مسرح

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

في تجربة اخراجية مميزة .. "الأيام المخمورة" لسعد الله ونوس ..تغريب التاريخ وتقريبه
 

فاطمة المحسن

كان يوم المسرح العالمي لهذه السنة، مناسبة لإستعادة ذكرى سعدالله ونوس على مسرح راميتا بدمشق، حيث ألقت نضال الأشقر كلمة الافتتاح، ثم قدمت " فرقة الأمس" التي شكلتها أرملة ونوس الممثلة فائزة شاويش عملها الأول "الأيام المخمورة" الذي أخرجه باسم قهّار المخرج العراقي.
"الأيام المخمورة " آخر نص كتبه ونوس وهو على فراش المرض،وكان في سباق مع الزمن كي يقول ما اختزنه طويلا عن تواريخ التحولات في بلاد الشام والمنطقة المحيطة بها. وفي هذا العمل على وجه التحديد حاول رصد سيرة التحديث والتمدين ضمن الجغرافيا الإجتماعية الممتدة بين بيروت ودمشق.

لغة النقد في النص،تثير شجون الأزمة اللبنانية السورية المشتعلة الآن،ولكنها تحتمل قراءات مختلفة،فالمسرحية تشرف على عالم تتشابك فيه القيم والأفكار، ومثلما تطمح إلى تقديم هذا العالم في تفاعلاته،تحاول تقريبه الى المقولة اليومية.
سعد الله ونوس يحدد خطابا للتمدين يرتهن بالفترة الكولونيالية التي يحاول ادانتها أو رفض تداعيات التحديث التي حملتها، غير ان الدراما لاتحتمل إيقاعا متشابها،فهناك حياة تُختبر من خلالها الرغبات والحب والولاءات العائلية والقيم والأخلاقيات.
حاول ونوس تطبيق المبدأ الذي سعى اليه فيما كتب للمسرح أو عنه، وهو تحقيق الفرجة البصرية في مزج بين المشهد المروي والمتجسد عبر التمثيل،مستعينا بفرقة الأرجوز وطقوس السحر و تعليقات الراوي، ولكن حرية المخرج بدت واضحة في تكوين عوالم تخص لغته وأفكاره وإن إستعان بجانب من مقترحات تفعيل الفرجة في النص.
باسم قهّار المخرج الشاب كان يعلن عبر هذه المسرحية، عن موهبة في غاية الأهمية، ولعل عمله هذا يشكل إضافة الى المسرح العربي ويرقى الى مستوى العالمية، فهو يعرف كيف يدير بانوراما التاريخ دون تجاوز على حيثيات وجود الوقائع العيني، وقدر مايبرع في تغريب المرئي من الإحداثيات المعيشة، قدر ما يدفع بها الى أفق ترميزي يرقى بالمسرحية الى شمولية تطل على أزمنة متحركة.
سعد الله ونوس في "الأيام المخمورة" أراد أن يشخصن التاريخ، فتابع فكرة التمدين والعلاقة بالغرب من خلال سيرة عائلة يرويها الحفيد الأصغر، فالأب التاجر اللبناني يتزوج دمشقية تربطه بأخيها علاقات تجارية.وبعد عمر من الزواج الذي تتكتم الزوجة على عيوبه، تهرب مع رجل تختبر الحب أول مرة معه، فيصطحبها الى بلدته في أعلى جونيه بلبنان. وليست خافية دلالة هذه العلاقة في تشابك دوافع الحراك الاجتماعي وتأثيرها على الصراعات ونوع الأرومات الناتجة عنها.
ينسب النص أزمنة التغيير الى عهد المفوض السامي ببيروت مسيو دي مارتيل الذي يقول عنه الراوي (( كان محنكا بلا وازع، وماجنا بلا رادع.خطف عقول القوم،فخلعوا مابقي من التقاليد والقيم القديمة. وانهمكوا على دين سلطانهم،في البحث عن المباهج والملذات. كانت الأيام مخمورة تترنح بالاباحة المفاجئة، والرغبات الذاهلة. )). والحق ان المجون الذي لاتظهره المسرحية إلاّ على نحو مبتسر، هو قناع بين أقنعة كثيرة يتصارع فيها الخصوم من أجل السطوة والجاه، فالعالم كما يقول ملك الرذيلة ببيروت، مهما تقنّع وحارب وكذب فهو يدور حول صراع الرغيف والجنس.والقول هذا لسرحان الابن الأصغر الذي يترك دراسته في الجامعة الاميركية وينخرط في تجارة الجنس والمخدرات.
أعاد المخرج بناء النص بعد تفكيكه، وقدم مقترحات للفرجة تختلف عن تلك التي طرحها ونوس، فقد عمد الى إظهار رمزية الشخصيات من خلال شمولية الموقف وسعة مشهديته، فالشخصيات تنطوي على شحنة عالية من البطولة،تجعل وجودها يكاد يكون غائما في رمزيتها. على هذا تبدو المسرحية وكأنها تُلغي دور الممثل التقليدي الذي يختبر المشاهد قدراته في الإداء، فالممثل لايقترب من النموذج الأنساني المألوف،بل يمضي الى إظهار قناعه التاريخي، وهو يبتعد عن المسرح وتحتويه اللعبة البصرية التي يبرع فيها الميزانسين والديكور والاضاءة في مشهدية تقّرب المسرح من السينما. ولم يكن هناك من حضور واضح سوى لمؤدين فقط من بين مجموع الممثلين، وإن كان هذا الحضور مبتسرا في مشهد أو مشهدين، فكفاح الخوص الذي قام بدورسرحان ملك العوالم السفلية لبيروت وزميله البوري (مازن عباس) إقتربا من فكرة الدور التمثيلي،في حين إبتعدت بقية الأدوار في عمق المسرح وغامت ملامح الشخصيات في وظيفتها الترميزية، وكان لعطل أجهزة أيصال الصوت في بعض المفاصل،أثر في إضعاف موقع الممثل.
لعب المخرج على الزمن عبر تحريك المجال المسرحي المرئي،فأظهر الأبعاد المختلفة للأمكنة،من خلال الإستعانة بالستائر المتداخلة،التي تفتح على مكانين أو أكثر كي تخلق حيزا للتحاور بينهما، وكانت أغنية محمد عبد الوهاب القديمة( من قد أيه كنا هنا) التي وظفت كلازمة زمنية،من بين أنجح الاستخدامات في المؤثرات الصوتية.
الأهم ما في المسرحية شغل المخرج على ممكنات الحلول المختلفة في الفعل المسرحي الواحد، فتبدل مواقع الحركة، يوفر مرونة لتحرك النص خارج اليقينيات، ولعل من بين أفضل ما حققه المخرج، ذلك المشهد الذي يلتقي فيه الأبن العسكري بوالدته الهاربة، فالمخرج يعيد مشاهد اللقاء كما تفعل الكاميرا، فمرة يقتلها ومرة يحضنها ومرة يعلن قلقه وحيرته.وهذا الجزء في النص الأصلي يظهر صراع التحديث مع القيم البالية،فالابن عدنان الذي يشتغل دركيا في الميناء، وحده يفكر بمعاقبة أمه بالموت، وفي اللقاء بها تطلب هي منه أن يقتلها، كي تتطهر من عقدة الذنب التي تراكمت بسبب فعلتها.الموقف يحوي على شحنة ميلودرامية لو إدرج في الاطار العائلي، ولكن ونوس وضعه ضمن ممكنات الجدل القائم حول فكرة غسل العار، كما قرّب شخصية الأم من النموذج الملحمي في دعوة ابنها الى قتلها كي يتخلص من فكرة العيب. الأب الذي أصيب بصدمة هرب الزوجة، يحاول أن يخلع الزي الغربي عنه، وما يستتبعه من سلوك، ولكنه بمرور الوقت يجد نفسه في منطقة النسيان،فعقله التجاري يدفعه الى التفكير بمصير تجارته التي تربطه بعائلة الزوجة. هنا في هذا المفصل يتكشف مفهوم الزواج التجاري الذي يبرر هرب الأم من البيت،كما تختبر فكرة التمدين في هذا الحيز الجغرافي.
يصنع المخرج مشاهد جريئة لقسوة الأب في الفراش، ويضعها معادلا لرقة الحبيب ولطفه، ولكن العلاقة ذاتها بين الحبيب والزوجة والهرب من البيت والذهاب الى جونيه في جبل لبنان،تكتسب معاني تتعدى الأطار العائلي والشخصي، الى التشابهات الروحية التي تبرر تجاوز الإختلافات، وترمز الى إحتدام الحراك الإجتماعي،خارج الأطر الضيقة التي كانت تعيشها المجتمعات التقليدية.
إشتغل المخرج على المشاهد المنفصلة،وكان دقيقا في جعل المتلقي يستمتع بها كبنى مستقلة، ولكن إستغراقه هذا لم يمنعه من الإمساك ببنية العمل ككل وتوجيهها نحو منطق رابط لكل الوحدات، فالمسرحية توحي بتماسك في المقولة الأساسية التي تدور حول فكرة التاريخ المتحرك وفق مصالح وقيم تستنسخ او تتولد عنها أشكال هجينة، وتدخل السياسة الخارجية كعامل أساسي في تشويه تلك القيم أو تكوين حاجات تتحول الى أخلاق ومتعارفات في الجسم الذي تحل فيه.
هذه الفكرة بدت فنيا ممكنة التحقق عبر إطار يستجيب الى صيغة الإحتمال في الاشتغال على المشهد، فبطل الرذيلة يبدو في صورته الكاركتيرية، ممثلا لحكمة لاتبتعد عن الواقع المتحرك، فهو بهذا المعنى، حكيم الزمن الساخر من الماضي، وألعبان التحديث الذي حاول المخرج ان يجعل من قناعه مرادفا للإنكفاء والتطور معا. أنه يتحرك ضمن مساحة محدودة،وفي الزوايا المعتمة للمكان، ولكنه يختم وجوده بالهيمنة الكاملة على المسرح، ليمسك مع أخته سمسارة العلاقات الخارجية حياة مدينة بأكملها. وهذه الأخيرة تتكئ على محفات تسرع فيها بين أمكنة مختلفة، ولكن الوجود الخيالي، يجعل منها ومن أخيها،مجرد أطياف يعكسها الواقع المتحرك وحاجاته. سعدالله ونوس يدين التصنّع والداندية التي تمثلها ثقافة المدينة الكولنيالية او تلك المدن لتي تبدل جلدها تأثرا بالغرب وعاداته، وقد جسد المخرج هذه المقولة بإشباع التغريب في المظهر والحركة.
يمكن أن يقال الكثير عن هذه المسرحية، ولكن الجانب المهم فيها ذلك التعالق بين مهمة الاخراج ومهمة النص، فهناك مسافة بين الأثنين، ولكنهما يعملان على اظهار ما يعز على المقولة الواحدة إيصاله.


الميزانسين وثنائية الواقع والفن

أ. د. عقيل مهدي يوسف

تفتح البوابات مشرعة وتمهد الساحة لدخول المنتحلين مهنة الفن فيقدمون بالتالي على "إعادة إنتاج" أشكال الحياة اليومية كتابة وإخراجاً بدقة حرفية، وبتفاصيل تزويقية زخرفية ويقوم آخرون على الطرف الثاني بمثل هذا القدر من (الهواية) السقيمة باجتراح أشكال مهومة، مرتجة، هلامية، جنونية تدفع البعض منهم لأن يفتخر بأنه من سلالة مخبولة في (أعماله) سريرياً أو ساكو باتياً!! فيجمع في سلته شتاتاً وشظايا من الهلاوس والأوهام ويلقي بمحتوياتها فوق الخشبة!! على شكل (ميزانسينات) مائجة سرابية ولكن الفن المسرحي، مثل سواه، يبقى الخاسر الوحيد أو يبقى في الأقل محصوراً بين محكات لا تعرفه ولا تعبر عن آلياته، وكنهه أو جوهره. وينظر كل من أطراف "الصراع" إلى الآخر بأنه الفاشل في المعادلة بدلالة (الميزانسينات) التي يبنيها فوق الخشبة، وبالطبع يكون الأمر أكثر مشقة حين يطول مبدعين ينقسمون إلى التيارات المتناقضة بنفسها: تيار البحث عن الواقع في الفن، وتيار البحث عن الفن في الواقع، وبين هؤلاء وأولئك يبقى المتلقي متذبذباً في فهم "المعيار" المنصف بين هذين الطرفين المتصارعين، وحيئنذ تصطدم الفلسفة (المادية) للفنان في تشكيلات الحركية بالفلسفية (المثالية) للفنان الآخر. وتشحذ الأسلحة الفكرية والثقافية بشأن جدوى أي منهما للحياة المسرحية!!
وتكال الاتهامات حول انقراض هذا التصور (الميزانسين) الحياتي أمام ذلك التصور الفني وتحترق (الذاكرة) بنيران (المخيلة) وتتوارى حقيقة "المسكوت عنه" بعيداً عن تفحصها ملياً، بما تقتضيه من مقاربات فكرية وجمالية تجريبية استثنائية، لتثبيت منظور (للميزانسين) تتعدد المحاور والزوايا والاتجاهات لفهم الظاهرة المسرحية المركبة لفنها، حين تتحول إلى أشكال ملموسة في ربرتوار "المخرج" ومنخرطة في منهاج العروض الوطنية، في مكان وزمان محددين، وكمان يقول بيتر بروك مرة بأن ليست هناك أسرار، كذلك ليس من السر، القول أن نتاجات المخيلة الإبداعية، المتشكلة وفق نسق بصري سمعي للميزانسين هي الجوهر الحاسم في قيام تجربة فنية، ولا نجد في اتجاه الرؤية نحو (المحاكاتية) أو (الخلق) المحض، أي حسم للمشكلة الإبداعية، ولا لفهم مكونات الصورة المسرحية (نصاً وإخراجاً) فالفن لا تفسره قوانين الواقع وإنما يقتضي من بين إشكاليات أخرى فهماً تجريبياً خاصاً "للمادة الإبداعية" نفسها التي تتشكل مسرحياً عند الفنانين الخلاقين، والموهوبين بكل وضوح وشدة ويكفي رصيد الألف ميل من النتاجات المسرحية لتسمية واحدة من بينهم بأنه رجل مسرح!! سواء تلفع "بالمحاكاة" في (تشكيلاته الحركية) أو تلطخ بالضباب "الفني" المصنوع!
ميزانسين المخرج:
إن قدرة المخرج ليست في (إعادة) إنتاج الحياة في (تشكيلاته الحركية) وكذلك ليست في (الهروب) من إنتاج الحياة لتلك (الميزانسينات) بل إنها تقع في نسق فني -تخيلي أولاً واخيراً الفنان في المحاكاة لا ينقل "مغربياً" إلى "إيطاليا" ليتزوج واحدة بيضاء! ثم تحدث جريمة قتل!* بل إنه يقدم "حدثاً مرئياً في مكان" حدثاً يقدم "شخصاً" مركباً من الأعضاء، والمشاعر والعواطف والأفكار، ولكنه قد استحال إلى كائن أثيري من نمط جديد، لا ينقل معه البيئة المغاربية التاريخية والارشيفية والاجتماعية، بدقائقها المنظورية السائدة والمكررة، بل يتم إنتاج نسق رؤيوي يزهد بكل (متحفية) الأشكال (الخارجية) وينفذ إلى كيانات روحية تخص نفسية البطل الغني، ومناخه الجمالي، ولا علاقة له بتحقيق كسب فوتوغرافي حاذق!! بحيث تتوهم بالتقاط حباته حتى العصافير!! ولم تكن كذلك (الشطحات) مدعاة فخر لأي فنان في التاريخ العريض والممتد لفنون المسرح العريقة، ربما هي، (أي الشطحة)، مفردة من سجل (الجنون) والمصحات أو العيادات (النفسية) أو حتى من مفردات (الصوفية) التي يندفع فيها المريد، صاحب الخطوة في عالم الخدر، وإماتة الحواس!! وفناء العقل! بل إننا نذهب إلى أن الوعي الفني والجمالي، يتحكم بشكلي التجربة المسرحية، والوعي هذا يزدهر ولا يخبو أو يتعثر عند الفنان المبدع.
------------
*الإشارة هنا بالطبع إلى مسرحية عطيل شكسبير-.


من عروض اسبوع المدى الثقافي الرابع .. ( حظر تجوال )مــسـرح الـغـضــب الـعــــراقـــي  

د. محمد حسين حبيب

نعم انه مسرح الغضب العراقي الذي اعني , لا مسرح اوزبورن الإنجليزي .. انه غضب المبدع العراقي وردة فعله التي يجب أن تحدث إزاء فعل الدم الذي يحاصره مثلما يحاصر العراق برمته .
لقد جاء خطاب عرض مسرحية ( حظر تجوال ) التي عرضت ضمن فعاليات أسبوع المدى الثقافي الرابع في اربيل , لمؤلفها ومخرجها الفنان ( مهند هادي ) وتمثيل الفنانين رائد محسن وسمر قحطان , ليجسد لنا ظاهرة الموت المجاني لا للإنسان حسب بل لكل الروافد والمرافق ألحياتية التي خط الموت عليها سكونا واضحا , هذا الى جانب توقف العرض عند نقطة جوهرية حياتية تحتل الشارع العراقي الآن وهي ( قلق القبض على الرزق ) التي تفاعلت وسايرت حالة الخوف من المجهول بوصفها سلطة مستمرة على شخصيات المسرحية .
شخصيتان التقتا في اللامكان واللازمان بعد طول عذابات ومفارقات حياتية يحرص العرض على تبيان تفاصيلها , لتجمعها غرفة صغيرة فرضها المخرج مكانيا فوق بطانية قديمة كان لها أثرها الدلالي الذي اختزل الكثير من المفردات الأخرى . اتفقت الشخصيتان، أو هكذا ظهرتا لنا منذ البداية، على اقتسام رزقهما اليومي نتيجة لضياع هذا الرزق أحيانا كثيرة , فضلا عن ان مهنتهما من المهن غير المرغوب فيها حتى ممن يمارسونها ولكن لابد .. فالأول يعمل صباغ أحذية والثاني يغسل السيارات .. فكلاهما معني بالمسح والتنظيف إذا , ويبدو أن لهذا دلالة أخرى سعى إليها المؤلف حيث حمل شخصيتيه الاثنتين مسؤولية ردم وغسل وتنظيف العالم الذي يعيشانه والبحث عن خلاص قادم وهذا الهدف كثيرا ما نجده عند شخصيات مسرح العبث أو اللامعقول , التي تسعى للقضاء على حياة التشرد والضياع التي تكتنف حيوا تهم اللامجدية .
على وفق منظومة دلالية تبدو بسيطة في أول الأمر حيث لجأ المخرج الى توظيف قاطع خشبي (كالوس), إلا انه وبرغم ثبوتيته المكانية إلا انه
وبوصفه العلامة الأبرز في فضاء العرض قد ولد دلالات متنوعة ومتحولة بحسب الموقف الدرامي والحالة المراد القبض عليها إخراجيا وبذكاء واضح .. فضلا عن الفتحات والشقوق التي تظهر لنا بين الحين والآخر والتي لعبت دورا كبيرا في تشكيل سينوغرافيا فضاء المسرح وتحولاته من موقف الى آخر ومن حالة لأخرى .. تحولات منضبطة ومحسوبة بدقة كان لها الفضل في أنها تحافظ على سر إخفاء الصنعة المسرحية , وهو ما يجب أن يحافظ عليه المخرج طيلة زمن العرض وهذا ما حصل فعلا .
هذه البساطة العميقة والتي تصل لدرجة العفوية الأدائية والحوارية أحيانا , هي ليست نمطا جديدا في مسرحنا العراقي، أنها تحيلنا الى ( التجريبية الشعبية ) التي اشتغل عليها المخرج ( قاسم محمد ) وما زال ينظر لها , كذلك عمد الفنان ( سامي عبد الحميد ) في تفعيل هذا النمط الشعبي التجريبي في نصوص كان يبدؤها الكاتب (كريم السوداني) نصا لتتحول الى خطاب عرض يجمع كل الانفعالات الآنية التي تولدها التمارين اليومية والتي يتشارك في مقترحاتها الممثل والمخرج والمؤلف , وكان ذلك ملموسا في مسرحيات مثل : (حتى إشعار آخر) و(الكفالة) و(ساعي البريد) . والحال نفسه نجده في بعض مسرحيات عواطف نعيم نصا وعزيز خيون إخراجا مثل : (مطر يمه) و(لو) و(مقامات على نغم النوى) .
مسرحية حظر تجوال احتكمت الى الحوار المسرحي الشعبي , أي اللهجة العامية المستندة الى صدق اللحظة الانفعالي أولا والى صياغة تأليفية انتبه كاتبها الى فنية موسيقاها المؤثرة والتي لا تحتمل التبديل والتغيير من قبل الممثل برغم كونها لهجة شعبية ... وهذا الأمر نفسه يحيلنا مباشرة الى حواريات يوسف العاني في مسرحياته الأولى وقاسم محمد وفاروق محمد .. بل وحتى تلك اللهجة العامية التي يسطرها كتاب وروائيون تميزوا في ذلك مثل : غائب طعمة فرمان و فؤاد التكرلي .. حيث نتلمس وبوضوح روحية اللهجة العامية وأثرها على المتلقي .
لقد عمد المخرج ( مهند هادي ) الى فرضية درامية متوازنة احتكمت الى المألوف مرة واللامألوف مرات كثيرة .. فرضية زمانية تداخل فيها الزمان والمكان والشخصيات على وفق انسجام هارموني كان من شأنه ان يؤسس خطابا مسرحيا ذا ايقاع متماسك منذ لحظة العرض الاولى الى النهاية .
الممثل ( رائد محسن ) نعرفه جيدا فهو يمتلك حضوره الادائي المتميز ,جسدا وصوتا , وانفعالا داخليا صادقا كثيرا ما يلتجئ اليه رائد محسن في ادواره العديدة التي تثير استجابة المتلقي شعوريا مما يسهل الارتباط العاطفي التفاعلي بينه وبين المتلقي.
اما الممثل ( سمر قحطان ) الذي امتلك هو الآخر أدواته التمثيلية بحرفية عالية برغم اننا اخر مرة شاهدناه في مسرحية ( بكوكو ومو كوكو ) عام 2000.. اخراج باسم الحجار .. فأنه هنا كان ممسكا شخصيته بتكاملية فنية ادائية واضحة كان من شأنها تفعيل استجابة المتلقي ومتابعة كل شيء تحت تأثير عاملي ( التوقع والترقب ) لدى المتلقي , فضلا عن هذا التنوع الذي شهده خطاب العرض برمته حين مزج الكوميديا بالدموع , وهذه حالة نادرا ما تنجح العروض المسرحية فيها .
ربما نكون بحاجة الى نهاية أخرى غير التي انتهى إليها العرض ولكن يبدو أن المخرج أراد أن يقول : إن غضبي مازال مستمرا .. شأنه شأن هذا الموت المستمر .
ان عرض مسرحية ( حظر تجوال ) اعلنت بصوت عال عن شيخوخة ( دجلة ) النهر , لا دجلة البنت الغائبة في المسرحية , وتلك دلالة جوهرية اخرى اعتمدت رمز الاسم وايحاءاته في تفعيل الجانب المسكوت عنه والتنبيه الى ان الشيخوخة اصابت حتى انهارنا.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة