حول
احتمال وجود قوانين للتطور الاجتماعي
*باقر جاسم محمد
*كاتب عراقي
تثير
المقولات الفكرية المستمدة من الشق الأيديولوجي من
الماركسية، في الغالب، نقدا ً هوأقرب إلى الحوار منه إلى
التفنيد؛ لما تتضمنه من آراء وتنبؤات ذات طابع قطعي فيما
يخص التطور التاريخي للمجتمعات البشرية. ولكن البعض سرعان
ما يتهم من يمارسون مثل هذا النقد بالتحريفية حتى وإن
كانوا من داخل الخيمة الأيديولوجية للماركسية. وفي تقديري
أن مثل هذه التهمة تشين من يطلقونها وتشرف من تطلق عليهم،
فهي تكشف عن نزعة تقديسية للنصوص مهيمنة في نفوس القوم
وعقولهم؛ وهي تنزع عن الفكر الماركسي، في الوقت نفسه، أهم
مقوماته، أعني حيويته وصلته الدائمة بأسئلة الواقع وقضاياه
وتحولاته وبالتجربة البشرية في تنوعها وتطورها.
ولعلنا نتفق جميعا ً على
ان العالم الراهن قد شهد تطورات جسيمة كما ً ونوعا ً تجعله
عالما ً مختلفا ً على نحوجوهري عن العالم الذي استند كل من
ماركس وانجلس ولينين إلى معطياته في تحليلاتهم
واستنتاجاتهم. وهذا ما يجعل من تلك التحليلات والاستنتاجات
تراثا ً لا يصادر حق مفكري عالمنا الراهن في فحص معطياته
الجديدة بل يفرض عليهم مهمة شاقة ألا وهي تفعيل الجوهر
الجدلي للعلاقة بين الفكر والواقع، التي هي سمة أساسية في
الفلسفة الماركسية ( وأنا أميز دائما ً بين الفلسفة
الماركسية والأيديولوجيا المستمدة منها)، بغية السعي للكشف
عن فهم أفضل للعالم في تحولاته وصيرورته. ولعلنا أيضا ً
نتفق على أن إحدى أهم المقولات الأساسية، ولكن الخلافية،
في الفكر الماركسي الأيديولوجي، وفي المادية التاريخية
تحديدا ً، هي قضية وجود سياق للتاريخ البشري يمكن التنبؤ
به، وهوسياق مقرر سلفا ً بحكم قوانين للتطور. ومسألة وجود
مثل هذا السياق من عدمه قضية شائكة تناولها أكثر من باحث
مهتم بالدراسات الماركسية، ومن أهم هؤلاء الدكتور سمير
أمين الذي سعى إلى محاولة إثبات وجود هذه القوانين ولكن
ليس على الصيغة التي طرحها ماركس، وذلك في بحث مهم نشره
ملحقا ً بكتاب ( خروج العرب من التاريخ) للدكتور فوزي
منصور. وسأحاول أن أستفيد من بعض كلام الدكتور أمين في طرح
المسألة بصيغة سؤال: هل يترتب على القول "بأن الإنسانية
واحدة منذ بداياتها"أن نبذل جهودا ً للبحث في "احتمال وجود
قوانين للتطور الاجتماعي عالمية النطاق"؟ ( فوزي منصور:
214 -215) ونظرا ً لجسامة السؤال الذي قد لا ينجح الباحثون
في الإجابة عليه إجابة حاسمة ونهائية سواء أكان ذلك بالسلب
أم بالإيجاب، فأنني سأركز الكلام في هذه المقالة على
مسألتين لم يتطرق إليهما الباحث مدفوعا ً باعتقاد أنهما
ربما تسهمان في تأسيس المهاد العلمي للجواب للنقاش حول هذه
القضية الجوهرية. والمسألتان هما:
1. القراءة المعرفية للعنصر الفلسفي الذي تتضمنه أية
إجابة محتملة بالسلب أوبالإيجاب بوصف أن القضايا الكبرى
تنطوي بالضرورة على بعد فلسفي.
2. البحث في البعد المعرفي لمفهوم القانون، وهوالمفهوم
الذي يتردد كثيرا ً في كتابات القائلين بوجود مثل هذه
القوانين.
إن نفي وجود قوانين للتطور الاجتماعي ذات بعد عالمي، كما
يذهب إلى ذلك كثير من المفكرين، وعلى رأسهم كارل بوبر في "بؤس
التاريخانية"، يؤدي بالضرورة إلى التوكيد على الوقائع
العينية لتاريخ كل مجتمع على حدة واستبعاد أي احتمال لوجود
إطار موضوعي عام وشامل للتجربة البشرية، وهذا هوالحد
العلمي الوحيد الممكن في نظر هؤلاء. وهوإطار لا يرقى إلى
مصاف القانون؛ لأنه ينطوي على نفي للتاريخ بتحويله إلى نوع
من القصص المسلية من جهة، وإقرار بالسوسيولوجيا الآنية
أوالوصفية وتثبيت لها بوصفها الحقل المعرفي الوحيد الذي
يمكن أن يقترب من العلوم الطبيعية دون أن يضارعها في دقتها،
من جهة أخرى. ويدرك القائلون بهذا الرأي، وهم في الغالب من
الوضعيين المنطقيين، أنهم ينزعون إلى التوكيد على نوع من
تفرد التجربة الاجتماعية ونسبيتها، وإلى التركيز على
الوجوه والمقومات المحددة والخاصة بكل مجتمع على حدة وذلك
على حساب البعد الفلسفي الشامل للتجربة البشرية. وهم لا
ينفون ذلك ولا يأنفون منه، بل يعتبرونه ميزة لهم لأنهم،
كما يزعمون، أقرب إلى الواقعية، وإلى الوصف الأمبريقي (التجريبي)
وابعد عن الميتافيزيقا من سواهم.
أما الرأي الآخر الذي يؤكد وجود مثل هذه القوانين، فإن من
الحق أن نؤكد بأن العنصر الميتافيزيقي ماثل في كل قول
بوجود قوانين تنتظم تاريخ التطور البشري منذ الأبد وإلى
الأزل. ويستند هذا الزعم إلى نقطتين: النقطة الأولى هي أن
التجربة البشرية لم تفرز مثل هذه القوانين المزعومة التي
تفتقر إلى الوجود الموضوعي، فالتجربة البشرية أعطت وتعطي
إشارات متوافقة أحيانا ً، وهي بذلك قد تغري بالتعميمات
الفلسفية، أو تعطي إشارات متضاربة تقضي على أية إمكانية
لصوغ تعميمات فلسفية في أحيان أخرى. وهذه الإشارات، سواء
أكانت متوافقة أم متضاربة، يمكن أن تـُقرأ قراءات مختلفة
تتوصل، في نهاية المطاف، إلى نتائج شديدة الاختلاف. لذلك
يمكن القول إن مثل هذه "القوانين"لا تمثل إلا جزءا ً
تكوينيا ً من بنية فكرية ميتافيزيقية في عقول القائلين بها.
والنقطة الثانية هي أنه حتى لو افترضنا جدلا ً وجود مثل
هذه القوانين فإن ذلك يستلزم ضرورة الإقرار بوجود عقل
متعال وكلي ومطلق وشامل هو من أوجد هذه القوانين وقام
بفرضها، وهذا الرأي قد يوحي بأصداء فلسفية تتردد من فكرة
الروح الكلي والمطلق الذي قالت به الميتافيزيقا الهيجلية،
كما أنه يمثل عودة إلى الفكر الديني في شتى تجلياته وبخاصة
نظرية الاستخلاف الإلهي، وهو ما سيجمع في الأقل بين
الاتجاهات الدينية والاتجاهات الماركسية على صعيد غائية
التاريخ المقررة سلفا ً. ومن هنا فهو قول ينطوي ضمنيا ً
على موقف الانتساب الصميمي إلى شبكة التصورات
الميتافيزيقية بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
ولعل القارئ الكريم قد لاحظ أن المحور الأساس للمسالة
الفلسفية الخاصة بطبيعة التجربة البشرية هو وجود "القوانين
"الشاملة التي تسمح لنا، حسبما يزعمون، بالقول إن السياق
المستقبلي للتطور الاجتماعي سيتخذ هذه الشاكلة لا تلك،
وسيكون على هذا النحولا ذاك. و قد يصل الأمر إلى حد الزعم
بإمكانية "تخطيط "مثل هذا التطور أوالتأثير عليه للتعجيل
بوتائره. إذ بوجود جملة معطيات مستمدة من الواقع الاجتماعي
الراهن، وباستعمال منظومة مقولات تفسيرية مستمدة من
التجربة البشرية، وهي المنظومة تعزى لها صفة القوانين،
يمكننا أن نتـنبأ بما سيحدث دون احتمال لأن تكذب الوقائع
الفعلية اللاحقة ما قررناه من تنبؤات. وهكذا يمكننا أن
نؤثر في سياق الأحداث استنادا ً إلى قوى اجتماعية بعينها.
وهذا يظهر أن هذا الأمر يستدعي فحصا ً معرفيا ًً لمفهوم
القانون المستعمل هنا بصيغة الجمع لأنه يمثل الركن الأساس
في مثل هذه المناظرات؛ وذلك من أجل تحديد المعنى الذي
يقصده كل من الفريقين من استعماله هذا المصطلح. فهل يعني
هذا المصطلح الشيء ذاته لدى الفريقين أم أن معناه يختلف من
فريق إلى آخر؟ وما الذي يمكن استنتاجه في كل حالة؟
في إشكالية مصطلح
القانون
يستعمل مصطلح
القانون في العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والعلوم الرياضية
مثل المثلثات وعلوم الحياة مثل الوراثة والعلوم الاجتماعية
مثل الاقتصاد والقانون بوصفه علما ً بمعان تتفق في
دلالاتها الاصطلاحية حينا ً وتختلف في أحيان أخرى. وهذا
الاختلاف والتباين يكون استنادا ً إلى القواعد العلمية
المقررة في كل علم أو حقل معرفي على حدة. ويمكن لنا أن
نفهم هذا الاختلاف في معنى المصطلح استنادا إلى معطيات
فلسفة العلم نفسها. وإذا كان الأمر على ما وضحنا فإنه يجعل
من التعرف على حدود التشابه والاختلاف في الدلالة
الاصطلاحية لكلمة
’ قانون
‘
ضرورة مطلقة لتحديد
المهاد المفهومي أوالمعنى الدقيق للمصطلح في كل علم مما
ذكرنا سابقا ً. وهوما سيؤدي بنا لاحقا ً إلى فحص وتقرير
الفروق الدقيقة في معنى مصطلح القانون بين الفرقاء
الفكريين في حقل التاريخ نفسه. ومن ثم يمكننا أن نبني
استنتاجا ً حول طبيعة القوانين في هذا الحقل.
مصطلح القانون في بعض العلوم
في علم الفيزياء يستعمل مصطلح القانون للوصف الموضوعي
المطلق في موضوعيته الذي يقرر، وعلى نحوشامل، السلوك
الحتمي لظاهرة ما ضمن شروط التجربة ذاتها في الماضي
والحاضر والمستقبل. ولذلك يمكن التثبت من صحة القانون
العلمي من خلال إعادة التجربة أواستعمال أجهزة القياس
والتسجيل، وذلك لأن الباحث أوالعالم الذي يكتشف القانون
ويصوغه ليس عنصرا ً داخليا ً من عناصر الظاهرة . ففي
الفيزياء التقليدية كان هناك قانون للجذب العام صاغه
الفيزيائي اسحق نيوتن ( 1643- 1727 م). فهذا القانون يصف،
على وفق ما شرحنا، ظاهرة التجاذب بين الأجسام في الماضي
والحاضر والمستقبل دونما أي احتمال لحدوث أي نسبة من
الشذوذ عن منطق هذا القانون. وحين تطورت علوم الفيزياء
الحديثة على أيدي كبار الفيزيائيين ومنهم أينشتاين (
1879-1955) الذي قدمت نظريته النسبية العامة فهما جديدا ً
للظواهر نفسها التي وصفها وفسرها قانون نيوتن في الجذب
العام، لم يؤد ذلك إلى نقض قانون الجذب العام بل جرى تحديد
نطاقه. وفضلا ً عن ذلك يمكن أن نضيف بأن هذا القانون
هوصيغة ’عقلية‘
مشتقة من المشاهدة
للظاهرة الطبيعية الموجودة سلفا ً في تكرارها السرمدي منذ
الأزل وإلى الأبد. لذلك فهوكشف عقلي مبدع لما هوموجود فعلا
ً . وفي العلوم الرياضية يختلف المهاد المفهومي للقانون
لأنه هنا ليس مشتقا ً من مشاهدة حسية لأية ظاهرة طبيعية
خارجية وإنما هويقرر سلوك ظاهرة هي في الأصل عقلية لأن
الرياضيات، من حيث الجوهر، من العلوم العقلية. وأما في حقل
علم الوراثة فإن قوانين مندل هي صياغات عقلية مشتقة من
ملاحظة ظاهرة موضوعية هي انتقال الصفات الوراثية من الخلف
إلى السلف واحتمالاتها. والمدهش أن صوغ تلك القوانين قد تم
قبل التوصل إلى اكتشاف الكروموسوم والمورثات الجينية بزمن
طويل. بمعنى أن التطور اللاحق في علم الوراثة لم يفند هذه
القوانين وإنما عززها.
مصطلح القانون في
بعض العلوم الإنسانية
يختلف الأمر كثيرا
ً عند استعمال مصطلح القانون في العلوم الإنسانية التي
تدرس الظواهر البشرية؛ لأننا هنا نتحدث عن ظواهر نحن جزء
منها، بمعنى أننا نلاحظ الظاهرة بعينين: واحدة خارجية عند
مشاهدة الظاهرة كما تتجلى لدى الآخرين، وأخرى داخلية لأننا
ندخل تصوراتنا القبلية، الدينية والأيديولوجية عن أنفسنا
وعن علاقاتنا بالعالمين الطبيعي والاجتماعي المحيطين بنا
ضمن فهمنا للظاهرة، ولعل من المؤكد أنني أفعل شيئا ً مما
ذكرته توا ً في هذه اللحظة، وبما يؤثر على الصفة العلمية
لاستنتاجاتنا ولما نزعم من نظريات و"قوانين ". كما تتصف
هذه الظواهر بكونها غير قابلة للتكرار من جهة وهي عصية على
التقنين التام والدقيق للعوامل الكثيرة الداخلة في الظاهرة،
لنلاحظ هنا أننا لا نكاد نتحدث عن تجارب بل عن مشاهدات
لحالة حيوية في تمظهرها وتجددها، وهي ظاهرة تنطوي على
عوامل كثيرة مؤثرة في الظاهرة بحيث لا يمكن معرفة مقدار
تأثير كل عامل منها على حدة. وكل ذلك يقلل إلى أدنى حدٍ من
إمكانية القول بأن ظاهرة إنسانية ما يمكن أن تتكرر على
نحوبعينه ناهيك عن الزعم بوجود قوانين تنتظم الحراك
الاجتماعي وظواهره التاريخية. وكما اختلفت جزئيا ً دلالة
مصطلح ’
القانون‘
بين الفيزياء
والرياضيات فإن دلالة هذا المصطلح تختلف بين علم اجتماعي
إنساني وآخر على نحوأكبر، وذلك آخر فضلا ً عن اختلافها
بعدا ً أوقربا ً عن دلالة المصطلح في العلوم الطبيعية.
ففي علم الاقتصاد نتحدث عن قانون الغلة المتناقصة من حيث
ثبات واطراد الظاهرة المشاهدة في الماضي والحاضر والمستقبل.
وأية مشاهدة أودراسة لاحقة ستعمل على تعزيز منطق ذلك
القانون مع إمكانية ضئيلة جدا ً لحدوث شذوذ عن ذلك المنطق.
وبالرغم من نقطة الاختلاف هذه في دلالة مصطلح القانون بين
الفيزياء والاقتصاد، إلا أنه يظل أقرب من حيث الدلالة
والمهاد المفهومي إلى دلالة القوانين بالمعنى الذي تستعمله
العلوم الطبيعية. أما في حقل علم القانون فإن هذا المصطلح
يكتسب دلالات متعددة ومختلفة تماما ً. فالقانون الدستوري
مثلا ً يقتصر في دلالته على تنظيم الدولة وأسلوب ممارسة
السلطة والعلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية
والقضائية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم والموازنة بين
الحقوق والواجبات وعلى ضرورة أن تصدر القوانين التنفيذية
والتفصيلية بما لا يتناقض مع جوهر الدستور ونصوصه. فهوإذن
ليس وصفا ً لظاهرة موجودة بقدر ما هوتوصية بما يجب أن يكون.
وإذا كان القانون الدستوري لدولة ما منسوخا ً من القانون
الدستوري لبلاد أخرى وكان نتاجا ً لتجربة بعينها عاشتها
تلك البلاد فإن ذلك لا يضمن قط أن الأمور في المجتمع الذي
يتبنى مثل هذا الدستور سوف تسير على السياق نفسه الذي مرَّ
به المجتمع الذي اُخذ عنه الدستور. أما في القانون الجنائي
فنحن لسنا بصدد تبيان كيفية حدوث الجرائم التي قد توصف في
مواد القانون وفقراته بقدر ما نحن بصدد صوغ النصوص التي
تجرم وتحدد العقوبات لتلك الجرائم من أجل الحيلولة دون
ارتكابها مستقبلا ً. وقل مثل ذلك عن القانون التجاري الذي
يحدد العقود وما يترتب عليها من حقوق والتزامات بين
المتعاقدين كما ينظم أسلوب ممارسة المهن. من هنا نلاحظ أن
دلالة القانون في علم القانون تنصرف إلى تحديد المباح أو
ما يجب أن يكون وغير المباح أوما لا يجب أن يكون. ومن
الطبيعي أن المباح وغير المباح لا يتطابقان بالضرورة بين
مجتمع وآخر. لذلك فمصطلح القانون في حقل علم القانون ينطوي
على سمة النسبية التي تجعل منه أقرب إلى مفهوم القواعد
المنظمة لحياة كل مجتمع على حدة. وحتى مبادئ ما يسمى
بالقانون الدستوري أوالتجاري، وهي ما يصطلح عليه بالقواعد
القانونية، تختـلف كليا عن مفهوم القانون في الفيزياء أوفي
الاقتصاد بسبب من صفة النسبية المتأصلة فيها.
ونلاحظ الآن أن هناك الكثير مما يجمع بين دلالة مصطلح
القانون في العلوم الطبيعية وبعض قوانين الاقتصاد مثلا ً
العموم في الدلالة زمانا ً ومكانا ً ومجتمعا ً، وندرة
أوانعدام حالات الشذوذ، أما من حيث الوظيفة فإننا نلاحظ أن
وظيفة القوانين في مثل هذه العلوم هي زيادة فهمنا للظواهر
المشاهدة أوالمفكر بها على نحويمكننا من السيطرة على تلك
الظواهر. فدلالة القانون هنا لا تشمل حالة أومعنى ما مرغوب
فيه أوآخر غير مرغوب فيه؛ إنما هي تصف ظواهر متكررة الحدوث
بالكيفية نفسها. أما دلالة مصطلح القانون في علم القانون
فهي مختلفة تماما ً إلى الحد الذي يجعلها تنصرف إلى أمور
دستورية وتنظيمية وعقابية ذات وظيفة اجتماعية. والسمة
الجوهرية الأخرى التي تميز بين دلالة مصطلح القانون بين
العلوم الطبيعية والإنسانية هوأن القانون في حالة العلوم
الطبيعية لا يكاد يخضع للتأويل، بمعنى أنه قطعي الدلالة
دائما ً؛ أما في العلوم الإنسانية فإن إمكانية التأويل
تكاد تشمل القوانين كافة حتى كأن علم التأويل
hermeneutics
يجد في "القوانين"الاجتماعية
ساحة ممتازة لإظهار براعته وجدواه.
مصطلح القانون في
الدراسات التاريخية
والآن، كيف يمكن
أن نحدد المهاد المفهومي والدلالة الاصطلاحية لمصطلح
القانون في حقل الدراسات التاريخية؟ وهل تسمح وقائع
التاريخ الملموسة لمجتمع ما في حضارة ما في زمن ما بأية
إمكانية لاستنباط "قوانين"عامة يمكن تعميمها على بقية
المجتمعات؟ وهل يجدي إضفاء كلمة "قانون "على حوادث تاريخية
بعينها في جعلنا قادرين، وبأية درجة من درجات اليقين، أن
نقرر باطمئنان إن هذه الحوادث ستتكرر حتما ً في المستقبل؟
بداية نقول أن من يذهبون إلى نفي وجود القوانين يستندون
إلى جملة حجج لعل من أهمها عدم انطباق صفة القانون بالمعنى
المعروف في العلوم الصرفة وذلك بملاحظة الصلة بين القانون
والظاهرة التي يفترض أنه يقننها. فهم إذن يستعملون مصطلح
القانون بالمعنى نفسه الذي نجده في بقية العلوم الطبيعية.
ولكن قد يقرر المؤرخ البريطاني المعروف آرنولد توينبي
(1889-1975) بأن القانون في التاريخ هودورات النكوص
والصعود نتيجة لمنطق التحدي والاستجابة. ولكن التجربة
المريرة أثبتت أن العرب مثلا ً لم يكونوا يمتثلون لهذا
المنطق على الرغم من كونهم قد اطلعوا عليه وعدّوه فكرة
تمثـل أملا ً عزيزاً على أنفسهم فكانوا أكثر احتفاء ً به
وتهليلا ً لـه من البريطانيين أنفسهم! كما لم يستجب لـه
أغلب الأفارقة الذين ارتكس لديهم حلم التقدم بعد الاستقلال
فتحول إلى حروب أهلية طاحنة!
وقد يقول ماركس بأن القانون هوالصيرورة التاريخية "التقدمية"
(التقدمية صفة تقويمية، والصفات التقويمية ليس لها وجود قط
في القوانين العلمية) من المشاعية البدائية إلى العبودية
إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية (دون
أن ينسى طبعا ً أن يشير إلى نمط الإنتاج الآسيوي بوصفه
سياقا ً مختلفا ً عن السياق الأوربي للتطور التاريخي). وأن
محرك هذه الصيرورة التاريخية هوالصراع الطبقي الذي تقوده
في المرحلة الرأسمالية الطبقة العاملة. ولكن هل كان
بإمكانه، حتى لوعاش كفاية ليشهد ما شهدناه، أن يفسر لنا
السبب في عدم نضوج الظروف الموضوعية لقيام الطبقة العاملة
بثورتها المأمولة حتى الآن!؟ أولماذا فشلت التجربة
الاشتراكية في بلدان بعينها!؟ أشك في ذلك لأن من أخطأ
مرة قد يخطئ مرة أخرى.
خاتمة
يظهر الفحص المعرفي لدلالة استعمال مصطلح القانون في حقل
الدراسات التاريخية، وبعد قراءة مدققة ودراسة للمهاد
المفهومي للمصطلح نفسه في العلوم الطبيعية والإنسانية
ودلالاتها الاصطلاحية، أن هذه الدلالة بعيدة كل البعد عن
الاستجابة للتوصيف العلمي لمصطلح القانون. فهي تعبر عن
رغبات وتصورات وانحيازات وتنبؤات مسبقة؛ وهي لا تتطابق مع
أهم حدود مصطلح القانون العامة إلا وهي: العموم والوصفية
الموضوعية وإمكان تكرار الظاهرة موضوع القانون دون أية
حالات شذوذ. وهي بذلك تنتسب إلى حقل الأيديولوجيا عن جدارة.
فأنا حين أقرر بكامل الاطمئنان أنه إذا غمر جسم ما في مائع
ما فإنه يفقد من وزنه بقدر وزن المائع المزاح.، فلن ينظر
إلى أحد، بعد التحقق من مطابقة الواقعة الملاحظة مع ما
قلته، ويقول لي: يا لك من متنبئ عظيم! لأنه ببساطة يعرف
جيدا ً أنني أقرر قاعدة معروفة وصحيحة دائما ً قالها
أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد. أما إذا قلت، وبعد
دراسات مستفيضة، بأن السياق المستقبلي للتطور سيكون على
نحوبعينه ثم جاءت الأحداث لتثبت صحة ما قلته فأن من حق أي
فرد أن يصف ما قمت به على أنه نبوءة صدقت، وليس على أن ما
قلته قانون أثبتت صحته الأحداث، تلك الأحداث التي ربما لن
تتكرر قط، أليس كذلك؟
|