قاسم محمد عباس
يتفق معظم الدارسين العرب للاستشراق على المكانة الخاصة التي
يتمتع بها المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون في الدراسات
الاستشراقية. تلك المكانة التي تعززت عبر مجموعة هامة من
الدراسات والكتب التي أثارت الكثير من الأسئلة حول الإسلام
وابرزها كتاب رودنسون الشهير ( محمد) الذي صدر بالفرنسية عام
1961، وقدَّم فيه قراءة ماركسية موثقة لحياة النبي صلى الله
عليه وآله.
رودنسون الذي رحل قبل أيام في مرسيليا عن عمر ناهز 89 سنة،
كان قد ولد لعائلة يهودية فقيرة في كانون الثاني عام 1915
من أب روسي وأم بولندية قتلا على أيدي النازيين في أوشفيتز.
نجح رودنسون العصامي في السابعة عشرة من عمره في اختبار
الدخول إلى معهد اللغات الشرقية، ليتجاوز فيما بعد مرحلة
البكالوريا.
وبحلول عام 1937 تزوج ودخل إلى المركز الوطني للبحوث العلمية
وانتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي. اسئلة كثيرة تخلل مراجعة
حياة هذا المؤرخ منها ما هي الدوافع التي دفعت ذلك الشاب
الذي نشأ في مناخ يهودي فقير تنكر ليهوديته إلى أن يصبح من
المتخصصين المشهود لهم في اللغات السامية والعالم الإسلامي ؟
كيف استطاع مثل هذا المناضل الأممي الذي امتد عمر نضاله
لأكثر من عشرين عاماً أن يتصدى للالتزام السياسي والعمل في
الوقت نفسه؟ فضلاً عن شغله الخاص بالأيديولوجيات. كيف نجح -
وقد علم نفسه بنفسه - في أن يصل إلى درجة من العلم وسعة
الاهتمام جعلته في مقدمة كبار المستشرقين؟
لمعرفة إجابات دقيقة عن الأسئلة السابقة يتوجب أن نعبر إلى
باريس الشعبية في الثلاثينيات. أو إلى بلدان الشرق الأدنى في
أثناء الهيمنة الغربية. وحتى إلى أوساط التقدميين العرب بعد
الحرب. بإلقاء نظرة على هذا المسار سنواجه شخصاَ فريداً في
حبه لمعرفة كل شيء. فمثلما دفعه اهتمامه المتعدد الجوانب إلى
دراسة الفلسفة. والكتابة ودراسة الطب والاقتصاد السياسي،
وحتى فن الطبخ. فقد قادته كل تلك الاهتمامات إلى دراسة تاريخ
الأديان. ولم يكن رودنسون مؤرخاً للماضي وحسب، وإنما بقي حتى
نهاية عمره مهتماً وملتزما بقضايا الحاضر المتصلة بمشكلات
العالم العربي والقضية الفلسطينية. لقد كان رودنسون نموذجاً
لشخصية العقلاني الحقيقي، والمدافع الصلب عن حقوق الشعب
الفلسطيني.
رودنسون والاستشراق
لا يمكن تحليل وفهم علاقة رودنسون بالاستشراق اذا أهملنا
بحثه الموسوم : (وضع الاستشراق المتعلق بالإسلاميات. اذ
ينطلق رودنسون في بحثه هذا من احصاء ما يسميه بالجهود
الجبارة التي قام بها الرعيل الأول من المستشرقين. لنفهم
طبقاً لنظرة رودنسون المقدمات الكلاسيكية للاستشراق والتي
قادت لما هو عليه الآن.
ففي الوقت الذي كان فيه علم التاريخ الغربي قد اكتفى بدراسة
جهود الأغريق والرومان، فإن عصر التنوير في ما بعد ضم التراث
العربي الإسلامي والحضارة الصينية إلى دراسة الحضارتين
الأغريقية والرومانية، ليوسع من اهتمام الدرس الاستشراقي
انسانياً. بعد أن كان علم الاستشراق قد مارس نوعاً من
الاقصاء للنتاج الفكري للشعوب الأخرى غير الأوربية. وكانت
هذه هي الملامح الأولى لتأسيس علم الاستشراق.
اعتقد رودنسون أن الأوربيين قاموا بعمل واسع وجبار في اكتشاف
ودراسة الحضارة العربية الإسلامية. وأكد في البحث المشار
إليه على ضرورة الاعتراف بقيمة الجهد الذي قام به المستشرقون
بسبب الهدف العلمي الذي أشيع أنه كان السبب الرئيسي في هذه
القضية، إلاّ أن رودنسون يعترف في الوقت نفسه بأن الأمر لم
يكن يخلو من نزعة عنصرية أوروبية تجاه الشعوب المدروسة. وهنا
يتوافق رودنسون مع موقف ادوارد سعيد في نقطة عدم خلو المشروع
الاستشراقي من نزعة المركزية الأوربية.
والأهم من ذلك هو إقرار رودنسون بأن دول أوربا عموماً
وحكوماتها لم تكن تنطلق من الدافع العلمي لحملة جمع
المعلومات التي قام علماء الاستشراق في بلدان الشرق. وإنما
استفادت من هذه المعلومات في حملتها الكولونيالية. لنفهم أن
دول أوربا وجدت في الدراسات اللغوية والانثروبولوجية
والفقهية والفلسفية والأدبية وبالتاريخ الوقائعي لبلدان
المشرق، وجدت في كل ذلك محرضاً قوياً لها لبسط هيمنتها على
تلك البلدان ونهب ثرواتها طيلة قرن كامل طبقاً لرودنسون.
نطاق طروحات رودنسون
احتل رودنسون موقعاً مهماً على مفترق الثقافتين اليهودية
والاسلامية حسبما يرى المؤرخ جيرار خوري. ومن خلال عمله من
أجل التقارب بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط عن طريق
التعددية وحوار الثقافات. اذ اتخذ عام 1968 موقفاً مدافعاً
من أجل القضية الفلسطينية، وبالاشتراك مع المستشرق جاك بيرك
قاما بمجموعة من الأبحاث والأعمال من أجل فلسطين. ولم يكن
ليتخذ رودنسون أي موقف من دون الأخذ بنظر الاعتبار كل
الاحتياطات اللازمة، اذ كان يخشى خدش الحقيقة العلمية وجرح
الآخرين.
ولقد تحدث جيرار خوري عن مساهمة رودنسون في تعديل القراءة
الطائفية للاسلام. ويعد ذلك اسهاماً كبيراً يناقض ما نشهده
اليوم من جهل الآخر بالاسلام.
إن مهارات رودنسون اللغوي والمتخصص في نحو ثلاثين لغة ولهجة
تتمثل في تكوين نموذجي، ودقة صرامة هيأت له ولوج العلوم
جميعاً. فقد حاول رودنسون في كتابه الإسلام سياسة وعقيدة
والكتاب مجموعة مقالات نشرها رودنسون بين الأعوام 1976
و1991، تتجاوز في أهميتها تاريخ نشرها، وهي مقالات تتفاوت
أبعادها وتتجمع في وحدتها واتصالها بالفكر الإسلامي،
وبالعالم الإنساني الذي يعتنق هذا الدين، وجهت أفكار رودنسون
العامة حول العالم الاجتماعي وآلياته العميقة. ثمة وحدة في
مقاربته للعالم الإسلامي، وحدة تتجلى في نصوص هذا الكتاب،
ولها سمة تعارض الفكر السائد بوجه عام.
تحدث رودنسون عن مقالات الكتاب قائلاً إنها إجابات على مواقف
أو طلبات متعددة في الجزء الكبير منها تتعاطى مع العالم
الإسلامي. ولم يتقيد رودنسون بمرحلة معينة من التاريخ
الإسلامي؛ لأن قارئ الكتاب سيجد مجموعة مقالات تعالج بنية كل
المجتمعات الإسلامية منذ زمن النبي (ص) حتى يومنا الحاضر..
(الماركسية والعالم الإسلامي) تعرض رودنسون للعلاقة مع
العالم الإسلامي وحاول بصدق وعطف موضوعي أن يجيب على أسئلة
منها : هل يشكل الإسلام كآيديولوجية، كتقليد ثقافي عائقاً
أمام التطور والتقدم لهذا العالم؟ فضلا عن أن رودنسون استغل
فرصة هذا الكتاب ليشن هجوماً باسم الماركسية ومن أجلها على،
الستالينية بوصفهما اوضح الصور عن الدوغمائية. وناقش رودنسون
تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية في سوريا ولبنان ومصر. وذلك
عن طريق عرض شمولي موضوعي ومعمق عكس حماس رودنسون بقضايا
العالم الثالث. وقضايا العالم الإسلامي والبلدان العربية
تحديداً.
لقد تعرض رودنسون بصفته يهوديا معادياً للصهيونية إلى كل
أنواع الانتقادات والتهديدات الممكنة. لكنه مع كل ذلك لم
يتخل عن موقفه العادل من القضية الفلسطينية، لهذا أجمع
الكثير من المثقفين العرب على نزاهته ومصداقيته وتبحره في
القضايا العربية.
لقد تحدث جيرار خوري عنه بكلمات قصيرة ومعبرة عندما قال :
كان رودنسون شخصاً شديد التدقيق والتمحيص وموسوعياً كبيراًً
.وإن أعماله المعترف بها من قبل الأوساط العلمية تصل في
الوقت نفسه إلى العموم، بسبب أن رودنسون لم يكن ليتخذ أي
موقف إلاّ بعد أن يضع في اعتباره مجمل الاحتياطات اللازمة.
فرودنسون من النوع الذي يخشى كثيراً خدش الحقيقة العلمية أو
جرح الآخرين. |