من عروض
اسبوع المدى الثقافي الرابع ..
(
حظر تجوال
)مــسـرح الـغـضــب الـعــــراقـــي
د. محمد حسين حبيب
نعم انه مسرح
الغضب العراقي الذي اعني , لا مسرح اوزبورن الإنجليزي ..
انه غضب المبدع العراقي وردة فعله التي يجب أن تحدث إزاء
فعل الدم الذي يحاصره مثلما يحاصر العراق برمته .
لقد جاء خطاب عرض مسرحية ( حظر تجوال ) التي عرضت ضمن
فعاليات أسبوع المدى الثقافي الرابع في اربيل , لمؤلفها
ومخرجها الفنان ( مهند هادي ) وتمثيل الفنانين رائد محسن
وسمر قحطان , ليجسد لنا ظاهرة الموت المجاني لا للإنسان
حسب بل لكل الروافد والمرافق ألحياتية التي خط الموت عليها
سكونا واضحا , هذا الى جانب توقف العرض عند نقطة جوهرية
حياتية تحتل الشارع العراقي الآن وهي ( قلق القبض على
الرزق ) التي تفاعلت وسايرت حالة الخوف من المجهول بوصفها
سلطة مستمرة على شخصيات المسرحية .
شخصيتان التقتا في اللامكان واللازمان بعد طول عذابات
ومفارقات حياتية يحرص العرض على تبيان تفاصيلها , لتجمعها
غرفة صغيرة فرضها المخرج مكانيا فوق بطانية قديمة كان لها
أثرها الدلالي الذي اختزل الكثير من المفردات الأخرى .
اتفقت الشخصيتان، أو هكذا ظهرتا لنا منذ البداية، على
اقتسام رزقهما اليومي نتيجة لضياع هذا الرزق أحيانا كثيرة
, فضلا عن ان مهنتهما من المهن غير المرغوب فيها حتى ممن
يمارسونها ولكن لابد .. فالأول يعمل صباغ أحذية والثاني
يغسل السيارات .. فكلاهما معني بالمسح والتنظيف إذا ,
ويبدو أن لهذا دلالة أخرى سعى إليها المؤلف حيث حمل
شخصيتيه الاثنتين مسؤولية ردم وغسل وتنظيف العالم الذي
يعيشانه والبحث عن خلاص قادم وهذا الهدف كثيرا ما نجده عند
شخصيات مسرح العبث أو اللامعقول , التي تسعى للقضاء على
حياة التشرد والضياع التي تكتنف حيوا تهم اللامجدية .
على وفق منظومة دلالية تبدو بسيطة في أول الأمر حيث لجأ
المخرج الى توظيف قاطع خشبي (كالوس), إلا انه وبرغم
ثبوتيته المكانية إلا انه
–
وبوصفه العلامة الأبرز
في فضاء العرض –
قد ولد دلالات
متنوعة ومتحولة بحسب الموقف الدرامي والحالة المراد القبض
عليها إخراجيا وبذكاء واضح .. فضلا عن الفتحات والشقوق
التي تظهر لنا بين الحين والآخر والتي لعبت دورا كبيرا في
تشكيل سينوغرافيا فضاء المسرح وتحولاته من موقف الى آخر
ومن حالة لأخرى .. تحولات منضبطة ومحسوبة بدقة كان لها
الفضل في أنها تحافظ على سر إخفاء الصنعة المسرحية , وهو
ما يجب أن يحافظ عليه المخرج طيلة زمن العرض وهذا ما حصل
فعلا .
هذه البساطة العميقة والتي تصل لدرجة العفوية الأدائية
والحوارية أحيانا , هي ليست نمطا جديدا في مسرحنا العراقي،
أنها تحيلنا الى ( التجريبية الشعبية ) التي اشتغل عليها
المخرج ( قاسم محمد ) وما زال ينظر لها , كذلك عمد الفنان
( سامي عبد الحميد ) في تفعيل هذا النمط الشعبي التجريبي
في نصوص كان يبدؤها الكاتب (كريم السوداني) نصا لتتحول الى
خطاب عرض يجمع كل الانفعالات الآنية التي تولدها التمارين
اليومية والتي يتشارك في مقترحاتها الممثل والمخرج والمؤلف
, وكان ذلك ملموسا في مسرحيات مثل : (حتى إشعار آخر)
و(الكفالة) و(ساعي البريد) . والحال نفسه نجده في بعض
مسرحيات عواطف نعيم نصا وعزيز خيون إخراجا مثل : (مطر يمه)
و(لو) و(مقامات على نغم النوى) .
مسرحية حظر تجوال احتكمت الى الحوار المسرحي الشعبي , أي
اللهجة العامية المستندة الى صدق اللحظة الانفعالي أولا
والى صياغة تأليفية انتبه كاتبها الى فنية موسيقاها
المؤثرة والتي لا تحتمل التبديل والتغيير من قبل الممثل
برغم كونها لهجة شعبية ... وهذا الأمر نفسه يحيلنا مباشرة
الى حواريات يوسف العاني في مسرحياته الأولى وقاسم محمد
وفاروق محمد .. بل وحتى تلك اللهجة العامية التي يسطرها
كتاب وروائيون تميزوا في ذلك مثل : غائب طعمة فرمان و فؤاد
التكرلي .. حيث نتلمس وبوضوح روحية اللهجة العامية وأثرها
على المتلقي .
لقد عمد المخرج ( مهند هادي ) الى فرضية درامية متوازنة
احتكمت الى المألوف مرة واللامألوف مرات كثيرة .. فرضية
زمانية تداخل فيها الزمان والمكان والشخصيات على وفق
انسجام هارموني كان من شأنه ان يؤسس خطابا مسرحيا ذا ايقاع
متماسك منذ لحظة العرض الاولى الى النهاية .
الممثل ( رائد محسن ) نعرفه جيدا فهو يمتلك حضوره الادائي
المتميز ,جسدا وصوتا , وانفعالا داخليا صادقا كثيرا ما
يلتجئ اليه رائد محسن في ادواره العديدة التي تثير استجابة
المتلقي شعوريا مما يسهل الارتباط العاطفي التفاعلي بينه
وبين المتلقي.
اما الممثل ( سمر قحطان ) الذي امتلك هو الآخر أدواته
التمثيلية بحرفية عالية برغم اننا اخر مرة شاهدناه في
مسرحية ( بكوكو ومو كوكو ) عام 2000.. اخراج باسم الحجار
.. فأنه هنا كان ممسكا شخصيته بتكاملية فنية ادائية واضحة
كان من شأنها تفعيل استجابة المتلقي ومتابعة كل شيء تحت
تأثير عاملي ( التوقع والترقب ) لدى المتلقي , فضلا عن هذا
التنوع الذي شهده خطاب العرض برمته حين مزج الكوميديا
بالدموع , وهذه حالة نادرا ما تنجح العروض المسرحية فيها .
ربما نكون بحاجة الى نهاية أخرى غير التي انتهى إليها
العرض ولكن يبدو أن المخرج أراد أن يقول : إن غضبي مازال
مستمرا .. شأنه شأن هذا الموت المستمر .
ان عرض مسرحية ( حظر تجوال ) اعلنت بصوت عال عن شيخوخة (
دجلة ) النهر , لا دجلة البنت الغائبة في المسرحية , وتلك
دلالة جوهرية اخرى اعتمدت رمز الاسم وايحاءاته في تفعيل
الجانب المسكوت عنه والتنبيه الى ان الشيخوخة اصابت حتى
انهارنا. |