الـحــج
مــرآة الـتــاريــخ الـبـشـــري ..
رؤيا
الدكتور شريعتي للحج (2-4)
د. عبد الجبار الرفاعي
ولعل
روح الاقتحام التي اتسمت بها شخصية شريعتي، هي ما حفزه
للسير في ذلك الدرب، والمغامرة بالمضي فيه حتى النهاية،
بالرغم من الهجاء البالغ القسوة الذي تعرض له، وشتى ألوان
التهم، وفتاوى تفسيقه وضلاله. انه كان مدركا بما يحف
بمغامراته من مخاطر، وما يكتنفها من مزالق، باعتباره يدشن
نمطا جديدا في دراسة الدين والاجتماع الاسلامي، مستندا إلى
مفاهيم ومناهج مختلفة. فقد تحدث عن ذلك بصراحة: (أهم درس
استطيع ان اعطيه لطلابي كمعلم، هو ان عليهم، لأجل معرفة
عميقة بالدين، انتهاج سبيل العلماء غير المتدينين، بل
المناهضين للدين، أو حتى من كان ينشد محاربة الدين. انا
أسلك هذا السبيل، وأتحدث بنفس اللغة المنددة بالدين،
والمتنكرة لدعائمه الغيبية، تحت عناوين:علم الاجتماع،
والاقتصاد، وفلسفة التاريخ، وعلم الانسان. اني أتحدث بهذا
المنهج الذي اعتبره أفضل المناهج لمعالجة المسائل العلمية
والانسانية. انه المنهج ذاته الذي نهجته اوروبا منذ القرن
الثامن عشر، لدراسة مشكلاتها الانسانية بجميع أبعادها،
ومناوئة الدين في المجتمع.سوف أعالج قضايا الدين حتى من
منظور طبقي اقتصادي، لكن بموضوعية، ومن دون تعصب وتحيز ما
استطعت).
لقد حسم شريعتي خياره، وقرر استخدام المناهج الغربية في
دراسة الدين والاجتماع الاسلامي، ولم يتوقف عند الجدل
الواسع الذي لما يزل محتدما، حول مشروعية دراسة الدين
والمجتمعات الاسلامية، بمناهج مستوردة من أديان ومجتمعات
اخرى. فبدلا من اصطفافه بجنب أحد فرقاء الصراع، واستنزاف
تفكيره في التدليل على مشروعية أو لا مشروعية ذلك، بادر
لحشد مختلف المناهج في دراساته، ولم يتردد في انتقاء
واستخدام أي مصطلح أومفهوم، يحسبه مناسبا لحقل بحثه.
وكأنه، بمغامرته هذه، أراد القول: ان السبيل الأمثل
لاختبار المناهج وأدواتها هو بتطبيقها مباشرة على ميادين
معينة. وان اكتشاف ما تتمخض عنه عملية التطبيق من معطيات،
هو معيار اختبارها. كما ان نتائج التطبيق ستقودنا إلى
استئناف النظر في بعض المناهج، وامكانية تمثلها في سياقات
حضارية اخرى، فنستبعد منها أو نختزل ما لا يتسق مع بيئتنا،
أو لا يمكن توطينه ودمجه في محيطنا الثقافي.
وقد صرح شريعتي بأنه يعمل في دراساته على صياغة رؤية
اجتماعية من منظور اسلامي، فمثلا يلمح إلى محاولته هذه
باشارة دالة قائلا: (باعتبار تخصصي العلمي هو في علم
اجتماع الدين، وهذا التخصص منسجم مع عملي، فاني اسعى
لتدوين نوع من علم الاجتماع المرتكز على الاسلام
والمصطلحات المستوحاة من القرآن والحديث).
الا انه في مناسبة اخرى يوضح أن دراساته لاتتناول المفاهيم
المودعة في المصنفات التراثية، مثلما لاتهمه طبيعة هذه
المفاهيم في وعاء الذهن، وانما تنصب جهوده على تمثلها في
التاريخ، وانماط تجليها في الاجتماع البشري. فمثلا يتحدث
عن التوحيد الذي يتناوله في دراساته بقوله: (اعني بالتوحيد
حضوره في التاريخ والمجتمع، لا مفهوم التوحيد في عالم
الكتب، أو عالم الحقيقة. فليس حديثي بشأن التوحيد الذي
تحدث عنه القرآن، ومحمد (ص)، وعلي (ع). ما يهمني الآن هو
التوحيد في المجتمع والتاريخ، والأمر هكذا لدي دائما).
ويحاول استخدام مختلف المنهجيات، والاستعانة بما يطلع عليه
من أفكار في العلوم الانسانية الجديدة، ليوظفها في حقل
دراساته، فلا يتردد في الاستعانة بالمعطيات الراهنة في حقل
الميثولوجيا، والنماذج الرمزية، أو غيرها. يكتب في سياق
استعارته لتلك المعطيات:(انني شخصيا أهتم بدراسة الأساطير
ولي علاقة دائمة بالأساطير والنماذج الاسطورية).
ويضيف (منذ فترة وأنا اعمل في حقل الأساطير، لشغفي
بالاسطورة أشد من التاريخ. وأحسب ان ما تشي به الأسطورة من
حقائق أوفر من التاريخ، فالأسطورة حكاية وجدت في فكر
الانسان، اما التاريخ فهو حقائق أوجدها الانسان. الاسطورة
تحكي التاريخ كما ينبغي ان يكون).
ويمكننا ملاحظة التفسير الرمزي واستعمال الأساليب الحديثة
في البحث الميثولوجي في مواضع عديدة من آثار شريعتي.
وتظل محاولة شريعتي، مع جرأتها وريادتها، عرضة لعدد من
الاشكالات والأسئلة. باعتبارها توظف أدوات منهاجية متنوعة
في دراسة الظواهر الدينية، من دون ان تتنبه إلى ان الأبعاد
الميتافيزيقية، التي تنفرد بها تلك الظواهر، ليس بوسعنا
ادراكها، واستكناه مضمونها، بوسائل العلوم الاجتماعية
الوضعية. مضافا إلى ان طائفة من العناصر المنهجية
والمفاهيم والمصطلحات التراثية المولدة في سياق نشأة وتطور
الاجتماع الاسلامي، يمكن استخدامها، مباشرة، أو بعد
تهذيبها، أو تفكيكها، واعادة انتاجها.
الاسلام من ثقافة
إلى ايديولوجيا
عاش شريعتي في
عصر طغى فيه صوت النضال، وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة
الانتفاضات والحركات الثورية، وفي بداية حياته اغواه بريق
الشعارات، وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع
استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وأنين المعذبين.
وتلاحم في شخصيته المثقف والداعية والباحث والمناضل، وذابت
الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي
للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت الثقافة إلى
ايديولوجيا، وتمحورت جهوده في (أدلجة الدين والمجتمع).يقول
شريعتي: (سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهم حدث وأسمى
انجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة
واحدة، وهو تحويل الاسلام من ثقافة إلى ايديولوجيا).
ما الذي يقصده بالايديولوجيا؟ وهل يستطيع ان يحتفظ بموقفه
المعرفي كباحث، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة
الايديولوجيا، لتشمل الدين والثقافة والمجتمع؟!
قبل الاشارة إلى ذلك نقتبس نصا مطولا من آثاره، يضيء هذا
المفهوم، ويحدد ملامحه في وعيه. يكتب: (الايديولوجيا عبارة
عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي
خاص يتوفر عليه الإنسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية،
ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي
والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي
المسوّغة لهذه الأمور، والتي ترسم له مسؤولياته وحلوله
وتوجهاته ومواقفه ومبادئه وأحكامه، وتدفعه بالتالي إلى
الإيمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك
الكونية، وابتناءً على نمط (علم الاجتماع) و(علم الإنسان)
و(فلسفة التاريخ) الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في
الحياة، وفي علاقتك بنفسك وبالآخرين وبالعالم؟ كيف ينبغي
العيش، وما الذي يجب فعله؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف
يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نموذجي، وما هي مسؤولية كل
فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه،
ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية، وقيمه
الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير
والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهويته
الاجتماعية؟ وعلى هذا فالايديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه
الاجتماعي والوطني والطبقي للإنسان، وتفسر نظامه القيمي
والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع،
والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: (كيف
تكون؟) و(ماذا تفعل؟) و(ماذا ينبغي فعله) و(كيف يجب ان
نكون؟).
لكن ما هي حدود الايديولوجيا؟ وما هي علاقتها بالعلوم
والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: (الايديولوجيا تهدي
للانسان ما تمنحه له الامكانات التقنية تماما. ما التقنية
الا مجموعة الجهود الانسانية الرامية إلى توظيف الطبيعة
لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها.
الايديولوجيا تقنية يستعين الانسان بها وبالمعرفة لتوظيف
التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء).
ويتداخل مفهوما التقنية والايديولوجيا لديه، بنحو تصبح
(التقنية عبارة عن فرض ارادة الانسان على قوانين الطبيعة،
أوهي استخدام العلم من قبل الارادة الانسانية الواعية،
للوصول إلى مبتغاه. العلم هو مسعى انساني لفهم الطبيعة
واكتشاف مافيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة
واستخدامها، واصطناع ماليس فيها. وفقا لهذا التعريف تكون
الايديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة، تقنية بالمعنى الأعم
للكلمة).
|