المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الـعـــــــراق الـيـــــــــوم

  • أحاول هنا أن أعطي صورة مختصرة ومفيدة عن الوضع الثقافي للجالية العراقية في محيط هولندا

عفيفة العيبي
هجرة المواطن العراقي إلى أوربا لأسباب تتعلق بالأمن وشدة إرهاب السلطة البعثية (العبثية) في ما بعد حرب الخليج ألأولى عام 1991 أدت ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث إلى هجرة عائلات كاملة وبأعداد هائلة إلى أوربا وهولندا بشكل خاص ومع هذه الحشود البشرية جاء الكثير من المبدعين العراقيين والمثقفين وأساتذة واكاديميين ومع حضور هذا الكم الهائل من المهجرين، ظهرت الحاجة للتواصل واثبات الوجود و بدأت كل الجهود تتوجه إلى تجميع هؤلاء في أشكال من التنظيمات والمؤسسات والتي تعتمد الثقافة وكل وسائل ألإبداع الواسطة الأنجع في خلق علاقة ذات مستوى مع المواطن الهولندي.
وبالفعل تشكلت الكثير من المؤسسات قسم منها ذات توجه اجتماعي وآخر ثقافي بحت، مثل رابطة بابل للكتاب والصحفيين والفنانين العراقيين في هولندا، وثقافة 11 ومؤسسة أكد ومؤسسة حميد البصري الموسيقية ومؤسسة المقام العراقي للسيدة فريدة ومحمد كمر وفرق مسرحية ونواد ثقافية متعددة تنشط على صعيد مدن عديدة في هولندا وقد استطاعت كل هذه التجمعات وبفترة قصيرة نسبيا أن تعطي صورة أكثر تحديداً لماهية وطبيعة تكوين الجالية العراقية وأن تجعل المواطن الهولندي يفهم إن الجالية العراقية بكل تكويناتها هي جالية ذات طبيعة و خصوصية متميزة ومتفردة ذات مستوى أكاديمي متقدم ومختلفة عن طبيعة معظم الجاليات العربية ألأخرى والأجنبية الموجودة على الأراضي الهولندية.
معظم النشاطات التي قدمت سابقا والتي تقدم ألآن من قبل كل هذا الكم من الجمعيات والمؤسسات والنوادي العراقية تعتمد في عملها على الجهود التطوعية البحتة من قبل الناشطين من أبناء الجالية العراقية فهو عمل مجاني تماما لكن هذه الجمعيات والمؤسسات تعتمد في تحركها وفي تنفيذ كل برنامجها على دعم مادي محدد ومشروط من قبل الدولة الهولندية ومؤسسات المجتمع المدني سواء على الصعيد المحلي أو الوطني.
الشرط ألأساسي لتقديم الدعم المادي هو أن يكون البرنامج المطروح ينصب في خدمة سياسة ألاندماج في المجتمع الهولندي وان تكون هذه النشاطات قابلة لاستقبال جمهور من كل ألأوساط الشعبية والخلفيات ألاجتماعية بدون استثناء وبدون أي عراقيل في الفهم أو أسلوب التوصيل وذات نفس ايجابي لتوطيد العلاقة بين كل الجاليات المقيمة على ألأراضي الهولندية بما فيها الهولندي نفسه وهي سياسة تهدف إلى النأي بمن يقيم على أراضيها عن العزلة و ألانقطاع ودفعه إلى المساهمة بحيوية في الحياة ألاجتماعية والثقافية للبلد.
بعيدا عن دور هذه المؤسسات استطاع البعض من الفنانين العراقيين والمبدعين أن يجدوا لأنفسهم الطريق المناسب وبشكل فردي إلى لفت ألانتباه إلى إبداعهم وخلق حضور مميز في الحياة الثقافية في هولندا فهناك البعض من صالات العرض المهمة تعرض أعمالاً لفنانين عراقيين لهم جمهورهم الذي يتابع نشاطاتهم ويشتري أعمالهم.
كذلك الفرق العراقية الموسيقية أو المسرحية التي هي ألأخرى أثبتت وجوداً في الوسط الثقافي حيث يتم تقديمها ودعوتها إلى المهرجانات و ألاحتفالات العامة والخاصة وكذلك فاز بعض الشعراء العراقيين وترجم البعض من نتاجاتهم إلى اللغة الهولندية، كذلك القصة.
بعد انهيار نظام سلطة البعث (العبث) في بغداد حدثت ردود أفعال داخل هذه التجمعات على اختلاف أنواعها وخلقت حالة نفسية جديدة حيث بدأت تتوجه أنظار معظمنا إلى الداخل وكيفية إيجاد السبل للمساهمة في عملية الدعم والمساندة للوضع الجديد في الوطن في الداخل.
في هذه الظروف المستجدة بدأت تظهر أنواع من التسميات الجديدة والغريبة في داخل العراق وهي حسب تصوري منسجمة مع سياسة التفريق والتقسيم والتي يدفع إليها البعض لأسباب عديدة وفيما يتعلق بالمثقف بدأنا نسمع تكرار استخدام مصطلح أو صفة مثقف الداخل ومثقف الخارج وكأن مثقفي الخارج شيء ليس له صلة بالعراق أو يعامل كخطر أو تهديد لثقافة الداخل.
في هذه الرسالة لا أريد أن أتحدث عن حجم هموم المبدع العراقي في الخارج أو المشاكل التي يواجهها من اجل أن يصل إلى منفذ يستطيع فيه خلق نوع من التوازن بين حياته وبين الوسط الجديد في الخارج إضافة إلى وجود الكثير من المشاكل والهموم المتعلقة بالحياة اليومية للكثير منا حيث هناك من لا يملك قوته اليومي أو أي شكل من أشكال الضمان ألاجتماعي أو الصحي حاله مثل حال أي عراقي في داخل العراق، فالغربة المفروضة عليك هي ليست هدية بل هي مواجهات وتحديات يومية من اجل البقاء خاصة لمن يعيش في البعض من البلدان ألأوربية حيث ظروف الحياة فيها لا تبتعد كثيرا عن نمط الحياة في العالم الثالث خاصة فيما يتعلق في توفير فرص العمل أو الضمان الصحي أو الاجتماعي ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن هذه التفاصيل لأنها من اختصاص مؤسسات أخرى بعيدة عن محفلنا اليوم.
ينصب جل اهتمامنا اليوم على أهمية الثقافة ودورها في المرحلة الحالية التي يمر بها الوطن وعن دور الدولة العراقية الجديدة في هذا المجال و ما يمكن أن تقدمه للمبدع العراقي في الداخل و الخارج و للحياة الثقافية في العراق عموما.
ما هي الوسائل والطرق والتي يجب سلوكها للاستفادة الصحيحة من قدرات هؤلاء المبدعين خدمة للثقافة داخل العراق واغتنائها اعتمادا على إن الكثير من المبدعين المهاجرين و لأسباب عديدة يفضل البقاء في البلد الذي يعيش فيه حاليا أو غير قادر على العودة إلى الوطن ألآن من اجل المساهمة المباشرة في عملية إعادة البناء وهذه المسالة يجب أن تحترم وان لا تعتبر نقيصة يحاسب عليها وكأنها خيانة للوطن كما يدور أحيانا في البعض من النقاشات والمداولات في بعض وسائل ألأعلام و الصحافة العراقية انسجاما مع ما يدور عموما في أمور التخوين والتكفير وإلى آخره من البدع الجديدة على الساحة العراقية.
طبيعي المبدع والمثقف العراقي سواء في الداخل أو في الخارج يطمح إلى تشكيل حكومة عراقية همها الوحيد ألتأسيس لدولة متحضرة تريد إعادة تأهيل المواطن العراقي على أسس ديمقراطية واحترام كامل لحقوق ألإنسان في العراق الجديد من اجل إعادة الكرامة لهذا المواطن بعد أن سلبت منه وبشكل منظم وعلى مدى عشرات السنين وإعداده لأجل أن ينهض بدوره في بناء أسس مجتمع غير قابل للعودة إلى الوراء.
في مثل هذه الدولة سيكون دور المثقف العراقي أينما كان ذا قيمة لا يمكن ألاستغناء عنها وأكيد يجب أن تكون هناك أسس جديدة ومتحضرة لتأمين حياة أفضل للمواطن العراقي عموما وحياة المبدع والمثقف والمهتم بالثقافة بشكل خاص.
اعتمادا على ما ذكر أعلاه أجد إن من الضروري التأكيد على ألأمور التالية:
*إن تنشط الحكومة العراقية الجديدة لفتح كل القنوات من اجل التعاون مع الحكومة الهولندية والدول ألأوربية ألأخرى لتأسيس السبل الجدية للتعاون مع المؤسسات العلمية في كل من هذه البلدان مثل الجامعات والمعاهد العلمية والأكاديمية والفنية والحصول على المقاعد الدراسية في كل الاختصاصات و لتبادل الخبرات خاصة ان الكثير من هذه البلدان وهولندا بالذات مستعدة لاستقبال الطلبة العراقيين وفي كل المجالات وعلى اختلاف المستويات.
*خلق معاهد ثقافية عراقية في البعض من العواصم ألأوربية المهمة وان تستفيد الدولة من خبرة المثقفين العراقيين المقيمين في تلك البلدان للتأسيس لمثل هذه المعاهد وفي الوقت نفسه تؤسس لمعهد بمستوى المعهد العربي في باريس على أن يكون عراقياً بحتاً ومركزه مثلا لندن لكونها العاصمة الأوربية التي يسكنها عدد كبير من المثقفين والمهتمين بالثقافة من العراقيين وليكون حاضنة لكل أنواع ألإبداع العراقي وواجهة متحضرة للبلاد ومركزا لتوثيق أسباب هروب ألأعداد الكبيرة من العراقيين والمبدعين بشكل خاص إلى خارج البلاد وفضحا للديكتاتورية وكل ممارساتها وتأثيرها السلبي على الحياة في العراق عموما والثقافة بشكل خاص.
*أن تعمل الدولة العراقية الجديدة والديمقراطية على ردم الهوة بين المثقف العراقي في الداخل والخارج من خلال إقامة المهرجانات الثقافية والفنية الدورية حيث يساهم فيها الجميع وإقامة الندوات ودعوة ألأسماء المهمة أو ذات النشاط المتميز من أجل فتح المجال لعرض ما لديهم و الإطلاع على آخر ألإبداعات من أجل تنشيط الحياة الثقافية واغتنائها دائما بالجديد. فوجود العراقي في الخارج هو ليس قطيعة بل هو اغتناء للحياة الثقافية العراقية فمن خلال عقد الندوات واللقاءات يمكن أن يتم تبادل الخبرات والمعلومات والمهارات.
*تنشيط ورشات عمل على الصعيد النظري والعملي وتضييف الفنانين سواء في الداخل أو الخارج وعمل ما يسمى بالماستر كلاس حيث يستطيع المثقف العراقي المقيم في البلدان الأوربية المختلفة أن ينقل صورة أكثر واقعية للحياة الثقافية في بلدان المهجر لكونه على صلة مباشرة مع الوسط الثقافي في البلد الذي يقيم فيه ويقدم خبراته المتراكمة في مجال اختصاصه إلى الطلبة المساهمين في هذه الحلقات الدراسية والدورية حيث يتم تضييف أشخاص ذوي اختصاصات وتجارب مختلفة سواء علمية أو فنية.
*إصدار المجلات الدورية الجدية التي توثق للثقافة العراقية وتهتم بها.
*تمويل المؤسسات والجمعيات والنقابات والتي تهتم بالثقافة والمثقفين من قبل الدولة وسد الطرق أمام أي محاولة للتأثير على نشاط هذه المؤسسات أو توجيهها سياسيا أو لخدمة أفكار أو جهات معينة.
*التأسيس لجوائز تقديرية سنوية ليست معنوية فقط بل مادية كذلك يكون لها مردود ايجابي على حياة المبدع العراقي وعلى إبداعه كأن يؤسس لجائزة جواد سليم للنحات وجائزة فائق حسن للرسام التشكيلي والرصافي أو السياب للشعر وغائب طعمة فرمان للقصة وإلى آخره من مواصفات من اجل رفع مستوى ألإبداع بكل أشكاله وتطويره وتثبيت القيمة الحقيقية لأهمية المبدع العراقي ودوره في عملية البناء والتطور وكل ما يتم اختياره تتكفل الدولة بتنفيذه أذا كان عملاً فنياً تشكيلياً أو مؤلفاً أدبياً إلى آخره.
كل ما تطرقنا إليه أعلاه هو من مسؤولية الدولة العراقية الجديدة حيث يمكن أن يتم كل ذلك من خلال رصد المالية المطلوبة لدعم الثقافة والمثقفين، لأن الكل يعرف إن الثقافة هي روح المجتمع والعناية بها هي الخطوة ألأولى والأهم من اجل إعادة أعمار البلاد على أسس حقيقية وصلدة وغير قابلة للتراجع وشكرا.


المنهج والحرية

مالك المطلبي
تبدو هذه الورقة ذات طابع تخصصي، من حيث تناولها البنية الثقافية الأدبية والفنية غير أن السجال المحتدم داخل هذه البنية عبر "الرسالة" التي تريد إيصالها، سيجعل الأمر غير منفك عن عنوان المحور، إعادة بناء الثقافة العراقية.
في عقد الثمانينيات، حين بدأ الإعداد الرعوي لتحويل "مجتمع" متنوع إلى قطيع يتموضع في خط طويل، ليس مجازياً بل على نحو حقيقي، حين يتحول الاقتصاد إلى تنظيم يتم برمجة عملائه بخطوط مستقيمة بحيث تتم البرمجة ذاتها على صعيد الخطاب "الثقافي". غير إن مضمون هذه المسافة التي يتحرك عبرها القطيع كان لا يعدو خطوة واحدة مراوحة: الذهاب من حافة التفكير إلى الظلام مباشرة.
في تلك المرحلة حيث حل محل المقدسات التاريخية المتنوعة، مقدس واحد يقتل لكلمة واحدة بكلمة واحدة! اصطفت الكلمات في خط إرغامي انتقائي لتحقيق مطالب محددة سلفاً. ولم يكن هناك من كوة في ذلك الظلام إلا "المعرفة" والمنهج والعقل التي يمكن أن يتسلل خيط من الحرية من خلالها وهكذا حاولنا منذ مطلع ذلك العقد إشعال نار المعرفة على جانبي حدود القطيع، أملاً في وصول شرارتها إلى داخله.
لقد أخذت مصطلحات البنائية والبنيوية والبنية تسري بقوة الحرية المفقودة على صفحات الجرائد والمجلات داخل المعتقل اللغوي لإحداث قدر من الفوضى، في صفوف البرمجة الآلية. وأنا أراقب من موقعي الآن حيث إعادة بناء الثقافة العراقية قد بدأ، أعني بإعادة البناء، العودة إلى الاختيار الذاتي، قد بدأ على قدم وساق داخل بناها التحتية "غير المحسوس الآن بفعل حركة التحول" أقول وأنا أراقب من هذا الموقع أرى في الصيحات التي اعترضت أسئلة المنهج آنذاك مجرد صيحات لا واعية كانت تستند إلى محاكمة منطقية لحقبة لا منطقية! ومن المفارقات التي حدثت آنذاك هو أن تلك الصيحات كانت تجمع بين ضحايا ثقافة النظام ومرتزقتها؛ التقدميون الإنسانويون من جهة وملاك العباد والبلاد لعقد التفويض التاريخي للعروبة والإسلام المزيفين من جهة أخرى.
فقد قال الفريق الأول إن تلك الحركة لم تكن منهجاً بل كانت فلسفة العقل الغربي في بناء سلطة المركزية في بنية الثقافة العالمية.. إنها بعبارة سياسية تركة استعمارية، بل ذهب أحد علماء الحرية ع. ج. ط إلى أنها جزء من منظومة
C.I.A أما الورثة فقد قالوا بأنها تركة ماسونية. وإلى جانب هاتين الصيحتين، كانت هناك الصيحة الثالثة، التي كانت في الوقت ذاته الصيحة المكبوتة تحت جلد ما أحدثناه من فوضى، وهي وإن تداخلت مع صيحة التفريق بين البنيوية فلسفة والبنيوية منهجاً، بينهما كرؤية من جهة وكأداة من جهة أخرى فإنها كانت تتشبث بإشارتها إلى أن التفريق ممكن لكنها ترد نقدها إلى عقم المنهج وانغلاقه بإزاء واقع متخم باللفتات الحية الخائفة، متخم بالزوايا المنسية داخل الروح المواربة للبشر آنذاك، متخم بالأحاسيس المتقدة في الألم. فماذا تفعل بإزاء عالمنا المحتل رقعة المصطلحات بجعجعتها الشكلية وتشابك مفاهيمها سوى أنها تؤمن ما يقع في حدود الحقول المتخصصة ومناهج البحث حسب ولا تمس حدود الحياة أبداً؟!
لقد كانت حركة الحداثة الصاعدة نحونا بقدمها في القطاع الغربي من الأرض وبجدتها في مرابعنا ومضاربنا الشرقية، تروج للشكل بكونه شرط العمل الفني أو ضرورته ليكون من ثم الدكتاتور البديل للدكتاتور السابق المضمون في عصر انبثاق الأيديولوجية المحبوبة!
"الشكل" بداهة هو كل شيء، بما في ذلك المضمون. إن المضمون هو نوع من أنواع التشكل، وبهذا يمكن بهذا المنطق إقصاء كل ما أنتجه المنتدبون لمهمة تغطية المناسبة بدعوى الموضوع المقدس ومن هذه الزاوية سقطت "المشروعية" الفنية عن ممثلي القطيع المنتدبين لمزيد من الانتظام داخل الخط المستقيم.
وفي حمى الاندفاع نحو أقاصي الشكل، جرف تاريخ الموضوع برمته. وحل الغاوي محل المؤمن وهكذا صار المنهج البنائي في التحليل يتناول تطبيقياً وفق معايير شكلية تلك النصوص النادرة التي لا يمكن توفرها أصلاً في أية قوالب تقليدية، وهو القوالب الجاهزة التي كان شعراء القادسية وأم المعارك والمناسبات والبركة، يصبون فيها كلماتهم. مما حدا بالنقاد "الأذكياء" أعني المنتفعين بالسلطة دون الانغماس في أتونها، حدا بهم إلى مختارات الحرب عبر نصوص قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، آخذين بمبدأ الصورة على المحتوى وتلك هي المواجهة الحقيقية الوحيدة لصعود مطلب الحداثة.
وهكذا استمر المنهج البنائي بتمتين عرى بحوثه التطبيقية في الثقافة العراقية، حيث بدأت مصطلحات "العلاقة" والتمركز والاكتفاء الذاتي، و"التحويل" تروج بين الأدباء وتشوش على ثوابت التسلسل القطيعي وقد كتبت مقالين في ضوء ذلك عن شعر السياب. المقالة الأولى كانت بعنوان "إنتاج ما انتج" عن قصيدتي "غريب على الخليج" و"أنشودة المطر" والثانية بعنوان "الثوب والجسد" عن قصيدة "في الليل" كما أقدمت في ضوء هذا المنهج على مغامرة في التحليل السردي لقصص محمد خضير في مجموعته البكر "المملكة السوداء" مشتركاً مع زميلي الأستاذ عبد الرحمن طهمازي في نشر كتابنا المشترك الذي كان عنوانه "مرآة السرد" لكن، حين لم تعد الإجابة عما نقول مهمة أو لنقل على نحو أدق شطبت من سجلات النقد وحلت محلها إجابة كيف نقول، حدثت المفارقة بين المنهج والحرية. فالمنهج الذي يريد تقييد اللعبة بالصورة الحقيقية قد انطلق من رغبته في تدمير الصورة الزائفة المعلقة فوق أسرتنا جميعاً!
وبإقراره ذلك أدخل من غير أن يشعر صوراً يمكن قبولها وهي تحمل الموضوع ذاته القادم من السجلات المقدسة وتقويم المناسبات وبهذا كان يقبل ضمنياً لفاعلين قطيعيين لأن يتمركزوا في النقد، كما هي محاولة الناقد ط. ك المشار إليها آنفاً وبعبارة أخرى فإن المنهج الذي أراد أن يفتح أبواب الحرية، أغلقه بأقفاله هو!
ولم تعد هذه المفارقة جزئية خاصة بموضعة نقدية، بل شملت البنية الثقافية برمتها، فبعد قرون خلت يصبح تأمل تلك الثنائية المستهلكة بين "الشكل" و"المضمون" المدخل الوحيد لحداثتنا، ليس كمدخل إجرائي في مناهج تلك الحداثة بل لأنها تشكل وعينا.
لقد أعيد شد الخيط إلى الوراء، لنبحث مرة أخرى في الصورة، بل في ما وراء الصورة سواء أكانت الصورة تنتمي إلى الحداثة أم تنتمي إلى القدامة إذ إنها جميعها صور سود لأن مضمونها أو سياق هذا الموضوع أسود وهكذا.
لا تعود الحداثة خارج شرط الحرية أمراً ذا بال.
مرة أخرى نكون بإزاء سؤال المضمون! أو لنقل ضرورة المضمون وبمصطلح الساسة دكتاتورية المضمون وهي الإشكالية ذاتها التي تناولت على صوبي الفلسفة والدين حيث لم يعد اللعب ممكناً.
إننا نعود رويداً رويداً إلى نظرية الأخلاق في الفن وأحكام القيمة المثلثة الحق
الخير الجمال.
غير إن هذه "العودة" تحتاج إلى محض المفاهيم الجديدة التي تنطوي عليها.
إن سؤالاً تشخيصياً: هل قصيدة بركة البحتري هي ذاتها قصيدة بركة في القصر الصدامي؟ وهل قصيدة الجواهري في ملك الأردن الحسين بن طلال هي قصيدة "ع" أو "م" في صدام حسين؟ وهل القصائد في الوطن متشابهة؟
لماذا نقبل مضامين أدونيس والسياب والبياتي وعبد المعطي حجازي وفوزي كريم وعبد الرحمن طهمازي ونرفض المضامين ذاتها لدى دوع وح وس.. الخ والجواب عن هذا يأتي من منظور واحد هو شرط الحرية. لقد كان الجواهري وهو يمدح الملك حراً وكان السياب وهو يهجو قاسماً حراً، وكان صادق الصائغ وهو يكتب عن قلب بغداد حراً وكان جواد سليم وهو يشكل جندي العراق حراً، في حين كان النحات والشاعر والرسام في الحقبة الدكتاتورية منفذين لإرادة فوقهم. اللا مضمون هو شرط الحرية ولكن هذه الحرية سيندرج تحتها المضمون غير المشروط أيضاً كشرط للتمييز.
سوف أراقب أفق إعادة بناء الثقافة العراقية من هذه الزاوية هو إننا ندفع أجسادنا ثمناً لحرية ذواتنا عند ذلك فقط تكون كل الموضوعات شعرية.


في التنوع والاستبداد..صورة عن الجدل الثقافي والسياسي

احمد ثامر جهاد
(ان التعايش مع يأس مدجن اسهل من الاستمتاع بآمال غير أكيدة..)  .. داريوش شايغان


في الوقت الذي تبدو أوضاعنا المأساوية الراهنة متروكة لأهواء السياسة والاحتلال وقوى الاستبداد الجديد، سنرى هاهنا أن ثمة تناقضات ومفارقات ومخاطر تحيط بنا من كل صوب وترسم حياتنا ومصائرنا. وثمة حاضر ملتبس تتنازعه مصالح ونوايا وقطاعات رأي وكتل تأثير، يُعيد بعضها إنتاج صور الاستبداد في بنى عدة قادرة على أداء وظيفة البنى القديمة، من دون أن تكون لها إحاطة واعية بدلالات التجربة العراقية أو الاكتراث بمسارها الكارثي على مختلف الصعد، خاصة إن فئات واسعة لم تستوعب بعد، على نحو عقلاني، صدمة التغيير الحاصل، إنْ في التفكير أو الممارسة.
وفي إطار التلويح بهذه الإشارة التي نفترض كونها ملحوظة في صورة الحدث العراقي إجمالا، سنحاول طرح بضعة تصورات، نزعم أن لها أهميتها الراهنة:
لاشك في إن قراءة واستيعاب مظاهر الاستبداد - أيا كانت - وفضح آلياته ومعارضة وسائله، هي جزء لا يتجزأ من إرادة التخطيط لمستقبل الثقافة في أي مجتمع يسعى لاجتياز مستنقع محنته الشمولية، لينشئ ثقافة لها ملامحها المتحررة والمستقلة والفاعلة ضمن اتجاه السعي المبذول لإرساء دعائم المجتمع المدني بأوسع معانيه. كما إن إعادة كتابة تاريخ الثقافة - العراقية
تحديدا تعني في جانب من جوانبها تفعيل الإمكانات وتوسيع الحدود وتحديث الرؤى للوقوف على ما أنجز وما لم ينجز، لتقرير حاجاتنا الراهنة بروح نقدية تؤسس لوضع صيغ مناسبة للتعامل مع صراعات الحاضر وإشكالياته.
من هنا تحاول مساهمتنا هذه أن تجعل الحاضر مركز اهتمامها الأساس، خاصة وهي تتوجه لتمكين وضوح الحاجة من التباس المفهوم. لذا سيكون من أولوياتها اختبار إمكانية ومعنى خلق شراكة ما في الطموح السياسي والثقافي للنخب العراقية التي بات ملحوظا عمق الخلاف الذي يجمعها في ساحة انشغالاتها الحالية لاستعادة البلد ثانية من أيدي العابثين بمختلف أشكالهم وعناوينهم. وإذا ما حاولنا استشراف مستقبل الصراع الثقافي والأخلاقي الذي اخذ يهيمن على اهتمام النخب الاجتماعية والسياسية في الفترة الراهنة، مع العناية بصورة أجلى مخصوصة لـ(المحتل الغربي الذي هزم الدكتاتورية الوطنية)، سنجد إننا أمام تيارين رئيسين متعارضين، أحدهما ليبرالي والآخر محافظ. يتغذى صراع هذين التيارين من التعارضات القائمة بينهما في رسم كيان الدولة وحدودها واتجاه السياسة والمجتمع ووضع الأفراد والجماعات وحرياتهما الواجبة. في الغضون لن يكون الغرب أو أمريكا مظلة حامية لهذا الصراع المتستر بقدر ما تعد برامجهما المعلنة والسرية ركنا أساسيا فاعلا في الصراع وموجها له.
قد يولد النزاع أحيانا من فرضية تفيد: أن كل محاولة تبذلها النخب السياسية الآن لشق الطريق وسط فوضى القوى المتصارعة هي فرصة لتحييد (الآخر) أيا كان، والتعالي المؤقت على الصدام الدائر أو الكامن في منظومة المصالح والقيم، وهي بذلك تركيز لا بد منه للمشكلات التي تسعى الجماعات المتصارعة إلى حلها توافقيا. وحيث لا تصلح التوافقية حلا ناجعا لمسائل خلافية أساسية يعيشها المجتمع العراقي، إلا في حدود تقريب المفاهيم المتعارضة ودمجها القسري حينا، وتكييف الوقائع والتخفيف من حدتها حينا آخر، يصعب التكهن بحال الثقافة ومسؤولياتها وهي بعيدة تماما عن ساحة الصراع الفعلي وعن المحاولات التي تجري في قاعات مغلقة لتقرير شكل الدولة والقانون ودور المثقف وقضايا الحريات العامة والشخصية وحقوق المرأة وما إلى ذلك من القضايا الاشكالية. ربما والحال هذه، سيظل تلميح المفكر ادغار موران اقرب إلى توصيف وضعنا القائم، والذي يذهب إلى: أن السياسة تعالج اعقد المشاكل، وهي التي تسودها اكثر الأفكار تبسيطا واقلها استنادا إلى أساس، بل أقساها واشدها فتكا

قد يشترك الجميع اليوم على نحو ظاهر في التنديد بالدكتاتورية، وفي التصدي لمحاربتها، لكن غالبية ماثلة في المقابل، تصم الآذان عن العار الذي يلاحقها جراء عنفها واستبدادها وزيف ممارساتها. لذلك فإن رفضا مناعيا لثقافة الحوار يمهد الطريق درامتيكيا لاستعادة الاستبداد الكريه بصور مغايرة، تعيد إنتاج الماضي، وتصيب المجتمع بحمى الخوف من الثقافة، الخوف من الحرية، الخوف من الآخر.
عقب التغيير الحاصل عصفت بالشعب المأزوم جملة توسلات وجدانية بارتهانات غامضة، ذهب بعضها لتمني حدوث مصالحة لاتاريخية بين النخب الثقافية والسياسية، تشترط نقطة توافق ما
ان كان ممكنا - بين السياسي والثقافي.. توافق قوامه التخلي عن مواقعهما التقليدية: حينها لن يكون كل المثقفين عملاء للنظام القديم أو ضحايا للغرب الفاسد، ولن يكون معنى المثقف متحققا فقط في كونه معارضا للسلطة. وتباعا يكون السياسي هاهنا أداة لتحقيق قيم المجتمع وقيم الثقافة بوئام أبوي. إلا ان فهما آخر، دنيويا ومهمشا، يعي المرتكزات الاجتماعية والسياسية لنشوء الديكتاتوريات في سياقها التاريخي، يحاول ما أمكنه ذلك إعادة التأكيد على ضرورة ان يكون المثقف مدافعا عن منظومة قيم عالمية تتجلى في التحرر والديمقراطية وحرية الرأي والمعارضة. خاصة ان وظائف المثقف ملتبسة وغير محسومة في مجتمعاتنا، بالنظر لحالها في الغرب الذي انتج عبر تاريخه التنويري معرفة تواصلية جعلت المثقفين حماة مشروع الحداثة والتقدم والرفاهية من خلال التسلح بنظرة نقدية امتلكت بجدارة معرفية وعيها الخاص المشفوع باستقرار ورخاء مجتمعي يجنبها براثن التفكير الديماغوجي، لنرى صور شراكة منشودة تجعل المثقف الغربي داعما لمشروع الدولة في تحقيق القانون والنظام وتعزيز أمن الفرد والمجتمع.
عراقيا كان النظام السابق يستورد ببراعة المحترف شتى فنون الترهيب والفساد والموت، من دون أن نقوى
كمثقفين - على فعل شيء يوقف عجلة الخراب، واليوم تهرب إلينا بضائع الجهل والتخلف وفيروسات العنف والازدراء والتعصب وإلغاء الآخر من دون أن نتمكن رغم إدراكنا إياها من فضح مصادرها وهويات مورديها المحليين او الأجانب. ولن نكون مبالغين بإحصاء المعطيات المبرهنة على مظاهر هذا الاستبداد والاقصاء في مجتمعنا العراقي اليوم. استبداد متعدد الأطياف يفيد ظاهره بأن الخصم هو من يخالفك الرأي، وخصمك مخطئ وكاذب ومتآمر وجاحد دائماً. ولا مجال لحسن النوايا، أو اجتياز المحنة بالحوار. لاسيما أننا من هذا المنظار التبريري: أمة تقف في مقدمة المستهدفين بغزو كاسح يهدد الثقافات الوطنية والقومية في أهم مقومات خصوصياتها وهويتها التاريخية، مثلما يشير محمد عابد الجابري!
ولنا ان نتساءل: إن كانت هناك ثمة ثقافة عراقية تراهن اليوم على نجاة المركب عبر الدخول إلى وطيس معركة مختلة الأطراف، يتسيد العنف مشهدها الأبرز وتغيب عن أولوياتها، تحت ذرائع شتى، سبل معالجة مظاهر الخراب المرير في حياة الناس والمجتمع؟
إن استعادة طموحة لتاريخ صراع الأفكار في العالم قد تحتم علينا طرد أشباح الماضي الموجع واقتناص أية فسحة تحول سياسي، لتعزيز ما يدعى بمنظومة القيم العالمية التي توحد الجماعات وتنظم حياة الشعوب مهما تباينت اختلافاتها. رغم ذلك وبسببه يحاول النخبوي أن يكون مستعدا لتحمل مأساته دائما، بوصفه مثقف اليوتوبيات، المثقف النبوي،حارس القيم والمفاهيم، راهب عصر العولمة.. فقد أملت عليه قيم الحداثة وما بعدها أن يغدو شكاكا وممن لا يثقون بالعقل والحقيقة في نهاية الأمر، وان يتذكر عبارة (فولتير): " من انك لن تستقبل استقبالا حسنا إذا ما حاولت تنوير الناس، فسوف تسحق.." وربما يلوذ البعض بوحدته المقدسة، يائسا من صلاح الحال، مرددا مع (رولان بارت) وقد توافق نسبيا مع حس رجل التنوير الفرنسي الذي سبقه بمئات السنوات، حينما ذهب إلى: " أن الأمر الوحيد الذي على المثقف أن يقوم به اليوم، هو أن يتحمل هامشيته وعزلته.."
ولكن ما هو عيني يلزمنا بالقول: بين ثقافة الحوار وثقافة التطرف، بين التنوع والاستبداد، ثمة مسافة فاصلة سرعان ما تتسع، محطمة ما يمكن تسميته الأسس المدنية لكيان الدولة عبر عقود متراكمة من تاريخها الحديث. فلحظة تهشيم مؤسسات الدولة العراقية
عشية الحرب - بأيد وحشية من حديد تعيد إلى الأذهان مديات القسوة التي زرعتها ثقافة الخوف في نفوس الأفراد من مظاهر الدولة المهيبة. انه الخوف والجهل ذاته من اكتناه وممارسة الثقافة المدنية، من فكرة شعور الفرد بأنه باني مؤسساته وحاميها في آن.
ولكن الأشد فزعا بالنسبة لمستقبلنا كعراقيين، أن تكون لحظة الهدم لا البناء، لحظة ديمومة تاريخية ملغمة بالخلط العميق والمستمر بين جملة حدود أساسية لا تحتمل الخلط المفاهيمي، حدود عقلانية ترسم الكيانات البنيوية على هداها بين الدولة والجماعة والفرد والدين والسلطة والمعارضة والرأي...الخ.
في وضع منفلت وشائك وغير مسبوق، يلزمنا لتصويب مساره السياسي والثقافي حاضنة قيمية فاعلة تنبذ العنف وتشيع الحوار وتحسن تقدير الوقت بشكل يمكنها من إعادة تأهيل الجماعات البشرية أيا كان دورها وموقعها ودائما في إطار دولة القانون والمواطنة والتمدن؟
انه السعي الذي يوحدنا الآن، حينما يجعلنا نختط، ما أمكننا ذلك، سبيلا لحوار ديمقراطي يؤمن بإمكانية الوصول إلى ضفاف آمنة تتجاوز المطالبة بحرية الثقافة نحو امتلاك ثقافة الحرية.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة