المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

حوار مع أ.د كاظم حبيب: واجهت صدام بصراحة

  • السياسة الامنية - العسكرية وحدها ليست قادرة على تفكيك الإرهاب ولابد من حزمة سياسات متضافرة لتحقيق ذلك
  • من دون الاستعانة بخبرات دول الاتحاد الأوروبي في مكافحة الإرهاب لن تنجح أميركا لوحدها في ذلك
  • اعكف على انجاز موسوعة بثمانية مجلدات عن ملامح عراق القرن العشرين

حاوره / كاظم الجماسي

الدكتور كاظم حبيب مفكر اقتصادي ومناضل سياسي غني عن التعريف، وايام تفتح وعينا إبان سبعينيات القرن المنصرم ومن ثم بلوغنا نسبياً النضج المعرفي كنا نتلهف لهفة الظامئ الى الارتواء لما كان يحاضر أو ينشر آراءه التي ظلت تتسم بالعلمية والواقعية الحيوية، وشاءت فرصة الحظ ان نلتقيه في ربوع كوردستان لنمضي معه شوطاً عذباً وعميقاً ننهل منه في هذا الحوار.

* الدكتور كاظم حبيب، بدءاً كيف ترى الوطن بعد اغتراب طويل؟
- اراه في هذه الاجواء الجديدة في كردستان، لاسيما وانا أزورها للمرة الثالثة، كوردستان تتطور من سنة الى سنة نحو الأفضل وهذا يعود الى عمل جاد وطويل، ويبدو لي ان وحدة الحكومة ووحدة الادارات، على الرغم من نواقص مهمة، ستلعب دوراً ايجابياً على كامل وضع كوردستان، أما الوطن في بغداد وفي مناطق أخرى في الجنوب، فهو في وضع حزين ويحزنني كثيراً ان تسقط العشرات من الضحايا تحت وطأة هذا الإرهاب الشرس، ما يؤملني في ذلك ان شراسة الإرهاب قادرة حتى اللحظة على على ان تسود وثقافة العنف على السواء محلية كانت ام قادمة عبر الحدود، قادرة على ان تقتل البشر، قادرة على ان تعطل الحياة، قادرة على ان تستهلك الاقتصاد، قادرة ان تعطل العملية السياسية الى حدود غير قليلة، والدولة التي تبني الان مؤسساتها تدريجياً، والحكومة التي تركت لعدة أشهر فراغاً، عاجزة عن وضع حد للارهاب الدموي، عاجزة عن ان تحد من فعل القتل الجماعي الواسع النطاق، وبالتالي فان الإنسان بعد غيبة طويلة ليزور الوطن من المؤكد انه سيشعر بالحزن الشديد لان أهله وناسه واحبابه وبالتالي شعبه يعيش في غربة في وطنه، هذه مأساة حقيقية، نتمنى ان هذا الليل الطويل، وهذه الغيمة السوداء الثقيلة على النفس، ستزول وتنقشع وايضاً سينتهي هذا النفق الطويل المظلم الى نور، أنا أرى ان مستقبل العراق مشرق على الرغم من انه سيكون صعباً ومريراً ومليئاً بالتضحيات.
* الم يحن الوقت لان تكتب مذكراتك لا سيما وانك شهدت مراحل عصيبة شكلت علامات فارقة في تاريخ العراق السياسي؟
- اطلعت على العديد من المذكرات، وهي غالباً ما كتبت في أواخر العمر، وعندما يكتب الإنسان مذكراته في خريف أو شتاء العمر يصعب عليه ان يكون نقدياً وبالتالي بكون ذاتياً جداً وينسى الكثير من الموضوعية، تراه يقول باستمرار أنا وأنا وأنا، وهذا لا يشجعني على ان اكتب مذكرات، لم أقرأ مذكرات إلا وفيها هذه النغمة الذاتية الحادة بهذا القدر أو ذاك، قرأت كتاب للراحل العزيز (صالح دكله) وهو أكثر الكتب موضوعية واكثرها تواضعاً وتعبيراً عن حقائق الوضع وهذا افرحني ولكن ليس كل إنسان قادراً على ان يكون بهذا المستوى الموضوعي، ولهذا أظنني غير قادر على كتابة مذكراتي، انا اكتب لمحات من عراق القرن العشرين وهو كتاب ذو ثمانية اجزاء، أنجزت منه ستة اجزاء والسابع في طور الانجاز، والثامن سينجز قريباً.
وبدءاً انا سياسي، وكتابي يبحث في قضايا الاقتصاد بالارتباط مع السياسة وحدود تأثير ذلك ثقافياً، هذا الكتاب يبحث تاريخ العراق في القرن العشرين ولكن لكي يضع القارئ في مشهد القرن العشرين يبدأ من عصر الامويين والعباسيين، وحتى يبحث في بعض جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في بابل كتمهيد، ومن ثم يتبعه جزآن الاول يبحث الدولة الاموية والعباسية في العراق والجزء الثالث والرابع يبحثان عهد الملكية في العراق فيما يبحث الجزء الخامس ثورة تموز اما الجزء السادس فيبحث انقلاب شباط 1963 انقلاب البعثيين والقوميين عام 1968 فيما يبحث الجزء السابع والثامن زمن سلطة البعث في فترتين من 1968 الى 1978 ومن 1979 الى الوقت الحاضر، وآمل ان هذا الأمر يعبر عن رؤيتي للامور بهذا القدر أو ذاك مع وثائق بطبيعة الحال، واذا عن لي ان اشير بملاحظة أو أخرى بالنسبة لي أو بالنسبة للاخرين اشرت لها بهامش صغير، هذا الكتاب يعبر بموضوعية اكبر لانني لا اتحدث عن الانا، انا اتحدث عن الآخرين، عن الناس وعن المجتمع وتطور الحياة.
* كيف لنا وفقاً لمنهجكم العلمي- ان نفكك مهيمنات الإرهاب الفاعلة راهناً؟
- لك ان تلاحظ ان الانجاز الكبير الذي تحقق بسقوط النظام العنصري والدموي لم يتعزز هذا النصر الكبير وهذه المنقبة بإرساء أسس حضارية لبناء عراق جديد وبدلاً من ان نتقدم نحو الامام في المسائل الاجتماعية والسياسية والفكرية تراجعنا نصف قرن أو يزيد، بدلاً من ان نستمر في هدم العلاقات الاقطاعية المنتجة للريف المتخلف وهد اركان العلاقات الانتاجية والعلاقات العشائرية .
بدأنا التعامل على أساس طائفي سياسي العرب سنة وشيعة والكورد كورد وفيلية وهلم جرا وهذه مأساة ينبغي ان نتخلى عن ذلك، فالكورد فيهم سنة وشيعة غير انهم شعب واحد، وكذا العرب فيهم سنة وشيعة وهم شعب واحد، وهناك قوميات أخرى ايضاً متنوعة تشكل ايضاً شعباً واحداً، وبالتالي في ظل هذا التنوع والمكونات يصبح هذا الشعب المكون من كل هذا التعدد الذي يجب ان تسوده المؤاخاة، مصدر قوة لاضعف، في الحقيقة، تراجعنا الى الوراء، وبالتالي سمحنا للارهاب ان يقيم بنيته التحتية ومؤسساته وعلاقاته ويطور خطابه السياسي وان يدس اصابعه في مؤسسات الدولة لاسيما تلك التي تمتلك الأسلحة، لقد وصل الإرهاب الى اجهزة الدولة القمعية، وبالتالي صار يستخدمها ضد الدولة ذاتها وبالنتيجة ضد الشعب والمجتمع، هذه اشكالية خطرة، كيف لنا ان نفككها، هي بدءاً لا تتفكك بالعمل العسكري وحده أبداً، لا يتفكك الإرهاب الا بحزمة من الإجراءات ومن السياسات، سياسة اقتصادية، سياسة اجتماعية عقلانية، سياسة ثقافية تندد بثقافة العنف، وتدعو الى ثقافة الديمقراطية والعلاقات الانسانية، ثقافة خدمات اجتماعية توفر للمواطن حاجاته الخدمية بحيث يستطيع ان يحصل على ما يريد، تنفيذ سياسة توفير فرص عمل للعاطلين، كل هذه السياسات ضرورية جداً لتفكيك الإرهاب، ثم تأتي السياسة الاعلامية التي ينبغي ان تجيد التوجه بخطابها الى الناس وكيفية كسبهم الى جانب التغيير وعزلهم عن الإرهاب ومن ثم السياسة الامنية لتكون كل تلك السياسات هي من يعالج ويفكك الإرهاب، السياسة العسكرية والامنية القمعية وحدها لا يمكنها فعل ذلك وبالتالي نحن لا نمتلك هذه الوحدة الضرورية من السياسات بحيث نستطيع تنفيذ هذه المهمة النبيلة.
ان تفكيك الإرهاب يمكن ان يتحقق فقط من خلال وحدتنا في حكومة تمثل هموم وتطلعات الناس بلا تحزب أو طائفية وتستجيب استجابة كاملة لحقوق الإنسان وحقوق القوميات، ونحن نلمس الآن فساداً منتشراً ادارياً ووظيفياً وله من الشراسة ما يجعله صنواً للارهاب، ليشكل هذا الفساد وجهاً لعملة واحدة وجهها الثاني الإرهاب، كل منهما يتغذى على الثاني، وبالتالي نحن امام واقع شائك ومعقد فلكي نفكك الإرهاب وندمره نحتاج الى حزمة واحدة من تلك السياسات التي ذكرتها.
ان معركتنا مع الإرهاب معركة طويلة الامد بسبب ان الولايات المتحدة نقلت معركتها معه (أي الإرهاب) من بلادها الى بلادنا وبالتالي يجري ما يجري من تقتيل نسبته الاعلى بين العراقيين لذا ينبغي تفعيل اجراءات خاصة بالتعاون مع القوات الأجنبية الموجودة في الداخل سيما وانها تمارس غطرسة متعالية، ولم تصغ حتى الآن لما يقوله العراقيون هذه اشكالية كبيرة على الرغم من انهم يخسرون الكثير مما يؤلب عليهم شعوبهم وبالتالي يضعون أنفسهم في خانق ضيق، ومع ذلك نبقى نحن بحاجة الى تنسيق مشترك معهم بطريقة ما من اجل تحقيق اجراءات مضادة للارهاب سليمة ومتماسكة وبذلك نستطيع ان نفككه تفكيكاً نهائياً، كما إننا سنختزل الزمن لو تحقق التعاون بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لان هذه الدول تمتلك خبرة واسعة في مكافحة الإرهاب.
ان الزرقاوي يهدد بافشال العملية السياسية ويهدد الشيعة ويدعوهم بالروافض وكذلك السنة ويدعوهم بالنواصب، ويهدد حتى المسلحين الآخرين من الارهابيين وكذلك القوى السياسية المختلفة ويقرر ان كل من لا يتعاون معه فهو كافر فيما ظل التعامل مع الإرهاب من قبل الحكومة ضعيفاً ومشتتاً، السيد الجعفري مارس سياسة سيئة تجاه الإرهاب قادت الى صراع طائفي ومزيد من العواقب الوخيمة، قادت الى العديد من القتلى من كل الاطراف شيعية كانت ام سنية، ولكن لماذا هذا الاصطفاف المذهبي؟ وهل تستحق السلطة هذه التضحيات؟ فيما تتراجع القوى العلمانية والديمقراطية الى الوراء بعملية اقصاء غير مبرر، هذا وضع سيئ جداً، وعلينا الاعتراف بذلك كيما نستطيع معالجة الحالة، انهم يرتكبون خطأً فادحاً عندما يعمقون الصراع ويكرسون الاصطفاف الطائفي، السنة والشيعة مذاهب سليمة ووجودها دليل على حيوية الدين ومن السلامة الفكرية ان تكون هناك مذاهب متعددة ولكن لا ينبغي لها ان تتصارع بل ينبغي ان يكون الوطن للجميع والدين لله، انه امر معيب ان نتقاتل على المراكز في ظل فقدان الثقة المريع بين الاحزاب والقوى السياسية الذي راح يعمق الخلافات في حين ينبغي على تلك القوى والاحزاب ان ترتفع عن ذلك لتعزيز الثقة وايجاد قواسم مشتركة تواجه التحديات الشاخصة في انعدام الامن والخدمات وشيوع ظواهر الفساد الإداري.
* للدكتور كاظم حبيب مساجلة خطرة بثها التلفاز عام 1976، هل لنا ان نتعرف على مجرياتها وجوانبها الخفية ومن ثم تبعاتها؟
- حضر صدام حسين مؤتمراً زراعياً وناقش موضوعات سياسية وليست اقتصادية ولكن ذات خلفية اقتصادية ووجدت انه غير منصف واتسمت طروحاته بطوباوية تفتقر الى المنهج العلمي، فاضطررت الى ان ارتقي المنصة بعد ما نزل هو منها ليجلس في الصف الامامي مع جمهور الحاضرين وكان ذلك في العام 1976 وطرحت وجهة نظري في بطلان طروحاته واشرت الى انه يتخذ قرارات من دون ان يتشاور مع احد، وغالباً ما تكون تلك القرارات سبباً في صنع ازمات مختلفة كالشحة في البيض، أو الدجاج أو اللحوم أو غيرها من المواد الغذائية، وبطبيعة الحال اغتاظ صدام من ذلك بشدة، واوضحت ان وجهة نظري لا تعني امراً شخصياً بقدر ما تنتمي الى السياقات الصحيحة في اتخاذ القرار.
وبعد ان انفضت جلسة المؤتمر نزلنا الى اسفل بعدما كنا في قاعة في الطابق الثاني من المبنى واشتبكت مع صدام بحوار استغرق أكثر من ساعة ونصف وكان حواراً جاداً وشديداً اتهمتهم فيه بمحاولة الانفراد بالسلطة وتدمير العملية السياسية الجارية آنذاك في البلد، كما اشرت الى ان ميشيل عفلق كان يهاجم الاطراف المنضوية في الجبهة الوطنية آنذاك فيما كانت اجهزة الحكومة الامنية تلفق بيانات تضر بسمعة احزاب الجبهة من غير حزب البعث وفي الوقت الذي كنت فيه واضحاً محدداً معه في طرح وجهة نظري راح هو يماطل ويسوف بحديث غير ذي صلة عن سيغموند فرويد وكيفية استخدام منهجه في كسب الشباب وغير لك من اساليب المراوغة ..
والى هنا انتهى الحوار، غير انني كنت موقناً ان صدام سيبيت الضغينة لي حتى جاء يوم اعتقالي في العام 1978، وقد اطلعني مدير الامن العام آنذاك الدكتور فاضل البراك اثناء حديث ليلي بيني وبينه وكنت انتقد فيه بشدة النهب الحاصل في اموال القطاع العام عبر إقامة مشاريع وهمية وسوء الادارة والتخطيط من قبل مسؤولي الحكومة، اطلعني الدكتور البراك على ورقة تحتوي على ثلاث عشرة فقرة مرسلة من قبل صدام الى البراك يشرح فيها ما ينبغي فعله معي في زنازين معتقلي من أنواع التعذيب التي مورست معي بكل وحشية وهمجية ومنها مثلاً الضرب المبرح والمتكرر بكعب الحذاء على منطقة نخاعي الشوكي لاحداث عاهة عقلية لدي وقد ذيل ورقته تلك بان لا يسمح بالافراج عني الا بأمر شخصي منه، غير انهم لم يحصلوا طول فترة اعتقالي التي امتدت الى أكثر من خمسة عشر يوماً على أي شي مما كان يريد صدام حسين، لقد كان ما يشبه المرجل تحت زنزانتي لترتفع درجة حرارة الزنزانة الى أكثر من سبعين درجة مئوية ورحت اتصبب عرقاً ثم تخفض درجة الحرارة الى حد البرودة مما سبب لي كثرة التبول، وبعد الافراج عني اصبت بالفطريات المختلفة وفقدت أكثر من عشرين كيلو غراماً من وزني، وعلى وجه العموم كان صدام حسين شخصاً باطنياً معقداً وشرساً، إذ كان يلوذ بالصمت عندما تعوزه الحجة ويبيت الغدر فيما بعد لمن يختلف معه، بعد خروجي من المعتقل جاءني الاخوان عامر عبد الله ومهدي الحافظ ليخبراني ان لم يعد مبرر لوجودي داخل البلد لاسيما ان زبانية النظام قرروا الخلاص مني بقتلي بعد ان طلبوا مني المثول امام ما يسمى بمحكمة الثورة بتهمة اهانة (الثورة) في المقال الذي نشرته آنذاك (طريق الشعب) عام 1978، هكذا كان الأمر مع صدام حسين الدكتاتور البشع.
* دكتور حبيب، ما هو انطباعكم بشأن انتخاب الأستاذ جلال طالباني لرئاسة الجمهورية للأربع سنوات المقبلة ؟
- لعب الأستاذ مام جلال طالباني دوراً مهماً في لملمة الصف الوطني وتعبئة القوى حول برنامج وطني لتجاوز المشكلة التي نعاني منها، أي ان مام جلال لم يكن يلعب دوراً كردياً بل دوراً وطنياً وعراقياً بوصفه رئيس جمهورية وبالتالي هو ليس رئيساً للكورد فقط وانما هو رئيس للعراقيين جميعاً عرباً وكورداً وقوميات أخرى، من هذا المنطلق كان دوره حيوياً وفاعلاً ومنتجاً، وانا لم أزل اتذكر الصديق مام جلال إذ كنا معاً في موقف السراي عام 1956 ومعنا حبيب محمد كريم والشهيد الراحل عبد العزيز الدوري وآخرون ومن ثم التقينا في مسيرة النضال مراراً واخر مرة التقينا في براغ وقبلها في حركة الانصار، ومن خلال تلك العلاقة الوطيدة والطويلة استطيع ان اقول ان هذا الرجل مام جلال يستحق هذا المركز بجدارة، كما انه كسب ثقة التحالف الكوردستاني وقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني المتمثلة بشخص الاخ مسعود البارزاني وهذا امر مهم للشعب الكوردي لان الثقة المتبادلة بين القيادات لها الاثر الكبير على القواعد الطامحة الى وحدة الصف ووحدة كوردستان، واقولها بصراحة ان التحالف والحركة الديمقراطية الكوردستانية سيما وهي حركة علمانية تشكل ضمانة لعدم سير العراق وفقاً للخط الديني، كما انها ضمانة لان لا تكون دولة العراق في المستقبل دولة دينية على الطراز الايراني أو الافغاني لان هناك من يريد ان نكون ايرانيين أو افغاناً، لذلك انا أهنئ الأستاذ جلال الطالباني على اختياره لرئاسة جمهورية العراق وانا كلي ثقة بانه سيسهم باسهامة فعالة في عملية وحدة الصف الوطني ومن ثم وحدة العراق، كما انه عكس في طريقة اداراته السياسة داخلياً وخارجياً انموذجاً حضارياً لما ينبغي ان يكون عليه السياسي في هذه المرحلة، فهنيئاً للشعب الكوردي ان يكون من بين ابنائه رئيساً للبلاد، وهنيئاً للشعب العراقي هذه الممارسة التي تعكس استحقاق المواطنة في أي منصب كان ومن اية قومية جاءت ومهما كان جنس المواطن امرأة كانت ام رجلاً، وهي خطوة دافعة للامام نتمنى ان تكرس ونتمنى ان تتغير في ظلها البنى الاقتصادية والاجتماعية وان يتحقق لدينا تنوير ديني من دون تخندقات وتموضعات ضارة بمسيرة العراق.


من هو متين فندقجي ؟ .. تــرجـمــة الأدب الـعــربـي الـى الـتـركـيــــــــة

علي بدر

في اسطنبول، في شارع الاستقلال المزدحم بالمقاهي والمكتبات والبوتيكات والاعلانات في الشارع الذي يضم اكبر الغاليريهات الفنية، ومحال الاسطوانات الموسيقية، واجمل المطاعم، في شارع المثقفين الذي يرتاده الشعراء والروائيون والسياسيون والطلاب والسواح الاجانب، كنت توقفت ظهيرة يوم مشمس امام واحدة من اكبر مكتباته وهي مكتبة رامز قتابفي، كانت الرفوف مملوءة بالكتب، لا الكتب التركية والتي تحمل اسماء شعرائها وروائييها وكتابها، انما الكتب الأجنبية المترجمة ايضاً: روايات دستيوفسكي وجيمس جويس واندريه مالرو وسارتر، وكتب قديمة وحديثة من كارل ماركس الى بول اوستر.
شيء لافت للانتباه بطبيعة الأمر، ذلك ان الثقافة التركية تلاحق الإنتاج الثقافي العالمي دون تمييز، أدب اوربي، افريقي، صيني، ياباني، هذا يعني انها لا تتبع سياسييها في موضوعة تحول الدولة التي كانت يوماً ممثلة للخلافة الإسلامية، بل ممثلة للشرق وممثلة لآسيا الى دولة اوروبية، وهو امر لا يمكن اغفاله مطلقاً، بل هو شغل شاغل للناس، في الجامعة وفي الباص وفي الشارع وفي المقهى، وفي كل مكان.. لكن تركيا، أو لنقل ان الثقافة التركية، وهي ممثلة للشرق بالفعل، وحتى اليوم وفي الاقل من الناحية الثقافية، فهي عالمية، وكونية، مثلما كانت في يوم من الايام امبراطورية، وهي مازالت حتى هذه اللحظة على صلة بالشرق.. حتى وان لم تعد متربول الشرق الحواضري لا ثقافياً ولا اجتماعياً ولا سياسياً.
كنت أقلب الكتب أقرأ العناوين بتركية ضعيفة، واحاول ان أسأل صديقتي الشاعرة التركية التي كانت برفقتي عن بعض المعاني، وأردها الى مكانها، أبحث في كتب السياسة والاجتماع والروايات، بعضه أعرفه، والآخر اجهله، والغالبية المطلقة من أسماء الكتاب الاتراك هم مجهولون نسبة لنا بطبيعة الأمر.. ذلك لأن ثقافتنا لا تهتم الا بما ينتجه الغرب، وحتى كتابهم الأكثر شهرة مثل ناظم حكمت أو اورهان باموق أو نديم غورسيل أو عزيز نسين فانهم لم يفدوا الينا الا بعد ان احتفت بهم الثقافة الغربية، وقد وصلوا الينا عبر لغات اوروبية اولاً، ومن ثم أخذ الاهتمام بهم يتصاعد عبر مترجمين عرب كانوا قد ترجموا بعض اعمالهم مباشرة من التركية الى اللغة العربية.
وانا اقلب في كتب الشعر وقع بيدي ديوان لأدونيس مترجماً الى التركية.. يا لفرحتي تلك اللحظة واندهاشي لسرعة هذا التواصل الحي لثقافة لا أقول مجاورة لثقافتنا، بل محايثة لها، فقبل مئة عام كانت اللغة التركية والثقافة التركية هي ثقافتنا الرسمية، هي لغة أعظم كتابنا التي درسوا عليها ودرسوا بها مثل الزهاوي والرصافي وندرة مطران وغيرهم، كانت استنبول هي المتربول الحواضري لثقافتنا، هي ينبوع افكارنا ومهد سياستنا، هي امبراطوريتنا التي دافع عنها اجدادنا في حروبها الكثيرة وهلكوا فيها من حرب القرم الى حرب البلقان، فمن غير المعقول ان تنتهي اواصر الثقافة بيننا بلحظة واحدة، وتصبح غريبة وهامشية وبعيدة ونائية.
ربما لاننا بعد السلطنة ودخولنا عصر الاستقلال، ودخول تركيا الحديثة عصر الجمهورية الاتاتوركية المتجهة بكليتها الى اوربا، قد اشحنا بوجهنا عنها، وأدارات هي ظهرها لنا، وهذا الأمر مفهوم دون شك على المستوى السياسي، ولكن الا يجدر بنا ان نصحح هذا الموقف على المستوى الثقافي؟
لم تكن كتب أدونيس وحدها المترجمة لى التركية بل كانت دواوين محمود درويش ايضاً، ولا سيما ديوان أعراس، وقصيدته الطويلة عن حصار بيروت، وهناك ترجمات لقصيدة صور لعباس بيضون وقصائد لأمجد ناصر وقصائد لنزار قباني ولشعراء آخرين، وكلها من ترجمة اسم مجهول لدينا هو متين فندقجي، وكان من حقي ذلك الوقت ان أسأل باندهاش كامل:
* من هو متين فندقجي؟
وكنت كتبت بعد عودتي من اسطنبول مباشرة مقالة في صحيفة المدى بعنوان: من هو متين فندقجي؟ فلم استطع لقاءه ذلك الوقت في اسطنبول وهكذا بقي لدي مترجم الشعر العربي الى التركية مجهولاً.
هذا العام، في مهرجان جرش في عمان، جلس شاعر تركي على مقربة مني، وقدم نفسه لي باقتضاب كامل: متين فندقجي.. شاعر تركي! صرخت إذن انت متين فندقجي الذي ترجم أدونيس ومحمود درويش و..و.. و.. شعرت بسعادة حقيقية لدعوته الى مهرجان شعري عربي بدلاً من الوفود النصف الذين يضرون لا ينفعون، والذين يكثرون وينمون مثل الفطر هذه الايام في مهرجاناتنا، فهذا مكانه الحقيقي، والطبيعي، والصحيح لا بوصفه المعرف الحقيقي بشعرنا الى ثقافة مهمة مثل الثقافة التركية فقط، بل لنتعرف نحن عليه أيضاً، نتعرف على شعره ونتعرف من خلاله على ثقافة مهمة مثل الثقافة التركية، شعرت بفيض سعادة لا تضاهى، سعادة غالبة أيضاً، لأنني عرفت من هو متين فندقجي:
فهو شاعر تركي من ماردين، المدينة الأقرب لسوريا والعراق، درس الادب العربي في جامعة أنقرة، أصدر ديوان (خراب) في العام 1992، ثم أصدر ديوان (قلبي تحت الماء) في العام 1994، وفي العام 2001 أصدر ديوان مسافة القرنفل، وفي العام 2004 أصدر ديوان (المنسي) وهو مترجم الشعر العربي الى التركية فقد ترجم (الكتاب) لأدونيس بأجزائه الثلاثة، ويشرف على طبع انطولوجيا تضم 29 شاعراً عربياً.. يكتب الكثير في الصحف والمجلات التركية عن الشعر التركي والشعر العربي معاً.
الثقافات لا تعيش بمفردها على الاطلاق.. لا تعيش معزولة ولا منفردة، ولا تسهم فقط بتهذيب أحاسيس الناس وتمنحهم الأمل، وانما تعرف الثقافات الأخرى بنفسها وتسهم بتعزيز التقارب بين الشعوب وتعزز السلام.. هذا السلام الذي نحن أحوج ما نكون اليه.


تهافت الستينيين، اهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي - المؤلف/ فوزي كريم

المدى الثقافي

يستعيد الشاعر فوزي كريم صورة الستينيات العربية والعراقية، فورة الحياة والفن، وأحلام أجيال تبحث عن التغيير، حيث الثقافة والسياسة في طريقين مختلفين، أحدهما طريق الكارثة. صور وأفكار حية، شعر وموسيقى وفنون تبحث عن هوية تشق طريقها، قبل الانهيارات الكبرى التي نعيشها اليوم. يقول المؤلف: الهوة بين النص الشعري وخبرة الشاعر الداخلية ظاهرة عربية، امتدت من الشعر الجاهلي حتى اليوم. عرضتُ لها بتفصيل في كتابي "ثياب الامبراطور". هذا الكتاب الجديد امتدادٌ له، ولكنه يُعنى بوجوه أخرى إضافية من الظاهرة، وفي عصرنا الحديث بالذات. هذه الوجوه العصرية استجابة ليست متعافية لنشاطات الغرب بالغة الكثافة والتعقيد. محاولة منها لإشعار نفسها بالتكافؤ مع الغرب، وتجاوزه أيضاً، وبالتالي كراهيته وتنشيط فعالية العداء غير العقلاني له. وكما بدت الجملة العصرية مترجمة، وبدت القصيدة مترجمة، بدا الوعي الثقافي والأدبي مترجماً هو الآخر. قناع مورّد بالأصباغ، يخفي الوجه الحقيقي الشاحب. هذا واضح في أصوات شعرية كثيرة، يمكن لقصيدة النثر أن تكون أوسع أوعيتها. وأصوات نقدية أكثر، تحت راية البنيوية والتفكيكية. فورة الستينيين كانت محاكاة،
ولكن صادقة العواطف. وهنا يكمن موطن مخاطرها. لأن أهواءها الخيالية طمعت بأن تكون فعلاً، وفعلا سياسياً بالدرجة الأولى. وإذا كان مفكرٌ أصيل مثل هادي العلوي صادقاً وغير محاكٍ، إلا أن أفكاره التي تسعى الى الفعل لا تقل خطورة بسبب هذه الأصالة وهذا الصدق. في الشعر لم أسع الى شعراء الظاهرة، بل انتخبت، في المقابل، عيّنات من شعراء الخبرة الداخلية. شعراء التيار الذي حفر مجراه ضيقا، ولكن عميقاً، الى جوار التيار الأغلب. احتـل هذا المسعى القسم الثاني من الكتاب.


من بحوث أسبوع المدى الرابع: مثقفو الخارج جزء من الثقافة العراقية الواحدة ( 1-2)

داود امين

يشكل عدد المثقفين العراقيين المقيمين خارج الوطن، نسبة كبيرة، اذا ما قورن باجمالي عددهم العام، كما ان حجم انتاجهم الابداعي كبير وواسع، مقارنة بالانتاج العام لمثقفي العراق، حتى بات الحديث (مقبولا) عن ما يسمى بـ (ثقافة في الداخل.. واخرى في الخارج) او اصبح الكلام مألوفا عن ( مثقفي الداخل ومثقفي الخارج) .
أن هؤلاء المبدعين العراقيين الموجودين خارج الوطن، يتوزعون الآن على معظم قارات العالم، ويتركزون في اوربا بشكل خاص (في انكلترا و هولندا.. والبلدان الاسكندنافية تحديدا) ولهذا التركيز اسبابه ودوافعه التي لا مجال لذكرها الآن، ولكن من المهم معرفة متى جاء هؤلاء المثقفون العراقيون للخارج، وما هي ظروفهم خارج وطنهم ؟ وهل هناك مسعى للاستفادة من هذا الوجود الكثيف؟
الهجرة مفردة جديدة في القاموس العراقي
أعتقد ان مسالة الهجرة، ومغادرة الوطن، والعيش في وطن بديل، هي موضوع جديد على العراقيين فتاريخ العراق البعيد والقريب لا يشير لهجرات معروفة لبلدان مجاورة للعراق، ناهيك عن بلدان بعيدة عنه، واذا كانت للسوريين واللبنانيين جاليات عريقة في الولايات المتحدة وامريكا اللاتينية وافريقيا ومنذ قرون، بحيث اصبح السوري (كارلوس منعم) رئيسا للارجنتين وهو من قرية (يبرود) المحاذية لدمشق، فليس هناك ما يشير لهجرة مماثلة او وجود جالية عراقية في بلد ما في العالم، واعتقد ان السبب الرئيس في بقاء العراقيين في وطنهم يعود لغنى العراق وتوفر معظم الخيرات فيه من انهار وثروات زراعية وحيوانية، مما وفر وسائل العيش الاساسية لسكانه، وهذا بدوره خلق الجوانب النفسية التي ميزت العراقيين ومنها التمسك بارضهم والالتصاق بها وعدم القدرة على مغادرتها، حتى ان الانتقال من محافظة لاخرى داخل العراق ، كان امرا صعبا وإلى فترة قريبة، كما خلق لدى العراقيين زهدا في الجوانب المادية واهتماما ربما متميزا بالجوانب الروحية، التي لاتزال تشد العراقي وتثقل خطواته كلما فكر بمغادرة وطنه او محل سكناه.
لقد كان العراق طوال تاريخه مكانا لأحتضان المهاجرين فقد مرت اقوام كثيرة على هذه الارض، واندمجت بشعبها واصبحت بعد ان ذابت جزءاً من نسيج هذا الشعب، لذلك اؤكد ان وجودا ملموسا للعراقيين في الخارج لم يكن له اي اثر قبل نصف قرن من الزمن .. واذا كنت اتحدث عن وجود عراقي عام فما بالك بوجود مثقفين عراقيين وهم شريحة صغيرة اذا ما قيسوا بالوجود العام، اذن لنحاول البحث في الخمسين سنة الماضية لنتلمس هجرة المثقفين اسبابها ودوافعها .
هجرة المثقفين
أعتقد ان التحول الجذري الذي احدثته ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، رغم حدته، لم يسجل هجرة ملحوظة للمثقفين العراقيين خارج وطنهم، اذ ان المثقفين العراقيين ارتبطوا تاريخيا بالحركة الوطنية والتقدمية العراقية- وباليسار العراقي تحديدا وكانت ثورة تموز بشعاراتها واهدافها، وما احدثته من تحول، خصوصا في اشهرها الاولى، استجابة لطموحات واماني هؤلاء المثقفين، رغم خيبة امل بعضهم، من نتائجها فيما بعد، لذلك نستطيع القول ان عددا قليلا ربما لايتجاوز اصابع اليدين من المثقفين العراقيين خرجوا بعد ثورة الرابع عشر من تموز وبسببها، واقاموا في المنفى، ويمكن اعتبار حالة الروائي العراقي الكبير( غائب طعمة فرمان) الذي اقام في المنفى منذ عام 1957 حالة نادرة ، ولا علاقة لها بثورة تموز ونتائجها .
ولكن العلامة الفارقة في موضوعة هجرة او تهجير المثقفين العراقيين يمكن تسجيلها مع القرار الذي اتخذه الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري بمغادرة العراق عام 1961 والاقامة في براغ، هربا من التصفية الجسدية ، بعد ان اختلف مع حاكم العراق حين ذاك ( عبد الكريم قاسم )، فهذا القرار كان البداية الحقيقية للهجرات والتهجيرات اللاحقة لعشرات ومئات المثقفين العراقيين، وقد فتح الباب على مصراعيه لان تمارس السلطة حريتها، عندما يختلف المثقف معها، في حرمانه من حق المواطنة، ومن حق العيش بين اهله ووطنه بسلام.!!
أذ لم تمض سوى سنتين على ذلك النفي الظالم للجواهري، حتى حلت كارثة 8 شباط الاسود عام 1963، والتي دفعت عددا كبيرا من المثقفين العراقيين الذين كانوا خارج الوطن لاسباب مختلفة للبقاء خارجه، ربما لعقود لاحقة، بعد ان سحبت سلطة الانقلاب الجنسية العراقية عنهم ، معتبرة اياهم غير عراقيين .هذا بالاضافة لعشرات المثقفين العراقيين الاخرين الذين استطاعوا مغادرة الوطن بعد الانقلاب بأشهر او سنين مستخدمين مختلف الاعذار للهروب من السلطة، في حين غصت المعتقلات بالمئات منهم. كما هاجر عدد من المثقفين العراقيين بعد مجيء البعث مجددا إلى السلطة عام 1968، ولكن اثر هؤلاء المثقفين ، لم يكن محسوسا في الواقع الثقافي العراقي ولم يؤسسوا لشيء ثقافي واضح في الخارج، اذ كانت مواقفهم ذات طابع فردي غير مؤثر.
الهجرة الاوسع للمثقفين العراقيين
يمكن اعتبار نهاية عام 1978 وطوال عام 1979 المؤشر الاكثر وضوحا للهجرة الواسعة للمثقفين العراقيين، ومن مختلف الاختصاصات ومن جميع مدن العراق وعاصمته، ويعود السبب الرئيس لهذه الهجرة الواسعة للانفراط الوشيك للتحالف الجبهوي بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي ، والذي بدات ملامحه تظهر اواخر عام 1978 وانفرط بالفعل في نيسان عام 1979 ، باغلاق جريدة الحزب المركزية ( طريق الشعب) ومطاردة واعتقال قادة الحزب واعضائه واغلاق مقراته في بغداد والمحافظات ومصادرة مطابعه وبناياته وبقية املاكه!!
وقد يتساءل البعض عن العلاقة بين انفراط التحالف بين حزبين سياسيين وبين هجرة المثقفين العراقيين، وبذلك الزخم الواسع، وبمثل ذاك الوضوح؟ وللاجابة عن سؤال مشروع كهذا من الضروري الاشارة إلى ان سلطة البعث وبالرغم من استخدامها (العصا والجزرة) ولاكثر من عقد من السنين منذ استحواذها على السلطة عام 1968، لم تستطع ان تكسب جميع او معظم مثقفي العراق ومبدعيه، بل ظل المئات من هؤلاء محسوبين على اليسار العراقي ، سواء بالانضواء داخل صفوفه كأعضاء ، او البقاء على ضفافه، او في خانة (غير البعثيين) في اقل تقدير. وهؤلاء المبدعون عمل الكثير منهم في صحافة الحزب الشيوعي العراقي، وفي الفرق والجمعيات والنوادي المسرحية والتشكيلية والادبية ونوادي الاقليات المحسوبة على الحزب الشيوعي، او التي لا علاقة لها بالبعث، في اقل تقدير . وكان التحالف الجبهوي الذي استمر اكثر من خمس سنوات، رغم هشاشته، يشكل جدارا ليس سميكا تماما، يحول دون ارهاب السلطة العلني والصارخ لهؤلاء، ويمنحهم هامشا صغيرا من الحرية النسبية للابداع.
أن انهيار التحالف بين الحزبين جعل المثقف اليساري أو الديمقراطي أو المستقل مكشوفا وواضحا امام دولة (جبارة)! لديها خبرة أكثر من عشر سنوات من الحكم، وموارد مالية هائلة، ومؤسسات اعلامية و(ثقافية) عملاقة واجهزة امن ومخابرات لا مثيل لها، وعلاقات عربية ودولية واسعة ووطيدة.
وكان على المثقف العراقي هذا ان يختار بين ان يظل داخل الوطن فيستشهد او يسقط او ينزوي ويصمت.. وبين ان يغادر، وبالفعل استشهد الشاعر خليل المعاضيدي والقاص ناصر الجيلاوي وغيرهما.. وقد شجعت قيادة الحزب الشيوعي، التي غادر الكثير من اعضائها الوطن مع بدء الحملة ضد الحزب واثنائها، شجعت المثقفين العراقيين، وبينهم عدد كبير من الكوادر الحزبية، على المغادرة، وساعدت بعضهم لتحقيق ذلك .. ولكن الاغلبية الساحقة من المثقفين العراقيين المحسوبين على الحزب الشيوعي بادروا بجهودهم، اسوة ببقية اعضاء الحزب واصدقائه لايجاد الطرق المختلفة، لانقاذ انفسهم من محنة الموت او السقوط .. أبتداء من المشي عبر صحراء السعودية والكويت (كما جرى للشاعرين عبد الكريم الكاصد ومهدي محمد علي) إلى التسلل عبر كردستان او ايران أو سوريا أو عبر المطارات بجوازات مزورة أو باسماء مختلفة ..إلخ.
ويمكن القول ان ظروفا موضوعية اخرى ساعدت على توسيع هذه الهجرة وتتمثل هذه الظروف في :-
* السفر إلى سوريا عبر الهوية الشخصية، في نفس فترة الحملة سهل خروج العشرات من المثقفين العراقيين، بعد حصول الكثير منهم على هويات مزورة تحمل اسماء اخرى.
* وجود البلدان الاشتراكية التي احتضنت الاف العراقيين الهاربين من سلطة البعث، وبينهم عدد كبير من المثقفين.
* وجود جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية واحتضانها للشيوعيين العراقيين واصدقائهم وبينهم العشرات من المثقفين.
* وجود منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة المختلفة في لبنان سهل احتضان العديد من المثقفين العراقيين وايجاد فرص العمل والرواتب المجزية لهم.
* توفر فرص العمل في بلدان المغرب العربي والجزائر بشكل خاص لعدد من المثقفين العراقيين كمعلمين ومدرسين واساتذة جامعيين وغيرها من الاختصاصات.
* تشكيل فصائل الانصار في كردستان العراق وانخراط العشرات من المثقفين في صفوف هذه الحركة .
مميزات هذه الهجرة ..
ربما تشكل هجرة المثقفين هذه ظاهرة متميزة تحتاج لدراسة اعمق واشمل من مداخلة سريعة كالتي اقدمها الآن.. فللمرة الاولى في تاريخ الثقافة العراقية يتنادى المثقفون العراقيون لتشكيل رابطة مهنية تضم الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين (ركصفدع) استجابة لنداء وجهه الشاعر سعدي يوسف من منفاه في باريس صيف 1979، وقد استجاب لهذا النداء معظم او جميع المثقفين العراقيين الذين كانوا ينتشرون في الكثير من البلدان، اذ تجمع هؤلاء في كل بلد على حدة واسسوا فرعهم الخاص بالرابطة وانتخبوا هيئة ادارية لقيادة الفرع، ثم اعلنوا انهم جزء من الرابطة الام . وكان لاصدار مجلة (البديل) الخاصة بالرابطة اثر كبير في توطيد مكانتها ليس في صفوف المثقفين العراقيين في الخارج فقط، بل بين المثقفين العرب ايضا الذين ساندوا الرابطة واعضاءها ووقفوا إلى جانب نضالهم ضد سلطة القمع والارهاب .
وقد عقدت الرابطة عددا من المؤتمرات ، وانتخبت هيئات قيادية للمركز والفروع كما شكل العديد من فروعها فرقاً مسرحية واخرى موسيقية وتم تنظيم معارض تشكيلية وايام ثقافية مركزية وفرعية، لكن هذا الكيان الثقافي الفاعل لم يلبث ان تراجع وانكفأ فتلكأت مجلة البديل في الصدور ثم توقفت نهائيا بعد ان اصدرت 15 عددا. كما نشأت مشاكل تنظيمية في معظم الفروع وفي المركز ايضا وانسحب العديد من المثقفين المرموقين من الرابطة التي لم يبق من فروعها سوى فرع سوريا إلى ما قبل سقوط النظام ..!!
أن اسباب انهيار الرابطة وتشتت المثقفين العراقيين كثيرة ولكن يمكن اجمالها في نوعين من الاسباب:


الجماعات الفنية التشكيلية العراقية  .. الرؤية الجماعية .. والحرية الفردية

خالد خضير الصالحي

لقد أدت سيادة نمط من فهم الفن التشكيلي مرتبط بالمعنى ، أدت الى هيمنه متلازمة الإيديولوجية والعناصر الخارج بصرية بما تحتويه من موجهات ولزوميات مسبقة هيمنت على عملية انجاز العمل الفني ، مما أدى الى تراجع حرية الفنان ومن ثم الافتقار الى الإحساس بأهمية (القطيعة) واعتبارها متلازمة للإبداع ، وانحسار التفرد الأسلوبي ، وهو ما وقعت فيه أجيال ما قبل الستينيات والجماعات التي تمخضت عنها بما كانت تهدف إليه حينما كرست ممارسة العمل الفني التشكيلي العراقي في خمسينيات القرن الماضي الى ضرب من الرؤية الجماعية التي تهتم (بالمعنى) في اللوحة ، فكانت ((تمثل رسوخ الوعي الاجتماعي في العمل والفن)) فطرحت جماعة بغداد للفن الحديث ، وهي الجماعة الخمسينية الأكثر نمطية في جماعات الخمسينيات، طرحت رؤية أسلوبية جماعية ضاع فيها جزء ضخم من شخصية المبدعين لصالح لزوميات خارج بصرية. لقد خلقت روح التجمع لدى جيل الخمسينيات ، بفعل إشاعة نمط من التماثل الأسلوبي ، الى (متتابعات شكلية) وهي أمر مهم في ظهور الجماعات الفنية في العراق في الخمسينيات ، وذلك بسبب بساطة المشكلات التي قامت عليها تلك الجماعات وهو التعبير عن الروح المحلية من خلال المزاوجة بين التراث والمعاصرة والاهم من ذلك شيوع (نسخ) التجارب الأخرى التي تلقى قبولاً بمعايير الخمسينيات، بينما بدأت (المتتابعات الشكلية) تختفي حال ظهور الأجيال التي أعقبت خمسينيات القرن الماضي ، حينما طغت الفردانية ، وتمجيد الأسلوب الشخصي الذي يشكل (قطيعة مضافة) مما يجعل من الصعب اكتشاف أنماط من تلك المتتابعات المتماسكة ، كما وجدت في تجارب الخمسينيين . لقد ساد تيار الفردية في الستينيات من خلال عاملين مهمين : عامل داخلي تمثل بخواء الواقع الاجتماعي والاقتصادي ، وأضواء التجربة السياسية القومية العربية ، وهزيمتها في حرب حزيران ، وعامل خارجي تمثل بهيمنة الفلسفة الوجودية والعدمية التي كرست الفردية ، فكانت العملية الفنية تحاول ان تبدأ في كل مرة بداية جديدة ، منقطعة عن المنجز السابق ، ومضافة إليه ، في الوقت ذاته ((فالفنان كان يرضى ان تكون له ذرية تتلوه ، ولكنه يرفض وجود أسلاف له سبقوه )) كما يقول (ا.ل.سمث) .
لم يتميز جيل الخمسينيات الذي رزح تحت هيمنة (التعبير عن الروح المحلية) بالتنوع ولا بالجرأة في استخدام مادة الرسم ، فلم تنتج قضية (التعبير عن الروح المحلية) متتابعة مهمة سوى تجربة جواد سليم وجمهرة من مقلديه ، بينما انتمت التجارب المهمة الأخرى التي ظهرت من قبل أهم الحمسينيين الى حقبة تالية هي الستينيات بفورانها الثقافي والأسلوبي وفردانيتها ، ومن أهمها : تجربة كاظم حيدر التي ((كان حافزها معرض (ملحمة الشهيد) من اجل البحث عن رؤيات جديدة)) فشكلت بداية الردة الكبرى في الستينيات بينما ظل أسلوب فائق حسن وإتباعه اسلوباً لا ينتمي الى الرسم (العراقي) ، بموجب فهم جماعة بغداد للفن الحديث، فهو أسلوب انطباعي استمر بفعل أستاذية فائق حسن في التقنية اللونية نقله أسلوبه هذا الى طلبة في أكاديمية الفنون الجميلة بغداد كجزء من متطلبات الدراسة الأكاديمية ، بينما جاءت المتتابعة (الأخيرة) عندما أسس مرتكزاتها أربعة من الرسامين الأكاديميين : محمد عارف ، وماهود احمد وفيصل لعيبي ، وبدرجة طفيفة عفيفة لعيبي ، و حاول تطويع قواعد الفن الأكاديمي للروح المحلية . وحالما انتهت متتابعة جواد سليم بوفاته المبكرة والتي جاءت بوقت مهم بالنسبة للتطور اللاحق للفن التشكيلي العراقي لتفتح صفحة جديدة حينما نهض بمهمة التأسيس (الجديد) فنانون متفردون لا مقلدين لهم ، وهو ما كان يفرضه الوضع في الستينيات، والذي لم يعد يحتمل تقليد تجربة كارزمية تحت أية ذريعة ، فكان شاكر حسن آل سعيد ابرز منظري جيل الخمسينيات قد انتقلت على عقبيه بتأكيده ان ((العمل الفني يظل بالأساس فردياً )) ويمثل ((في الأصل استقلال الفنان الشخصي في التعبير عن رؤيته الخاصة به ))، ووصف أهداف الجماعات الفنية في الستينيات ((البحث عن التقنية والأسلوب المعاصر في العمل الفني )) و((سبب اًًلظهور في السابق سبباً لتقديم رؤية ما )) ، كان نزوع الفنان الخمسيني يتقبل المسبقات القبلية بينما كان الفنان الستيني مندفعاً إلى التقاطع مع كل محاولة للحد من حريته فهو يطمح إلى البدء من جديد في كل مرة يواجه فيها اللوحة البيضاء .
إن ظهور جماعات الستينيات، وأهمها جماعة المجددين ((تمثل ولادة الفكر التقني والرؤيوي الذاتي المعاصر)) وصار المجدد يهدف إلى التعبير عن حريته في ممارسة التجربة الذاتية باتجاه التحول الثوري لجيل الستينيات وهو ((فهم العمل الفني ، وأي عمل فني ، من خلال (بنية) نفسها )) ، وقد وصف احد رسامي الستينيات في البصرة ، هدف الجماعات الستينيه ، وأهمها (المجددون): (يجعل الفن العراقي أكثر صلة بالتكنولوجيا وأكثر تعبيراً عن معنى الحرية والخلاص )).


حالات انسانية عـراقـيـة فــي سـدنـــي

سدني/ خاص بالمدى الثقافي

افتتح في غاليري (MLC)في وسط سدني المعرض الشخصي الجديد للفنان العراقي جسام خضر بحضور نخبة من الفنانين والمثقفين العراقيين والأستراليين.
والفنان جسام خضر هو أحد أبرز الرسامين العراقيين من جيل الثمانينيات، وكان شارك في عدد كبير من المعارض الجماعية العراقية للفترة من 1984 ولغاية العام 1994 وهو عام مغادرته العراق متوجهاً إلى ليبيا، ومن ثم العاصمة الأردنية عمان والتي أقام فيها لسنوات حيث أنجز هناك معرضين شخصيين الأول في قاعة الأندى والثاني في غاليري عالية بالإضافة إلى بضع مشاركات جماعية قبل أن يشد الرحال إلى أستراليا.
وفي أستراليا استطاع جسام خضر أن يشارك في عدد من المعارض الجماعية التي جمعته برسامين عراقيين وأستراليين، ومعرض(حالات انسانية)هو معرضه الشخصي الأول الذي يقيمه في سدني.
ضم معرضه الجديد عشرين لوحة مختلفة الأحجام مستخدماً فيها الأكريلك على الكانفس وصورت حالات انسانية كان الجسد علامتها الأولى. وفي افتتاح المعرض قال الفنان جون تشيز مان مدير المركز الفني في بلاك تاون في معرض تقديمه للفنان: إنها ولا شك إضافة مميزة إلى المشهد التشكيلي في أستراليا. إن ألوان جسام وتكويناته تسعى إلى ربط القصص والأماكن والصور الشرق أوسطية بالسياق الأسترالي العام، وإن اللذة التي تحققها رؤية أعماله تعكس علاقة العراقيين بفن التصوير الذي يعود إلى عصور سحيقة..
وبعد هذه الكلمة قدم القاص والمترجم العراقي حسن ناصر كلمة بالانجليزية جاء فيها: لا يقدم الفنان جسام خضر مجرد محاكاة للرموز والأفكار المندائية ولا يريد أن يستثمر هذه الرموز لتكريس حسه بالهوية، بل هو يعيد تركيب تلك المفردات بمنظار الفن الحديث. فاستخدامه الجسد البشري على سبيل المثال نابع من ايمانه بأن هذا الجسد هو رمز الحياة وهو بهذا يعكس الفكرة المندائية التي تقدس الحياة وتبدأ الصلاة بها، لكنه أيضاً يعيد تشكيل هذا الرمز بلونه الوردي الحي في فضاء بصري يستمد جمالياته من الفن الحديث.
جدير بالذكر أن الفنان جسام خضر كان نال جائزة الواسطي الأولى في العام 1989 في بغداد، وله مقتنيات فنية في دول مختلفة، و عمل مدرساً للرسم في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وفي ليبيا أيضاً، وهو يقيم في سدني منذ سنوات.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة