وفقاً لمعايير الحياة الإنسانية. وهي أيضاً الجريمة التي غالباً ما يستدعيها السيد جورج بوش للتذكير بشراسة الدكتاتور. في الحقيقة، في أثناء عملية "عاصفة الصحراء"، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها متواطئين في هذه المجزرة، التي جرت برمتها تحت أنظارهم. فالسيد جورج بوش الأب هو الذي دعا العراقيين الى الانتفاضة، في 15 من شباط من العام 1991: "على الجيش العراقي والشعب العراقي أن يمتلكوا زمام أمورهم بأيديهم، ويلزموا الدكتاتور صدام حسين على التنحي." وبهدف تفادي أي لبس، أوعز بتكرار رسالته، التي نقلت إلى العراق كله عبر إذاعة صوت أميركا، ومن خلال عدة محطات سرية تابعة للسي أي أي، وكتبت على منشورات أسقطتها الطائرات الأميركية. وثار الشيعة بعدما ظنوا أن النظام كان على شفا حفرة من الانهيار جراء هزيمته في الكويت. فاندلعت الثورة كالنار في الهشيم، وانضم إليها أيضاً جنود من جيش صدام. وفي تلك الأثناء، انتفض الأكراد بدورهم في الشمال. كانت فصول المأساة تتحرك. ففي البدء، أصدر جورج بوش أمراً مبتسراً يوقف الأعمال العسكرية في الكويت، فسمح بذلك لأغلب وحدات النخبة العراقية من الإفلات من الدمار. وفي ما بعد، عندما أملى الجنرال نورمان شواتزكوف بنود اتفاقية السلام على الجنرالات المغلوبين، سمح لهم بمواصلة استخدام طائراتهم المروحية الحربية. وادّعى الجنرالات العراقيون حينها أنهم لا يحتاجوها إلا لنقل المؤن والضباط. وفي الواقع، استخدموها لسحق الانتفاضة.
وقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها، ومن ضمنهم فرنسا، مكتوفي الأيدي يتفرجون. بل إنهم رفضوا مقابلة قادة الانتفاضة، الذين التمسوا منهم العون. لم يكن الرئيس جورج بوش ومستشاوره يريدون أن تنجح الانتفاضة. وكانوا يأملون أن تقنع هزيمة صدام حسين العسكرية جنرالاته المغلوبين بالتحرك لخلعه، وتنصيب رجل آخر قوي في مكانه، أكثر "تعقلاً" منه وأكثر مرونة أمام التأثير الغربي. ولم يكونوا يتصورون أن نداءهم للانتفاضة سيتلوه انفجار بتلك الشدة. وآخر شيء كانوا يتمنونه هو انتفاضة شعبية لا سيطرة عليها، تقسّم البلاد وفقاً للخطوط الأثنية والدينية، وتشيع الإرباك في المنطقة وتزيد من تأثير إيران.
بينما كانت الانتفاضة تضطرم، فسّر راس الدبلوماسية الأميركية، السيد جيمس بيكر، هذا الموقف بقوله: "ليس من بين مشاريعنا اليوم دعم أو إعطاء السلاح لهذه الجماعات التي ثارت على الحكومة القائمة. لا نريد أن نرى الوضع في العراق وقد تطور إلى فراغ سياسي. نريد الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية. وهذا ما يريده أيضاً شركاؤنا في التحالف." أما اليوم فيسلّم السيد "رولان دوما" بالحقيقة: "كان صدام يقبض على العراقيين بأساليب غاية في الشراسة، ولم نكن نتحملها، لكن الحال كان يتعلق...ماذا أقول...بالسياسة الواقعية." أما رئيس الأركان الفرنسي في ذلك الوقت، موريس شميت، فيعترف أيضاً: "في تلك اللحظة، كنا نفضل الطاغية على سلطة المتدينين." وهكذا ترك الحلفاء مروحيات صدام ودروعه تبيد الثوار.
نجد في بغداد من نجا من هذه المذبحة. فيروون لنا أن القطعات الأميركية المتمركزة في جنوب العراق رفضت إعطاءهم السلاح العراقي والمؤن. ويعزز هذا الاتهام محارب سابق في القوات الأميركية الخاصة، هو السيد روكي غونزاليز، الذي كان حاضراً في الجنوب في آذار من العام 1991: "جاء متمردون إلى المنطقة التي كانت فيها قواتنا وعلى وجوههم وعلى الأماكن المكشوفة من أجسادهم حروق كيماوية.(...) كان لدينا أمر برفض أي طلب للمساعدة من أي نوع، عسكرية كانت أو غيرها. وعليه، ما كان بوسعنا فعل شيء لهم. فكنت أقول لهم: "يقول الرئيس بوش إن الحرب انتهت."
لم يكن الأميركان متفرجين وحسب، إنما أعانوا أحياناً القوات العراقية على سحق الانتفاضة. إذ يروي عدد من الناجين من الذين شاركوا في الانتفاضة أن القوات الأميركية منعتهم من التقدم إلى بغداد لإسقاط صدام حسين. فهذا واحد منهم، وهو ليس الوحيد الذي أكد ذلك، إذ يقول: "هدد احد الجنود الأميركان بقتلنا إن لم نتراجع. كل هذه الشهادات أكدها الجنرال نجيب الصالحي، الذي كان مكلفا بقمع الانتفاضة في منطقة البصرة: "كان الأميركان ينزعون سلاح المتمردين الذين كانوا يريدون مهاجمتنا. ورايتهم بأم عيني، في صفوان، وهم يمنعون المتمردين من الوصول إلى خطوطنا". وفوق ذلك، كان الأميركان يدمرون مخازن سلاح الجيش العراقي المنكسر كي لا تقع في أيدي الثوار. فأكد احد الثوار: "لو كنا تمكنا من الاستيلاء على هذه الأسلحة، لتغير مجرى التاريخ لصالح انتفاضتنا، لأن صدام في تلك اللحظة، لم يعد لديه شيء."
أما المجزرة الأشد التي وقعت على العراق فكانت عملاً من أيدي مجلس الأمن في الأمم المتحدة، ألا وهي: العقوبات التي فُرضت على العراق اثر اجتياحه الكويت. إذ يرجّح أن هذه العقوبات، التي حظرت كل تجارة مع هذا البلد، أوقعت الموت بـ 500,00 إلى مليون طفل، حسبما تورد تقارير الأمم المتحدة. وهذا ما حدا بالمنسق الإنساني للأمم المتحدة في العراق، الايرلندي دنيس هاليدي، إلى تقديم استقالته في العام 1998 بدلاً من الاستمرار في تطبيق برنامج العقوبات الذي يصفه بـ"الإبادة الجماعية". ويؤكد أن لجنة العقوبات في الأمم المتحدة دمرت النظام الصحي العراقي لما منعت استيراد المستلزمات الطبية والمطهرات، والأدوية الحيوية، وبحجة دائمة: قد تفيد هذه المنتجات، بطريقة أو بأخرى، في تصنيع أسلحة دمار شامل.
بعد العام 1991، قيض للعقوبات أن ترفع، لكن الأمم المتحدة قررت الإبقاء عليها، لمّا اناطت بها هدفاً آخر: ممارسة الضغط على الدكتاتور كي يتخلى عن أسلحته الخاصة بالدمار الشامل. وضربت الإجراءات التي اتخذتها الأمم المتحدة الناس، ابتداءا من الأطفال. ففي العام 1995، سأل صحافي المبعوثة الأميركية في الأمم المتحدة، السيدة مادلين اولبرايت، عما إذا كان الإبقاء على العقوبات يستحق موت 500،000طفل عراقي. فجاءت الإجابة مثالية: "انه خيار صعب، لكننا نعتقد بانه الثمن الذي يجب دفعه، بلا، تستحق العناء."
بينما كانت السنون تنقضي، أتضح إن هدف العقوبات الحقيقي لم يكن التسليح العراقي، بل الدكتاتور نفسه. وكان المسوغ هو الآتي، كما يوضح السيد دنيس هاليدي: "إن جرحت الشعب العراقي، وإذا قتلت أطفاله، سينتفض بغضب ليقلب نظام الطاغية." هذه هي النظرية التي حاولت الولايات المتحدة تشغيلها على مدى اثني عشر عاماً. وفي العام 1991، كانت طائراتهم الحربية تقصف بانتظام شبكات الماء، والمجاري، ومحطات التصفية، ومحطات توليد الكهرباء. وعلى مدى العقد التالي، كان على العراقيين أن يعيشوا بلا ماء صالح للشرب. و "ظهرت أوبئة التايفوئيد، ظهرت بطريقة مرعبة كل صنوف الأمراض التي تنقلها المياه غير الصالحة للشرب، فكان الحال خرابا"، هذا ما ينقله السيد هاليدي. لكن، عندما تصرف الأميركان بهذا النحو، أكانوا يعلمون أنهم سيزهقون آلاف الأرواح؟ ثمة وثيقة سرية عن البتاغون، مؤرخة في العام 1991، تؤكد ذلك بوضوح. وكانت هذه الدراسة السرية، الموضوعة تحت عنوان بارد: "هشاشة معالجة المياه في العراق"، تحسب أن تقويض شبكة المياه سيسبب موتا جماعيا وسينشر الأوبئة.
خلال السنوات التي اتسعت فيها تلك الأمراض، كانت بريطانيا العظمى والولايات المتحدة يسيطران على لجنة العقوبات. وعلى مدى اثني عشر عاما، استخدم الحليفان الحصار لمنع استيراد قطع الغيار التي تساعد على إصلاح شبكة المياه. "وفي نهاية المطاف، بدلا من أن يلقي الشعب العراقي مسؤولية العقوبات على صدام حسين، حمّلها على أميركا والأمم المتحدة، المسؤولتان عن الآلام والمعاناة التي سلطتها هذه الإجراءات على حياتهم "، هذا ما يخلص إليه السيد هاليدي.
وتنقضي السنون، فيدرك القادة الأميركان أن نظريتهم، وكذلك عقوباتهم، التي لا طائل من ورائها، كانت تقتل آلاف العراقيين. وبرغم ذلك، استمروا بتطبيقها. فلماذا؟ "لم يكن هناك من حل آخر أكثر فاعلية"، هذا ما يصرح به ببساطة الممثل الأميركي الذي كان يدافع عن عقوبات الأمم المتحدة، السيد توماس بيكيرنغ.
انتهت العقوبات أخيراً مع سقوط صدام، في نيسان من العام 2003. وبعد عامين على ذلك، لم تصلح شبكة المياه، ولا نظام المجاري، ولا البنية التحتية للمستشفيات. ويموت الصغار العراقيون والمرضى بسبب من انعدام الماء الصالح للشرب.
كان صدام يقتل العراقيين. واليوم يقتلهم الأميركان، والإرهابيون، والمرض.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة