اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

عرض لكتاب "كوبرا 2" .. مبــــــــدأ رامسفيلد
 

-العنوان: كوبرا 2
-تأليف :
مايكل ر. غوردون و برنارد اي ترينور
-
عرض: جاكوب هيلبرون
-ترجمة:
هاجر العاني

عن :نيويورك تايمز

كتاب مايكل ر. غوردون و برنارد اي ترينورعن غزو العراق، "كوبرا 2" ، يمثل كل ما لم تكن عليه خطة ادارة بوش بالنسبة للحرب، انه منظـّـم بدقة وينأى بنفسه عن الخداع والكلام المنمق الطنان لتصريحات بالغة الاناقة والدقة، منيع بشكل كبير تجاه الهجوم، وكتابهما هذا، ككتابهما الذي استقبل استقبالاً واسعاً عن حرب الخليج الاولى بعنوان "حرب الجنرالات" والصادر عام 1995، يستند الى بحث هائل، ومرة أخرى يبدو أن المؤلفين قد تواجدا في جميع الامكنة وتحدثا الى الجميع، ولم يظهر أيٌّ من مصادر البنتاغون كمصادر اقل اهمية من ان يتم تعقبها، ولا ظهرت أية خطة اكثر ابهاماً من ان يتم تخمينها، ولا ظهر مختصر لكلمات عسكرية اكثر غموضاً من ان يتم شرحه، فغوردون، المراسل العسكري منذ امد بعيد للنيويورك تايمز والذي رافق قوات التحالف البرية بأمرة اللفتاننت جنرال ديفيد ماكيرنان، وترينور، وهو لفتاننت جنرال متقاعد من فيلق المارينز ومراسل سابق للتايمز، قد قدما كتاباً آخر تنبغي قراءته.
وهنا تنتهى اوجه التشابه بين الكتابين، فقد ظهر كتاب "حرب الجنرالات" في أوج القوة الامريكية، فتتمة غوردون وترينور تؤرخ زمنياً، بشكل مغاير، جرائم حرب الخليج الثانية وحماقاتها حتى صيف عام 2003، وعن طريق سرد كل دقيقة من التوترات بين وزير الدفاع دونالد رامسفيلد والعسكريين في التجهيز للحرب وخلالها يسعى المؤلفان الى تفسير كيف ان العراق، الذي كان من المفترض انه سيكون مسقط رأس الحملة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، قد اصبح مقبرة لها، اما كون تفسيرهما مقنعاً تماماً ام لا فان ذلك بحث آخر.
وكما يلاحظ غوردون وترينور، فان قرار ادارة بوش بشن غزو وقائي كان يعادل التبرؤ بالجملة مما يسمى بـمبدأ باول، الذي أصر على حشد قوة ساحقة حشداً صبوراً قبل الدخول في أي نزاع خارجي، ولم تكن هذه مماحكة اكاديمية بل صدع جوهري في الحزب الجمهوري، وكانت عقيدة كولن باول سليلة افكار متحدرة من مبدأ واينبرغر، الذي أعلنه معلمه وزير الدفاع كاسبر واينبرغر في عام 1984 لتبرير الفرار من لبنان عقب التفجير الانتحاري لثكنات المارينز
وهي خزي ستراتيجي يراه الكثير من الصقور الجمهوريين أصل ويلات امريكا الحالية في الحرب على الارهاب، مادامت تساعد على اقناع أسامة بن لادن، من بين العديدين، بأن الولايات المتحدة كانت كياناً ضعيفاً بجـُـبن بحيث يتلاشى عندما يتلقى ضربة قاصمة.
وبعد احداث 11/ أيلول اراد الرئيس بوش أن يقلب الاحوال رأسا على عقب على اعداء امريكا من خلال المضي في الهجوم، وكما أشار بوش في خطاب ألقاه في اكاديمية سيتدال العسكرية عام 1999، انه تمنى استحداث قوة فتاكة أكثر ترحالاً قد تستغرق لحشدها الاشهر الستة التي كانت قد تطلبتها حرب أبيه في الخليج، وقد كانت تلك اشارة مبكرة فات الكثيرون الانتباه اليها، تشير الى ان بوش كان بالفعل قد وضع صدام حسين في ذهنه، وحالما اصبح رامسفيلد وزيراً للدفاع بدأ بتنفيذ تكليف بوش لبيروقراطيي البنتاغون ضيقي التفكير والمشدودين الى القوة الضخمة بشن حرب على ما كان يراه امبراطورية للشر، ولم يعط غوردون و ترينور لرامسفيلد فضلاً كبيراً ولكنه كان صائباً بخصوص المعضلة، وشرع في حلها، مع ذلك، بالاسلوب الاكثر بلادة والاقل براعة.
ويعرض غوردون و ترينور ايضاً أغنى وصف لهاجس رامسفيلد باستخدام العراق لإظهار أن جيشاً سريع النحافة ومجهـَّـزاً بأحدث التقنيات تمكن من هزيمة خصم بين ليلة وضحاها، ومرة بعد أخرى كان رامسفيلد يسخر من القلق من ان مخاطر الاحتلال تمثل أمراً منافياً للعقل، وكان بناء أمة عبارة عن شيء جبان، يرقى الى ما رآه هو كما رأت ادارة كلنتون نقل الجنود الى البلقان أمراً مكلفاً ولا حاجة لإطالته، وبشكل مغاير ستكون للعراق
وهو بلد غني بالنفط فرصة ليقف على قدميه من جديد وحتى أسهل من أفغانستان، فقد أشار رامسفيلد علانية في 14/ شباط/ 2003 قائلاً: "فيما يتصل بالعراق كان هناك وقت للاستعداد"، ومع ذلك يبدو أن رامسفيلد كان يرى الاستعدادات لنتيجة الكارثة كما هي نفسها علامة على الروح الانهزامية، ويـُـعلـِـمنا غوردون وترينور بأن آمر فيلق فرقة البحيرات الكبرى وأوهايو للمهندسين، والذي تم انتدابه في كانون الاول/2002 ليخرج بخطة لإدارة مدنية بعد الحرب، لم يتسلم ميزانيته الخاصة به واضطر الى التوجـّـه الى "سوق خيرية تجارية" في القاعدة لاستجداء معدات مكتبية، اذ تنقل من كشك الى آخر مستولياً على الاوراق والاقلام والكابسات وهي ليست بداية مبشرة بالنجاح لمؤسسة عـُـهد اليها تمهيد الطريق الى عراق جديد".
لم يؤد الجنرال تومي فرانكس، الذي قاد الغزو، مهمته على الوجه الاكمل، وبدون شك هناك دائماً توترات في وقت الحرب بين الآمر وجنرالاته، بيد أن غوردون و ترينور اعتمدا على ملاحظات مساعدي فرانكس لسرد الواقع، ففيما كان فرانكس ساخطاً لأن المارينز لم يكونوا يتحركون أسرع لإبادة الفرق العسكرية العراقية نحو نهاية آذار/2003، فقد تصرف كما لو أنه مسؤول عن مجموعة من أمثال ماكليلان العصريين، ففي أحد الاجتماعات أعلن فرانكس أنه لم يرغب بالاصغاء الى امور عن الخسائر كما ينقل المؤلفان، "ورغم أنه لا أحد قد ذكر أية خسائر الا أن فرانكس في تلك اللحظة وضع يده على فمه وأدى حركة التثاؤب، وكأنه يوحي بأن بعض الخسائر لم تكن ذات شأن كبير للهجوم".
وأكثر ما يخلب اللب في الكتاب هو وصف الحرب، اذ يشدد غوردون و ترينور على أن الامر سار سيراً مختلفاً تماماً عما كانت الادارة قد توقعته، ومن الجائز أنهم كانوا متسامحين أكثر قليلاً على هذه الجبهة ما دام ضباب الحرب
او في الحالة العراقية عاصفة الحرب الرملية يـُـنزِل خراباً في أغلب خطط المعارك، (بافتراض أن غوردون نفسه كتب مقالتين مع جوديث ميللر عن أسلحة الدمار الشامل العراقية والتي نقدتها التايمز فيما بعد في مقالة قصيرة تحت عنوان "من المحرر"، كان عليه أن يكون أكثر حذراً بخصوص تأنيب الادارة على عملها دون اتقان في قضية أسلحة الدمار الشامل)، ومع ذلك فأن افتراضات رامسفيلد المبتهـِـجة مقرونة مع الاستخبارات المضلّـلة لوكالة الاستخبارات المركزية عن أسلحة الدمار الشامل واحتمالات وقوع تمرد، كانت فاجعة، وكما يؤكد المؤلفان على أنه في أواخر آذار/2003 أراد الآمرون السعي وراء الفدائيين غير النظاميين والذين يشكـّـلون نواة التمرد غير أن رامسفيلد اراد أن يختم الحرب بأسرع وقت ممكن ويسلـّـم النصر هدية ً الى بوش، بحيث أن الجنرال فرانكس أعلن أن تحمـّـل المخاطرة في طريق الخروج من العراق هو أمر مهم كأهمية الدخول اليه بأعداد مخفـّـضة من الجنود، الأمر الذي ظن جاي غارنر، أول قائد لإعادة الاعمار، أنه "جنون مطبق".
ورغم أن غوردون و ترينور يقدمان وصفاً ممتازاً للحرب غير ان تنقيبهما عن التفصيل من حين الى آخر يهدد بإرباك سرد القصة، فهما لا يقبضان على السياق السياسي الاوسع الذي كان رامسفيلد ورفاقه يعملون فيه، فالرئيس بوش يخطئ كثيراً جداً في التصرف، وديك تشيني ينقش بضعة نقوش بارزة بيد أنه بوجود ادارة تكون فيها السلطة مركزة في أيدي قلة قليلة فأن تركيز غوردون وترينور على بيروقراطية الجيش يقود الى صورة ضيقة الى حد ما لما يحدث في الواقع.
وفي الواقع يوحي كتاب غوردون وترينور بخاتمة لا يرسمانها، ألا وهي أنه ربما كان لدى الدافع الاولي للحرب القليل لعمله مع العراق نفسه، وكما كان الحال مع مـُـريدي الشيوعية الغربيين في الثلاثينيات، والذين قذفوا شتى فانتازياتهم حول المدينة الفاضلة على اسبانيا او الاتحاد السوفيتي، يبدو أن موظفي الادارة قد نظروا الى العراق كنوع من أرض الاختبار المثالية لنظرياتهم الاثيرة عن الحرب او الارهاب او احلال الديمقراطية، اذ يرون العراق الذي أرادوا رؤيته، وتستحضر أوهامهم الى الذهن تعليق المؤرخ البريطاني أي جي بي تيلور بأن الامر الخطير لا يبرز عندما لا يستطيع رجال الدولة قضاء حياتهم وفق مبادئهم بل يبرز عندما يستطيعون فعل ذلك.
((جاكوب هيلبرون، وهو مشارك دائم في تحرير زاوية عرض كتاب، يؤلف الآن كتاباً عن مبادئ المحافظين الجدد.))


مذكرات وول سوينكا .. العــــــــودة مـــــن المنــــــــفى
 

-العنوان: عليك ان تنطلق في رحلتك عند الفجر
-تأليف : وول سوينكا
-
عرض: تورمان راش
-ترجمة:
زينب محمد

عن: نيويورك تايمز

لم تكن الامور تمضي على نحو يسير بالنسبة الى (وول سوينكا) الكاتب المسرحي الطموح، المتعلم تعليماً عالياً، والذي كان ينتظر ان تصبح نايجيريا دولة حرة وديمقراطية، كان في جامعة بريطانيا في الاعوام التي سبقت الاستقلال تماماً في الستينيات وكما قال في مذكراته الجديدة التي حملت عنوان "عليك ان تنطلق فجراً" فان النذر كانت كئيبة منذ البداية: - فالوطنيون الجيل الاول من القادة المنتخبين والمشرّعين في بلدنا شبه المستقبل بدأوا بزيارة بريطانيا على شكل زمر وجماعات وكنا نشاهد تأنقهم وتفاخرهم في الانفاق وشعورهم الحقير بالتفوق تجاه الشعب الذي كان من المفترض ان يمثلوه، واصبح بعضهم طلاباً عن طريق الفحش، في مقابل مكافأة فورية أو نفوذ للحصول على منح دراسية أو تمديدها وكان هدف زيارة السياسيين التي تمولها الاحزاب بشكل مسرف هو استمالة الفتيات! وبدا ان بأدمغتهم طموحاً واحداً فقط هو معاشرة امرأة بيضاء.. وكانت وزارة الداخلية البريطانية تتستر على فضيحة تلو اخرى، وفي انتخابات عام 1959، التي نجم عنها اول جمهورية لنايجيريا، تلاعب بها البريطانيون، واحزنت نتائجها السياسيين النايجيريين على مدى الاعوام التي تلت ذلك، وكما كتب سوينكا في مذكراته: "ان الانتخابات التي جاءت بالحكومة الى السلطة ووضعتها في المركز زوّرها البريطانيون!" وبناء على توجيهات من وزارة الداخلية البريطانية تم تزوير حتى الاحصاءات الرسمية في نايجيريا ومن خلال ذلك منح الشمال اغلبية زائفة، وكان اقطاعياً بشكل كبير ومحافظاً في وجهات النظر السياسة، وحددت توجيهات خاصة بتزوير النتائج النهائية للانتخابات التشريعية الفيدرالية، وحيثما كان ضرورياً لمصلحة المحافظين السياسيين. وفي عام 1960 وعند بلوغه الخامسة والعشرين عاد سوينكا الى نايجيريا مع منحة لمواصلة بحثه في مسرح غرب افريقيا التقليدي، واخذ التمثيل الديمقراطي الحقيقي الذي بدأ في عام 1962 بالافول، وفي عام 1966، استولت اول الدكتاتوريات العسكرية التسعة (التي كان يفصل بينها فترات قصيرة من الحكم المدني) على السلطة، وكان على سوينكا العمل على تلك الارضية القاسية والتعريف بنفسه، منتزعاً من التزاماته معها اعماله في فن التنوير الثقافي الذي اشتهر به عالمياً، وكان ابداعه مذهلاً وشمل مجموعة من المسرحيات الرائعة وروايتين وشعر وكتابات جدلية ومقالات نقدية ومذكرات كلاسيكية عن حياته المبكرة (آكيه، 1982) ومذكرات مهداة الى والده، وفي عام 1986 كان اول افريقي يتسلم جائزة نوبل للادب، وانجز سوينكا نشاطه السياسي المستمر داخل نايجيريا عندما كان ذلك ممكناً، ووراء البحار عندما لم يكن كذلك مستخدماً العلاقات والدعم الثقافي والاجتماعي وشهرته الاكاديمية الكبيرة والاعتبار الادبي الذي منح إيّاه، وتغطي هذه المذكرات حياة سوينكا منذ شبابه وحتى الوقت الحاضر، و"عليك ان تنطلق فجراً، هي مذكرات سياسية، وكان يجب منحها هذا العنوان الفرعي" وبالضرورة هناك الكثير مما يجب ان نعلمه عن سوينكا السياسي اكثر من سوينكا الاديب والمثقف لان الكثير جداً من نشاطه السياسي كان يقوم به سراً او بحذر، والآن فقط ومع عودة الحكم المدني (وان كان غير ديمقراطي) تحت حكم اولوسيغون اوباسانجو، اصبح حراً في سرد قصته بشكل كامل. كان سجن سوينكا في وقت متأخر من عام 1960 تحت دكتاتورية (غورون) وكثير منه كان تحت ظروف الحبس الانفرادي، هو جزء من اسطورته( كان قد كتب عنه في مكان آخر) مثلما كان الحكم عليه غيابياًً بالموت والذي اعلنه ضده في عام 1997 دكتاتور آخر هو (ساني اباشا). وهناك تفصيلات دقيقة لنشاطاته التي تعبر عن الاحتجاج والتي تتضمن عبوره الحدود سراً ومضاجعة الغرباء، والبعثات الدبلوماسية السرية، قد قدمت هنا لأول مرة وفيها يُبرز الى الذاكرة كل من فيكتور هيغو، ييتس، بايرون، اليساتدرو مانزوني، وكان النضال من اجل الديمقراطية قد طال في نايجيريا وتعقّد واصبح دامياً، ومع عناصر انتقادية تغير مواقعها، ومكائد القوى الخارجية واكتشاف النفط في عام 1956. اوجد كل ذلك سبباً للاقتتال، ولعب سوينكا دوره في النضال بشرف وبارادة وشعور طيبين، وكان يبدو انه يتفادى اغراء الحكم السياسي للاديان آنذاك، وفي حماسته نال شهرة عالمية وخطط لتشكيل لواء من المتطوعين للقتال الى جانب المؤتمر الوطني الافريقي في جنوب افريقيا، وانظم مرة اخرى الى مجموعة كانت تنوي التوغل الى هنغاريا للقتال الى جانب المتمردين المناوئين السوفييت في عام 1956. وفي نايجيريا وقف الى جانب الديمقراطية وناضل من اجلها ومن اجل تقدم البلد ووحدته، واصبح مناوئاً للعنف الرومنطيقي وانخرط في نشاطات عامة غير عنيفة وشارك فيها، وجاءت شهرته بسبب سعيه لتطوير تسوية لمنع حرب (البيافرا) وفي عام 1998 دفع (اباشا) الذي يعتبر من احقر الدكتاتوريات النايجيرية سوينكا (ثم في منفاه في الولايات المتحدة الامريكية) الى التفكير في اللجوء الى المقاومة المسلحة غير ان موت (اباشا) الغى ذلك الاحتمال.
لم يكن لسوينكا ما يقوله تقريباً عن حياته الشخصية، ومن مصادر اخرى علمنا انه كانت له ثلاث زوجات انجب منهن عدة ابناء وقد اهدى احد كتبه الى زوجته الثالثة، فولاك، وكان اثنان من ابنائه الكبار رفاقاً في النضال المؤيد للديمقراطية. وليس هناك من صورة حقيقية لافراد الاسرة عدا عن شقيق له باع الكثير من مدخرات سوينكا التي كانت مخبئة بدون موافقته كما ليس هناك ذكر لردود افعال زوجاته وابنائه على سجنه وهناك وصف ثر وغني عن احد اصدقاء حياته لفترة طويلة هو (فيمي جونسن)، زميل دراسته الذي اصبح شخصية مهمة، وبصورة عامة، كان سوينكا شديد البخل فيما يتعلق بكشف مشاعره حول القضايا غير السياسية، وانه لمن الغريب ان لا يكون هناك ذكر عن ايامه في السجن، وثمة فاصل ومسافة بين سوينكا الانسان وبين كتاباته. فالقليل من عمله المبكر ذُكر بصورة عابرة، لكن استناداً الى ابعاده السياسية، وما ان يفتح الكتاب حتى يطير سوينكا عائداً الى نايجيريا بعد مدته المؤلمة الاخيرة في المنفى ويسأل نفسه لماذا لا تبدو عواطفه قوية، ولماذا تبدو شديدة الارتباط بمناظر نايجيريا، وتساءلتُ هل كانت مواهب سوينكا المسرحية هي التي تقوده الى اضاءة الجانب السياسي وقطع القضايا الشخصية من النصوص والتي قال عنها انه كان لها تأثير طفيف على العمل الاساسي، القصص السياسية. واسلوب سوينكا شفاهي، ويتراوح بين التحادثي والخطابي والحماسي والاستعارات الصريحة والاستخدام المتحرر لعلامات التعجب والغلو والابداع اللفظي. وكل ذلك يعزز اسلوب التحادث وهنا يصف سوينكا وقت الطعام مع عائلة صديقه (فيمي جونسن) النهمة: كانت المائدة محلية تماماً، ايبا، امالا، إيان، مع نصف دزينة من خليط عليك ان تختار منه، وهنا عرفت اول مرة بان الطعام كان اكثر من مجرد انزال شيء ما في جوفك، بلا قلق ما امكن، وان الاكل في الحقيقة كان استسلاماً مطلقاً قدم تحية الى (اوبابالا) إله الجوع. اكلت العائلة بمن فيها زوجته البريطانية باربرا! واصبح الامر تحدياً، لم يكن بوسعي القبول بان حتى الاطفال (كان اكبرهم لا يزيد على 12 عاماً آنذاك) يأكلون اكثر مني، وامضيتُ يوماً كاملاً بدون طعام قبل الانضمام اليهم، وبعدها رفضتُ مواصلة ذلك العلاج الخاص هل تساعد تمارين المعدة؟ كان الامر دائماً ينتهي باللهاث بينما يواصل فيمي والآخرون كما لو ان عالم الطعام كان على وشك الانقراض.
واجمالاً، كان اسلوبه ناجحاً، فهو يأخذ القارئ الى حيث اللحظات السياسية والشخصيات غير المألوفة ذات الاسماء الغريبة، وفيه عمليات كشف خاصة، واحدها مقطع طويل يتفلسف فيه حول لقاءاته المتقطعة لكن الودية مع الدكتاتور بابانجيدا الذي استولى على السلطة في انقلاب ابيض عام 1985.
ونظمت لقاءات طلباً لراحة الضحايا السياسيين للطاغية، وبعضها كان يتعلق بالممارسات الدبلوماسية السرية التي كان يقوم بها سوينكا. وعلى سبيل المثال، علمنا ان سوينكا التقى بـ (شيمون بيريز) في عام 1998 في محاولة لاقناع الاسرائيليين بسحب المساعدة لقوات اباشا الامنية.
(وخلال تلك الرحلة علم بانباء موت الدكتاتور) وتابعنا مساعي سوينكا في عام 1991 لترتيب وقف اطلاق النار بين المؤتمر الوطني الافريقي وقائد الزولو، مانغوستو بوشليزي. في فترة العنف الدامي بين الفصائل وبشكل وافر قدمت التفاصيل الكثيرة عن سياسات النفي وبقي سوينكا حياً وعندما عاد الى نايجيريا بعد موت اباشا، تلقى دعوات جادة للسعي الى الرئاسة (ورفض). ويمكن ان نطلق على سوينكا اسم الديمقراطي، اذ قامت جهوده على قناعته بانه عند تحقيق الديمقراطية فان الاطمئنان والقناعة الانسانية سوف يتدفق على شكل مبدع وكان سوينكا يناضل من وضع الى وضع ونجح في احراز تقدم لانتاج ادبي استثنائي.
وليس عدلاً الشعور بالخيبة لان سوينكا في هذه المذكرات لم يفعل اكثر من توجيه اسئلة معذبة بشكل مباشر مثل: لماذا تمضي الامور على نحو سيئ جداً في نايجيريا مع كل ميزاتها الظاهرة على الدول الافريقية الاخرى؟ ولماذا لم يقاوم البلد بشكل افضل وباء الحكم السيئ والفساد المميت والتعصب الاقليمي الخبيث؟ وما الذي منع قوات الاصلاح من الانسحاب سوية؟ وما الذي يتضمنه تعميق الانقسام بين المسيحيين والمسلمين للمشروع الديمقراطي؟ ولم يقلل سوينكا من مطالبه في الديمقراطية الكاملة في نايجيريا وشارك في الحركة من اجل اتفاقية دستورية جديدة وتحدث جهاراً عن التهديد القاطع الذي يمثله الانقسام الديني، ووفقاً للجنة الوطنية النايجيرية لشؤون اللاجئين فانه منذ عودة الديمقراطية في عام 1999، لقي (14) الف شخص حتفهم في صراعات عامة وطرد اكثر من ثلاثة ملايين من اراضيهم، ولا يزال سكان اوغوني وجاو في منطقة دلتا النيجر المنتجة للنفط الذين ساند سوينكا قضيتهم فترة طويلة في تمرد مستمر، وعلى الرغم من ان كتاب سوينكا مفعم بالامل، لا يزال الظلام يخيم على نايجيريا.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة