المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

العراق يبحث عن الديمقراطية والأمن والحرية
 

حسين عبدالرازق
عندما هبطت الطائرة الخاصة التابعة للخطوط الجوية العراقية في مدينة أربيل (عاصمة إقليم كردستان العراق)، والتي أقلتنا من مطار عمان، تجمع المشاركون في أسبوع (المدى) الثقافي الرابع ومؤتمر المثقفين العراقيين (عراقيون قادمون من المناطق التي دفعهم نظام صدام حسين وحزب البعث للجوء إليها، ومصريون ولبنانيون وتونسيون وسوريون، وأصدقاء أجانب للعراق)..
انتابنى إحساس طاغ بالفرح والسعادة، فها أنا أدخل العراق بطريقة عادية بعد أن اضطررت مع عدد من المثقفين العرب والعراقيين في ديسمبر 2000 إلى (التسلل) لعراق (كردستان) من سوريا في زوارق صغيرة عبرت بنا نهر دجلة في دقائق معدودة عند مثلث »خابور«، حيث تلتقى حدود العراق مع حدود كل من سوريا وتركيا. كان صدام في ذلك الحين مازال يجثم علي العراق ويذيق شعبه الويلات، ولم ينج من سيطرته في السنوات الثلاث عشرة الأخيرة من حكمه إلا إقليم كردستان، بعد غزو قوات صدام حسين للكويت وهزيمته علي يد ما سمي بقوات التحالف الذي كونته الولايات المتحدة بقيادتها وانتفاضة الجنوب ثم إقليم كردستان عام 1991
وإعلان مجلس الأمن والولايات المتحدة أن المنطقة شمال خط عرض 36 (كردستان) منطقة أمنية يحظر فيها الطيران على القوات العراقية، وهو ما أدى بصدام حسين إلى سحب قواته من أجزاء واسعة من كردستان وسحب كل المؤسسات المدنية العراقية وموظفيها من أربيل والسليمانية وزاخو ودهوك وبقية مدن كردستان،
وتولي (الجبهة الكردستانية) المكونة من 8 أحزاب المسؤولية كاملة.
صحيح أننا لم ندخل العراق هذه المرة (من 22 إلي 30 أبريل) من العاصمة (بغداد)، ولكن السبب كان معروفاً للجميع، فبغداد والمناطق المحيطة بها ووسط وجنوب العراق عامة مازالت مناطق خطرة، حيث ينشر إرهاب الزرقاوي (القاعدة) و(أيتام صدام) كما سماهم مسعود بارزانى، القتل والاغتيالات والسيارات المفخخة في الأسواق والشوارع والمطاعم ومواقف الأوتوبيس وحافلات الركاب، مستهدفين الإنسان العراقى العادي وعدداً من المسؤولين في الحكومة والبرلمان المنتخب وجيش العراق الجديد والشرطة.
كما أن عديداً ـ إن لم يكن جميع المشاركين ـ كانوا رافضين أن يتحركوا في بغداد في حراسة ـ غير مباشرة ـ من قوات الاحتلال الأمريكى.
لاحظت من اللحظة الأولى وخلال الأيام التي قضيناها في أربيل ثم السليمانية العاصمة الثقافية لكردستان، أن السنوات الخمس والأشهر الأربعة التي انقضت منذ الزيارة السابقة شهدت تغييراً عمرانياً مهماً، فالمدينتان اتسعتا وضمتا مباني حديثة لم تكن موجودة من قبل، والأهم أن إقليم كردستان لم يعد مقسماً كما كان بين منطقة نفوذ للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني ومركزها مدينة أربيل، ومنطقة نفوذ للاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني ومركزها السليمانية، ولكل حكومته وبرلمانه وحدوده، وهناك منطقة حرام أو فاصلة بين المنطقتين، وهو الوضع الذى كان ناشئاً بعد حرب أهلية طويلة بين البشمركة التابعة لكلا الحزبين. بل إن كردستان والكرد تحولوا إلي قوة توازن بين جميع القوى القومية والدينية والمذهبية والسياسية الموجودة في العراق... أصبح كرديان لطالما اتهما بنزعة الانفصال والتقسيم رئيسين: جلال طالباني
رئيساً لجمهورية العراق الفيدرالية لمدة أربع سنوات، ومسعود بارزاني رئيساً لإقليم كردستان. تلوذ بهما كل القوى والأطياف، ويوظفان رصيد تجربتيهما في إرساء أسس الوحدة الوطنية وتشكيل حكومة التوافق، ويجهدان لكي يتعافى العراق، ويولد من جديد من تحت رماد الإرهاب عراقاً ديمقراطياً فيدرالياً موحداً.
إن كردستان اليوم تحمل الهم العراقي بعد أن تحولت إلى عراب وحدته وحاضنة مساره الديمقراطى«، كما قال بحق فخري كريم رئيس مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون ومنظم هذا الأسبوع الثقافي ومؤتمر المثقفين العراقيين ومهرجان الربيع.
ومن أهم القضايا التي يركز عليها الأكراد قضية مدينة (كركوك)، وكركوك (من أغنى مدن العراق إذ يوجد بها خامس أغنى حقل بترول في العالم، وكانت ولاتزال أهم مصدر لتزويد العراق بهذه المادة). ولكن هذه ليست المشكلة، فالمدينة كانت تاريخياً جزءاً من إقليم كردستان، وشكل الأكراد منذ زمن بعيد ولعدة قرون غالبية واضحة بين سكانها يليهم التركمان فالعرب، وسادت اللغة الكردية والتركمانية فيها، وذكرت المصادر العثمانية أن ثلاثة أرباع سكانها كانوا كرداً، ولكن السلطات العراقية منذ العهد الملكي حرصت بعد اكتشاف البترول فى الثلاثينيات من القرن الماضى على فصلها عن إقليم كردستان، وتهجير الأكراد خارج كركوك بهدف تعريب المدينة، وفي ظل حكم حزب البعث وصدام حسين وخاصة في الفترة من 1970 وحتى 1990 دمر الحكم القائم في بغداد 732 قرية كردية في محافظة كركوك كانت تحتوي لدى تدميرها على 493 مدرسة و598 مسجداً و40 مركزاً صحياً، ورحل من هذه القرى 37726 أسرة كردية، وفصل بصورة تدريجية جميع الكرد العاملين في منشآت شركة النفط في كركوك وضواحيها، أو نقلهم خارج المحافظة، وتم تبديل أسماء الأحياء والشوارع والمدارس الكردية باسماد عربية، وبناء أحياء جديدة لتوطين عرب داخل كركوك، ثم تبديل اسم محافظة كركوك إلى محافظة التأميم عام 1975.
يقول مسعود بارزاني: كركوك تاريخياً هي مدينة كردية لكنها بالتأكيد مدينة عراقية شأنها شأن المدن الأخرى، وكركوك هي رمز وشاهد علي تاريخ الاضطهاد.. والمطالبة بعودة الكرد إلى كركوك ليس بسبب النفط، فالنفط هو ملك جميع العراقيين.. نحن نريد فحسب تصحيح ما جرى من جرائم وظلم وتعسف، ونطمح لأن نجعل هذه المدينة نموذجاً للتآخي القومي والدينى والمذهبى.
وأعلن أحمد شياع البراك رئيس هيئة حل نزاعات الملكية في الحكومة العراقية الحالية، إن كركوك ستشهد عملية تعداد سكاني واستفتاء حول ارتباطها بإقليم كردستان منتصف عام 2007 مع مراعاة التنوع القومي والديني داخلها، بالإضافة إلي (تأكيد التوازن لأن المدينة تحتوي جميع المذاهب والأديان). ولم يكن الهم الكردي هو الشاغل الوحيد لنا خلال هذه الزيارة، فالعراق كله كان حاضراً أمامنا وفي مقدمة شواغلنا، سواء من خلال متابعة أخباره في الصحف العراقية عامة وصحيفة (المدى)، خاصة التي كانت تصلنا كل يوم، أو من خلال الموائد المستديرة في مؤتمر المثقفين العراقيين، والمناقشات والحوارات التي دارت مع أصدقاء عراقيين قدامى وجدد من بين 500 عراقى حملتهم 3 طائرات عراقية من بغداد إلى أربيل يعملون في مدن العراق المختلفة في الوسط والجنوب وفي مهن مختلفة، كتاب وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحيين وسينمائيين ومطربين ومطربات وراقصين في فرق للفنون الشعبية وأساتذة جامعات واقتصاديين وساسة من مختلف الاتجاهات. كان الحوار يبدأ غالباً بإدانة الجرائم التي ارتكبها صدام حسين ونظامه القمعى، وحروبه وغزواته الفاشلة سواء الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت، وصداماته مع الجيران، وإهداره لثروات العراق والديون التى ستتحملها الأجيال القادمة في العراق.
يكفي اكتشاف المقابر الجماعية التي دفن فيها عراقيون خلال حكم صدام، وتضم ما اكتشف منها حتى الآن رفات مليون و300 ألف شهيد، وتتوزع هذه المقابر على مدن العراق.. من بغداد إلى النجف وكربلاء وبابل والبصرة وكركوك والناصرية وتكريت والديوانية والعمارة وأربيل والسليمانية... إلخ.
وبالنسبة للديون فالعراق مدين لدول نادي باريس ودول خارج نادي باريس ودول الخليج العربية ومؤسسات قطاع خاص، وتتباين تقديرات الديون بين 62 مليار دولار وأكثر من 300 مليار دولار، واعترف النظام الصدامي السابق عام 1991 بديون تصل إلى 43 مليار دولار، تصل فوائدها حتي عام 1997 إلى 1.30 مليار دولار، وهناك تقسيمات مختلفة للديون، فالبعض يقسمها إلى 130 مليار دولار ديوناً حكومية و180 مليار دولار مؤسسات خاصة، وآخرون يتحدثون عن ديون تصل إلى 120 مليار دولار وتعويضات لدول أضيرت من الحروب العراقية »دول خليجية تصل إلى 100 مليار دولار«، وقدرت الفوائد السنوية على الديون بـ8.5 مليار دولار، ووصلت هذه الفوائد ـ غير المسددة ـ إلى 110 مليارات دولار حتى عام ،2003 وأغلب هذه الديون يطلق عليها »الديون الكريهة« فقد جرى إنفاقها على شراء أسلحة وفي الحروب، وأدت هذه الديون إلى عجز العراق عن استيراد السلع الرأسمالية وتفاقم العجز في ميزان المدفوعات وتراجع سعر صرف الدينار العراقى بصورة مفزعة، وانخفاض الاستثمارات، وتراجع وانخفاض معدلات نمو الناتج المحلى، والاعتماد شبه الكامل علي النفط الذى تمثل صادراته ما بين 95% و98% من الموازنة العامة للدولة، وارتفاع فلكي في نسب البطالة والفقر، وتقليص اندماج الاقتصاد العراقى في الاقتصاد العالمي، وبعد أن كان العراق مرشحاً مع الجزائر يوغوسلافيا للانتقال من دولة نامية إلى دولة متقدمة اقتصادياً، عادت العراق في ظل نظام صدام حسين لتصبح دولة متخلفة. القضية الثانية التي حظيت بمساحة واسعة في النقاشات مع العراقيين كانت قضية الأمن، وهي أحد الهموم اليومية للشعب العراقي والحكم القائم حالياً، فقد أدت العمليات الإرهابية التي يتعرض لها العراق وتدمير المنشآت البترولية واغتيال المسئولين وأقاربهم، كما حدث خلال الشهر الماضى عندما اغتيلت شقيقه د. طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية، ثم اغتيل شقيقه بعدها بأيام إلي هز الاستقرار، ومن ضمن أهداف الإرهاب الواضحة إثارة صراع طائفي بين الشيعة والسنة وتمزيق وحدة المجتمع العراقى وصولاً إلي إشعال نيران حرب أهلية، ومنع نجاح الحل السياسي لأزمة العراق، ومصادرة إمكانية نهوض العراق وتنميته. وهناك 7 منظمات إرهابية تعمل في العراق.. »تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وجيش الطائفة المنصورة، وسرايا أنصار التوحيد، وسرايا الجهاد الإسلامى، وسرايا الغرباء، وكتائب الأهوال« وشكلت فى بداية العام ما اسمته »بمجلس شوري المجاهدين«، وأخيراً »الجيش الإسلامي في العراق«. ولكن أخطر هذه التنظيمات وأكثرها إجراماً هي القاعدة بزعامة الزرقاوي، الذي كان موضوعاً للحديث بعد التسجيل المصور الذى أذاعته القنوات الفضائية وظهر الزرقاوي فيه لأول مرة بالصوت والصورة، كما يقول جلال طالبانى »لقد شن هذا المجرم حرب إبادة ضد الشعب العراقي منذ البداية، فالشيعة بالنسبة له كلهم روافض والأكراد كلهم خونة والعرب السنة الوطنيون مرتدون.. حتى القوى المسلحة التي تسمى نفسها بالمعارضة الوطنية وأنها على اعتبار أنها تسعى لإقامة علاقات طبيعية مع الشعب العراقي«.
ولاشك أن الاحتلال الأمريكي يتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية بروز هذا الإرهاب، فالقرار الذي اتخذته الإدارة الأمريكية بتسريح الجيش والشرطة العراقية دون مرتبات أو معاشات أدى إلى فتح سوق للسلاح بأسعار بخسة ومد الجماعات الإرهابية بأسلحة متقدمة، وتحول جزء من المسرحين إلى إرهابيين، كما أن هناك تدخلات خارجية دعمت هذه الظاهرة الإجرامية، ويقول جلال طالباني بحسم في اللقاء الذي عقده معنا »كل المشاركين في أسبوع المدى«.. »المصدر الأساسي لدعم القاعدة في العراق هي سوريا، وفي فترة من الفترات وصل عدد الإرهابيين المتسللين من سوريا إلى 200 إرهابي يومياً، الغريب أننا كقوة معارضة ضد نظام صدام حسين لم يكن لنا صديق أو ملجأ إلا سوريا!«.
وتفرق السلطات العراقية بين الإرهاب والمقاومة، ويعلن جلال طالباني أن الإرهاب ممثلاً في القاعدة والصداميين يشنون حرب إبادة للشعب العراقي ولابد من مقاومتهم، وأن المقاومة دخلت العمل المسلح على أساس طرد المحتل، أو مقاومة التحالف الشيعي الكردي أو مقاومة سيطرة الشيعة.
ويراهن طالباني على أن تشكيل حكومة وحدة وطنية وتحقيق المصالحة الوطنية سيساعد علي تحقيق الأمن والاستقرار ووقف العنف، ويشير إلي وجود مفاوضات بين 7 منظمات مسلحة والأمريكيين وإمكان التوصل معهم إلى اتفاق، وأنه ـ أي طالباني ـ التقى ممثلين لهم وأن »مطالبهم ليست تعجيزية«. ويرد جلال طالباني على الذين يتحدثون عن تقسيم العراق على أساس قومي أو طائفي أن »العراق رقم غير قابل للتقسيم« وأن الأغلبية الشيعية »65%« مع وحدة العراق، وأن السنة »من أشد المطالبين بالوحدة«، وأن الوضع الإقليمي والدولي ضد التقسيم »ولكننا لا نريد وحدة قسرية، ولكنا نريد وحدة اختيارية بالإرادة الحرة.. بالديمقراطية والفيدرالية«.
القضية الثالثة التي طرحت نفسها علينا خلال هذه الزيارة، كانت قضية الغزو والاحتلال الأمريكي، ربما فاجأنا أن جميع القوى السياسية العراقية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تتعامل مع الاحتلال الأمريكي كأمر واقع، ولا تتوقف كثيراً أمام سياسات الهيمنة الأمريكية، وتؤكد أن الإنسان العراقي ممتن لدور القوات الأمريكية في إسقاط نظام صدام بعد أن تيقنت كل القوى العراقية أنه من المستحيل إزالة كابوسه اعتماداً على قواها الذاتية.. ولكنها في نفس الوقت ترى ضرورة انسحاب قوات الاحتلال الأمريكي وتوفير الشروط الضرورية لذلك
بسرعة، وترفض الإرهاب الذي تمارسه القوات الأمريكية ضد الشعب العراقى عند مهاجمتها »لأوكار الإرهاب«. وعقب انتخاب مجلس النواب للرئاسات الثلاث » رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة« في الأسبوع قبل الماضى، قررت الكتل السياسية المتحالفة البدء ببحث موضوع الانسحاب التدريجي للقوات متعددة الجنسية بقيادة الولايات المتحدة، وأعلن جلال طالباني أنه لا يوجد اعتراض من جانب »دول التحالف« على الانسحاب »خاصة مع تنامي قدراتنا العسكرية والأمنية«.
ورغم تأكيد الحكم في العراق على ضرورة انسحاب القوات الأمريكية، إلا أنهم يرفضون الانسحاب الفوري، فيعلن جلال طالباني بصراحة أن الانسحاب الفوري للقوات الأمريكية قد يؤدي إلى حرب أهلية وتدخل إيراني وتركي فى العراق بصورة مباشرة »فهناك 200 ألف جندي إيراني وتركي«، تم حشدهم على الحدود العراقية،
وحال الوجود الأمريكي في العراق دون دخولهم إلى بلادنا. وقد بحث طالباني مع كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع خلال زيارتهم المفاجئة لبغداد ـ أثناء وجودنا في أربيل ـ موضوع انسحاب القوات الأمريكية، وتوفير شروطه، وفي المقدمة الإسراع ببناء قوات الشرطة والقوات المسلحة. ويقر جلال طالباني بوجود تدخلات أمريكية في الشأن العراقي في ظل الاحتلال الذي حول قوات الغزو إلى قوات احتلال بقرار من مجلس الأمن.. »فالقرار الاقتصادي في يد الولايات المتحدة.. ولم نكن أحراراً في تحديد موعد الانتخابات..«.
القضية الأخرى التي أثيرت ـ من جانب العراقيين أساساً ـ تعلقت بموقف الحكومات العربية، فقد اشتكى طالباني في لقائه المفتوح في منطقة سد دوكان ـ وهي منطقة ساحرة تجمع بين بحيرة وجبل وخضرة شبهتها فريدة النقاش ببحيرة لوزان في سويسرا، من »ضيم وظلم الأشقاء.. ولا استثني أحداً«، الذين تجاهلوا شعب العراق وهو يعاني من حكم صدام وتحالفوا مع الطاغية، ورد بحدة على زعماء عرب اتهموا »الشيعة« بالعمالة لإيران، وقال »العرب الشيعة هم أصل العراق، والأماكن الشيعية المقدسة في العراق هي بمثابة الفاتيكان للشيعة في كل مكان.
إن شيعة العراق وطنيون، وأكثرية الجيش العراقي التي قاتلت في الحرب العراقية ـ الإيرانية ـ بصرف النظر عن خطأ هذه الحرب ـ كانوا من الشيعة، وثورة العراقيين ضد الاحتلال البريطاني في عام 1920 كانت في المناطق الشيعية، والشيعة على رأس عديد من قيادات أحزاب العراق الوطنية والتقدمية، فحزب الاستقلال كان رئيسه »محمد مهدي كبه« شيعي، وفي قيادة حزب البعث كان هناك »سعدون حمادي وفؤاد الركابي«، والحزب الشيوعي العراقي »وهو حزب علماني غير طائفي« يتكثف وجوده بين الشيعة..«
وفي الوقت الحاضر ينشغل العراقيون بتشكيل أول حكومة وحدة وطنية في العراق، وهي قضية تبدو حاسمة في مستقبل الحل السياسي للأزمة العراقية، وهو موضوع يحتاج إلي معالجة خاصة في مقال قادم.


مرت قرون عديدة حتى تكونت رواية ذات شخصية متميزة .. فؤاد التكرلي :اللغة العربية لم يطوعها احد روائياً
 

مفيد الصافي
تصوير :نهاد العزاوي
كنت ارمقه عن كثب في تلك السيارة التي جمعت خمسة من الروائيين العراقيين وروائية دفعة واحدة، في مهرجان الربيع الذي اعدته مؤسسة المدى. كان متميزا عن الجميع ، هادئا ، متأملا، وكأنه آخر الرجال النبلاء. صحبته زوجته التونسية وطفل وسيم، وتشاء الصدفة الجميلة ان نجتمع معا في الفندق نفسه و ان نتجول معا في أسواق مدينة السليمانية الجميلة بحثا عن مكتبة قديمة. يومها كان يعتمر قبعة رمادية تماثل لون بنطاله ، وسترة زرقاء وربطة عنق وردية فوق القميص الابيض . بحثنا طويلا عن المكتبة ولكننا أخطأنا المكان فدخلنا في معرض للكتاب اعدته وزارة الثقافة في اقليم كوردستان، اشترى كتابا ليحيى حقي واشتريت كتاب نقد لكافكا. وفي النهاية أصابنا اليأس من العثور على ما نريده فاستقلينا سيارة اجرة للمرة الثالثة وعدنا الى الفندق، كان عليه ان يسافر في اليوم التالي فاجريت معه حوارا في منتصف الليل في فندق مهراكو في اخر ليلة لنا في مدينة السليمانية وفيما يلي نص الحوار:

*
هل استطاعت الرواية العراقية أن تؤسس لها ثوابت فنية خاصة بها بحيث يمكن أن نقول إن هنالك رواية عراقية؟

- في الحقيقة من الصعب قول هذا، اذا فصلنا أنفسنا عن الرواية العربية، ان تكوين شخصية واضحة للرواية يحتاج الى سنوات وربما قرون ، فالرواية الفرنسية أو الإنكليزية على سبيل المثال لم تتكون خلال عشرين أو خمسين او مئة سنة ، لقد تطلب الأمر قرونا عديدة حتى تكونت رواية ذات شخصية متميزة، بنوع الشخصيات فيها ونوع المشاكل التي تعالجها ونوع الحلول التي تقدمها. كل هذا يعطيك انطباعا بأنها حقا رواية إنكليزية او فرنسية ولو جئنا إلى الرواية الروسية في القرن التاسع عشر لرأينا انها بدأت بسرعة وهذا أمر غير مسبوق لأنهم لم يكن لديهم تاريخ بهذه الكثافة ، تاريخ يضم العديد من العظماء الذين كتبوا روايات هي القمم، لم تكن رواياتهم عادية. ولكن تلك الفترة انتهت بقيام الاتحاد السوفيتي. ان فترة نشوء الرواية الروسية فترة قصيرة لم تتجاوز المئة سنة، ومع ذلك تكونت لديهم في كتابة الرواية شخصية روسية ذات خصوصية ، حقيقة لا يمكن الشك في انها كانت هوية متميزة تماما. أما بالنسبة الى الرواية العراقية فما زلنا في صحراء كبيرة وشاسعة هي الرواية العالمية، ونحن مازلنا نبحث عن أنفسنا، ولا نزال نتأثر بالأساليب الأخرى ونحاول ان نشيد اسسا خاصة بنا، أسسا معلومة يمكن أن تؤدي بنا إلى تشكيل هوية او صفات ثابتة الى حد ما ولكني أتصور إننا نحتاج إلى وقت أطول، ربما خلال الخمسين أو المئة عام القادمة يمكن ان يتكون شيء من هذا النوع.
*
هل يمكن ان نقول بعد خمسين او مئة سنة انه أصبحت لدينا رواية عراقية ذات ملامح خاصة ؟
- يمكن أن يحدث هذا إذا جاء كتاب أصحاب طاقات كبيرة ، كتاب يثبتون الأشياء الماضية، ويضيفون لها تقنيات جديدة ، وصفات جديدة أخرى . اضرب لك مثلا فالرواية الاميركية تشكلت في بداية القرن التاسع عشر وهو تاريخ حديث نسبيا ولكنه صحب ظهور مواهب كبيرة بحيث سارعت تأسيس الشخصية الاميركية في الرواية ، فتعرف ملمسها وذائقتها نسبيا واعني هنا الرواية الاميركية وليست الرواية الاميركية اللاتينية فتلك مسالة اخرى.
*
لا تزال أساليب الرواية العربية تتبع او تعتمد اساليب الرواية الغربية ، رغم ظهور محاولات اعتمدت على السردية العربية كمحاولة (البرتو ايكو) في رواية اسم الوردة ما رايك في ذلك؟
- لا ا حبذ مفردة إتباع الاسلوب، فالمهم طريقة السرد، والطريقة الفنية في تأليفها .هنالك طرق مختلفة عند الكتاب العرب في سرد الرواية في الوقت الحاضر ونحن أخذناها من الغرب، لا تنس هذا، وحتى الابتكارات التي تحدث في الرواية العربية فإنها مأخوذة من الغرب، نفسه ايكو في روايته اسم الوردة أخذها من حكايات الف ليلة وليلة ، اعتقد انها حكاية رقم 50 . وعلى العموم فالغربيون لديهم القابلية على استثمار حكايات البلدان الأخرى والأساطير، اما نحن فالى الان ننظر اليهم ونرى كيف يعملون من تقنيات ونحاول تقليدها او التقرب منها ، ابتكاراتنا قليلة وأحيانا ليست في مكانها ، أحيانا نكتب أشياء كأنها جديدة ، في حين إنها أشياء مزيفة ، ليست قائمة على أساس متين، ونحن إلى ألان لا نملك لغة روائية ثابتة. *
ما الذي تقصده بلغة روائية ؟ -اللغة الروائية تعني الدخول ضمن سياق لغوي معين وهذا يفرض عليك بعض الأمور ويسهل عليك كتابة بعض الأمور الأخرى ، اللغة العربية لم يطوعها احد ولم يفكر بصهرها لتكون لغة روائية ، بمعنى انها تكون لغة شفافة ، لغة يمكن ان تجذب القاريء، لغة قابلة على الاحتواء للحوادث وتفسير الشخصيات والتعبير عن دواخلها. مثلا حينما تكتب بالإنكليزية وأنت كمترجم تعرف ذلك، سوف تجد ان هنالك مصطلحات منحوتة منذ 200 عاما مثلا وتستطيع ان تدخل أشياء جديدة . نحن عندنا اللغة الصحفية هي السائدة ، كاتبات وكتاب كثيرون ومشهورون، لا تعدوا كتاباتهم ان تكون كتابات صحفية، هذا ليس ادبا انه رواية قصص، هؤلاء الادباء يمكن تشبيههم بـ (قصة خون) الذي كان يجلس في المقهى ويسرد القصص . في الغرب يعرفون هذا، فالاديب في الغرب له وزن اخر ، أتذكر كاتبا اميركيا مشهورا اتصل به بعض الصحفيين وسألوه هل أنت أديب، فقال انا لست اديبا بل روائي . * وما هو الفرق برأيك بين الأديب والروائي؟ - الفرق ان الأديب له ناحية فكرية، فأديب مثل (اندريه جيد) لا يعتبر كاتب قصص فقط. الروائية( ساكان) تعتبر كاتبة، ولا يمكن اعتبارها اديبة بمعنى اندريه جيد او بوليفاري ومثل اخرين تحمل أعمالهم أفكارا ورؤية للحياة ، اما البقية فيسردون قصصاً جميلة فقط ولكنها فارغة من أي شيء سوى المتعة. اذا رجعنا الى الأدب العربي ، سنرى ان كثيرين يستسهلون كتابة القصة او الرواية وكان الامر قضية صحافة، كان وكنت وجاء وجئت ، هذا ليس ادبا ، هذه قصة ولكنها لا ترقى إلى الادب، في الأدب العربي الرواية شيء جديد جدا ونحن لم نكمل المئة سنة ولهذا يصير خلطا في الامر، وربما تجد كاتبا ليس لديه خبرة كافية ، يقوم بكتابة رواية وينشرها على حسابه ويريد ان يضعها في المكتبات وان تقيم بشكل صحيح، اضرب لك مثلا صارخا، في الجامعة الاميركية أرادوا تقرير رواية الخبز الحافي لمحمد شكري الكاتب المغربي رحمه الله ، ولكن روايته رفضت ليس لان بها اشياء ذات جرأة جنسية بل رفضت لانها لا تمثل اسلوبا ادبيا بحيث يمكن اعتبارها عملا أدبيا متميزا. * هل يقرأ فؤاد التكرلي اعمال روائيين عراقيين من الجيل الجديد؟ - قرأت لبعض الروائيين الشباب ، لا أستطيع أن اقول لك إني أعجبت كثيرا بهم ، مع الأسف انهم مروا بظروف صعبة ، ظروف لا تطاق عدا الاستبداد والظلم وفرض الاديولجية البغيضة وجاءت الحروب وجاء الحصار وجاءت المقاطعة، مقاطعة الدول العربية والعالم كله لهم، عدا انهم حرموا من قلم الكتابة والورق والحرية الداخلية، لقد ضربوا في داخل نفوسهم، هذا الشيء لم أتوقعه، انهم أصيبوا بضربة كان احدهم امسك بقلوبهم وعصرها وجعلهم أشخاصا شبه معوقين، يخافون من أنفسهم ومن أفكارهم ، حقيقة اكتشفتها في الوقت الحاضر لأنني كنت أتصور وآمل واتفاءل ان الكتاب الشباب تحت ظل الاستبداد كانوا يكتبون ويخفون كتاباتهم، كنت متأكداً من انهم سوف يكتبون أشياء جيدة جدا، اشياء ترفع راس الادب العراقي ولكن مع الأسف لم يحدث هذا ، لم اجد أحدا يكتب في الخفاء ، كانوا خائفين،او يحاولون كتابة اشياء ترضي النظام، وانا مع كل ذلك سأظل أدافع عنهم، لأني اذا وضعت نفسي في مكانهم سوف اعمل الشيء نفسه ربما. الأشياء التي قراتها نهاية سقوط النظام وما بعد السقوط اشياء تبشر بخير ولكن لم يكن هذا ما كنت آمله ، حقيقة، انه اقل بكثير مما كنت امله. * لننتقل الى فؤاد التكرلي هل نستطيع ان نبدا من اخر انتاج لك؟ - اخر إنتاج لي هو خمس قصص قصيرة صدرت في مجموعة اسمها (خزين اللامرئيات) نشرتها دار المدى في عام 2004 . فانا لا أستطيع ان أتوقف عن الكتابة وهي قصص كتبتها بعد ( مسرات وأوجاع) لان استمرارية الكتابة ضرورية بالنسبة لي ولأي كاتب. في هذه المجموعة القصصية لا أستطيع أن أقول ان فيها شيئا فوق العادة، في نهاية الكتاب نص قصصي طويل إلى حد ما كتبت عليه نص قصصي ،و قصة تحكي عودة اسير يفقد كل شيء في حياته وفي وطنه. مجموعة خزين اللامرئيات فيها نوع من شخصية تقبل بكل شيء في الحياة، شخصية تقبل بتواضع وبقناعة ،و ليس لديها طموح أكثر مما تقدمه الحياة لها،انها شخصية من طراز خاص، العنوان باسمها وهي ان القناعة شيء لا مرئي لان عندها خزيناً من القناعة والاهتمام بالغير والأشياء الأخرى. * هل يمكن ان نتحول الى السياسة، مارايك بالأوضاع الحالية التي يمر بها العراق وكيف ترى واقع الحال؟ - واقع الحال لا يستطيع احد ان يعرفه ، لا انا ولا أي احد من المحللين، انا اقرا باستمرار واتابع الأوضاع العراقية لأرى ما يجري. اعتقد ان غالبية التحليلات السياسية لا تعرف ما سوف يحدث! و لا تعرف بالضبط ما سوف يحدث بعد شهر مثلا ، يبدو لي ان جهات سياسية تتخبط بشكل من الاشكال ، لانه ليس لديها إرادة لتحقيق مآربها والآخرون لديهم إرادة لإحباط مشاريع الكتل الأخرى، والخلط متعادل ، الواحد يعرقل عمل الآخر، فلا تعرف أي نتيجة سوف تصل الأمور أليها، ولكن الموقف الى حد ما يدعو الى التفاؤل، لان الحكومة تشكلت او هي على وشك ، لقد جرت انتخابات رئاسة الجمهورية والبرلمان واختير رئيس الوزراء، بقيت المشكلة الكبرى ، هي العمل بإخلاص من اجل ما يحتاجه العراق والذي يعرفه الجميع كالأمن وتعديل الاقتصاد لان اقتصادنا معوج ومنهار والاهتمام بحرية الناس وهذه كلها أمور واسعة وكبيرة ومعقدة وحلها يتطلب طاقات كبيرة لا يستطيع شخص واحد او طائفة واحدة ان تقوم بها لوحدها، انها تحتاج الى تكاتف من الجميع لأنها لن تحل بغير هذه الطريقة ، وعل كل الطوائف ان تتنازل عن بعض طموحاتها من اجل الهدف الكبير والذي يمكن ان اسميه مساعدة العراق ، او استعادة العراق وبناء دولة العراق، ورغم كل ذلك فمن المفروض علينا ان نأمل فلا مجال لنا ان نختار الموت او الانهيار، لهذا أنا متفائل وآمل دائما بالشيء الجيد.


الشعر العراقي خارج البلاد في ربع قرن .. مـحــنــة الـقـطـيـعــة الـمــزخــرفـــة في سوسيولوجيا الثقافة الشعرية العربية - 1 - 3

شاكر لعيبي
لن يمنع الخطاب العاطفي (المفيد في حقول أخرى)، ولا المقدمات النظرية ثقيلة الظل (المهمة منهجياً في البحث الأكاديميّ) البعض من الذهاب، بشكل موجع، إلى القول بوجود مسافة كبيرة بين التطورات التي شهدها النص الشعري العراقي المكتوب خارج البلد وقراءة غائبة مأمولة له في داخله، دامت طويلا، وتكاد تصير القاعدة.
إن نتائج هذه القطيعة جسيمة، لأن ربع قرن من تطور شطر من الشعر العراقي لا يبدو واضحاً إذا لم يكن مجهولا بالنسبة لشريحة واسعة من القراء والشعراء والنقاد في داخل العراق، وأحيانا في خارجه لسببين مختلفين.
لا يريد أحد إعلان هذه القطيعة ويصمت الجميع عنها صمتا مريبا، ليسبح الشعر العراقي المنتج خارجه في نهر لا يعرفه الكثيرون أو لا يعترفون به، أو أنهم لا يصرحون أنفةً وحميّا بجهلهم به. إن حجمه وثراءه وتنوع أساليبه ونضجها التقني وسطوع ثيماته وذهابها بكل اتجاه، وانفتاحه مبكرا على موضوعات جديدة كالأيروتيكا، تعلن كلها- كما بدت لنا في (الأنطولوجيا) التي نعد لنشرها عنه مع أرشفة لمجاميعه الصادرة في الجهات الأربع-، تعلن حجم القطيعة الواقعة بين إرثين من الشعر العراقي. هذه القطيعة ليست افتراضية ويبرهن عليها كل يوم ما يصدر تلميحاً أو تصريحاً عن كتاب ونقاد وشعراء داخل العراق.
مفهوم القطيعة بين الإنتاج والقراءة أساسيّ في هذه المداخلة. وهي مما يُسكت عنه أو يقع تأويله جُزافاً، مرة عبر تأملات فكرية على أساس أن النص الشعري الأصيل سيصل لقرائه آجلا أو عاجلا، وأنه لا يتحمل آليات عمل الميديا المعاصرة المهمومة بالآني العجول المفارِق للطبيعة التأملية للشعر، ومرةً عبر مداخل (أخلاقية) حسنة النية في جوهرها على أساس أن تيار الثقافة الوطنية العراقية واحد في الخارج والداخل، كتابةً وقراءةً، وهو ما لم تبرهن عليه الوقائع الثقافية والسياسية سيئة النوايا في البلد. ثم تأويلات من طبيعة (لا أخلاقية) غير معلنة ولكن فاعلة، على أساس أن تثبيت هذه القطيعة مفيد في تأبيد مجد شعر واحد وحيد لتيارات بعينها داخل البلد.
لنحدّدْ منذ البدء بعض المفهومات التي تنطلق منها المداخلة الحالية لكي لا يقع تأويل من نمط خاص لطروحاتها: إن الاستمتاع بالشعر، وليس كتابته، يحتاج كما يبدو إلى أرض ثقافية ثابتة وليس إلى تغيرات دراماتيكية في الجغرافيا، حتى أن إنتاج المشاريع الثقافية والشعرية والنقدية يستلزم شروطا محددة (هنا والآن) من دونها سيغدو أي مشروع شعري مغامرة مجانية. عظمة النص الشعري شأن آخر تماماً. لقد طال غياب تلك الشروط ووقع تغييبها حتى أن (جمهورية الشعر العراقي) خارج العراق لم يقع تمثل عناصرها وأصواتها الكثيرة. وتشكّل هذه الجمهورية التيارَ تحت - الأرضي الذي لم يتذوق البعض عذوبة مائه بعد. وقد يدوم الأمر طويلاً. ثمة عدم اهتمام كافٍ به قادم من داخل البلد ومن خارجه بدرجة أقل، لسببين مختلفين يتقاطعان عند مشكلات محددة. لقد وقع الإلمام فحسب بأطراف الشعر العراقي في خارج البلد وبقي متناثراً في الذاكرة النقدية، ونُظر إليه مُسيَّساً أحيانا من دون سبب البتة، مقطّع الأوصال وغائم الملامح لهذا السبب.
لا ينفع الخطاب السائب الذي لا يسمّى حدثاً أو يقول اسماًَ في وصف الظاهرة. ونفضّل بدلاً عنه بداهة تقديم الحصان على العربة ونسميه باسمه رغم عواقب الأمر في ثقافةٍ لم تتعوّد المصارَحة، وتفضّل إما الغزل الخفر أو الهجاء المقذع وحدهما من بين كل ضروب البلاغة الأخرى. لا يشكل الاستشهاد باسم من الأسماء إذن الثلب من إبداعه أو الإعلان عن مجده الشعري والأدبي بقدر ما يفيد في جلاء حقيقة الظاهرة لا غير.

بدايات الشعراء تتأبد بصفتها حكماً جمالياً نهائياً
بقي الشعراء العراقيون، خاصةً (وليس حصراً) أولئك الذين شهدت منابر بغداد الثقافية ولادتهم في السبعينيات، في الذاكرة الثقافية المهمومة بذاتها، سأقول ببقائها حية، مجرّد أطياف شعرية ثابتة في مكان قديم أزلي أول. لم تستطع ذاكرة معطوبة محزونة مثلها الوقوف على التطور الموضوعي المارين به ولا على متابعة مساراته، رغم أن التطور في المعرفة والتجربة البشرية والكتابة الشعرية المتواصلة تقوم، كما حدث بالضبط مع نص أقرانهم في الداخل، بإحداث قطيعة ابستيمولوجية مع نص طريّ أوّل. لقد ظلت صورة البعض في الذاكرة الثقافية الراهنة صورة شاب في العشرين حتى اليوم رغم هيبة الخمسين وبقي نصهم ثابثاً ثبوتاً لا شفاء له، ومثقلاً بجميع ما تضمًُّه مجموعة شعرية أولى من هفوات الخطوة البكر. وأحسب من أجل جلاء الأمر أن استعادة الصور الفوتوغرافية حديثة العهد وسير الأعمال الأكاديمية وتعداد مجمل المجموعات الخاصة بهم لن يُقنع هذه الذاكرة لسبب جوهري: إن تطورات جوهرية في الشعر العراقي قد حدثت في مكان آخر من دون رصد نقدي متواصل في سياق متصل ومتواصل، وبعبارة أخرى فقد أُبدِعَ شعرٌ غزيرٌ في تربةٍ بعيدة عن شروط ومعارك وسجالات الثقافة الشعرية في داخل العراق التي انكفأتْ على نفسها وصنعتْ رموزها وقرأتْ بتمعن مجاميعها، ثم أثبتتْ من أثبتت وركنت من ركنت. رمزياً: جرى اعتبار الشعراء المقيمين في الخارج من الميتين عملياً، رغم حرقة أقلية نادرة أصيلة من القراء ووصول مستنسخات مهربة يسيرة من الأعمال الشعرية المطبوعة في بلدان أخرى لم تستطع أبدا التدخل في ذاك السياق المحلي المتصل ولا تقديم صورة محدّدة الملامح عن روح النصوص المهاجرة.
ولكي لا يحسب القارئ أننا نتكلم هنا عن شخص بعينه (وهو أمر يقع كلما حاول المرء قول فكرة واضحة يعرفها ولا يفترضها) ولكي نعمّم الظاهرة على جيل آخر من الشعراء، فإننا نتساءل التالي: من يستطيع أن يزعم، في لحظة الداخل العراقية، أنه قد قرأ قبل عام 2003، إلا شذرات من أعمال فوزي كريم الشعرية والنقدية المكتوبة خارج البلد ويرى إلى عمق تطورها وأصالتها، أو روايات زهير الجزائري ويتفحص دلالاتها، أو أعمال وترجمات كاظم جهاد المجتهدة، ناهيك عن شطر عريض من جيل واحد في الشعر العراقي ظهر في السنوات السبعينية؟ من يستطيع مثلا أن يزعم، في داخل البلد خاصة، أنه قرأ لكاتب هذه السطور، من بين كل مجاميعه الأخرى، سوى مجموعته الخفرة الأولى (أصابع الحجر) المكتوبة قبل ثلاثين عاما تقريبا؟ إذا ما أجيب على السؤال بشرف وأمانة فإننا من جديد أمام إشكالية القطيعة بوجهها الملموس، المر.

اختلاف مرجعيات الفن الشعري
سنظل نتكلم عن الفن الشعري بسبب متابعتنا وشدة تركيزنا عليه. فما وصل على دفعات بطيئة شحيحة من تراث شعري فاعل منتج خارج البلد ليس سوى مقطوعات ومقطعات لا تفيد في إقامة مقاربات سليمة عن الهواجس الجمالية والمؤثرات الثقافية التي تطور بها جيل كامل من الشعراء في شروط ليست البتة ظروف الداخل العراقي، وبين ظهراني لغات أوربية، ربما صارت من المراجع الشعرية التي لم يتعوّد عليها النقد العراقي، وفي غفلة من شعراء البلد المحموم بالقمع والحروب والمساومات الشخصية والاجتهادات والمقاومة الفردية الضارية.
إن قياس ذاك الإرث المغترب (أو "المنفيّ طواعية"وهي عبارة تعلن عن مفارقة ذات منطق داخلي) بالمرجعيات المعهودة للشعر العراقي فقط لن يكون أمراً دقيقاً، بحيث أن الخطاب الوطني المتلبّس اليوم لبوس النقد الشعريّ يريد له أن لا يكون إلا بسماتٍ وملامحَ وتعريفاتٍ محلية لم يخضع لها واقعياً، أو أنه خضع لها جزئيا فحسب.

المرجعيات الخارجية قادت دائماً إلى تطورات في الشعر العراقي
في هذا السياق نلاحظ أن التلاقح مع مصادر أجنبية، إلى جانب المراجع التاريخية للشعر العربي، قد قاد إلى إحداث تغيرات جمالية بارزة، إذا لم نقل قطيعة أبستمولوجية، في الشعر العراقي. هكذا سينقاد الشعر عبر قراءة ما للشعر الإنكليزي سنوات الأربعينيات إلى ولادة الشعر الحر على يد الملائكة والسياب والبياتي وغيرهم، وأوصلت قراءة عميقة للشعر الروسي إلى (القصيدة المدوّرة) على يد حسب الشيخ جعفر، وقاد الانحناء على الأدب البريطاني إلى تحولات شعرية ونثرية عند فوزي كريم في العشرين سنة الأخيرة. وفي هذا الإطار يتوجب في يقيننا النظر إلى الأساسيّ من الشعر العراقي المكتوب خارج العراق.


اصداء اسبوع المدى الثقافي الرابع .. ما الذي قاله ادباء الناصرية عن اسبوع المدى الثقافي
 

عدنان الفضلي

عندما طلبت منه ان يكتب لي انطباعاته عن اسبوع المدى استل صديقي القاص خضير فليح الزيدي قلمه وراح يسطر حروفا وكنت انظر تعابير وجهه التي غطاها الابتسام وحين سلمني ماكتب اخذت منها هذا المقطع لاضمنه استطلاع الراي الذي اجريته مع عدد من مثقفي وادباء الناصرية الذين شاركوا في فعاليات اسبوع المدى الثقافي والذي كانت حصيلته مايلي
يقول خضير فليح الزيدي:
جنوب شمال المدى
الآن وصلنا ارض مطار اربيل بعد ساعات من الترقب والانتظار والقلق في قاعة المغادرة.. بصوت هادئ وجميل تعلن مذيعة البوينك أننا على ارض كردستان.. في مطار اربيل بعد طيران دام ساعة في أجواء ملبدة بغيوم صيفية تتحرك بغنج تحت أجنحة الطائرة، كان الخوف يدب في عروقنا ونحن نصعد للمرة الأولى الطائرة.. بعد أن عرفنا إن السماء تحتمل ركوبنا .. علينا شد الأحزمة والجلوس بشكل عمودي على الأرض أثناء الهبوط - هكذا تملي علينا المذيعة تعليمات الهبوط -.. لم تكن نافذة الطائرة تسع للنظر لاكثر من شخص وتلك مشكلة لنا لنرى ما تحتنا وما فوقنا وأين نحن الآن من الأرض.. محاولين التهام الأرض من حولنا.. هل حقا هذه اربيل ام البساط الأخضر لكرة القدم ؟
من الجنوب قادمون حيث الغبار الناعم.. من الجنوب قادمون حيث الصحارى تحاصر أرواحنا التي تصدعت كثيراً.. من الجنوب حيث ارض سومر واور وبابل الى كردستان قطعة الشوكولاتا الخضراء..
كانت الدهشة تملأ العيون لكل شيء يمر أمامنا.. الدهشة من الأعمار الهائل..الدهشة من النظام من الهدوء من النظافة من المساحات المزروعة من الفنادق الأنيقة من الكرم من الضيافة الأصيلة والبذخ من المستقبلين من البشر من البوابات الإلكترونية..من مكانة الثقافة من احترام المثقفين من الزهور المنتشرة حتى قرب أسرة النوم.. إنها رحلة الدهشة.. رحلة نحو إعادة الصياغات الجديدة للمعاني المبعثرة..لاعادة ترتيب البيت الثقافي بعيدا عن قماطات المؤسساتية وشروطها الرتيبة... بعيدا عن رؤى الحاكم وإملائه..
إن فعالية المدى قد فتحت الباب واسعا لاعمار جسد الثقافة العراقية، اعمارها وليس ترتيق ثوبها القديم، فقد كان مجلس الثقافة الذي انبثق عن مؤسسة المدى دليلا على صدق النوايا والتوجهات العملياتية في النهوض بالواقع الثقافي نحو بلورة المضامين والتوجهات الثقافية الراقية لمجتمع يعنى بالمعطى الثقافي.
كانت الندوات والطاولات المستديرة والحوارات تؤشر جدية التوجهات الصحيحة والحرص على انجاح تلك الفعالية وتحقيق الفائدة المنتظرة والمرجوة لهكذا فعاليات..فمن المسرح الى معرض الكتاب الى اجتراحات مشاكل وأزمات ثقافية في نقاشات يشترك فيها المثقفون في الخارج والداخل الى الموسيقى الكلاسيكية العالمية إلى أفلام سينمائية مهمة و الحفلات الموسيقية الأخرى، غير ان المجلس الأعلى للثقافة يبقى المنجز الأكثر اهتماما للمثقفين، وينتظرون بفارغ الصبر دخوله الواقع العملي في الأشهر القادمة.
إنها المرة الأولى يشعر فيها الأديب بمكانته المرموقة، يشعر المثقف العراقي بأنه ليس ضيفا ثقيلا على أحد، المرة الوحيدة التي يرى فيها الكاتب والفنان انه يحتفى بنتاجه فكريا وفنيا وأدبيا.. أذن هناك بارقة أمل كبيرة في استعادة ما فقد من كبرياء المثقف، هناك بارقة أمل كبرى في تعويض الخسارات والهزائم الكبيرة التي يتعرض لها المثقف في كل لحظة.. هناك أمل في أن يقطف المشتغل في الحقول الثقافية عشبة الخلود من فم القدر.
مديات ثقافية في ربيع المدى
اما الناقد السينمائي احمد ثامر جهاد فقد كتب:
في ظرف عصيب وملتبس كالذي يمر به العراق اليوم، يصبح للنشاط الثقافي اكثر من معنى يؤديه. فهو فضلا عن أهميته في خلق أجواء من التواصل والحوار بين المثقفين أنفسهم بمختلف تخصصاتهم ومشاربهم وهوياتهم، بعد ان تقطعت بهم سبل اللقاء والتواصل، فانه يساهم أيضا في تعزيز صوت المثقف ودعم مشروعه الحضاري في بناء مجتمع عراقي معافى، سيما نحن نعيش حاليا فترات حرجة تتداعى فيها قيم المدنية والحرية وتطغى فيها صور العنف والتعصب الأصولي والطائفي. من هنا كان أسبوع المدى الثقافي بمجرد إقامته في كردستان العراق بعد اغترابه لبضع سنوات في دمشق، بادرة طيبة لترسيخ تقليد ثقافي سنوي يجتمع فيه المثقفون العراقيون من الداخل والخارج مع نخبة من المثقفين العرب، ليمنح الجميع فرصة تنقية التصورات والآراء مما يشوبها من غموض أو سوء فهم.
وربما كان الأهم في هذا الأسبوع الثقافي إضافة لتنوع فعالياته، طرحه مقترح المجلس الأعلى للثقافة، الذي يستحق من اجل صياغة كيانه ورؤيته دراسة جادة وحوارا تفصيلياً مثابرا من قبل كل المثقفين والفنانين العراقيين للخروج بواقع كيان جديد يستوعب حاجات الثقافة العراقية وتحدياتها الكبيرة وكذا آليات تفعيلها في المرحلة الراهنة وشكلها المستقبلي أيضا. وقد بدا واضحا كيف تعامل عدد من المبدعين بحرص مع هذه الموضوعة وقدموا تصوراتهم عن هذا المقترح الذي يأمل الجميع في ان لا يكون الإهمال مصيره، سيما ان خطوات مماثلة وجدية كمؤتمر المثقفين الذي أقامته وزارة الثقافة في الحكومة السابقة انتهت إلى غياهب المجهول. بحال من الأحوال ورغم الارباكات التي حصلت في المهرجان من النواحي التنظيمية والإدارية يبقى لأسبوع (المدى) مذاقه الخاص بوصفه بادرة صحية تستحق ان نوليها دعما من اجل ان تنضج وتتفعل بشكل افضل وتتخطى اخفاقاتها في مديات يسعدنا ان تكون اقل إعلامية واشد عملية.
القادم الذي نريد
القاص نعيم عبد مهلهل كان يحمل النشوة حين سالته عن رايه باسبوع المدى فقد قال لي:
اعتقد ان اسبوع المدى كان اسبوعا لثقافة العراق بكل اطيافه ومذاهبه.. والجميل فيه ان السياسة كانت غائبة وليس في ذاكرة ايامه سوى الهم الثقافي والرغبة بجعل ثقافة العراق الجديد هي ثقافة لوحدة الوطن وازمنته الجديدة. كما اعتقد ان لقاء الشتات مع الداخل الغى كل مصطلحات الطروحات القائلة بضرورة ان نفصل ادب الداخل عن ادب الخارج.. اعتقد ايضا ان المدى نجحت الى حد بعيد في جعل الكلمة المثقفة هي كلمة القادم الذي نريد..
صورة بانورامية
المخرج والناقد المسرحي ياسر البراك كان له راي خاص حيث علق قائلاً:
في تصوري ان اسبوع المدى الثقافي يمثل احد ابرز المنجزات الثقافية العراقية بعد سقوط الدكتاتورية لانه سعى الى جمع اكبر عدد ممكن من المثقفين العرب والعراقيين سواء من كانوا داخل القطر او خارجه، فكان الاسبوع فرصة للجميع، للقاء والحوار وتبادل الرؤى والتصورات التي من شانها خلق ثقافة العراق الجديد، لعل اهم ماحققه الاسبوع الثقافي انه كسر طوق الاحتكار الثقافي الذي تمارسه الدولة (وزارة الثقافة تحديدا) بسيطرتها على وسائل الانتاج الثقافية (مؤسسات، اموال) حيث سعت مؤسسة المدى الراعية لهذا الاسبوع لدفع المثقفين العراقيين باتجاه التخلص من امراض الدكتاتورية المزمنة والمتمثلة بسيطرة المركز (العاصمة) على الروافد الثقافية (المحافظات) فكان عدد حضور ادباء المحافظات سمة واضحة في الاسبوع والذين عبروا عن حضورهم الفاعل في المشهد الثقافي العراقي عبر ما قدموه من اوراق نقدية وبحوث ومناقشات وتعقيبات.
يقينا ان اسبوع المدى الثقافي بفعالياته الثقافية والفنية المتنوعة رسم صورة بانورامية لمشاهد الثقافة العراقية المعاصرة بعيدا عن الوصايات الايديلوجية والمديح. لقد عمّد الحاضرون هناك قبح الواقع وماساويته بجمال الفن ودعواته للخير والمحبة والسلام.


في معرضه (ذكريات للحب اثيرة ).. الفنان نوري الراوي يستحضر ( راوة ) في عمان باساليب فنية متنوعة

محيي المسعودي

"ذكريات للحب اثيرة"هذا هو عنوان المعرض الشخصي الذي اقامه الفنان العراقي نوري الراوي في جاليري الاورفلي / عمان وتكمن قيمة المعرض ليس في الاعمال التي عرضت وحسب بل في سيرورة هذا الفنان وعمره الفني الذي يصل جيل الرواد بجيل الشباب.. اضافة لفعله المؤثر على الساحة الفنية التشكيلية العراقية كفنان مبدع وكأداري تسنم مناصب عديدة في قطاع الفنون.. فهو الفنان المولود في قرية راوه على الفرات الاعلى عام 1925 ليصبح بعد سنين عضواً مؤسساً لجمعية التشكيليين العراقيين عام 1956 ويؤسس (المتحف الوطني للفن الحديث) ويكون مديره الاول منذ العام 1964 وحتى العام 1979 وكان كذلك عضواً مؤسساً لنقابة الفنانين العراقيين اضافة لعمله مديراً للمعارض الفنية بوزارة الثقافة والفنون وقد ترأس جمعية التشكيليين العراقيين منذ 1989 وحتى العام 1993 وشغل مناصب اخرى عديدة فساهم بشكل فاعل في الحراك التشكيلي العراقي منذ كان زميلاً في (جماعة الرواد) الفنية التي ترأسها الراحل الفنان الرائد فائق حسن وظل الراوي يعمل باجتهاد كبير إلى جانب اترابه من الفنانين مثل شاكر حسن آل سعيد ومحمد مهر الدين وعبد الغني حكمت وغيرهم ومن هذا الموقع الفني و(العمري) للفنان نوري الراوي نستطيع تحديد اهمية معرضه الاخير ونضيف الاعمال المعروضة وفقاً لمرجعيات فكرية وفنية واجتماعية.. تاريخية ومعاصرة ومما لا شك فيه ان الفنان عمل بكل جهده في هذا المعرض من اجل صياغة رسالة فنية معنونة إلى مسقط رأسه راوة - انساناً ومكاناً - جاءت الاعمال تحمل جذوة من الحب والوفاء والحنين والرغبة في تخليد هذه العلاقة بالالوان والاشكال التي تصرح وتلمح بالمكان وقد حملت واجهة الجاليري تلك الرسوم الحالمة والتي تشبه في خفتها على البصر خفة السحابة البيضاء على نفس الناظر.. فشخصت القبب البيضاء الشرقية الاسلامية بشبابيكها وابوابها ذات الاشكال والخطوط الدائرية من الطراز العباسي.. مجسدة البيت والجامع والمدينة وهي صور وانعكاسات حقيقية وواقعية في كثير من ملامحها العامة تمثل مساحات مختلفة في وعي وذاكرة الفنان عن تاريخه الفني والانساني وعن القرية التي ولد فيها فكبرت معه لتصبح مدينة ومن هنا.. يختلط القديم بالمعاصر والحلم بالوعي والواقع بالامكاني والخيال.. ويتدخل الفنان في لحظات انفعاله وتوقد عاطفته وانتصار حسه الوطني ليضع على بعض اللوحات رموزاً عراقية قديمة كالثور المجنح ولكن رأس هذا الثور يجسده رأس وصدر فتاة ذات ملامح جمالية فائقة.. حتى الناعور كان حاضراً كاشارة إلى هوية مدينة راوة على الفرات وفي هذا التشخيص المباشر نجد الرمز والاشارة التعبيرية كامنة في العمل إلى جانب الطاقات اللونية العالية وخاصة اللون الابيض الذي يمثل الحب والسلام وقد وهبه الفنان وظيفة القوة والخير ولكن اللوحة الواقعية جاءت تحمل تساؤلات عديدة بعضها عن حقيقة رؤية الفنان وافكاره وبعضها عن تقنيات انجازه اللوحة ومدى اختلاط الالوان وقدرتها على التعبير.. قد لا يبدو في اللوحة الواقعية حزن صريح ولكن الالوان البرتقالية والبنفسجية خلف التشخيص أي في فضاء اللوحة تكمن فيها اشارات قوية غالباً ما يكون الحزن أو الخوف أو حتى الحريق بعض ما تعنيه فيكون الحزن اما قادماً على المدينة أو راحلاً عنها.. ولكن هذه الاشكال التشخيصية. تجنب الفنان بعض ملامحها في لوحات تالية اذ لا نجد القبة البيضاء مركز البصر في اللوحة وان وجدت فهي هامش ومع غياب التشخيص تظهر البقع اللونية.. ضربات فرشاة.. زحف اللون الاحمر ليحتل مساحات اكبر وتدخل الوان صريحة وقوية تصل بعض تشكيلاتها حد الوحشية ولكن مزاج الفنان وذائقة تحول دون بلوغ اللون معنى الوحشية الكامل أي الجارح.. ولكننا نلحظ ناراً في قلب بعض اللوحات أو حتى حرقاً.. وكان لوحة آل سعيد - المثقوبة حرقاً والمخدشة والمملوءة - بالهوامش الكتابية ذات الطابع المهمل.. كأن هذه اللوحة موجودة في معرض الراوي ولكنها بالالوان فقط..
لم يكن معرض الراوي واحداً من حيث الفكر والرؤية والأسلوب ولا حتى التقنية.. فكرياً ما تطرحه اللوحات التشخيصية يختلف عن تلك اللوحات التجريدية والتعبيرية ولو في حدود اختلاف الاسلوب ويبدو ان الفنان قد عمل على مواضيع مختلفة باختلاف الاسلوب ايضاً.. ولكنه ظل مخلصاً لمرجعياته الفكرية والاجتماعية والفنية وإلى جانب تنوع الاساليب الفنية والموضوعات تنوعت المواد التي عمل بها الفنان من الالوان الزيتية والكريلك والمائية والكولاج والتخطيط بالاحبار اضافة للتعتيق والمزاوجة بين التخطيط الشكلي والحروفي وتدوين النصوص وخاصة الشعرية. ولا يبدو ان هناك سبباً واضحاً لكل هذا التنوع وهو الاعتقاد بان الفنان اراد ان يمنح نفسه حرية العمل في ظل مزاجه الفني الخاص وفي ظل تدفق طاقاته والحاح ذكرياته عليه بالخروج من اجل التدوين ويظل عنوان المعرض - ذكريات للحب اثيرة - يحمل جانباً كبيراً من صياغات المعرض وقيامه في عمان هذه الايام..

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة