الــرقـابــة والـمـســـرح
(ان رجل الشرطة
والرقيب يسألان الكاتب بينما يسأل الناقد الكاتب فحسب) ..
جورج ستيفن
علي مزاحم عباس
من
السذاجة الاعتقاد بأن العالم قد تخلى عن الرقابة على
المصنفات الادبية والفنية والفكرية تخلياً كاملاً
وحقيقياً.
فمن
المعروف ان البلدان التي شرع فيها قانون رقابي تمارس فيها
الرقابة مباشرة وغير مباشرة. لهذا ليس غريباً ان تنتفي
الحرية المطلقة وبالتالي الرقابة. قد تنبثق الرقابة في ذات
المبدع حين يراقب جدل الذات والموضوع فتمسك بتلابيب المبدع
وتدس اصابعها في صلب العملية الخلاقة فلا يجد بداً من
الانصياع لشراكها. اما ما يحصل في البلدان التي يختفي
القانون فيها فتحل محلها رقابة من نوع آخر.
فالراديكالية المتشددة تجثم على انفاسها بمحرماتها
وكوابحها. كما تؤثر مؤسسات المجتمع المدني الفجة، وتندس
الثقافة الجماهيرية المبتذلة وتحرفها تضليلات الاعلام
الديماغوغي الاستهلاكي. والامر والانكى من هذا كله هيمنة
السوق بقوانينه الطاغية التي لا ترحم ولا تحترم قيماً أو
ضميراً يردعها اذ يهمها ترويج السلعة ليس إلا وحين يجد
المبدع نفسه في مواجهة هذه العوامل أو واحد منها تراه وقد
راح ضحية رخيصة وبات امثولة وعبرة. فما العمل.؟ هل يصمت
ويعزل نفسه ليموت مبدعاً قبل ان يفنى فيزيقياً متحولاً إلى
رقم في صف القطيع ام يرفض فيحتكم إلى القانون دفاعاً عن
حقوقه، والقانون يتظاهر بالحفاظ على مصالح المجتمع العليا
وآداب المجتمع!، وتدور في الاعماق الصراعات مستجيراً من
نار حارقة إلى قوة ماحقة. ترى هل يتخذ سمة المنتظر أملاً
في ظروف اكثر تحضراً وانسانية كيما تتفتح مواهبه؟ على أي
حال التاريخ لا يصنعه الانتظار. اليس كذلك؟
والآن لنذكر الرقابة في المسرح: فمن المعروف ان المسرح في
ابسط مظاهره نصا وعرضا يخضع في بعض البلدان إلى اكثر من
شكل رقابي فعندما تنشر المسرحية في مطبوع أو عند عرضها فلا
بد من ان تمر على الرقيب قبل كل شيء ليفحص كيفية معالجة
النص وينظر إلى ما بين يديه ويفحصه بعين الريبة خاصة عندما
تكون الجهة المنتجة محط شك فتراه يشحذ خياله وحواسه
ليقرأها بين السطور أو ما خلفها فتراه يرفض النص لاعتبارات
غالباً ما تكون مضحكة أو هابطة متخيلاً حيثيات مضمرة لا
اساس لها في صلب النص. وتأخذ السلطة برأي الرقيب فلا رجوع
عنه - وفي الغالب لا قرار استئناف إلا في حالة التوازنات
السياسية أو اسباب (ذرائعية) براغماتية، وغالباً ما يزايد
الرقيب على صاحب الاثر الادبي أو الفني في نواحيه الادبية
والفنية وان كان لا يعير التفاتاً إلى انحطاط مستوى العمل
وتهافته.
ومن المعروف ايضاً، ان طبيعة العرض المسرحي المركبة والحية
هي محصلة التحام وتظافر عناصر التجسيد ومستلزمات التشخيص
وهو ذو طابع حي انساني حيث يتواجه المتفرج والمؤدي ويحس
بنبضه ويشعر بمشاعره وينفعل بانفعالاته. وهنا يتميز العرض
المسرحي بطابع آخر هو عملية التغيير طيلة ايام العرض ففي
يوم يتألق العرض أو يتردى لظروف خاصة وأخشى ما يخشاه
الرقيب ان يتصرف المخرج أو الممثل في المعاني أو يضمنها
رموزاً واشارات لم تمر عليه، فاشارة واحدة قمينة بقلب
المعنى رأساً على عقب وتعرض الرقيب إلى المأزق.
وثمة صفة ثالثة يتصف بها العرض المسرحي هي قابليته على
الاسقاط السياسي أو الاجتماعي والاسقاط ذلك الخيط السري
والسحري الذي يربط المشاهد بفريق العرض، يربط الصالة
بالخشبة أو بين العالم الداخلي للعرض بشفراته لغته الخاصة
وبين اذهان ومخيلات المتلقي وعالمه الداخلي ووعيه الجمعي
وكثيراً ما ادى ادراك الرقيب للاسقاط إلى الغاء العرض. ومن
امثلة ذلك تفسيره لمسرحية "رسالة الطير"لقاسم محمد عن نص
تراثي، فقد ربط الرقيب بين محتوى العرض والمعارضة الخارجية
فالعرض ينتقد خطأ اعتمادها على الضمير الاجنبي لتحقيق
الفوز والتغيير، فعليها الاعتماد على قواها الذاتية أي في
الداخل. وهكذا تعرض المخرج والمعد الفنان قاسم محمد إلى
المساءلة الامنية. فهذا المثال يؤكد خطورة المسرح حين
يمارس الاسقاط دوره في التنوير والتحريض. وقد ادركت
السلطات هذه الخطورة وبطلان الدعوة إلى نبذ السياسة في
المسرح. قد تكون هذه صحيحة فيما يخص المسرح الفج ذي
المضامين الظلامية والفاشية والمعالجات الضحلة التي تتعكز
على السياسة المباشرة الغبية. بعد هذا هل يقول البعض بوجود
حرية مطلقة وان لا وجود للرقابة الا في الخيال؟
|