الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 

 

الثقافة العراقية وستراتيجية الوجه الضحوك

 ليث الصندوق

سنوات طويلة والثقافة العراقية تعمل وفق ستراتيجية الفم المخيط بالابرة والوجه الخالي من اية ملامح تشي بابتسامة محتملة.. تلك الستراتيجية التي حولت الثقافة العراقية الى مأتم وحولت وزارة الثقافة الى سرادق لتأدية مراسيم العزاء وقراءة سورة الفاتحة على روح المرح التي اغتالها ذات يوم وزير الثقافة السابق دونما رحمة ودونما سبب إلاّ لأنها تكشف للناس نظافة اسنان المبتسمين وخلو افواههم من المتفجرات والمواد الممنوعة... فقد كانت نصاعة الاسنان وطهارة الافواه بحدّ ذاتهما خرقأ لن يسمح باقترافه تحت خيمة الحداد السوداء... لأن بروتوكول ثقافة (حامد يوسف حمادي) نص في ديباجته الضمنية (غير المعلنة) على ان الثقافة لاتعني اكثر من اعتصار غيوم الدمع في مراسيم الاعراس... لسبب لايعرفه الا الذين يعانون من مركب نقص تجاه الاجواء الصاحية والمشمسة... وتجاه الاشياء المضيئة والناصعة.. كما تنص المادة الاولى من بروتوكول المأتم على ان ادارة المؤسسات الثقافية ينبغي ان تقاد من قبل النائحين والنائحات الذين  يعتمدون اجهزة الانواء الجوية لقياس كمية الغيوم التي يختزنونها تحت اجفانهم.. ومن الطبيعي انه كلما كانت كثافة تلك الغيوم اكثر كلما كان ذلك مؤشرأ لتحديد كفاءة تلك القيادات.

هذه الصورة ليست من خزين ذاكرة سريالية.. ولكنها احد وجوه الحقيقة التي يعرفها كل الذين جلسوا ذات يوم حول المائدة التي ترأسها ذلك الوزير..

لقد كان الرجل بحق احد اقطاب ثقافة البكاء.. ويكفي ان نمعن بملامحه لنكتشف اننا ازاء غيمة معرضة للامطار من دون ان تمسها نسمة ريح.

لكن ثقافة العجرفة والوجوه المقلوبة لم تكن في تاريخ الثقافة العراقية سوى كرة تنس انتهى بها تاريخ المنافسات الى خارج الملعب لتنتهي معها الى الابد المباراة غير المتكافئة بين فريق المثقفين كثيري المرح وفريق الاميين الذي لولا تجهمه وعبوسه لما تردد على المباراة أي متفرج ولعانى منضموها خسائر مالية جسيمة.. فالكثير من المتفرجين لايترددون على المباراة لتشخيص اللاعب المجيد وتشجيعه فحسب ، بل للسخرية من اللاعبين الادعياء الذين يعتقدون ان الاستعلاء على المتفرجين يعوضهم عن فقر الموهبة.. ولذلك فلا غرابة ان يدخل هؤلاء الادعياء الى الملعب بوجوه مسلوخة بامواس الحلاقة.

ان العجرفة ليست سلوكأ شخصيأ فحسب... ولا قناعأ اخفت وراءه القيادات الثقافية السابقة اوجهها لتتمكن من حضور الحفلات التنكرية بالشكل الذي يخفيها عن عدسات الصحفيين الفضوليين... تلك العدسات التي بامكانها اكتشاف الموهبة من خلال نصاعة اسنان المبتسمين وطراوة ملامحهم..بل هي سترا تيجية اراد منها اصحابها اخافة المثقفين (الحمائم) وتقليم مخالبهم والايحاء لهم بانهم غير قمينين على منافسة بلادة الصقور... وان اية مواجهة محتملة بين فريقي (الحمائم والصقور) محسومة النتيجة مسبقا..

فهي اذن ستراتيجية الدفاع بضربات استباقية بين خصمين غير متكافئين على جبهة الثقافة...الخصم الاول (فريق الحمائم) هو ابن الافق وقائد اسرابه وصديق صباحاته وخبير تقلباته لكن مفهوم النزال لديه له عدته التي لا تتعدى الزقزقة والهديل والبوح والمناجاة وربما بعض حبوب القمح التي قد يستعيض عنها عند الضرورة  بحبوب الاسبرين...اما اسلحته فلا تتعدى الاجنحة والاعشاش والمناقير التي اذا استعصى عليه الغناء بها ربما يستخدمها لتدخين السكائر..اما خططه فهي مزيج من الافكار والاحلام والجنون.

اما الخصم الثاني (فريق الصقور) فهو دخيل على المفاهيم الانسانية السامية لصراع الافكار.. جاء الى الساحة قافزا من المراحل الاولى لنشوء التاريخ مسلحا بمفاهيم المجتمع الرعوي وقيمه.. وفرض سطوته بالمهماز والسوط على المؤسسات والمثقفين.. وبدل من ان يسقي الورود اطلق عليها قطيع خرافه الجائعة.

ان الثقافة العراقية اليوم بحاجة الى الكثير من مساحيق التنظيف لغسل العبوس والعجرفة والتجهم عن وجهها الجميل.. واعادة الثقة مجددا بزمن الاعياد..وشفط الدخان الاسود الذي لوث قاعات الاعراس..وضخ هواء جديد ونقي وبارد وممزوج بارقى انواع العطور التي توردها اسواق مستحضرات التجميل العالمية.

ليست الثقافة العراقية بحاجة اليوم الى اوجه باكية.. والى وزراء يخيطون افواههم بالابرة.. ويغسلون اوجههم كل صباح بالتيزاب .. ويفتون بان الابتسامة رجس من عمل الشيطان.. ان احدى مهمات الثقافة اليوم هو تذكير المثقفين بان حامد يوسف حمادي لم يكن سوى خطأ فادح في تاريخ الفرح العراقي يتوجب الغاء اثآره بالمزيد من التواضع والضحك..بل وبالمزيد من الصابون ايضا..فهل ستفلح الثقافة الجديدة في اداء هذا الدور..اننا ننتظر.


وداعاً مكسيم رودنسون: رحيل رائد القراءة الماركسية للإسلام .. سيرة عقلاني

قاسم محمد عباس

يتفق معظم الدارسين العرب للاستشراق على المكانة الخاصة التي يتمتع بها المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون في الدراسات الاستشراقية. تلك المكانة التي تعززت عبر مجموعة هامة من الدراسات والكتب التي أثارت الكثير من الأسئلة حول الإسلام وابرزها كتاب رودنسون الشهير ( محمد) الذي صدر بالفرنسية عام 1961، وقدَّم فيه قراءة ماركسية موثقة لحياة النبي صلى الله عليه وآله.

رودنسون الذي رحل قبل أيام في مرسيليا عن عمر ناهز 89 سنة، كان قد ولد لعائلة يهودية فقيرة في كانون الثاني عام 1915  من أب روسي وأم بولندية قتلا على أيدي النازيين في أوشفيتز. نجح رودنسون العصامي في السابعة عشرة من عمره في اختبار الدخول إلى معهد اللغات الشرقية، ليتجاوز فيما بعد مرحلة البكالوريا.

وبحلول عام 1937 تزوج ودخل إلى المركز الوطني للبحوث العلمية وانتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي. اسئلة كثيرة تخلل مراجعة حياة هذا المؤرخ منها ما هي الدوافع التي دفعت ذلك الشاب الذي نشأ في مناخ يهودي فقير تنكر ليهوديته إلى أن يصبح من المتخصصين المشهود لهم في اللغات السامية والعالم الإسلامي ؟ كيف استطاع مثل هذا المناضل الأممي الذي امتد عمر نضاله لأكثر من عشرين عاماً أن يتصدى للالتزام السياسي والعمل في الوقت نفسه؟ فضلاً عن شغله الخاص بالأيديولوجيات. كيف نجح - وقد علم نفسه بنفسه - في أن يصل إلى درجة من العلم وسعة الاهتمام جعلته في مقدمة كبار المستشرقين؟

لمعرفة إجابات دقيقة عن الأسئلة السابقة يتوجب أن نعبر إلى باريس الشعبية في الثلاثينيات. أو إلى بلدان الشرق الأدنى في أثناء الهيمنة الغربية. وحتى إلى أوساط التقدميين العرب بعد الحرب. بإلقاء نظرة على هذا المسار سنواجه شخصاَ فريداً في حبه لمعرفة كل شيء. فمثلما دفعه اهتمامه المتعدد الجوانب إلى دراسة الفلسفة. والكتابة ودراسة الطب والاقتصاد السياسي، وحتى فن الطبخ. فقد قادته كل تلك الاهتمامات إلى دراسة تاريخ الأديان. ولم يكن رودنسون مؤرخاً للماضي وحسب، وإنما بقي حتى نهاية عمره مهتماً وملتزما بقضايا الحاضر المتصلة بمشكلات العالم العربي والقضية الفلسطينية. لقد كان رودنسون نموذجاً لشخصية العقلاني الحقيقي، والمدافع الصلب عن حقوق الشعب الفلسطيني.

رودنسون والاستشراق

لا يمكن تحليل وفهم علاقة رودنسون بالاستشراق اذا أهملنا بحثه الموسوم : (وضع الاستشراق المتعلق بالإسلاميات. اذ ينطلق رودنسون في بحثه هذا من احصاء ما يسميه بالجهود الجبارة التي قام بها الرعيل الأول من المستشرقين. لنفهم طبقاً لنظرة رودنسون المقدمات الكلاسيكية للاستشراق والتي قادت لما هو عليه الآن.

ففي الوقت الذي كان فيه علم التاريخ الغربي قد اكتفى بدراسة جهود الأغريق والرومان، فإن عصر التنوير في ما بعد ضم التراث العربي الإسلامي والحضارة الصينية إلى دراسة الحضارتين الأغريقية والرومانية، ليوسع من اهتمام الدرس الاستشراقي انسانياً. بعد أن كان علم الاستشراق قد مارس نوعاً من الاقصاء للنتاج الفكري للشعوب الأخرى غير الأوربية. وكانت هذه هي الملامح الأولى لتأسيس علم الاستشراق.

اعتقد رودنسون أن الأوربيين قاموا بعمل واسع وجبار في اكتشاف ودراسة الحضارة العربية الإسلامية. وأكد في البحث المشار إليه على ضرورة الاعتراف بقيمة الجهد الذي قام به المستشرقون بسبب الهدف العلمي الذي أشيع أنه كان السبب الرئيسي في هذه القضية، إلاّ أن رودنسون يعترف في الوقت نفسه بأن الأمر لم يكن يخلو من نزعة عنصرية أوروبية تجاه الشعوب المدروسة. وهنا يتوافق رودنسون مع موقف ادوارد سعيد في نقطة عدم خلو المشروع الاستشراقي من نزعة المركزية الأوربية.

والأهم من ذلك هو إقرار رودنسون بأن دول أوربا عموماً وحكوماتها لم تكن تنطلق من الدافع العلمي لحملة جمع المعلومات التي قام علماء الاستشراق في بلدان الشرق. وإنما استفادت من هذه المعلومات في حملتها الكولونيالية. لنفهم أن دول أوربا وجدت في الدراسات اللغوية والانثروبولوجية والفقهية والفلسفية والأدبية  وبالتاريخ الوقائعي لبلدان المشرق، وجدت في كل ذلك محرضاً قوياً لها لبسط هيمنتها على تلك البلدان ونهب ثرواتها طيلة قرن كامل طبقاً لرودنسون.

نطاق طروحات رودنسون

احتل رودنسون موقعاً مهماً على مفترق الثقافتين اليهودية والاسلامية حسبما يرى المؤرخ جيرار خوري. ومن خلال عمله من أجل التقارب بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط عن طريق التعددية وحوار الثقافات. اذ اتخذ عام 1968 موقفاً مدافعاً من أجل القضية الفلسطينية، وبالاشتراك مع المستشرق جاك بيرك قاما بمجموعة من الأبحاث والأعمال من أجل فلسطين. ولم يكن ليتخذ رودنسون أي موقف  من دون الأخذ بنظر الاعتبار كل الاحتياطات اللازمة، اذ كان يخشى خدش الحقيقة العلمية وجرح الآخرين.

ولقد تحدث جيرار خوري عن مساهمة رودنسون في تعديل القراءة الطائفية للاسلام. ويعد ذلك اسهاماً كبيراً يناقض ما نشهده اليوم من جهل الآخر بالاسلام.

إن مهارات رودنسون اللغوي والمتخصص في نحو ثلاثين لغة ولهجة تتمثل في تكوين نموذجي، ودقة صرامة هيأت له ولوج العلوم جميعاً. فقد حاول رودنسون في كتابه الإسلام سياسة وعقيدة والكتاب مجموعة مقالات نشرها رودنسون بين الأعوام 1976 و1991، تتجاوز في أهميتها تاريخ نشرها، وهي مقالات تتفاوت أبعادها وتتجمع في وحدتها واتصالها بالفكر الإسلامي، وبالعالم الإنساني الذي يعتنق هذا الدين، وجهت أفكار رودنسون العامة حول العالم الاجتماعي وآلياته العميقة. ثمة وحدة في مقاربته للعالم الإسلامي، وحدة تتجلى في نصوص هذا الكتاب، ولها سمة تعارض الفكر السائد بوجه عام.

تحدث رودنسون عن مقالات الكتاب قائلاً إنها إجابات على مواقف أو طلبات متعددة في الجزء الكبير منها تتعاطى مع العالم الإسلامي. ولم يتقيد رودنسون بمرحلة معينة من التاريخ الإسلامي؛ لأن قارئ الكتاب سيجد مجموعة مقالات تعالج بنية كل المجتمعات الإسلامية منذ زمن النبي (ص) حتى يومنا الحاضر..

(الماركسية والعالم الإسلامي) تعرض رودنسون للعلاقة مع العالم الإسلامي وحاول بصدق وعطف موضوعي أن يجيب على أسئلة منها : هل يشكل الإسلام كآيديولوجية، كتقليد ثقافي عائقاً أمام التطور والتقدم لهذا العالم؟ فضلا عن أن رودنسون استغل فرصة هذا الكتاب ليشن هجوماً باسم الماركسية ومن أجلها على، الستالينية بوصفهما اوضح الصور عن الدوغمائية. وناقش رودنسون تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية في سوريا ولبنان ومصر. وذلك عن طريق عرض شمولي موضوعي ومعمق عكس حماس رودنسون بقضايا العالم الثالث. وقضايا العالم الإسلامي والبلدان العربية تحديداً.

لقد تعرض رودنسون بصفته يهوديا معادياً للصهيونية إلى كل أنواع الانتقادات والتهديدات الممكنة. لكنه مع كل ذلك لم يتخل عن موقفه العادل من القضية الفلسطينية، لهذا أجمع الكثير من المثقفين العرب على نزاهته ومصداقيته وتبحره في القضايا العربية.

لقد تحدث جيرار خوري عنه بكلمات قصيرة ومعبرة عندما قال : كان رودنسون شخصاً شديد التدقيق والتمحيص وموسوعياً كبيراًً .وإن أعماله المعترف بها من قبل الأوساط العلمية تصل في الوقت نفسه إلى العموم، بسبب أن رودنسون لم يكن ليتخذ أي موقف إلاّ بعد أن يضع في اعتباره مجمل الاحتياطات اللازمة. فرودنسون من النوع الذي يخشى كثيراً خدش الحقيقة العلمية أو جرح الآخرين.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة