تحقيقات

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

صور الإعمار في قضاء الهندية .. بقَّال يحصل على مقاولة مشروع بناء ومهندس يتفرج!
 

  • رئيس المجلس البلدي: المقاولون همهم الوحيد الاستغلال المادي ولدينا قضايا قضائية ضد بعضهم وأغلب اعمالهم تتسم بسوء التنفيذ

كربلاء / المدى
مدينة الهندية اسمها الرسمي..وطويريج هو الاسم الأكثر تداولا بين الناس وتوحد الاسمان معا ليكونا قضاء يديره قائممقام كسلطة تنفيذية ومجلس بلدي كسلطة تشريعية من اجل تقديم الخدمات إلى المواطنين كانت الأعمال على قدر المتوفر دون الركون إلى حالة الانتظار..الهندية أو طويريج لا تبعد عن مركز المحافظة إلا مسافة ربع ساعة يقضيها المسافر بين الأشجار والحقول والأنهر الصغيرة وواحات النخيل.
 

يسكنها اكثر من 80 ألف مواطن ومساحتها لا تزيد على 8كم إلا بأربعمائة متر وهو تصميمها الأساس ضمن حدودها الإدارية..يقول أحد المواطنين..أن هذا العدد من السكان غير صحيح فالهجرة شملت هذا القضاء لأسباب عديدة منها قربها من المدينة المقدسة وهذا يشمل الوافدين إليها من محافظات أخرى..وكذلك الهجرة من الريف إلى المدينة.,وسبب ثالث يعزوه هذا المواطن الذي يحمل كتابا عن طويريج هو إن هذه المدينة فيها الأسعار مناسبة قياسا إلى مدينة كربلاء..فيلجأ الباحث عن المدينة والباحث عن أماكن قريبة من الضريحين المقدسين إلي السكن بين ربوعها..ويضيف..إن المدينة ومنذ سنوات تعاني رداءة الخدمات المقدمة إليها إضافة إلى قلة الكادر الخدمي..وقلة الآليات مما جعل واقع تقديم الخدمات أمرا صعبا أو انه غير منظور قياسا إلى احتياجات مثل هذا القضاء، الذي فيه معبر واحد لنهرها الرئيس الفرات ليكون اسمه جسر طويريج الذي أنشئ في زمن الاحتلال البريطاني ولها شارع واحد اختنق هو الآخر فأصبحت شوارعها الفرعية وكأنها يتيمة لان لا منفذ يفضي إلى الفضاء.هذه المدينة التي أرادت أن تتنفس الصعداء بعد سقوط النظام وجدت نفسها وكأنها تحمل صورة واحدة وهي قلة المشاريع أو إن ما نفذ من مشاريع بين أحضانها لم تكف لتدفئتها من برد الإهمال.
المدى حملت أسئلة المواطنين وتوجهت إلى السيدين حسين الموسوي قائممقام القضاء والحاج فاضل فليح رئيس المجلس ليجيبا عليها.
ما الذي قُدم لهذه المدينة؟
يتساءل المواطنون عما قدمه المسؤولون في القضاء بعد سقوط النظام..ويضيفون إنهم تصوروا أن حركة الاعمار ستكون كبيرة ولافتة للنظر خاصة أنهم يعتبرون مدينتهم إضافة إلى كونها زراعية فإنها مدينة يلتقي عندها التاريخ وهي أقدم المدن الصغيرة في حوض الفرات الأوسط وان الإهمال الذي أصابها في زمن النظام السابق جراء نضال أبنائها المعروف في سبيل التخلص من الطاغية قد يجعل لها خطوة لدى الحكومة العراقية الجديدة ويجعل من هذه الميزة مبررة لاستنهاض المسؤولين همتهم ليغيروا وضع المدينة المزري كما يقولون.
يقول الحاج فاضل..إن القضاء يعد الرابط الرئيسي والأساس لمحافظات الوسط والجنوب إلى كربلاء والبوابة الرئيسية لكل الزوار الذين يأتون لزيارة العتبات المقدسة في كربلاء وخاصة في الزيارات المليونية ولكن لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا إن القضاء محروم وعانى الكثير في زمن النظام البائد. لذلك حين تسلمنا المسؤولية في المجلس البلدي وجدنا التركة ثقيلة لهذا لا يمكن لي أن أقول إننا قدمنا الكثير ولكن كنا نأمل أن نرتفع به إلى شان أعلى ولكن لقلة المشاريع المقدمة إلى القضاء كان لها دور رئيسي في قلة الخدمات
ومن ضمن ما كنا نأمل في إنجازه هو إنشاء جسر ثان أو ثالث وعملنا لمدة ثلاث سنوات من اجل الحصول على تخصيصات لتنفيذ المشروع إلا إننا نصطدم بعراقيل ولكن مع ذلك كانت لدينا مشاريع في مختلف القطاعات منها إنشاء مراكز صحية جديدة وكثير من الشوارع تم تبليطها في القضاء وشبكات كثيرة من الماء والمجاري
الجسر الوحيد
لجسر الهندية حكاية لها طعم التاريخ فهو الجسر الوحيد الذي يوصل المدن الأخرى بمدينة كربلاء وكان الوحيد الذي أصبح يئن من قِدمه بعد إن شيده الانكليز في أواسط عام 1955والذي افتتحه رئيس الوزراء نوري السعيد..ويشتكي المواطنون من شدة الازدحام الذي يحصل في وسط مدينتهم جراء كثرة عدد السيارات مثلما يشتكون من الوعود الكثيرة التي قطعها المسؤولون الجدد في إنشاء جسر جديد لهم..ويضيف المواطنون أنهم خرجوا لأكثر من مرة في تظاهرة من اجل إيصال صوتهم ومطاليبهم بضرورة البدء بتنفيذ مشروع الجسر الجديد الذي طال انتظاره.
يقول الموسوي..نعم من حق المواطنين أن يتظاهروا وان يسمعون صوتهم فقد بلغ السيل الزبى كما يقال حتى إننا وأمام شدة الازدحام الكبير وقدم الجسر قمنا بتنظيم السير في القاطع الوسطي وهذا حل مؤقت لان الاختناق كبير وعلينا أن نعمل من اجل فك مثل هذه الاختناقات ولان الحل يكمن في إنشاء الجسر ولكن كل شيء متعلق بالتخصيصات وإذا ما عرفنا إن منحة الأقاليم الجديدة التي رفعت إلى مجلس المحافظة كان تخصيصات الهندية منها 10% من القيمة الكلية..علما إن هناك منظمات إنسانية ساهمة مثل
CHF)) بتبليط سوق الهندية وشارع السماجة وكذلك مدارس كثيرة من ترميم واعادة بناء . ودور تلك المنظمة كان كبيرا وفاعلا اكثر من باقي المنظمات الأخرى علما إن هناك مشاريع كثيرة في ناحية الهندية ولكن لا نستطيع أن نقول إنها ظاهرة للعيان لأنه تحت الأرض مثل شبكة المجاري وهناك أحياء كاملة تم فيها إكمال شبكة المجاري وبدا عملنا يتطور.
ويضيف الموسوي..أنا أتحدث كقائممقام وكذلك كعضو مجلس في القضاء منذ بداية تشكيله ,إن موضوعة الجسر لها عناية خاصة وكانت مفاوضاتنا مع قوات الاحتلال ومع ممثل (
CPA ) كربلاء أقيمت في الهندية وحتى دعونا إلى اجتماع مشترك مع الأحزاب الوطنية والتيارات الإسلامية وغيرها في سبيل الضغط على ممثل ( CPA) لأجل مشروع جسر الهندية واعتذر وقال هذه المشاريع ستراتيجية وليس لدينا علاقة بتنفيذها وليس لدينا هكذا أموال نخصصها للجسر واوعدونا بجسر مؤقت هناك حجج كثيرة والمصداقية لم تكن موجودة على مستوى الوزارات حتى إننا نرسل مخاطبات إلى الجمعية الوطنية مع العلم ليس لدينا صلاحية بمخاطبتهم وكذلك إلى مجلس الوزراء اي بالعلاقات الشخصية مع بعض الوزراء الموجودين وبزيارة الدكتور الجعفري عندما كان نائب رئيس الجمهورية طرحنا عليه قضية جسر الهندية حينما قدم إلى كربلاء وحينما زار المحافظة بصفة رئيس الوزراء طرحنا عليه هذا الموضوع وفيما يتعلق فينا نحن هيأنا مكان الجسر وهيأنا الطرق والمقترحات الجديدة للجسر وأنجزنا كافة الموافقات الأصولية والقانونية حتى ضغطنا على الوزارة وحصلنا على كشف مسعر كامل من الوزارة ولكن عدم المصداقية للجهات الممولة للمبالغ هو الذي أخر جسر الهندية بالعكس نحن في صراع مستمر منذ ثلاث سنوات وحتى هذه اللحظة وخصص المبلغ العام من قبل تسريع الاعمار في مجلس الوزراء والعجز الذي كان موجود في الميزانية أخر هذا الموضوع..ثم حول مجلس الوزراء عن طريق وزارة المالية مبالغ تسريع الاعمار إلى مجلس المحافظة والبالغة قيمتها 50 مليار دينار في حين إن المبلغ المطلوب 83 مليار دينار..إن التأخير هذا جعل من أهالي الهندية يعتصمون لساعات
النصيب من المشاريع
يقول المواطنون إن مدينتهم ما زالت مهملة مما يعني إن القضاء لم يأخذ نصيبه من المشاريع التي يستحقها نتيجة الإهمال الذي أصابها منذ زمن النظام السابق؟
يجيب الحاج فاضل..علينا أن نتحدث بصراحة..إن الإهمال الذي يتحدث عنه المواطنون هو حقيقة ثابتة وبالتالي فان المشاريع التي نفذت في كربلاء ومهما كان عددها أو نوعها لا تلبي أحلام وطموحات أبناء القضاء مثلما لا تلبي تطلعاتنا في تقديم أفضل الخدمات لأبنائه..ويضيف إن ما حصل عليه القضاء من تخصيصات لا تتجاوز نسبته اكثر من 10% لان القضاء محروم منذ عشرات السنين.ويشير إلى إن زيارة واحدة إلى احد أحياء القضاء المهمة سنرى إن شوارع هذا الحي تتحول إلى بحيرات إذا ما تساقط المطر..وإذا ما أخذنا شارع المحيط في هذا الحي فانه لا يحتوي على مجاري وشبكته قديمة وتجاوز المواطنين على تلك الشبكات المخصصة لمياه الأمطار بربط شبكة المياه الثقيلة وهي قديمة وحتى المناسيب فيها مختلفة لذلك إذا ما تساقط المطر فان المجاري ستطفح لذلك نحن نطمح إلى مشروع تنفيذ شبكة مجار ستراتيجية رئيسية في القضاء وليست لمياه الأمطار فقط .لذلك أقول إن من حق المواطنين أن يتجاوزوا على شبكة مخصصة لمياه الأمطار أنهم في مناطق وأزقة لا تستطيع آليات البلدية أو الآليات التخصصية أن تسحب المياه الثقيلة ، ونحن نقول إن ما حصل هو دون الطموح وان هناك مقاولين عراقيين همهم الأول الاستغلال المادي علما إن اغلبهم لا يريدون التعامل مع الهندية لأننا نتعامل معهم بشدة ووفق ما جاء في التندر وبما يرضي الله تعالى وما زلنا في صراع مع البعض منهم ولدينا قضايا قضائية على البعض من خلال مشروع مياه الأمطار في حي الشهداء منها شركة أرض الخضراء لديها تجاوزات وحتى الآن لديها أعمال غير منفذة وأموال محجوزة وكذلك سوء التنفيذ للشركة وهذا ينعكس على المواطن والمنطقة واغلب المقاولين لا يمتلكون (
C.V ) ولا يمتلكون اعمالاً مماثلة بهذا المجال وهناك عقود مبطنة يبيع المقاول الرئيسي إلى المقاولين الثانويين .
الاشراف فقط
إذن كيف أحيلت مثل هذه المشاريع على مثل هكذا مقاولين وهل كان هناك تعاون من قبل مجلس المحافظة ولجنة الأعمار ؟ثم هل كانت قيمة المناقصات للمشاريع مطابقة لحقيقة المشروع الذي تم تنفيذه أم إن المبالغ اكبر بكثير من الحقيقة ؟
يجيب الحاج فاضل..إن المقاولات ليس لها علاقة بمجلس قضاء الهندية بل تأتينا كاملة من المقاول الذي ترسو عليه المناقصة لتنفيذ مشروع ما في المنطقة الفلانية من مجلس المحافظة.اما نحن فنقوم بعملية الإشراف فقط وقد رفعنا السلبيات من خلال لجنة الاعمار الموجودة في المجلس البلدي ومن خلال لجان القائممقامية والدوائر المختصة إلى مجلس المحافظة الذي يأخذ بدوره ما نطرحه من سلبيات لكن لا نرى تغييرا على المدى القريب بل هو مجرد كلام وكتب وتحول في بعض الأحيان إلى جهات قضائية ونبلغ من قبل المجلس بأنهم جهة إشراف اكثر منا وأنا أقول إن هويات المقاولين أكثرها مزورة من سوق مريدي بـ(10) آلاف دينار وأنا متأكد إن اكثر المقاولين ليس لديهم علم بالقياسات لان أكثرهم من هو بقال ومن هو نجار وقد تكون اتفاقات وتداخلات داخل المحافظة فهناك شخص يتسلم اكثر من مشروع وآخرون مهندسون لا يحصلون على أي مشروع ولكن هناك أشخاص لديهم منزلة عند البعض من الذين في المحافظة قد يحصلون على اكثر من مشروع. ويجيب الحاج فاضل..حقيقة الأسعار أنا لا اطلع عليها وأنا لا اطلب من المقاول سوى انه يؤدي عمله بحذافيره لذلك نرى بعض المقاولين يرفضون أي مقاولة في الهندية لأننا لا نسمح بالاعوجاج ونريد شيئا صحيحا وأنا كرئيس مجلس ومن خلال اللجان التي امتلكها ومن خلال السيد حسن قائممقام الهندية نسير على فقرات التندر واحدة ويبدأ المقاول يتلوى ويحاول إن يخترق هذه الفقرة عن طريق تأثيرات من كر بلاء ومن مجلس المحافظة نحن طبعا لا ننصاع لهذه الأوامر لان أهم شيء هو مخافة الله في كل عمل ونريده مشروعاً صحيحاً بحيث يخدم الناس ولا يتحول إلى نقمة يعقب السيد الموسوي..هل إن الأسعار الموجودة بالكشوفات هي مطابقة للواقع أنا أقول لك حتى نكون دقيقين نعم كان هناك كلام كثير حول المبالغ من انها تتجاوز القيمة الحقيقية باتفاقات خاصة لكن الآن بدأت هذه الظاهرة تنتهي وان ما ألاحظه انه الدائرة المختصة هي التي تعد التندر ويذهب إلى الشعبة الفنية ثم إلى المديرية التي تتبع لها هذه الدائرة.
اين تذهب الاموال؟
تعاني بعض مناطق القضاء وخاصة الريفية من كونها تحولت إلى مناطق لطمر النفايات مثل منطقة بليبيج..ويقول المواطنون إن حملات التنظيف لا تعطي صورة لمدينة تستقبل مواطني المحافظات الأخرى على إن تنظيفا يجري في شوارعها وأحيائها..
ويتساءلون أيضا متى تنتهي معاناة المناطق التي تحولت اراضيها الزراعية إلى أماكن للطمر ومتى يرون شوارعهم نظيفة؟.بل ان بعض المواطنين يقول إن البلدية والجهات الرسمية لها إيرادات مالية كبيرة تدخل إلى المحافظة وتستقطع الرسوم من المواطنين من مثل رسوم سيارات الحمل الكبيرة..فاين تذهب هذه الاموال؟يجيب الحاج فاضل..إن مشكلة النفايات لدينا موجودة في القضاء وقضاء الهندية يحتوي على 16 عامل تنظيف اغلبهم تجاوز السن القانونية للخدمة والمبالغ المخصصة لذلك قليلة على سبيل المثال ميزانية البلدية هي مبلغ تافه جدا إذ لا نستطيع تشغيل عمال بالعدد الكافي ان الروتين الصدامي لا يزال موجودا في الوزارة ودائرة البلديات اكثر الوزارات معنية بهذا الموضوع وإننا لا نمتلك فائض إيرادات اكثر من 250 مليون دينــار موجود ولكن لا نستطيع أن نأخذ هذه الأموال ونصرفها على باب التنظيفات إلا بمصادقة وزارتي البلديات والمالية والكل يعرف ماذا تعني مصادقة المالية في حين إن هذه الأموال تعود نهاية السنة إلى وزارة المالية وأبناء القضاء الذين يدفعون ضرائب يفترض أن تحسن من واقع القضاء تذهب أموالهم إلى خزينة الدولة وتقسم هناك حتى على الأقاليم ونحن لا نمتلك في القضاء أي رسوم لا المجلس ولا القائممقامية أو أي دائرة أخرى ليس لها الحق أن تتقاضى الرسوم . أما السيـــد الموسوي فيقول..نحن نظرنا إلى هذا المكان باعتباره مدخلاً إلى ناحية الهندية وقريباً على المناطق السكنية في مدينة الهندية . لذلك حصل التحرك من قبل المجلس ومن قبلنا وبلدية الهندية على اختيار مكان آخر للطمر الصحي وقمنا بعدة مخاطبات مع مديرية البيئة مع مديرية زراعة كربلاء وتم تخصيص دونم في المنطقة المحايدة ما بين الجدول الغربي والخيرات في هذا المكان بالضبط.. ويعقب الحاج فاضل ..إن الموقع البديل فيه مشاكل مع مديرية زراعة كربلاء وهناك مخاطبات مع البيئة والمجلس والبلدية ومديرية زراعة كربلاء. حتـــى إن هــذا المكان لم توافق عليه البيئة مع انه يبعد مسافة تقارب 4 كم عن اقرب وحدة سكنية فالبيئة تملك مواصفات خاصة علما إن قضاء الهندية عبارة عن بساتين ومركز المدينة ليس بها منطقة صحراوية إلا باتجــاه الجدول الغربي ويحتاج إلى موافقات خاصة.


الورقة الثانية عشرة: الضيـــاع في حفـر البـــاطن
 

عبد الكريم العبيدي
نحن البشر القدماء. المرتهنين الطلقاء. الناجين من الطوفان. والغرق في قطرة ماء. ما زلنا نبحث عن انفسنا. نتحاور بالخوف المسفوح. ونقيس الظل على اوجهنا، حين يكون الظل هو الماء
***
دوي في الصباح. دوي في المساءات. دوي يخترق العاصفة. يغزو سمعنا، ويكون هو المأوى حسياً، تصدر الدوي كل شيء. وباتت له ترجيعات واقعية بين الجدران وعلى اوجهنا وفي دواخلنا ايضاً. الصحراء تراجعت كثيراً. ولكنها احتفظت بشكلها الرملي الاخرس كوجود مرئي قديم. لا شك ان حواسنا تغيرت هي الاخرى. منها ما صدأ، ومنها ما وصل الى ارذل العمر وباتت تخدعنا وتجّنس الاشياء بآلية معطوبة هي موجودة لذاتها تشتري الاشياء من دونما ثمن وتبيعها من دونما ثمن ايضاً. لقد كسرت بضاعتها.
نحن. ولكن نحن من!؟. لم نعد مخلوقات مألوفة تبخرت ادميتنا تلاشت كل تلك الأَنسنه التي علقت بنا طوال الحروب الماضية. نحن صناديق مستهلكة. فجوات قديمة. أثر منسوب لدمى رخيصة دفنت في الرمل. اشكالنا بدأت تأخذ منحى تراجعياً ظلامياً. يصنعها الخوف والبرد والدوي والعواصف. هذا التحوير اللانهائي صنعنا من مادة الهلاك. غير ملامحنا، استبدل كل جزء فينا. ذواتنا الجديدة- المحوّرة- هي ثقوب محروقة الحواف ومهيأة للاحتراق. هي اميبيا صحراوية يصفعها الدوي فتنكمش ثم تواصل موتها..اننا لا نسمع دوياً. اننا نسمع انين كل الموتى شهقات كل القتلى. صفير الريح حين تخترق كل الجماجم. الدوي في الصباح يرجم جثثنا. في المساء يطحنها ثم يعصرها في اخر الليل ويلصقها بجدران الحفر الضيقة. دوي في السماء. دوي في الرمال. دوي في العاصفة. ودوي من دواخلنا.
الآن بات بمقدورنا ان نحصي ذلك الدوي وان ننسبه الى اكثر من "116" الف غارة جوية الى "108043" طلعة والى "85" الف طن من القنابل والى آلاف الصواريخ العابرة ومئات الالاف من الانفجارات المدوية.. كنا نتنفس ذلك الدوي نشمه ونلتهمه. وكان هو عالمنا الجديد المأهول والمنفصل عن الكون في البدء، كان يشبه صرخة ولادة موت. الموت حين يزأر أو يتثاءب أو يعوي. ثم تحول الى صراخ لانهائي. اليوم نحسبه عاهة قديمة في اسماع صدئة. لقد كان ثوبنا غير المرئي جلدنا القديم شكلنا الذي ضاع من كان يدري ان هدوء الغابة في تلك الصحراء القاسية يتصدر اغلى مفقوداتنا داخل ذلك الضياع!؟ داخل ذلك الدوي الذي كنسنا جمعياُ.. كنا نتحول اذن، ولكن باي اسى؟.. اننا افضل وصفة للألم.. اكثر التجارب الكارثية نجاحاً. اننا حكمة لم تخرج من فم مجنون، ولا يسمعها الجهلاء. أيُّ ضحية كنا؟ في الصباحات، في المساءات الموحشة يتحالف ضدنا الدوي مع البرد والعواصف والضياع. البرد في صحراء حفر الباطن
عاصمة الربيع- يتألف من ملايين الأُبر غير المرئية. أبر حادة مدببة مجهرية عنيدة وقاسية، استسلمت لها خرقنا البالية بسهولة. كنا عراة وسط تلك الهجمة المميتة. تفتك بنا ابر ثلجية وملعونة.. احدنا حدق في احد الملاجئ التي تركها اصحابها وهرموا أو سلموا انفسهم للقوات الاميركية. نهض فجأة وازال صفائح "الجينكو" من سقف الملجأ. ثم بدأ ينفض الرمل من الاكياس المصفوفة حوله. وما ان فرغ من ذلك العمل الغريب حتى شرع بعمل ما هو اغرب منه. فتقف عدة اكياس واحدث فيها فتحات من الجانبين والوسط ثم خاطبها بخيوط من ذات الاكياس، عقدها بقوة في اكثر من جانب وصنع لنفسه عباءة صحراوية بدائية واسعة وحين ارتداها ولف بها جسده تحول الى خلوق مخيف، كتلة من تراب متحركة ولكنها ذاقت رائحة الدفء.. الجنود الآخرون سعوا مثله هجموا على سقوف الملاجئ المتروكة. الملاجئ التي حفروها قبل شهور لتؤويهم.. لم يعد لها من معنى. انها تذكرهم بالهروب والاستسلام تذكرهم بنهايات رفاقهم. بقرارات موت صحراوي متعدد. وحالات تمضي الى مستقر لها في ذلك الضياع المفتوح واللانهائي.
هبوا جمعيهم، بعثروا سقوف الملاجئ. نفضوا الرمل من الاكياس، فتقوا الاكياس واخاطوها بطرق مختلفة ومبدعة احياناً. وصنعوا لموتهم عباءات واسعة من قشور قبورهم. وحين ارتدوا ثيابهم الصحراوية الجديدة تحولوا الى دمى كارتونية بشعة. كل افراد فوجنا تحولوا خلال ايام الى ابطال فلم كارتوني اسمه الضياع في حفر الباطن، فيما تحولت ملاجئهم الى حفر فاغرة الافواه بوجه المقاتلات الحربية لقد بات منظر الفوج مرعباً حقاً كتل من الاكياس منفوخة تملأ الملاجئ التي سلمت من هجومهم أو تتحرك ببطء في الخنادق الرطبة.. لم يعد احد يعرف الآخر. كلنا ضعنا وسط انفسنا، وداخل ضياع تنكري طارئ.. وباتت وسيلتنا الوحيدة للتعرف فيما بيننا هي حشرجات اصواتنا الذاوية في تلك الرمال. حتى الاشتر بصوته المميز صدت اجد صعوبة في التعرف عليه. ولكنني ما زلت اذكر وصفه لافراد السرية بعباءاتهم الصحراوية، قال انهم صاروا قصب في هور "طركاعة السودة".. ولكن ترى كيف قرأ الطيارون في طلعاتهم الاستطلاعية ذلك التحول المدهش؟ ماذا قالوا عن تلك الكتل المتحركة وعن تحول الملاجئ الى حفر مبعثرة وفارغة؟ انا ما زالت لا اعرف كيف فسر سوارتشكوف ذلك المشهد. ولا ادري كيف برر جنرالات البنتاجون ملامح الصور الجديدة التي كانت تبعثها لهم الاقمار الصناعية عن حفر الباطن. هل جُن الجند هناك؟ ام انهم يظنون ان الحرب قد انتهت!؟.. ولكن اثارة المشهد ازدادت بعد ذلك. لم تعد قاصرة على كتل متحركة وحفر مفتوحة الافواه. فالعواصف الرملية الشديدة دفعت بصفائح الجينكو الى الطيران عالياً. اهتزت الصفائح وانقلبت، ثم حلقت في الفضاء وراحت تصغر وتصغر وتتلاشى عن الانظار. وحتما كان الطيارون يرونها ويبتسمون لهذه القذائف البله والبدائية.. كانت رسائل من ضياعنا الى ضياعات لم تكتشف بعد رسائل كتبها البرد وتعهدت الريح بارسالها الى ما هو ابعد من الضياع.
كنت احدق في تلك الطيور الصحراوية، واتمنى لو كنت احداها.. هكذا اطير من ضياعي فجأة!؟ احلق مع الصفائح الطائرة، امسك بواحدة منها. ثم اجلس عليها ونطير بعيداً، وليضحك الطيارون.. ليقولوا هذا سندباد الصحراء يطير على بساط الريح فوق صحراء حفر الباطن.. ليسخر مني سوارتشكوف وهو جالس في مكتبه الانيق.. وليمدد جنرالات البنتاجون من وقتهم لدراسة هذه الظاهرة.. انا سندباد الضياع، اطير على بساط الريح فأطلقوا علي ما شئتم من صواريخ باتريوت وتوماهوك وكروز. ودعوني أسقط فوق رمال الزبير. او في مياه شط العرب أو في ازقة سوق المغايز. دعوني اموت هناك، عند احبابي اشم هواء البصرة ورائحة نخلها ثم اموت هناك.
ولكن ذلك السرحان لم يكن ذا جدوى فكل شيء كان يمضي الى الهاوية. وكانت عيون الجنود من داخل عباءاتهم الصحراوية ترسل اشارات الموت من بقايا بريقها الخافت. بينما ظلت الاخبار المرفقة بمئات الشائعات تدوي بين مسامعهم.. قال بعضهم ان اكثر من عشرين صاروخاً من نوع سكود سقط على الرياض والظهران. وقال آخر: سيستخدم صدام السلاح الكيمياوي وعقب آخر: ستكون حرب ابادة..
كنا نقبع في الحفر ونتابع اسراب المقاتلات التي كانت تتمرن فوق رؤوسنا. اسراب ذاهبة واخرى عائدة طائرات تستطلع واخرى تقتنص الدبابات والمدافع والرباعيات.. وكان كل ما حولنا يزداد تدميرا.. وفي الليل تجتاحنا المخاوف، تمزقنا، فلنلتصق بعضنا ببعض ونعيش في صمت جماعي اثقل من صمت مقبرة.. ولكنني كثيراً ما تسللت بخفة وعدت الى حفرتي الرطبة وفئراني المذعورة والحصيات التي جمعتها كنت اشعر ان اقترابي من تلك المخلوقات الهائجة هو اسوأ من الضياع ذاته. كل شيء يرعبني هناك. أشكالهم، صمتهم، احاديثهم. كانوا موتى مثلي، ولكنهم كانوا يصنعون الموت ايضاً. يوقظونه ان كان نائماً، يغضبونه ان كان هادئا. كانوا لا يستطيعون ان يعيشوا بلا موت!. وكانوا يعتقدون ان لا احد سيسلم من تلك المحرقة. واذا ما قدّر لاحدهم ان ينجو فسيغدو مزاراً.. ولكن من هو ذلك المزار؟. انهم يطالعون بعضهم بعضاً، يريد احدهم أن يكتشفه وآخر ان يحدق في وجهة وآخر ان يستعرض اسباب نجاته. لماذا يبقى ذلك الواحد حيا!؟.
لماذا ينفصل عن جثتهم الجماعية؟ كيف قدّر له ان يتسرب عن موت واحد وعن ميتة واحدة؟
لا.. لا يمكن ان نترك ذلك المزار ليدلل على هلاكنا الموحد. لنمت من دونما اثر.
ولكنني اكتشفت ذلك المزار فيما بعد. رأيته وعقدت معه صحبة طارئة. وادركت من اول لحظة ان ذلك المخلوق سينجو من الموت، لانه ببساطة لا يمكن ان يموت!.
في تلك الليلة، ليلة القنبلة- هكذا اتفقنا على تسميتها فيما بعد، زارني هو
المزار بنفسه- وحاورني كثيراً وبكى ولكنه كان عازماً ومصراً على النجاة. مقتنعاً تماماً انه سيفلت من هذه المحرقة. وسيعود الى احضان حبيبته "ندى"، ولكن كيف؟.. محمد، محمد طاهر- وهذا هو اسمه، رمى بنفسه في الحفرة التي كنت اجلس فيها. ارعبني، بل اماتني لثوان قبل ان اجد صعوبة في الرد عليه. كان صدى دوي القنبلة التي انفجرت ليس بعيداً. دوي مزق سمعي.. اهتزت الأرض وتناثرت الشظايا من حولي. وعندما سقط محمد على رأسي، ظننته شظية ضخمة.. ارتعدت، واسرتني اهوال الصدمة ثم ادركت فيما بعد انني ما زالت حيا.. حدث ذلك بعد منتصف الليل. محمد كان عائداً من مقر الفوج. كان يدندن باغنية ما. غير آبه كعادته ولكن حين وقع الانفجار رمى بنفسه في اقرب حفرة. ولسوء الحظ، كانت حفرتي.. انا، من جانبي صمت ، تسرب غضبي، ولربما لم احصل على حفنة منه. رعب الانفجار ونجاتي منه وسقوط محمد في آن واحد استنفد كل ردودي.. محمد هو الآخر كان محطماً.. فززه الانفجار. سخر من دندنته. وعندما اصطدم بي كان بحجة الى اكثر من دقيقة كي يعي وجودي ويتأكد ان تلك الحفرة لم تكن فارغة.. هكذا بدأت قصة صحبتنا في تلك الليلة الباردة، ليلة القنبلة.
كان نحيفاً جداً، طويل القامة. وكان هادئاً تسيل الكلمات على شفتيه مهموسة ومخنوقة. ولذلك سلب مني الدوي الكثير من احاديثه.
لم يكن ذلك الزائر الليلي منتمياً الى اي شيء اطلاقاً. وعدا "ندى" حبيبته وقصة حبه لها، تستطيع ان تقول انه مجرد لا شيء. لم يكن يأبه لما كان يدور من حوله من اهوال. بل اكاد اجزم انه لن يحزن لو احترق العالم. انه باختصار عشيق ندى لا غير.
في البدء حدثني عن قصة القاء القبض عليه يوم وشى به غريمه الى افراد الجيش الشعبي. كان يعيش اجمل لحظات العشق مع ندى في المتنزه. وفي آخر قبلة حارة اكتشف انه محاط بعدد منهم. انهالوا عليه ضرباً واهانوا حبيبته، ثم ساقوهما الى المقر.. وفي الغروب اطلقوا سراح ندى بينما ظل هو يتنقل من مقر الى آخر. ومن سجن الى آخر. وبعد ايام وجد نفسه في حفر الباطن.
فكر بالهروب, بل هرب فعلاً. ولكنه أُعيد مخفوراً بعدما القي القبض عليه في منتصف الطريق.
في محاولته الثانية فشل ايضاً شارف اطراف مدينة الزبير. ولكنه اعيد الى الصحراء من قبل افراد الانضباط العسكري الذين اكتشفوا ان ورقة اجازته مزوّرة. في المرة الثالثة قصفت احدى المقاتلات المغيرة كدسا للعتاد أو احدى وحدات الأمداد. ولسوء حظه كانت عربة الارزاق التي تقله قريبة منه. انقذنا باعجوبة. ولكن الفوضى التي حصلت دفعت بافراد الانضباط العسكري الى اقامة سيطرة مؤقتة واعادت العربات التي كانت متوجهة الى الدريهمية.ولكنه ظل مصراً على الهروب. ويخطط بتحفظ على تنفيذه. وكان يزورني بعد منتصف الليل ليروي لي ما توصل اليه ثم يشرع بوصف حبيبته وقصة حبه ومغامراته. لم أر وجهه إلا على ضوء اعواد الثقاب عندما كنا نتناطح لاشعال سيكارة. كان يشبه كرة حمراء صغيرة جلده ناعم املس وانفه معقوف وشفتاه بارزتان. وكان يدخن سكائر من نوع
ديموريه، بينما كنت ادخن امامه سكائر لف.
وفي آخر ليلة زارني بها، شعرت انه كان قلقا وشارد الذهن. اعطاني عدداًمن علب السكائر التي كان يدخنها اضافة الى كيس من التبغ. ورغم انني كنت على يقين ان هروبه سيتم في تلك الليلة. إلا انه لم يكتم السر، قال لي بهدوء: ساهرب الليلة. وبعدها لم اره فعلاً. ولكنني ظللت وما زلت اتذكر طعم سكائره التي اهداها لي، وما زلت مدينا له.
ولكن هل تمكن من الهرب في تلك المرة؟ هل قتل في اثنائها؟ لا ادري.
الواقع ان الكثير من الذين هربوا لا نعرف مصيرهم. بعضهم انفجر عليه لغم في اثناء عبوره لحقل الالغام. اخرون قتلوا في الطريق من جراء القصف الجوي. وربما نجح البعض على ما يبدو. لقد كانت موجات الهروب كبيرة جداً سواء الى عوائلهم أم الى معسكرات الأسر في السعودية. ولم يكن الخوف من القاء القبض عليهم مانعاً. كانت الخشية من القصف الجوي والموت في عرض الصحراء هو ما يقلقهم. وعندما اتذكر وجوه الجنود الذين هربوا الآن اصاب بالدهشة. كانت وجوههم متربة، مرعوبة. وعيونهم قلقة. وكانت رائحة الموت المنبعثة من نفوسهم اشد من رائحة اجسادهم النتنة. كان يشعرون انهم وقود محروقة كبرى وان خيط نجاتهم الواهن هو الهروب لا غير.
فكرت كثيراً بمصير محمد، خصوصاً حين اتذكره مع كل سيكارة من سكائره الفاخرة. كنت ادخن سراً خشية ان يراني احدهم فيطلب مني نفساً قصيراً واضطر الى تلبية استجدائه.. طبعاً لم افكر قطعاً ان يطلب مني احد الجنود سيكارة، فلا اعتقد ان احداً كا يجرؤ على ذلك أو كان يعتقد ان جندياً واحداً ما زال في جعبته كل تلك الحصة التي وهبها لي محمد العاشق قبل هروبه.
لقد شاهدت بعض الجنود يشمون النفط ويتلذذون بالصداع الذي ينتابهم من جراء ذلك. وشاهدت آخرين يشمون اصفرار اصابعهم القديم الذي صنعه دخان سكائرهم قبل شهور.. وبعضهم كان يشم قارورة عطر فارغة ويشعر بالانتشاء وقد اضطر العديد من الجنوب الى لف ورقة صغيرة وتحويلها الى سيكارة وتدخينها. ويبدو ان صوراً من ذلك النوع كان يصنعها الدوي الصاخب والمتواصل، ويصنعها الضياع والوحشة والخوف والشعور باللاجدوى.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة