المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الـحــج مــرآة الـتــاريــخ الـبـشـــري  .. رؤيا الدكتور شريعتي للحج (2-4)
 

د. عبد الجبار الرفاعي

ولعل روح الاقتحام التي اتسمت بها شخصية شريعتي، هي ما حفزه للسير في ذلك الدرب، والمغامرة بالمضي فيه حتى النهاية، بالرغم من الهجاء البالغ القسوة الذي تعرض له، وشتى ألوان التهم، وفتاوى تفسيقه وضلاله. انه كان مدركا بما يحف بمغامراته من مخاطر، وما يكتنفها من مزالق، باعتباره يدشن نمطا جديدا في دراسة الدين والاجتماع الاسلامي، مستندا إلى مفاهيم ومناهج مختلفة. فقد تحدث عن ذلك بصراحة: (أهم درس استطيع ان اعطيه لطلابي كمعلم، هو ان عليهم، لأجل معرفة عميقة بالدين، انتهاج سبيل العلماء غير المتدينين، بل المناهضين للدين، أو حتى من كان ينشد محاربة الدين. انا أسلك هذا السبيل، وأتحدث بنفس اللغة المنددة بالدين، والمتنكرة لدعائمه الغيبية، تحت عناوين:علم الاجتماع، والاقتصاد، وفلسفة التاريخ، وعلم الانسان. اني أتحدث بهذا المنهج الذي اعتبره أفضل المناهج لمعالجة المسائل العلمية والانسانية. انه المنهج ذاته الذي نهجته اوروبا منذ القرن الثامن عشر، لدراسة مشكلاتها الانسانية بجميع أبعادها، ومناوئة الدين في المجتمع.سوف أعالج قضايا الدين حتى من منظور طبقي اقتصادي، لكن بموضوعية، ومن دون تعصب وتحيز ما استطعت).
لقد حسم شريعتي خياره، وقرر استخدام المناهج الغربية في دراسة الدين والاجتماع الاسلامي، ولم يتوقف عند الجدل الواسع الذي لما يزل محتدما، حول مشروعية دراسة الدين والمجتمعات الاسلامية، بمناهج مستوردة من أديان ومجتمعات اخرى. فبدلا من اصطفافه بجنب أحد فرقاء الصراع، واستنزاف تفكيره في التدليل على مشروعية أو لا مشروعية ذلك، بادر لحشد مختلف المناهج في دراساته، ولم يتردد في انتقاء واستخدام أي مصطلح أومفهوم، يحسبه مناسبا لحقل بحثه. وكأنه، بمغامرته هذه، أراد القول: ان السبيل الأمثل لاختبار المناهج وأدواتها هو بتطبيقها مباشرة على ميادين معينة. وان اكتشاف ما تتمخض عنه عملية التطبيق من معطيات، هو معيار اختبارها. كما ان نتائج التطبيق ستقودنا إلى استئناف النظر في بعض المناهج، وامكانية تمثلها في سياقات حضارية اخرى، فنستبعد منها أو نختزل ما لا يتسق مع بيئتنا، أو لا يمكن توطينه ودمجه في محيطنا الثقافي.
وقد صرح شريعتي بأنه يعمل في دراساته على صياغة رؤية اجتماعية من منظور اسلامي، فمثلا يلمح إلى محاولته هذه باشارة دالة قائلا: (باعتبار تخصصي العلمي هو في علم اجتماع الدين، وهذا التخصص منسجم مع عملي، فاني اسعى لتدوين نوع من علم الاجتماع المرتكز على الاسلام والمصطلحات المستوحاة من القرآن والحديث).
الا انه في مناسبة اخرى يوضح أن دراساته لاتتناول المفاهيم المودعة في المصنفات التراثية، مثلما لاتهمه طبيعة هذه المفاهيم في وعاء الذهن، وانما تنصب جهوده على تمثلها في التاريخ، وانماط تجليها في الاجتماع البشري. فمثلا يتحدث عن التوحيد الذي يتناوله في دراساته بقوله: (اعني بالتوحيد حضوره في التاريخ والمجتمع، لا مفهوم التوحيد في عالم الكتب، أو عالم الحقيقة. فليس حديثي بشأن التوحيد الذي تحدث عنه القرآن، ومحمد (ص)، وعلي (ع). ما يهمني الآن هو التوحيد في المجتمع والتاريخ، والأمر هكذا لدي دائما).
ويحاول استخدام مختلف المنهجيات، والاستعانة بما يطلع عليه من أفكار في العلوم الانسانية الجديدة، ليوظفها في حقل دراساته، فلا يتردد في الاستعانة بالمعطيات الراهنة في حقل الميثولوجيا، والنماذج الرمزية، أو غيرها. يكتب في سياق استعارته لتلك المعطيات:(انني شخصيا أهتم بدراسة الأساطير ولي علاقة دائمة بالأساطير والنماذج الاسطورية).
ويضيف (منذ فترة وأنا اعمل في حقل الأساطير، لشغفي بالاسطورة أشد من التاريخ. وأحسب ان ما تشي به الأسطورة من حقائق أوفر من التاريخ، فالأسطورة حكاية وجدت في فكر الانسان، اما التاريخ فهو حقائق أوجدها الانسان. الاسطورة تحكي التاريخ كما ينبغي ان يكون).
ويمكننا ملاحظة التفسير الرمزي واستعمال الأساليب الحديثة في البحث الميثولوجي في مواضع عديدة من آثار شريعتي.
وتظل محاولة شريعتي، مع جرأتها وريادتها، عرضة لعدد من الاشكالات والأسئلة. باعتبارها توظف أدوات منهاجية متنوعة في دراسة الظواهر الدينية، من دون ان تتنبه إلى ان الأبعاد الميتافيزيقية، التي تنفرد بها تلك الظواهر، ليس بوسعنا ادراكها، واستكناه مضمونها، بوسائل العلوم الاجتماعية الوضعية. مضافا إلى ان طائفة من العناصر المنهجية والمفاهيم والمصطلحات التراثية المولدة في سياق نشأة وتطور الاجتماع الاسلامي، يمكن استخدامها، مباشرة، أو بعد تهذيبها، أو تفكيكها، واعادة انتاجها.
الاسلام من ثقافة إلى ايديولوجيا
عاش شريعتي في عصر طغى فيه صوت النضال، وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة الانتفاضات والحركات الثورية، وفي بداية حياته اغواه بريق الشعارات، وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وأنين المعذبين. وتلاحم في شخصيته المثقف والداعية والباحث والمناضل، وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت الثقافة إلى ايديولوجيا، وتمحورت جهوده في (أدلجة الدين والمجتمع).يقول شريعتي: (سألني أحد رفاق الدرب: ما هو برأيك أهم حدث وأسمى انجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة، وهو تحويل الاسلام من ثقافة إلى ايديولوجيا).
ما الذي يقصده بالايديولوجيا؟ وهل يستطيع ان يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة الايديولوجيا، لتشمل الدين والثقافة والمجتمع؟!
قبل الاشارة إلى ذلك نقتبس نصا مطولا من آثاره، يضيء هذا المفهوم، ويحدد ملامحه في وعيه. يكتب: (الايديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي خاص يتوفر عليه الإنسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي المسوّغة لهذه الأمور، والتي ترسم له مسؤولياته وحلوله وتوجهاته ومواقفه ومبادئه وأحكامه، وتدفعه بالتالي إلى الإيمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك الكونية، وابتناءً على نمط (علم الاجتماع) و(علم الإنسان) و(فلسفة التاريخ) الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي علاقتك بنفسك وبالآخرين وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعله؟ أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل نموذجي، وما هي مسؤولية كل فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية، وقيمه الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالايديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه الاجتماعي والوطني والطبقي للإنسان، وتفسر نظامه القيمي والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: (كيف تكون؟) و(ماذا تفعل؟) و(ماذا ينبغي فعله) و(كيف يجب ان نكون؟).
لكن ما هي حدود الايديولوجيا؟ وما هي علاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي: (الايديولوجيا تهدي للانسان ما تمنحه له الامكانات التقنية تماما. ما التقنية الا مجموعة الجهود الانسانية الرامية إلى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها. الايديولوجيا تقنية يستعين الانسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب ما يشاء).
ويتداخل مفهوما التقنية والايديولوجيا لديه، بنحو تصبح (التقنية عبارة عن فرض ارادة الانسان على قوانين الطبيعة، أوهي استخدام العلم من قبل الارادة الانسانية الواعية، للوصول إلى مبتغاه. العلم هو مسعى انساني لفهم الطبيعة واكتشاف مافيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها، واصطناع ماليس فيها. وفقا لهذا التعريف تكون الايديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة، تقنية بالمعنى الأعم للكلمة).


قصة: القناع
 

حامد فاضل
أهي لحظة نحس، أم غباء، أم لا مبالاة، تلك اللحظة التي أوصلتني إلى هذه الحال. وأنا الرجل الذي تعرفه البلدة كواحد من أبنائها العقلاء.. أهي حالة فصام، أم خواء، أم فضول. تلك الحالة التي داهمتني مداهمة رياح خريفية. فصيرتني مثل قرد خلف القضبان. بلا غابة أو غصن حتى يخفي بين أوراقه لون مؤخرته المسلوخة. أكانت الفكرة من صنع القدر؟ أم مني؟ أم من صاحب المقهى الذي ألقى بذرتها في تربة رأسي الخصبة، فأهتزت، وربت، وكان حصادها وبالا عليّ،جعلني أغض الطرف خجلا" من نظرات الأهل والأصدقاء..؟ أهي مشيئة الله، أم توارد في أفكار الطبيعة؟ أم هي تلك الجينات، والهرمونات التي تتحكم في تكوين خلقتنا، وبناء أجسامنا؟ جعلت ذلك المجنون يشبهني تماما" كأننا نزلنا سوية من رحم واحد..كم من المجانين في بلدتنا سواء من أبنائها الذين تلدهم كلما تناسلت النوائب،أو أولئك الذين تلفظهم في محطتها قطارات الليل والنهار الصاعدة شمالا" أو النازلة جنوبا"، أو من الذين تنساهم في كراجاتها سيارات السفر الوافدة، والمغادرة. ولا أدري أي قدر مجنون ذلك الذي شدني اليهم بحبل من مسد، جعلني أتابع حركاتهم، وأحفظ كل ما يتفوهون به من كلمات واختزن كل ذلك في قبو الذاكرة،حتى تكون عندي أحتياطي رهيب من الجنون.. أستطيع أن أكون بواسطته لو أستغللته استغلالا" حقيقيا"، أعظم مجنون في البلدة. كنت أنقش أسماءهم وأرسم سيماءهم على جدران المخيلة، لذا فأنا أستطيع أستحضار أي منهم بعملية بسيطة أسميتها: أستفراغ الخيال المجنون، فلا يخلو مجلس أنس أحضره من أحد المجانين الذين أستحضرهم نزولا" عند رغبة الأصدقاء الذين أعترفوا في أكثر من مناسبة بالقابلية التي امتلكها في تقليد المجانين، وبموهبتي في تمثيل دور المجنون..وقد لاحظت من خلال متابعتي الطويلة للمجانين، أن لكل مجنون حركاته الخاصة، وقاموسه الخاص، فقد يكتفي أحدهم بحركة واحدة، أوكلمة واحدة يظل يرددها طوال حفنة السنين التي تستهلكه في الحياة الدنيا، مثل (صبحي بامية)الذي يرافق الشمس منذ تمزيقها لشرنقة الغبش، يدور على الدكاكين والمقاهي، صارخا": (بامية.. بامية) أو (عطوي سيجارة) الذي ما أن يرى سيجارة بين أصابع رجل من السابلة حتى يلاحقه كظله: (سيجارة عمي.. سيجارة) بينما يلجأ أخرون إلى القاء خطب طويلة لايفهم منها شيء برغم أنهم يلقونها بالعربية الفصحى مثل الأستاذ (هاشم) أما (حميد الرطان) فأنه يتكلم بلغة لا شبيه لها في جميع لغات العالم الحية والميتة.. ولا يكف (صالح العاكف)عن النفخ في صفارته والأشارة بيده إلى مكان حدوث الخطأ في ملعبه الوهمي.. غير أن (أبو اللوز)* المجنون الجديد الذي قذفت به العاصفة في ليلة من ليالي الثريا الهوجاء، حيث ظل الناس يستمعون طوال الليل إلى عزف (الحالوب)* الصاخب فوق سطوح المنازل، ويرون بعيون أتعبها بطء أنزلاق البلل فوق زجاج النوافذ، مسيل العرق الناضح من أجساد الغيوم السود وهي تؤدي رقصتها الجنونية مطلقة صرخاتها الهستيرية المصحوبة بزفيرها الناري كلما احتكت اجساد بعضها ببعض، حتى اذا نقر طائر الصباح ابواب البلدة وخرج كل ذي حياة لمطاردة رزقه، ابصر الناس رجلا" حافي القدمين، يركض في دروب البلدة المفروشة بالوحل، والبرك، والضفادع، رافعا" دشداشته إلى ما فوق سرته كاشفا" عما بين القصبتين اللتين تحملانه وهو يصرخ: (لوز) ثم يصمت للحظة، ويتوقف ليصرخ: (شلونه) ويعاود الركض والصراخ.. وما أن مر الأسبوع الأول على أسلوبه المتفرد بالجنون حتى استأثر بأهتمام الناس، وفاق بحركاته وعبارته التي أشتهرت جميع مجانيننا، وصار ظاهرة من ظواهر بلدتنا المستلقية على مشارف الصحراء. جذبت الينا الناس من البلدان المجاورة ليروا (أبو اللوز) وهو يدور في شوارع بلدتنا، وازقتها، وسوقها متبوعا" برهط أو أكثر من الأولاد، ويستمعون إلى عبارته الشهيرة التي ما أن يطلقها صارخا": (لوز) حتى يجيبه الأولاد بصوت واحد: (شلونه) فتحرك السوق، وأزدهرت التجارة ودبت الحياة في أقتصاد بلدتنا المحتضر حتى أن تجارنا وكبار بلدتنا ووجهاءها ومختارها توسطوا عند مأمور المركز لأستثناء (أبو اللوز) عندما علموا ان في نيته جمع المجانين السائبين وايداعهم المستشفى. وقد استقبل اقتراحهم بكل رحابة صدر.. وكان من الطبيعي أن أهتم أنا بـ(أبو اللوز) كي أضمه إلى مجموعتي من المجانين الذين احتفظ بهم في متحف الذاكرة. ولكني برغم ملاحقتي المستمرة له فأنني لم أنتبه إلى تلك السمة المشتركة فيما بيننا ولعل انشغالي في متابعة حركاته وتقليد صوته حال دون الأنتباه إلى تلك السمة، واعني بها التشابه في الطول والجسم والملامح، برغم، أني أبدو أكبر منه،حتى ظهيرة ذلك اليوم الخريفي الكئيب الذي كنت فيه جالسا" في زاوية اقدم مقهى في البلدة استمتع بمراقبة (أبو اللوز) الذي كان يقلب ملعقة الشاي فيما بين اصابعه ربما للمرة الألف، حين احنى صاحب المقهى العجوز رأسه بأتجاهي: أستاذ ألا ترى ان أبو اللوز يشبهك؟!.. شرارة صغيرة أشعلت الهشيم المتكدس في رأسي، أحسست بحسيس النار وهو يلفح اذني بزفيره: لو حلقت شاربك وأستبدلت ببدلتك الدشداشة وتخلصت من حذائك وربطة عنقك، فأقسم أن لاأحد يستطيع أن يميز بينكما.. أرقت تلك الليلة. طنت في رأسي أجنحة تلك الفكرة المجنونة: (ماذا لو أصبحت أنا الأنسان العاقل مجنونا مع سبق الأصرار، وليوم واحد.. يوم واحد فقط أزيح فيه كل ما ترسب في صدري من غبار الأيام، وأنفضه في سماء البلدة، يوم واحد، يكفي لكسر قيد الوقار الذي كبلني به الأهل والعشيرة والقانون، طيلة أعوام عمري المندثرة.. يوم واحد لا غير، أسخر فيه من البلدة وأهلها، كل أهلها، صغارها وكبارها. وهرعت في ذلك الليل المتخاصم مع القمر إلى الخربة التي ينام فيها (أبو اللوز)ألا أنني لم أجد هناك غير العتمة الجاثمة فوق الأزبال.. وخرجت يلاحقني صفير الصراصير المختبئة في ثقوب الحيطان، وعدت ثانية إلى التقلب على فراشي حتى بان الخيطان. فخرجت مرة أخرى للبحث عن (أبو اللوز).. ووجدته في كراج البلدة يقدم نمرته أمام الجنود والعمال اللاهثين وراء السيارات، فتقدمت منه وقبضت على ذراعه: (أبو اللوز.. تعال معي) جفل الرجل، ولأول مرة لمحت في عينيه نظرة لم أر مثلها منذ جاء إلى بلدتنا.. ثم تخلص من ذهوله وعادت لعينيه نظرتهما السابقة وصرخ: (لوز) فأجابته مجموعة من العمال: (شلونه)..قلت بهدوء ولكن بحزم: (أبو اللوز لا تخف.. تعال معي، سأعطيك الكثير من النقود) نظر إلى قبضتي المطوقة لمعصمه.. واصلت كلامي مضيفا" أنني سأمنحه علبة سجائر كاملة ودشداشة جديدة، وقدته مثل مروض الوحوش وهو يقتاد حيوانا" مفترسا"، فأنقاد ليدي وسار معي بخطوات هادئة مستمرا" في صمته.. أدخلته سيارتي العتيقة محاذرا" أن أستفزه، كنت كمن يحمل بضاعة من الزجاج الرقيق، ولم يسألني هو طوال الطريق عن ماهية العمل الذي أريده فيه وبدا لي يفكر بامر ما.. اوقفت سيارتي في ساحة قريبة، وفي الخربة سلمته علبة السجائر وبضع أوراق من النقود الزرق والخضر، ثم أخبرته بفكرتي الرعناء.. فسخر منها. لكني كنت مترعا" بها لا أفكر الا بما أنا مقدم عليه من تجربة فريدة. وبمقدار السخرية المتراكمة في داخلي لذا فقد أسرعت بخلع بدلتي وسلمتها له وأنا اؤكد عليه بعدم الخروج ثم تخلصت من ملابسي الداخلية وبعد أن أرتديت دشداشته أقفلت باب الخربة، وقذفت بنفسي إلى الزقاق بحركة مجنونة من الحركات التي أتقنها تماما".. وما أن خطوت بضع خطوات حتى سمعت صوتا يناديني: (أبو اللوز) كان طفلا" صغيرا" يتغوط امام باب دارهم وقد التصقت بضع ذبابات بالمخاط السائل من أنفه.. صرخت: (لوز) فصرخ الطفل: (شلونه) قلت لنفسي: (أول الغيث) عند أنتصاف النهار حسدت (أبو اللوز) على جمهوره وأنا أرى الحشد الهائل من الأولاد الذين تبعوني.. كنت أسير وأنا أردد مثل المبرمج: (لوز) والحشد يصرخ من ورائي: (شلونه) أتجهت إلى السوق وتوقفت أمام محل كبير التجار غمست قدمي في مجرى الماء الأسن، ثم بدات أرفس برجلي وأصرخ: (انا خلقناك من الطين.. من الطين) كانت شظايا الماء تتطاير من تحت قدمي فتلطخ زجاج واجهة المحل وملابس المتسوقين. اسرع واحد من عمال المحل وكتفني بذراعيه، فخرج كبير التجار وصرخ به: (أتركه، لاتؤذه، أبو اللوز وردة) قادني إلى داخل المحل: (ها أبو اللوز.. اليوم طابكات؟) أجلسني بقربه وطلب لي شايا"وهو يضحك مسرورا" بوجودي.. نظرت إلى صورة قدمي التي طبعها الوحل فوق (الكاشي) وتساءلت: (كيف جمع هذا الرجل ثروته الضخمة وهو بهذه البلادة العظيمة؟!) أنهيت الشاي بجرعة وعضضت الأستكان كما يفعل (ابو اللوز)، ثم خرجت ماضغا"الملعقة التي أحسستها تتكسر مثل حصاة تحت أسناني.. مررت بمطعم للكباب.. ووقفت أنظر إلى صاحبه، فسارع إلى أعطائي رغيفا" وثلاثة أسياخ من الكباب وهو يتملقني طالبا" مني الأنصراف وتركه على باب الله.. عدت إلى زقاقنا عصرا" وهو الوقت الذي تقتعد فيه النساء عتبات البيوت، رفعت دشداشتي إلى ما فوق السرة، وسرت متبخترا" صادما" أنظارهن بأدوات فحولتي.. واربت (العطرة) عاهرة البلدة عباءتها وصرخت ملء فيها: (عزا العزاك) وهي تفتح عينيها على سعتهما ناظرة إلى ما يتدلى بين ساقيّ!، ومدت (زكية) الشمطاء رقبتها فاتحة" فمها الخالي من الأسنان: (ولك أثتحي ثافل*) بينما صرخت مراهقات الزقاق: (يبوه) وهن يتقافزن من طريقي مثل صغار المها.. ما أن أنعطفت في زقاق آخر حتى كنت وجها" لوجه مع المختار فصرخت بوجهه: (لوز) وتعإلى الصراخ من خلفي: (شلونه) وبدأت بالرقص.. فأهتز كرش المختار، أهتز كثيرا" وأنا أشتمه وهو يضحك ولغده يتدلى مثل بجعة عجوز، وفجأة بتر ضحكته وصرخ بي: (كفى.. سأشكوك إلى المأمور) كنت قد وصلت إلى ذروة جنوني المصطنع أو الحقيقي فقد خيل لي أنني (أبو اللوز) حقا".. أمسكت بزيق الدشداشة وشققتها من الطول إلى الطول، وركضت باتجاه المركز ساحبا" خلفي كل أولاد البلدة وأنا أصرخ: (لوز) فيتعإلى هتاف المتظاهرين خلفي: (شلونه). وأزدادت ثقتي بنفسي حين لم يمنعني الشرطي الحارس من دخول المركز.. فاتجهت مباشرة إلى غرفة المأمور وقد وطنت نفسي على السخرية منه، ولكن ما أن تخطت قدماي عتبة الباب حتى سمرتني في مكاني صرخة أعرفها جيدا"، أنطلقت من داخل الغرفة فحولتني إلى تمثال للسخرية وأنا أقف بدشداشتي الممزقة وعريي الفاضح وقد أقتحمت رأسي قهقهة المأمور.. وبرغم أن فمي ظل مفتوحا" فقد عجز لساني الذي تخشب عن النطق وأنا لا أصدق عيني المسمرتين على (أبو اللوز) الذي بدا أكثر وقارا"مني وهو يرتدي بدلتي وربطة عنقي وحذائي.
-------------
أبقيت أسم (أبو اللوز) على حاله دون التأثر بالحالة الأعرابية
الحالوب: هو قطرات المطر المتجمدة
ولك اثتحي ثافل: المقصود بالعباره استح سافل


المتاحف العربية .. وثائق تاريخية وكنوز أثرية
 

المدى الثقافي

اصدرت شهرية (تراث) التي تصدر عن نادي تراث الإمارات، في عددها الأخير، عدداً خاصاً عن (المتاحف العربية، وثائق تاريخية.. وكنوز أثرية) تضمن مسحاً لأهم المتاحف في البلدان العربية، نشأتها وتطورها وتعدد وظائفها، وما يمكن أن تلعبه إلى جانب دورها التقليدي في حفظ وعرض وصيانة مقتنياتها، من أدوار تربوية أو اجتماعية أو اقتصادية.
في مستهل العدد وعن هذا الموضوع كتب رئيس تحرير المجلة عادل محمد الراشد أن (المتاحف هي نفائس الماضي.. وكنوز الحاضر.. ووثائق المستقبل، هي مدارس في شؤون الحياة العملية كافة، هي سيرة الآباء والأجداد مجسدة فيما تركوه لنا من مقتنيات).. ويضيف أن: (قيمة المتاحف تبرز من قيمة مقتنياتها.. وتعددها.. حتى أصبح من المعتاد في كثير من البلاد العربية وغيرها أن تكون هناك متاحف نوعية مثل: المتاحف الحربية، متاحف السلاح، المتاحف الزراعية، متاحف الفنون التشكيلية).
في (متاحف الإمارات، بوابة التاريخ والتراث) كتب محمد رجب السامرائي يقول: (تمثل المتاحف الموجودة في كل إمارة من إمارات دولة الإمارات العربية المتحدة أو الآثار المنتشرة في عمومها ذاكرة لا تنسى أو تشيخ مهما تقادمت الأيام والسنون، كما تعد نافذة مشرعة الأبواب على التراث والتاريخ) ثم يتطرق الى متاحف الإمارات والمتمثلة بمتاحف العاصمة أبو ظبي وتضم متحف القرية التراثية لنادي تراث الإمارات ومتحف أم القيوين الوطني، ومتحف الفجيرة، ومتحف رأس الخيمة الوطني.
وهناك موضوع عن المتاحف السعودية ومنها المتحف الوطني السعودي الذي يضم العديد من القاعات، ومتحف الآثار والتراث الشعبي، ومتحف المصك التاريخي ومتحف كلية الملك فهد الأمنية.. وموضوع من متاحف الكويت (ذاكرة الوطن في دفتر الأجيال) حيث المتاحف ذات الاهتمامات المتنوعة التراثية والتاريخية، والفنية وغيرها.
وكذلك موضوعات عن متاحف البحرين وعمان وقطر ومتحف بيروت وسوريا ويفرد العدد ملحقاً خاصاً عن متاحف العراق (ذاكرة تستعصي على الرحيل) ويشير الى إنها لا تزال تحمل ذلك التاريخ العريق وتستعصي على الرحيل.. ويكفي أن نذكر تلك المحنة التي تعرض لها العراق بعد سقوط الدكتاتورية في 9/4 والتي نتج عنها تدمير ونهب وإحراق 17 ألف أثر من أوابد الحضارات العراقية المتتالية، والتي كان القصد منها محو الذاكرة الثقافية والحضارية للعراقيين. وعرض الموضوع نماذج مختارة من المتاحف العراقية منها المتحف العراقي الذي أسس عام 1923 ومتحف الطفل، والمتحف البغدادي، ومتحف الآثار العربية ومتحف الأزياء والموروثات ومتحف التاريخ الطبيعي، والمتحف الوطني للفن الحديث والمتحف الحربي، ومتحف سامراء وكركوك والموصل وأربيل والناصرية وغيرها.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة